الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع فى صلاته ص الوتر
قد صح عنه- صلى الله عليه وسلم أنه أوتر بخمس لم يجلس فى آخرها «1» . لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا. واحتج الحنفية لما ذهبوا إليه- من تعيين الوصل-، والاقتصار على ثلاث- بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد أو نقص، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه.
وتعقبه محمد بن منصور المروزى، بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبى هريرة مرفوعا وموقوفا «لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب» «2» وقد صححه الحاكم، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث فى الوتر وقال:
لا يشبه التطوع بالفرض. انتهى.
لكن قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه كان- صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا فى آخرهن «3» ، وروى النسائى من حديث أبى بن كعب نحوه، ولفظه:(يوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «5» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «6» ولا يسلم إلا فى آخرهن)«7» وبين فى عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات.
(1) تقدم.
(2)
أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 446) .
(3)
سورة الأعلى: 1.
(4)
سورة الكافرون: 1.
(5)
سورة الإخلاص: 1.
(6)
أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 447) .
(7)
صحيح: أخرجه النسائى (3/ 235) فى قيام الليل، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبى بن كعب فى الوتر، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهى عن التشبيه بصلاة المغرب، أن يحمل النهى على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا. وروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض إلى الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا فى آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن.
وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين فى الوتر. حتى يأمر ببعض حاجته، وهذا ظاهره أنه كان يصلى الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى. وفى هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا موصولا.
وأصرح من ذلك ما روى الطحاوى من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبى- صلى الله عليه وسلم كان يفعله، وإسناده قوى. وقد استدل بعضهم على فضل الفصل بأنه- صلى الله عليه وسلم أمر به وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط وقد حمل المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرا من الأحاديث ظاهر فى الفصل، كحديث عائشة «يسلم من كل ركعتين» «1» فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص فى موضع النزاع.
وقد حمل الطحاوى هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك فى دعوى ذلك إلا بالنهى عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شئ، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل. وقد اختلف السلف فى أمرين:
أحدهما: فى مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس.
والثانى: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل فى الليل، هل يكتفى بوتره الأول
(1) صحيح: أخرجه مسلم (736) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى- صلى الله عليه وسلم فى الليل.
ويتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟
أما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبى سلمة عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين بعد الوتر وهو جالس «1» . وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا الأمر فى قوله:«اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا» «2» مختصّا بمن أوتر آخر الليل، وأجاب من لم يقل بذلك بأن بالركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر. وحمله النووى على أنه- صلى الله عليه وسلم فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسا.
وأما الثانى: فذهب الأكثر إلى أنه يصلى شفعا ما أراد ولا ينقض وتره، عملا بقوله- صلى الله عليه وسلم:«لا وتران فى ليلة» «3» وهو حديث حسن أخرجه النسائى وابن خزيمة من حديث طلق بن على، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر.
واختلف السلف أيضا فى مشروعية قضاء الوتر، فنفاه الأكثر، وفى مسلم عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتى عشرة ركعة «4» .
وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبى- صلى الله عليه وسلم فى شئ من الأخبار
(1) تقدم.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (998) فى الجمعة، باب ليجعل آخر صلاته وترا، ومسلم (751) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.
(3)
صحيح: أخرجه النسائى (3/ 229) فى قيام الليل، باب: نهى النبى- صلى الله عليه وسلم عن الوترين فى ليلة، وأحمد فى «المسند» (4/ 23) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (746) فى صلاة المسافرين، باب: جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض، والترمذى (445) فى الصلاة، باب: إذا نام عن صلاته بالليل صلى بالنهار، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه، وعن عطاء والأوزاعى: يقضى ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعى حكاه النووى فى شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضى من القابلة، وعن الشافعية: يقضى مطلقا وقالت عائشة: أوتر- صلى الله عليه وسلم من كل الليل، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر «1» . رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى.
والمراد بأوله: بعد صلاة العشاء. ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر فى وسطه لعله كان مسافرا، وأما وتره فى آخره فكان غالب أحواله لما عرف من مواظبته على الصلاة آخر الليل والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردى أنه السدس الأخير، وقيل أوله الفجر الأول. وفى رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس، عند ابن خزيمة: فلما انفجر الفجر قام- صلى الله عليه وسلم فأوتر بركعة، قال ابن خزيمة والمراد به: الفجر الأول.
وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: «زادنى ربى صلاة وهى الوتر، وقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» «2» . وفى إسناده ضعف، وكذا فى حديث خارجة بن حذافة فى السنن، وهو الذى احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا فى الوجوب.
