الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واحتج الشافعى بقول ابن عباس: «قرأ نحوا من سورة البقرة» «1» لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعى تعليقا عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبى- صلى الله عليه وسلم فى الكسوف فلم يسمع منه حرفا «2» ، ووصله البيهقى من ثلاثة طرق أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى.
قال ابن العربى: الجهر عندى أولى، لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا والله أعلم.
الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاء
اعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أى طلب العطاء. ولم يخالف أحد من العلماء فى سنية الصلاة فى الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التى ليس فيها صلاة.
واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة فى الصحيحين وغيرهما: أنه- صلى الله عليه وسلم صلى الاستسقاء ركعتين «3» . وأما الأحاديث التى ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوى، وبعضها كان فى الخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفى بها، ولو لم تصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف فى جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، والاستسقاء أنواع:
الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، ويتأهب قبله بصدقة وصيام
(1) تقدم.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 293) من حديث ابن عباس ولفظه قال صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفا من القرآن.
(3)
تقدم.
وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال ابن عباس: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما صلى فى العيد «1» . رواه الترمذى وغيره.
وفى حديث عبد الله بن زيد المازنى، قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى ليستسقى، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى «2» . رواه البخارى ومسلم. وفى رواية: خرج بالناس إلى المصلى ليستسقى فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه حين استقبل القبلة «3» . وفى رواية؛ قال: وحول رداءه وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله «4» .
(1) حسن: أخرجه أبو داود (1165) فى الصلاة من حديث ابن عباس ولفظه خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم متبذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى زاد عثمان فرقى على المنبر ثم اتفقا ولم يخطب خطبكم هذه ولكن لم يزل فى الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيد. والترمذى (558) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء، عن ابن عباس أيضا، وابن ماجه (1266) فى إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء عن ابن عباس أيضا. واللفظ للترمذى. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (6343) فى الدعوات، باب: الدعاء مستقبل القبلة، ومسلم (894) فى صلاة الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- واللفظ للبخارى.
(3)
صحيح: أخرجه الترمذى (556) فى الجمعة، باب: ما جاء فى صلاة الاستسقاء من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4)
حسن: أخرجه الترمذى (1165) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها. عن محمد بن مسلم بإسناده. والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته- صلى الله عليه وسلم حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك فى حديث عائشة عند أبى داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له فى المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد الله، ثم قال:«إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ «1» ، الذى لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذى لا إله إلا أنت الغنى ونحن الفقراء، اللهم أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين» ، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب- أو حول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال:
«أشهد أن الله على كل شئ قدير، وأنى عبد الله ورسوله» «2» .
وقد حكى ابن المنذر الاختلاف فى وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه- صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل.
ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى فى وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه- صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء كان فى شهر رمضان سنة
(1) سورة الفاتحة: 1- 5.
(2)
حسن: أخرجه أبو داود (1173) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث حسنه الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
ست من الهجرة. وذكر الواقدى: أن طول ردائه- صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع فى ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين فى ذراعين وشبر، كان يلبسهما فى الجمعة والعيدين.
وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداء فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه «1» . وقد استحب الشافعى فى الجديد فعل ما همّ به- صلى الله عليه وسلم من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبى تبعا لغيره أن الشافعى اختار فى الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذى فى الأم ما ذكرته.
والجمهور على استحباب التحويل فقط. ولا ريب أن الذى استحبه الشافعى أحوط. وعن أبى حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شئ من ذلك.
واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد فى هذا الحديث بلفظ:«وحول الناس معه» «2» .
وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب فى حقهن.
واختلف فى حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هى عليه. وتعقبه ابن العربى بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له حول رداءك ليتحول حالك.
وتعقب بأن الذى جزم به يحتاج إلى نقل، والذى رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدار قطنى والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن على عن أبيه عن جابر. ورجح الدار قطنى إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن.
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1164) فى الصلاة، فى جماع أبواب صلاة الاستسقاء وتفريعها، والنسائى (1507) فى الاستسقاء، باب: الحال التى يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج. من حديث عبد الله بن زيد- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2)
أخرجه أحمد (4/ 39 و 41) .
واستدل بقوله فى حديث عائشة: «ثم صلى ركعتين» بعد قوله: «فقعد على المنبر» على أن الخطبة فى الاستسقاء قبل الصلاة، وهى مقتضى حديث ابن عباس، لكن وقع عند أحمد فى حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا فى حديث أبى هريرة عند ابن ماجه، حيث قال:
فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة «1» ، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثانى.
ولم يقع فى شئ من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدار قطنى من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما ب سَبِّحِ «2» وهَلْ أَتاكَ «3» «4» . وفى إسناده مقال. لكن أصله فى السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلى فى العيدين. فأخذ بظاهره الشافعى فقال يكبر فيهما.
الثانى: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم فى خطبة الجمعة. عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله- صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، قال أنس: ولا والله ما نرى فى السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين «سلع» من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب فى الجمعة المقبلة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1274) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى صلاة العيدين، من حديث ابن عباس وليس أبى هريرة.
(2)
سورة الأعلى: 1.
(3)
سورة الغاشية: 1.
(4)
أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 66) .
الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» ، قال:
فانقطعت وخرجنا نمشى فى الشمس. قال شريك: فسألت أنس بن مالك:
أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدرى «1» . رواه مسلم. وفى رواية قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة مثل الجوبة، وسال وادى قناة شهرا. ولم يجئ أحدا من ناحية إلا أخبر بجود «2» .
وقوله: «يغيثنا» بفتح أوله، يقال: غاث الله البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر. وقوله:«من باب كان نحو دار القضاء» هى دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك لأنها بيعت فى قضاء دينه. وقوله: «هلكت الأموال» ، وفى رواية كريمة وأبى ذر عند الكشميهنى: هلكت المواشى، وهى المراد بالأموال هنا: وفى رواية البخارى: هلك الكراع- بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفى البخارى أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد فى طريقها من الكلأ ما يقيم أودها.
و «الآكام» بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع «أكمة» - بفتحات-:
التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل؛ ما ارتفع من الأرض.
و «الظراب» بكسر المعجمة، جمع «ظرب» - بكسر الراء-: الجبل المنبسط العالى. وقوله: «مثل الجوبة» بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هى الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة فى السحاب. و «الجود» :
المطر الغزير. وقوله: «قناة شهرا» : أى جرى فيه المطر من الماء شهرا.
وفى هذا دليل على عظم معجزته- صلى الله عليه وسلم، وهو أن سخرت السحاب
(1) صحيح: أخرجه البخارى (933) فى الجمعة، باب: الاستسقاء فى الخطبة يوم الجمعة، ومسلم (897) فى الاستسقاء، باب: الدعاء فى الاستسقاء، من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2)
تقدم فى الذى قبله.
له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام، لأن كلامه- صلى الله عليه وسلم مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالطاعة له- صلى الله عليه وسلم لما كان ذلك، لأنها أيضا- كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ورحم الله الشقراطيسى فلقد أحسن حيث قال:
دعوت للخلق عام المحل مبتهلا
…
أفديك بالخلق من داع ومبتهل
صعّدت كفيك إذ كفّ الغمام فما
…
صوبت إلا بصوب الواكف الهطل
أراق بالأرض ثجا صوب ريقه
…
فحل بالروض نسجا رائق الحلل
زهر من النور حلت روض أرضهم
…
زهرا من النّور صافى النبت مكتمل
من كل غصن نضير مورق خضر
…
وكل نور نضيد مونق خضل
تحية أحيت الأحياء من مضر
…
بعد المضرة تروى السبل بالسبل
دامت على الأرض سبعا غير مقلعة
…
لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل
وقوله فى الحديث «سبتا» : أى من السبت إلى السبت. وقوله: «ثم دخل رجل» الظاهر أنه غير الأول، لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفى رواية ابن إسحاق: فقام الرجل أو غيره، وفى رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفى مثل الإكليل- وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شئ دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك كالتاج-.
وفى رواية له أيضا: فألف الله بين السحاب ومكثت حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتى أهله، وفى رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى. والملاء: بضم الميم والقصر وقد تمد، جمع ملاءة وهى ثوب معروف.
واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعى، وأما الثانى
فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذى وقع فى هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافى مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت فى واقعة أخرى كما تقدم، والله أعلم.
الثالث: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم على منبر المدينة. روى البيهقى فى الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمى قال: لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أتاه وفد من بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، وفيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن بلادهم فقالوا: يا رسول الله أسنتت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلكت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال- صلى الله عليه وسلم:«سبحان الله!! ويلك، أنا شفعت إلى ربى، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد» فقال النبى- صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليضحك من شفقكم وقرب غياثكم» ، فقال أعرابى: أو يضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، فقال الأعرابى: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرا. فضحك- صلى الله عليه وسلم من قوله، فقام- صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه فى شئ من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعاءه:
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر فى المربد، فقال- صلى الله عليه وسلم:«اللهم اسقنا» ، فقال أبو لبابة: إن التمر فى المرابد، ثلاث
مرات، فقال- صلى الله عليه وسلم:«اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» .
قال: فلا والله ما فى السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فو الله ما رأوا الشمس سبتا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.
فقال الرجل: يا رسول الله- يعنى الذى سأله أن يستسقى له-: هلكت الأموال، وانقطعت السبل. فصعد- صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه مدّا، حتى رؤى بياض إبطيه ثم قال:«اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب «1» .
و «الأطيط» صوت الأقتاب، يعنى: أن الكرسى ليعجز عن حمله وعظمته، إذ كان معلوما أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله. وهذا مثل لعظمته تعالى وجلاله، ولم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى.
وقوله: «طبقا» بفتح الطاء والموحدة، أى مالئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق أى عام واسع. و «المربد» : موضع يجفف فيه التمر.
و «ثعلبه» ثقبه الذى يسيل منه ماء المطر.
وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبى يغط، ولا بعير يئط- أى ما لنا بعير أصلا لأن البعير لا بد أن يئط- وأنشد:
أتيناك والعذراء يدمى لبانها
…
وقد شغلت أم الصبى عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى لاستكانة
…
من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلى
(1) تقدم فى الذى قبله.
ولا شئ مما يأكل الناس عندنا
…
سوى الحنظل العامى والعلهز الغسل
وليس لنا إلا إليك فرارنا
…
وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام- صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال:«اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيى به الأرض بعد موتها» قال: فما رد- صلى الله عليه وسلم يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال- صلى الله عليه وسلم:«حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل. وضحك- صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال:«لله در أبى طالب، لو كان حيّا لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟» فقال على: يا رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
تطيف به الهلاك من آل هاشم
…
فهم عنده فى نعمة وفواضل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا
…
ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله
…
ونذهل عن أبنائنا والحلائل
فقال: «أجل» رواه البيهقى.
وقوله: «يدمى لبانها» أى يدمى صدرها لامتهانها نفسها فى الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللبان من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس. وقوله:«ما يمر وما يحلى» أى ما ينطق بخير ولا بشر من الجوع والضعف. وقوله: «سوى الحنظل العامى» نسبة إلى العام، لأنه يتخذ فى عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة. «والعلهز» بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير فى سنى المجاعة. قاله الجوهرى. و «الغسل» الرذل، قال السهيلى: فإن قلت: كيف قال أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» ولم يره قط يستسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟
وأجاب بما حاصله: أن أبو طالب أشار إلى ما وقع فى زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبى- صلى الله عليه وسلم معه وهو غلام. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك فيه. انتهى.
قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم فى قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادى وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقى؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما فى السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا، وأغدق واغدودق وانفجر له الوادى وأخصب النادى والبادى، وفى ذلك يقول أبو طالب «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» انتهى.
الرابع: استسقاؤه- صلى الله عليه وسلم بالدعاء من غير صلاة. عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ «1» ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى:
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «2» ، يوم بدر. زاد أسباط عن منصور: فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، وشكا الناس كثرة المطر فقال:«اللهم حوالينا ولا علينا» فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم «3» . رواه البخارى.
وأفاد الدمياطى أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلا الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبى- صلى الله عليه وسلم
(1) سورة الدخان: 10.
(2)
سورة الدخان: 16.
(3)
صحيح: أخرجه أبو داود (1169) فى الصلاة، باب: رفع اليدين فى الاستسقاء، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
بذلك بالمدينة فى القنوت كما فى حديث أبى هريرة عند البخارى، ولا يلزم من ذلك اتحاد هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو عليهم مرارا. والظاهر أن مجئ أبى سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود:«ثم عادوا، فذلك قوله: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى «1» يوم بدر» ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فلذلك قال:«وأبيض يستسقى الغمام بوجهه» لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل.
وفى الدلائل للبيهقى عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، وأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق الله لمضر، قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ودعوت الله فأجابك، فرفع يديه فقال:«اللهم اسقنا غيثا مغيثا» الحديث فظهر أن هذا الرجل المبهم المقول له: «إنك لجرئ» هو أبو سفيان.
لكن يظهر أن فاعل «قال يا رسول الله استنصرت الله إلخ» هو كعب بن مرة راوى هذا الحديث، فما أخرجه أحمد والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال:«دعا رسول الله على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا» . وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشئ، فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت فى هذه ما ثبت فى تلك من قوله «إنك لجرئ» ومن قوله:«اللهم حوالينا ولا علينا» . وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله «استنصرت الله فنصرك» .
ولا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة مع قصة أنس السابقة، فهى واقعة أخرى، لأن فى رواية أنس «فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا» وفى هذه «فما كان إلا جمعة أو نحوها حتى مطروا» ، والسائل فى هذه القصة غير السائل فى تلك، فهما قصتان، وقع فى كل منهما طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم
(1) سورة الدخان: 16.