وأما حديث بريدة رفعه: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا- وأعاد ذلك ثلاثا-» «3» . ففى سنده أبو المنيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله
(1) صحيح: أخرجه البخارى (996) فى الجمعة، باب: ساعات الوتر، ومسلم (745) فى صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبى فى الليل إن أوتر، والترمذى (456) واللفظ له، فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر من أول الليل وآخره من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 242) بسند فيه ضعف.
(3)
ضعيف: أخرجه أبو داود (1419) فى الصلاة، باب: فيمن لم يوتر من حديث بريدة بن الحصيب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظة «حق» بمعنى واجب فى عرف الشارع، وأن لفظة «واجب» بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد، والله أعلم.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم يصلى وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فتوتر «1» ، كما فى البخارى. وهذا يدل على استحباب الوتر فى آخر الليل، سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره. واستدل به على وجوب الوتر، لكونه- صلى الله عليه وسلم سلك به مسلك الواجب، حيث لم يدعها نائمة للوتر، وأبقاها للتهجد.
وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكيد أمره بالوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وفيه: استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع ذلك لإدراك الجماعة، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات.
قال القرطبى: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب فى الواجب، مندوب فى المندوب، لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال، فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب والله أعلم.
وعن على: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ فى كل ركعة بثلاث سور آخرهن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» رواه الترمذى. وعن ابن عباس: كان يقرأ فى الوتر ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «3» وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «4» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «5» فى كل ركعة «6» .
(1) صحيح: أخرجه البخارى (512) فى الصلاة، باب: الصلاة خلف النائم، ومسلم (512) فى الصلاة، باب: الاعتراض بين يدى المصلى، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
ضعيف جدّا: أخرجه الترمذى (460) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الوتر بثلاث، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، وقال الألبانى: ضعيف جدّا.
(3)
سورة الأعلى: 1.
(4)
سورة الكافرون: 1.
(5)
سورة الإخلاص: 1.
(6)
صحيح: أخرجه الترمذى (462) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، والنسائى (3/ 236) فى الصلاة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
وعن عائشة: كان يقرأ فى الأولى ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «1» وفى الثانية ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «2» وفى الثالثة ب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «3» و «المعوذتين» «4» . رواه أبو داود والترمذى. ولأبى داود: وكان إذا سلم قال:
«سبحان الملك القدوس» . وعند النسائى: ثلاثا يطيل فى آخرهن «5» ، وفى رواية:«ويرفع صوته بالثالثة «6» . وعن على: كان- صلى الله عليه وسلم يقول فى آخر وتره: «اللهم إنى أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» «7» . رواه أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه.
قال ابن تيمية: سنة الفجر تجرى مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، وقد كان- صلى الله عليه وسلم يقرأ فى سنة الفجر وفى الوتر بسورتى الإخلاص والكافرون، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد، فسورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «8» متضمنة لتوحيد الاعتقاد
(1) سورة الأعلى: 1.
(2)
سورة الكافرون: 1.
(3)
سورة الإخلاص: 1.
(4)
صحيح: أخرجه الترمذى (463) فى الصلاة، باب: ما جاء فيما يقرأ به فى الوتر، وابن ماجه (1173) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فيما يقرأ فى الوتر، من حديث عائشة قال الترمذى: حسن غريب، قال الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» : صحيح.
(5)
صحيح: أخرجه النسائى (3/ 245) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(6)
صحيح: أخرجه النسائى (3/ 244) فى قيام الليل وتطوع النهار، باب: الدعاء فى الوتر من حديث عبد الرحمن بن أبزى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(7)
صحيح: أخرجه أبو داود (1427) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (3566) فى الدعوات، باب: فى دعاء الوتر، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(8)
سورة الإخلاص: 1.
والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذى لا يلحقه نقص، ونفى الولد والوالد والكفؤ، المتضمن لنفى الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفى كل نقص عنه، ونفى كل شبيه، وهذه هى مجامع التوحيد العملى والاعتقادى، فلذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهى وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمى، كما خلصته سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» من الشرك العملى. قاله ابن القيم.
وأما القنوت فى الركعة الأخير من الوتر، فى النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووى فى «الأذكار» باستحبابه، ولم يذكر لذلك دليلا. وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفى الآخر راو لم يسم: أن عمر لما جمع الناس على أبى بن كعب كان لا يقنت إلا فى النصف الأخير من رمضان.
وعن الحسن بن على قال: علمنى جدى كلمات أقولهن فى الوتر:
«اللهم اهدنى فيمن هديت، وعافنى فيمن عافيت، وتولنى فيمن توليت، وبارك لى فيما أعطيت وقنى شر ما قضيت، إنك تقضى ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل ما واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» «2» . وهذا لفظ رواية شريك رواه الطبرانى وغيره.
(1) سورة الكافرون: 1.
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (1425) فى الصلاة، باب: القنوت فى الوتر، والترمذى (464) فى الصلاة، باب: ما جاء فى القنوت فى الوتر، من حديث الحسن بن على- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .