الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقصد العاشر
الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص
اعلم- وصلنى الله وإياك بحبل تأييده، وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أن هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان، ويجلب الفجائع لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوى الإيمان. واعلم أنه لما كان الموت مكروها بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة، لم يمت نبى من الأنبياء حتى يخير.
وأول ما أعلم النبى- صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» ، فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس فى دينك الذى دعوتهم إليه أفواجا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعد للنقلة إلينا.
وقد قيل إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو- صلى الله عليه وسلم بمنى فى حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبى حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل: سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.
ولأبى يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة فى أوسط أيام التشريق فى حجة الوداع، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه الوداع.
(1) سورة النصر: 1.
وفى حديث ابن عباس، عند الدارمى: لما نزلت: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم فاطمة، وقال:«نعيت إلى نفسى» فبكت قال: «لا تبكى، فإنك أول أهلى لحوقا بى» ، فضحكت «2» . الحديث.
وروى الطبرانى من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «3» نعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا فى أمر الآخرة. وللطبرانى أيضا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة قال النبى- صلى الله عليه وسلم لجبريل: «نعيت إلى نفسى» . فقال له جبريل:
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى «4» . وروى فى حديث ذكره ابن رجب فى «اللطائف» : أنه تعبد حتى صار كالشن البالى.
وكان- صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان- صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام فاعتكف فى ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار.
وقالت أم سلمة: كان- صلى الله عليه وسلم فى آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجئ إلا قال: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» ، فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، فقال:«إن ربى أخبرنى أنى سأرى علما فى أمتى، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره» ، ثم تلا هذه السورة «5» . رواه ابن جرير وابن خزيمة. وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه.
وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء وللأموات، ثم طلع
(1) سورة النصر: 1.
(2)
أخرجه الدارمى (79) ، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(3)
سورة النصر: 1.
(4)
سورة الضحى: 4.
(5)
أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 184) .
المنبر فقال: «إنى بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإنى لأنظر إليه وأنا فى مقامى هذا، وإنى قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدى، ولكنى أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها» . وزاد بعضهم: «فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» «1» .
وعن أبى سعيد الخدرى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال:
«إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده» ، فبكى أبو بكر- رضى الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بابائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بابائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم:«إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر- رضى الله عنه-» «2» . رواه البخارى ومسلم.
ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال «إنى أبرأ إلى الله أن يكون لى منكم خليل» «3» . وكأن أبا بكر- رضى الله عنه- فهم الرمز الذى أشار به النبى- صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك فى مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1344) فى الجنائز، باب: الصلاة على الشهيد، ومسلم (2296) فى الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا وصفاته، من حديث عقبة بن عامر- رضى الله عنه-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (496) فى الصلاة، باب: الخوخة والممر فى المسجد، ومسلم (2382) فى فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبى بكر. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-.
(3)
تقدم فى الذى قبله.
وما زال- صلى الله عليه وسلم يعرض باقتراب أجله فى آخر عمره، فإنه لما خطب فى حجة الوداع قال للناس:«خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا» وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع «1» .
فلما رجع- صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى «خما» فى طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال:«أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب» ، ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته «2» .
قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه- صلى الله عليه وسلم فى أواخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما فى المشهور. وكانت خطبته التى خطب بها المذكورة فى حديث أبى سعيد الذى قدمته فى ابتداء مرضه الذى مات فيه، فإنه خرج- كما رواه الدارمى- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر فاستوى عليه فقال:«والذى نفسى بيده، إنى لأنظر إلى الحوض من مقامى هذا، ثم قال: إن عبدا عرضت عليه الدنيا» .. إلخ، ثم هبط عنه فما رؤى عليه حتى الساعة.
فلما عرّض- صلى الله عليه وسلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء، ولم يصرح، خفى المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ «3» ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول- صلى الله عليه وسلم، فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول- صلى الله عليه وسلم جزعه، وأخذ فى مدحه والثناء عليه على المنبر، ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف فى خلافته فقال:
«إن أمنّ الناس على فى صحبته وماله أبو بكر- رضى الله عنه-» ثم قال- صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة
(1) تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
سورة التوبة: 40.
الإسلام» «1» ، لما كان- صلى الله عليه وسلم لا يصلح له أن يخالل مخلوقا، فإن الخليل من جرت صحبة خليله منه مجرى الروح ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح منى
…
وبذا سمى الخليل خليلا
أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال- صلى الله عليه وسلم:«لا يبقى فى المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبى بكر» «2» ، إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكن المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلى بالناس أبو بكر- رضى الله عنه-، فروجع فى ذلك وهو يقول:«مروا أبا بكر أن يصلى بالناس» ، فولاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبى بكر- رضى الله عنه-:
رضيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا.
وكان ابتداء مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى بيت ميمونة، كما ثبت فى رواية معمر عن الزهرى، وفى سيرة أبى معشر: كان فى بيت زينب بنت جحش، وفى سيرة سليمان التيمى كان فى بيت ريحانة، والأول هو المعتمد.
وذكر الخطابى، أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف فى مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما فى الروضة، وصدر بالثانى، وقيل عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمى فى مغازيه، وأخرجه البيهقى بإسناد صحيح.
وفى البخارى: قالت عائشة: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم واشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى فأذنّ له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه فى الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله فأخبرت عبد الله بالذى قالت عائشة فقال لى عبد الله بن عباس: هل تدرى
(1) تقدم.
(2)
تقدم.
من الرجل الآخر الذى لم تسم عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو على بن أبى طالب «1» . الحديث.
وفى رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس ورجل آخر «2» . وفى أخرى لغير مسلم: رجلين أحدهما أسامة. وعند الدار قطنى:
أسامة والفضل، وعند ابن حبان فى أخرى: بريرة ونوبة- بضم النون وسكون الواو ثم موحدة- قيل وهو اسم أمه، وقيل: عبد. وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان. وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد، فتعدد من اتكأ عليه.
وعن عائشة- رضى الله عنها- أنه- صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: «إنى لا أستطيع أن أدور فى بيوتكن، فإن شئتن أذنتن لى» . رواه أحمد. وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أين أنا غدا، أين أنا غدا؟» «3» يريد يوم عائشة. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهرى: أن فاطمة هى التى خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنه يشق عليه الاختلاف. وفى رواية ابن أبى مليكة عن عائشة أن دخوله- صلى الله عليه وسلم بيتها كان يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين الذى يليه.
وفى مرسل أبى جعفر عند ابن أبى شيبة: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «أين أكون أنا غدا» ، كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة، فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة «4» . وفى رواية هشام بن عروة عن أبيه
(1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام
…
وتقدم فى الذى قبله.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر، ومسلم (1443) فى فضائل الصحابة، باب: فى فضل عائشة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4)
أصله فى البخارى وقد تقدم.
- عند الإسماعيلى- كان يقول: «أين أنا غدا» حرصا على بيت عائشة، فلما كان يومى أذن له نساؤه أن يمرض فى بيتى «1» .
وعن عائشة: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وارأساه، فقال:«بل أنا وارأساه» ، ثم قال:«ما ضرك لو مت قبلى فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» ، فقالت: لكأنى بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم- صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ فى وجعه الذى مات فيه «2» . رواه أحمد والنسائى.
وفى البخارى، قالت عائشة: وارأساه فقال- صلى الله عليه وسلم: «ذاك لو كان وأنا حى فأستغفر لك وأدعو لك» ، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنى لأظنك تحب موتى، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك، فقال- صلى الله عليه وسلم:«بل أنا وارأساه» ، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون «3» .
وقوله: «بل أنا وارأساه» إضراب، يعنى: دعى ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلى بى. فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد فى الزهد عن طاووس أنه قال:«أنين المريض شكوى» ، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوه المريض مكروه.
قلت: تعقبه النووى فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه نهى مخصوص، وهو لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا،
(1) تقدم.
(2)
أخرجه الدارمى (80) فى المقدمة، باب: وفاة النبى، وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (5666) فى المرضى، باب: قول المريض إنى وجع أو وارأساه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
ثم قال: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أولى. انتهى.
قال فى فتح البارى: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخط للقضاء، وتورث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس به اتفاقا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاك وهو راض، فالمعوّل فى ذلك على عمل القلب اتفاقا لا على نطق اللسان.
وقد تبين- كما نبه عليه فى «اللطائف» - أن أول مرضه- صلى الله عليه وسلم كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به فى مرضه، فكان يجلس فى مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرد بذلك.
وفى البخارى قالت عائشة: لما دخل بيتى واشتد وجعه قال: «أهريقوا علىّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلى أعهد إلى الناس» ، فأجلسناه فى مخضب لحفصة- زوج النبى- صلى الله عليه وسلم ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن «1» . الحديث.
وقد قيل فى الحكمة فى هذا العدد: أن له خاصية فى دفع ضرر السم والسحر، وسيأتى- إن شاء الله تعالى- أنه- صلى الله عليه وسلم قال:«هذا أوان انقطاع أبهرى» «2» ، أى من ذلك السم. وتمسك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعا إنما هو لدفع السمية التى فى ريقه.
وكانت عليه- صلى الله عليه وسلم قطيفة، فكانت الحمى تصيب من يضع يده عليه
(1) صحيح: أخرجه البخارى (198) فى الوضوء، باب: الغسل والوضوء فى المخضب. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (تعليقا) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة، وأبو داود (4512) فى الديات، باب: فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه فمات أيضا منه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
من فوقها فقيل له فى ذلك فقال: «إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر» «1» ، رواه ابن ماجه وابن أبى الدنيا، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبى سعيد الخدرى. وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشد عليه الوجع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم «2» .
وعن عبد الله قال: دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا، قال:«أجل، أنى أوعك كما يوعك رجلان منكم» ، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال:«أجل، ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» «3» . رواه البخارى.
والوعك- بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح-: الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعى:
الوعك: الحر، فإن كان محفوظا فلعل الحمى سميت وعكا لحرارتها. قال أبو هريرة: ما من وجع يصيا بنى أحب إلىّ من الحمى، إنها تدخل فى كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطى كل مفصل قسطا من الأجر.
وأخرج النسائى، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان- أخت حذيفة- قالت: أتيت النبى- صلى الله عليه وسلم فى نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى، فقال:«إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم» «4» .
وفى حديث عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء،
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (4024) فى الفتن، باب: الصبر على البلاء. من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (5646) فى المرضى، باب: شدة المرض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (5640) فى المرضى، باب: ما جاء فى كفارة المرض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4)
أخرجه النسائى فى «الكبرى» (7482 و 7496 و 7613) .
فجعل يدخل يديه فى الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول:«لا إله إلا الله إن للموت سكرات» «1» الحديث رواه الشيخان. وروى أيضا عن عروة أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم» «2» .
وفى رواية: «ما زالت أكلة خيبر تعادّنى» «3» .
والأكلة: بالضم، اللقمة التى أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ لأنه- صلى الله عليه وسلم لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير. ومعنى الحديث: أنه نقض عليه سم الشاة التى أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانا. والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه- صلى الله عليه وسلم مات شهيدا من السم.
وعند البخارى أيضا قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبى- صلى الله عليه وسلم عنه «4» . وفى رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها «5» . ولمسلم فلما مرض مرضه الذى مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه لأنها كانت أعظم بركة من يدى. وأطلقت على السور الثلاث: المعوذات، تغليبا.
وفى البخارى عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر على النبى- صلى الله عليه وسلم وأنا مسندته إلى صدرى، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستن به،
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4449) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (2192) فى السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(5)
أخرجه مالك (1755) فى الجامع، باب: التعوذ والرقية من المرض.
فأبده رسول الله- صلى الله عليه وسلم بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبى- صلى الله عليه وسلم فاستن به، فما رأيته استن استنانا قط أحسن منه «1» .
الحديث.
قولها: «فأبده» بتشديد الدال المهملة أى: مد نظره إليه. وقولها:
«فقضمته» - بكسر الضاد المعجمة- أى: لطوله ولإزالة المكان الذى تسوك به عبد الرحمن. «ثم طيبته» : أى لينته بالماء. وفى رواية له أيضا: قالت: إن من نعم الله تعالى علىّ أن جمع الله بين ريقى وريقه عند موته، دخل علىّ عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم «2» .
وفى رواية: مر عبد الرحمن وفى يده جريدة رطبة، فنظر إليه- صلى الله عليه وسلم فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقى وريقه فى آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة «3» .
وفى حديث خرجه العقيلى، أنه- صلى الله عليه وسلم قال لها فى مرضه:«ائتينى بسواك رطب فامضغيه ثم ائتينى به أمضغه لكى يختلط ريقى بريقك لكى يهون على عند الموت» .
قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكلما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له.
وفى المسند عن عائشة أيضا: أن النبى- صلى الله عليه وسلم قال: «إنه ليهون على
(1) صحيح: أخرجه البخارى (890) فى الجمعة، باب: من تسوك بسواك غيره. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (2449) وتقدم قريبا.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (4451) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
الموت لأنى رأيت بياض كف عائشة فى الجنة» . وخرجه ابن سعد وغيره مرسلا: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «لقد رأيتها فى الجنة، حتى ليهون علىّ بذلك موتى، كأنى أرى كفيها» ، يعنى عائشة.
فقد كان- صلى الله عليه وسلم يحب عائشة حبّا شديدا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت له بين يديه فى الجنة ليهون عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة، وقد سأله- صلى الله عليه وسلم رجل فقال:«أى الناس أحب إليك؟» فقال:
«عائشة» فقال: من الرجال: قال: «أبوها» «1» ، ولهذا قال لها فى ابتداء مرضه لما قالت: وارأساه: «وددت أن ذلك كان وأنا حى فأصلى عليك وأدفنك» «2» فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما- صلى الله عليه وسلم يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.
ويروى أنه كان عنده- صلى الله عليه وسلم فى مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها فى كفه فقال:«ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه؟» ثم تصدق بها كلها. رواه البيهقى.
انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف حال من لقى الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة، وما ظنه بربه تعالى.
وفى البخارى من طريق عروة عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: دعا النبى- صلى الله عليه وسلم فاطمة فى شكواه الذى قبض فيه، فسارّها بشئ فبكت، ثم دعاها فسارّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارّنى النبى- صلى الله عليه وسلم أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه فبكيت، ثم سارّنى فأخبرنى أنى أول أهله يتبعه فضحكت «3» .
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3662) فى المناقب، باب: قول النبى لو كنت متخذا خليلا. من حديث عمرو بن العاص- رضى الله عنه-.
(2)
تقدم.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (2626) فى المناقب، باب: علامات النبوة فى الإسلام. من حديث عروة عن عائشة- رضى الله عنها-.
وفى رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشى كأن مشيتها مشية النبى- صلى الله عليه وسلم، فقال:«مرحبا بابنتى» ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها «1» .
ولأبى داود والترمذى والنسائى وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله- صلى الله عليه وسلم فى قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبى- صلى الله عليه وسلم قام إليها وقبلها وأجلسها فى مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه فقبلته «2» .
واتفقت الروايتان: على أن الذى سارّها به أولا فبكت، هو إعلامه إياها أنه ميت فى مرضه ذلك، واختلفتا فيما سارّها به فضحكت، ففى رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به «3» ، وفى رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة «4» . وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست فى حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين.
فمما زاده مسروق: قول عائشة فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، حتى توفى النبى- صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إلىّ أن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضنى العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلى، وأنك أول أهل بيتى لحاقا بى «5» .
(1) صحيح: أخرجه مسلم (2450) فى فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبى. من حديث مسروق عن عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه أبو داود (5217) فى الأدب، باب: ما جاء فى القيام، والترمذى (3872) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم، وهو فى صحيح البخارى بنحوه، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-.
(3)
صحيح: أخرجه الترمذى (3781) فى المناقب، باب: من مناقب الحسن والحسين، من حديث حذيفة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
وفى رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هى من النساء. ويحتمل تعدد القصة. وفى رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن.
وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها ولضحكها باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر. وقد روى النسائى من طريق أبى سلمة عن عائشة فى سبب البكاء أنه ميت، وفى سبب الضحك الأمرين الآخرين.
ولابن سعد من رواية أبى سلمة عنها: أن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبرانى- من وجه آخر- عن عائشة أنه قال لفاطمة:«إن جبريل أخبرنى أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكونى أدنى امرأة منهن صبرا» . وفى الحديث: إخباره- صلى الله عليه وسلم بما سيقع، فوقع كما قال- صلى الله عليه وسلم، فإنهم اتفقوا على أن فاطمة- رضى الله عنها- كانت أول من مات من أهل بيت النبى- صلى الله عليه وسلم بعده، حتى من أزواجه- عليه الصلاة والسلام.
وقد كان- صلى الله عليه وسلم من شدة وجعه يغمى عليه فى مرضه ثم يفيق، وأغمى عليه مرة فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا: كراهية للدواء، فلما أفاق قال:«ألم أنهكم أن تلدونى؟» فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال:«لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم» «1» . رواه البخارى. واللدود، هو ما يجعل فى جانب الفم من الدواء، فأما ما يصب فى الحلق فيقال له: الوجور.
وفى الطبرانى من حديث العباس: أنهم أذابوا قسطا بزيت ولدوه به.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4458) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
وفى قوله «لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ، إلخ» مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر: لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم لتركهم امتثال نهيه عما نهاهم عنه. قال ابن العربى: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيقعوا فى خطيئة عظيمة. وتعقب: بأنه كان يمكن أن يقع العفو، ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذى يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلا يعودوا، فكان ذلك تأديبا لا اقتصاصا ولا انتقاما. قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى، لأنه تحقق أنه يموت فى مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوى.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذى يظهر أن ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوى لأنه كان غير ملائم لدائه، لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر فى سياق الخبر.
وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم الخاصرة، فاشتدت فأغمى عليه، فلدوه، فلما أفاق قال:«كنتم ترون أن الله يسلط علىّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها على سلطانا، والله لا يبقى أحد فى البيت إلا لدّ» ، فما بقى أحد فى البيت إلا لدّ، ولددنا ميمونة وهى صائمة.
وروى أبو يعلى- بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: أنه- صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب. وجمع بينهما: بأن ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما: ورم حار يعرض فى الغشاء المستبطن، والآخر:
ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفى هنا. وقد وقع فى رواية الحاكم فى المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثانى هو الذى أثبت هنا وليس فيه محذور كالأول.
وفى حديث ابن عباس عند البخارى: لما حضر رسول الله- صلى الله عليه وسلم وفى البيت رجال، فقال النبى- صلى الله عليه وسلم:«هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» ، فقال بعضهم: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا
كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«قوموا» . قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم «1» .
قال المازرى: إنما جاز للصحابة الاختلاف فى هذا الكتاب: مع صريح أمره لهم بذلك. لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم، وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى الله عليه وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم.
وقال النووى: اتفق العلماء على أن قول عمر: «حسبنا كتاب الله» «2» من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشى أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفى تركه- صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه، وأشار بقوله:«حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3» ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس:«إن الرزية إلخ» لأن عمر كان أفقه منه قطعا، ولا يقال إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه أسفا على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه، لكونه أولى من الاستنباط، والله أعلم.
ولما اشتد به- صلى الله عليه وسلم وجعه قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت
(1) صحيح: أخرجه البخارى (114) فى العلم، باب: كتابة العلم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (4432) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما.
(3)
سورة الأنعام: 38.
له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال:«مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فعادوته بمثل مقالتها، فقال:«إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «1» . رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له. وفى رواية: إن أبا بكر رجل أسيف «2» .
وفى حديث عروة عن عائشة عند البخارى: فمر عمر فليصل بالناس، قالت: قلت لحفصة قولى له إن أبا بكر إذا قام فى مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:
«مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا «3» .
والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل، من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا، رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عائشة فى هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: أنهن مثل صواحب يوسف فى إظهار ما فى الباطن. ثم إن هذا الخطاب، وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهى عائشة- رضى الله عنها-. ووجه المشابهة بينهما فى ذلك أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها فى محبته، وأن عائشة أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به. وقد صرحت هى بذلك، كما عند البخارى فى باب وفاته- صلى الله عليه وسلم فقالت: لقد راجعته وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع فى قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (664) فى الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة، ومسلم (418) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
تقدم فى الذى قبله.
(3)
تقدم.
وقد نقل الدمياطى: أن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة. وقد ذكر الفاكهى فى «الفجر المنير» مما عزاه لسيف الدين بن عمر فى كتاب «الفتوح» أن الأنصار لما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم يزداد وجعا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه- صلى الله عليه وسلم بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه على بن أبى طالب كذلك. فخر- صلى الله عليه وسلم متوكئا على علي والفضل والعباس أمامه، والنبى- صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس، بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبى قبلى فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا إنى لاحق بربى، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1» إلى آخرها، وإن الأمور تجرى بإذن الله تعالى، ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ «2» ، وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم فى الثمار؟ ألم يوسعوا لكم فى الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولى أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، إلا وإنى فرط لكم، وأنتم لا حقون بى، إلا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده علىّ غدا فليكفف يده ولسانه، إلا فيما ينبغى، يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا برّ الناس، برّهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوهم.
وفى حديث أنس عند البخارى: قال: مرّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبى
(1) سورة العصر: 1، 2.
(2)
سورة محمد: 22.
- صلى الله عليه وسلم منا، فدخل أحدهما على النبى- صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج النبى- صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر- ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:«أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشى وعيبتى، وقد قضوا الذى عليهم، وبقى الذى لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «1» .
وقوله «كرشى وعيبتى» أى موضع سرى أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم فى أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك. لأن المجتر يجمع علفه فى كرشه، والرجل يجمع ثيابه فى عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أى جماعتى وصحابتى يقال: عليه كرش من الناس، أى جماعة، قاله فى النهاية.
وذكر الواحدى بسند وصله بعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت عائشة فقال:
«حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إنى لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله فى بلاده وعباده، فإنه قال لى ولكم:
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3» » ، قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال:«دنا الفراق، والمنقلب إلى الله وإلى جنة المأوى» ، قلنا: يا رسول الله، من يغسلك؟ قال:«رجال من أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال:«فى ثيابى هذه وإن شئتم فى بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية» ، قلنا: يا رسول الله، من يصلى عليك؟
قال: «إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على سريرى هذا على شفير
(1) صحيح: أخرجه البخارى (3799) فى المناقب، باب: قول النبى اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن سيئاتهم. من حديث أنس- رضى الله عنه-.
(2)
سورة القصص: 83.
(3)
سورة الزمر: 60.
قبرى، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا على فوجا فوجا، فصلوا علىّ وسلموا تسليما، وليبدأ بالصلاة علىّ رجال أهل بيتى، ثم نساؤهم، ثم أنتم، واقرؤا السلام على من غاب من أصحابى ومن تبعنى على دينى، من يومى هذا إلى يوم القيامة» ، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟
قال: «أهلى مع ملائكة ربى» . وكذا رواه الطبرانى فى «الدعاء» وهو واه جدّا.
وقالت عائشة: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» . فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذى غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال:«اللهم فى الرفيق الأعلى» ، فقلت: إذا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذى كان يحدثنا وهو صحيح «1» . وفى رواية: أنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلىّ ظهره يقول:«اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى» «2» . رواه البخارى من طريق الزهرى عن عروة.
وما فهمته عائشة من قوله- صلى الله عليه وسلم: «اللهم فى الرفيق الأعلى» أنه خير، نظير فهم أبيها- رضى الله عنه- من قوله- صلى الله عليه وسلم:«إن عبدا خيره الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» أن العبد المراد هو النبى- صلى الله عليه وسلم حتى بكى كما قدمته. ذكره الحافظ ابن حجر.
وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله عن عائشة:
أن النبى- صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ما من نبى يقبض إلا يرى الثواب ثم
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4437) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه الترمذى (3496) فى الدعوات، باب: ما جاء فى عقد التسبيح باليد. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
يخير» «1» . ولأحمد أيضا، من حديث أبى مويهة قال: قال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد ثم الجنة، فخيرات بين ذلك وبين لقاء ربى فاخترت لقاء ربى والجنة» «2» . وعند عبد الرزاق من مرسل طاووس، رفعه:«خيرات بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتى، وبين التعجيل فاخترت التعجيل» ، وفى رواية أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه عند النسائى، وصححه ابن حبان: فقال اسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل. وظاهره: أن الرفيق الأعلى، المكان الذى تحصل المرافقة فيه مع المذكورين، وقال ابن الأثير فى «النهاية» الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى، يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد حظيرة القدس.
وفى كتاب «روضة التعريف بالحب الشريف» : لما تجلى له الحق ضعفت العلائق بينه وبين المحسوسات والحظوظ الضرورية من أوانى معانى الترقيات البشرية، فكانت أحواله فى زيادة الترقى، ولذلك روى أنه- صلى الله عليه وسلم قال:«كل يوم لا أزداد فيه قربا من الله فلا بورك لى فى طلوع شمسه» . وكلما فارق مقاما واتصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص، وسار على ظهر المحبة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذى الجلال، والاتصال بالمحبوب الذى كل شئ هالك إلا وجهه.
وقال السهيلى: الحكمة فى اختتام كلامه- صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة، كونها تتضمن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان، لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره إذا كان قلبه عامرا بالذكر. انتهى ملخصا.
قال الحافظ ابن رجب: وقد روى ما يدل على أنه قبض ثم رأى مقعده من الجنة ثم ردت إليه نفسه ثم خير. ففى المسند قالت- يعنى عائشة- كان
(1) أخرجه البخارى، وقد تقدم.
(2)
تقدم.
النبى- صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبى إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه إلى أن يلحق» «1» ، فكنت قد حفظت ذلك عنه، فإنى لمسندته إلى صدرى، فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت:
فعرفت الذى قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذا والله لا يختارنا، فقال: مع الرفيق الأعلى فى الجنة، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وفى البخارى من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو صحيح- يقول: «إنه لم يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيّا أو يخير» ، فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشى عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال:«اللهم فى الرفيق الأعلى» «2» . ونبه السهيلى على أنه النكتة فى الإتيان بهذه الكملة بالإفراد، الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد. وفى صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم ورأسه فى حجرى. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلما أفاق قال:«أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» «3» .
ولما احتضر- صلى الله عليه وسلم، اشتد به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبى- صلى الله عليه وسلم، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول:«اللهم أعنى على سكرات الموت» «4» . وفى رواية: فجعل يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» «5» .
قال بعض العلماء: فيه أن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته.
(1) تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
وقال الشيخ أبو محمد المرجانى: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو فى السياق: واكرباه، ففتح عينيه وقال:
واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه، فإذا كان هذا طربه وهو فى هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبى- صلى الله عليه وسلم وحزبه، فما بالك بلقاء النبى- صلى الله عليه وسلم لربه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه.
وفى حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، فأعنى عليه وهونه على» . وعند الإمام أحمد والترمذى من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول:«اللهم أعنى على سكرات الموت» «2» .
ولما تغشاه الكرب، قالت فاطمة- رضى الله عنها-: واكرب أبتاه، فقال لها:«لا كرب على أبيك بعد اليوم» «3» ، رواه البخارى. قال الخطابى: زعم من لا يعد من أهل العلم: أن المراد بقوله- صلى الله عليه وسلم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» أن كربه كان شفقة على أمته، لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشئ، لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة، لأنه مبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وإن المراد بالكرب ما كان يجده- صلى الله عليه وسلم من شدة الموت، وكان- صلى الله عليه وسلم فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر ليتضاعف له الأجر، انتهى.
وروى ابن ماجه أنه- صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «إنه حضر من أبيك ما الله تعالى بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» «4» .
(1) سورة السجدة: 17.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
(4)
حسن: أخرجه ابن ماجه (1629) ، فيما جاء فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، وقال الألبانى فى صحيح ابن ماجه: حسن صحيح.
وفى البخارى من حديث أنس بن مالك: أن المسلمين بينما هم فى صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلى لهم لم يفجأهم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم فى صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا فى صلاتهم فرحا برسول الله- صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده- صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر «1» .
وفى رواية أبى اليمان عن شعيب، عند البخارى، فى «الصلاة» : فتوفى من يومه «2» . وفى رواية معمر عنده أيضا. وكلها من حديث أنس: لم يخرج إلينا- صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم، فقام نبى الله- صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه، فلما وضح لنا وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا، قال:
فأومأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب «3» . الحديث رواه الشيخان.
وعنه أن أبا بكر كان يصلى بهم فى وجع النبى- صلى الله عليه وسلم الذى توفى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف فى الصلاة، كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة، فنظرنا إليه وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم ضاحكا «4» . الحديث رواه مسلم. وقد جزم موسى ابن عقبة عن ابن شهاب، أنه- صلى الله عليه وسلم مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبى الأسود عن عروة.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (680) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(2)
تقدم.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (681) فى الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(4)
صحيح: أخرجه مسلم (419) فى الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقى من أجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم ثلاث، نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد إن الله قد أرسلنى إليك إكراما لك، وتفضيلا لك، وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال: «أجدنى يا جبريل مغموما، وأجدنى يا جبريل مكروبا» ثم أتاه فى اليوم الثانى فقال له مثل ذلك، ثم جاءه فى اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يأذن على نبى قبلك، ولا يستأذن على آدمى بعدك، قال:
«ائذن له» ، فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل أرسلنى إليك وأمرنى أن أطيعك فى كل ما تأمر، إن أمرتنى أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتنى أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، فقال- صلى الله عليه وسلم:«فامض يا ملك الموت لما أمرت به» ، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئى من الأرض، إنما كنت حاجتى من الدنيا. فقبض روحه، فلما توفى- صلى الله عليه وسلم، وجاءت التعزية سمعوا صوتا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال على: أتدرون من هذا؟ هو الخضر- عليه السلام. رواه البيهقى فى دلائل النبوة.
وفى تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقى: وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره فى الإحياء وأن النووى أنكر وجود الحديث المذكور فى كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب ثم قال العراقى: قد رواه الحاكم فى المستدرك من حديث أنس ولم يصححه، ولا يصح.
ورواه ابن أبى الدنيا عن أنس أيضا قال: لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم اجتمع أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين فى إزار ورداء، يتخطى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم حتى أخذ بعضادتى باب البيت
فبكى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن فى الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فان. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: علىّ بالرجل، فنظروا يمينا وشمالا فلم يروا أحدا، فقال أبو بكر لعلى: هذا الخضر، جاء يعزينا. ورواه ابن أبى الدنيا أيضا من حديث على ابن أبى طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين على بن الحسين وبين جده على، والمعروف عن على بن الحسين مرسلا من غير ذكر على، كما رواه الشافعى فى الأم وليس فيه ذكر للخضر- عليه السلام «1» .
قال البيهقى: قوله: «إن الله اشتاق إلى لقائك» معناه: قد أراد لقاءك بأن يردك من دنياك إلى معادك زيادة فى قربك وكرامتك. وأخرج الطبرانى من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبى- صلى الله عليه وسلم فى مرضه ورأسه فى حجر على، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له على: ارجع فإنا مشاغيل عنك، فقال- صلى الله عليه وسلم:«هذا ملك الموت، ادخل راشدا» ، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام. فبلغنى أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده.
وقالت عائشة: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى بيتى، فى يومى، وبين سحرى ونحرى «2» ، وفى رواية: بين حاقنتى وذاقنتى «3» . رواه البخارى.
والحاقنة: بالمهملة والقاف والنون، أسفل من الذقن. والذاقنة: طرف الحلقوم.
والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، هو الصدر. والنحر: بفتح
(1) قلت: أحاديث الخضر ضعيفة، ولم تثبت، بل وجوده يخالف عمومات كثيرة من الشريعة كعموم بعثته- صلى الله عليه وسلم لأهل الأرض جميعا فلو كان حيّا ووسعه لقائه لالتقى به وآمن به وجاهد معه، ولكن لم يحدث شئ من ذلك، فينتظر حتى وفاته حتى يجئ لأصحابه ليعزيهم ثم ينصرف!.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1389) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
تقدم.
النون وسكون الحاء المهملة. والمراد: أنه- صلى الله عليه وسلم توفى ورأسه بين عنقها وصدرها.
وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه- صلى الله عليه وسلم مات ورأسه فى حجر على، لأن كل طريق منها- كما قاله الحافظ ابن حجر- لا تخلو من شئ، فلا يلتفت لذلك والله أعلم.
قال السهيلى: وجدت فى بعض كتب الواقدى: أن أول كلمة تكلم بها النبى- صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع عند حليمة: الله أكبر، وآخر كلمة تكلم بها:
الرفيق الأعلى.
وروى الحاكم من حديث أنس: أن آخر ما تكلم به- صلى الله عليه وسلم: «جلال ربى الرفيع» .
ولما توفى- صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر غائبا بالسنح- يعنى العالية، عند زوجته بنت خارجة- وكان- صلى الله عليه وسلم قد أذن له فى الذهاب إليها، فسل عمر بن الخطاب سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى- عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إنى لأرجو أن يقطع أيدى رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم فجثا يقبله ويبكى ويقول: توفى والذى نفسى بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيّا وميتا، ذكره الطبرى فى «الرياض» .
وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله ثم بكى وقال: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها «1» . رواه البخارى.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1242) فى الجنائز، باب: الدخول على الميت بعد الموت. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
واختلف فى قول أبى بكر- رضى الله عنه-: «لا يجمع الله عليك موتتين» .
فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدى رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذى مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها.
وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى فى القبر كغيره، إذ يحيا ليسئل ثم يموت، وهذا جواب الداودى. وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنى بالموت الثانى عن الكرب، أى لا يلقى بعد كرب الموت كربا آخر. قاله فى فتح البارى.
وعنها: أن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقبله وقال: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا، والذى نفسى بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» وقال:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «2» الآية، قال: فنشج الناس يبكون «3» ، رواه البخارى.
يقال: نشج الباكى، إذا غص بالبكاء فى حلقه من غير انتحاب.
وعن سالم بن عبيد الأشجعى قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-، فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدا يقول: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فقال
(1) سورة الزمر: 30.
(2)
سورة آل عمران: 144.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (1242) وقد تقدم.
الناس يا سالم، أطلب صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم، قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبى بكر، فلما رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدا يقول مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلا ضربته بسيفى هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبى- صلى الله عليه وسلم وهو مسجى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاه على فيه واستنشى الريح، ثم سجاه والتفت إلينا فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «1» الآية، وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» يا أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت. قال عمر: فو الله لكأنى لم أتل هذه الآيات قط، خرجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبرى فى «الرياض» له، وقال: خرج الترمذى معناه بتمامه. واستنشى الريح: شمها، أى شم ريح الموت.
وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجيت النبى- صلى الله عليه وسلم ثوبا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفنى الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر، فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم «3» .
وفى حديث ابن عباس عند البخارى: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «4» قال: والله لكأن
(1) سورة آل عمران: 144.
(2)
سورة الزمر: 30.
(3)
تقدم.
(4)
سورة آل عمران: 144.
الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها «1» .
وفى حديث ابن عمر عند ابن أبى شيبة أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول:
ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين. قال:
وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رؤسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد مات: ألم تسمع الله تعالى يقول: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وقال: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ «3» ثم أتى المنبر. الحديث.
قال القرطبى أبو عبد الله المفسر: وفى هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها: ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبى- صلى الله عليه وسلم. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التى قالها.
كما ذكر الوائلى أبو نصر عبد الله فى كتاب «الإنابة» عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم واستوى على منبره- صلى الله عليه وسلم، تشهد ثم قال: أما بعد، فإنى قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإنى والله ما وجدت المقالة التى قلت لكم فى كتاب الله، ولا فى عهد عهده رسول الله- صلى الله عليه وسلم ولكنى كنت أرجو أن يعيش رسول الله- صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا- أى يكون آخرنا موتا، أو كما قال- فاختار الله عز وجل لرسوله الذى عنده على الذى عندكم، وهذا الكتاب الذى هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسوله- صلى الله عليه وسلم.
قال أبو نصر: المقالة التى قالها ثم رجع عنها: هى أن النبى- صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدى وأرجل، وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه
(1) تقدم.
(2)
سورة الزمر: 30.
(3)
سورة الأنبياء: 34.
وخشى الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه بقول الله عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «1» وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2» وخرج الناس يتلونها فى سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم انتهى.
وقال ابن المنير: لما مات- صلى الله عليه وسلم طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما، وكان على ممن أقعد فلم يستطع حراكا، وأضنى عبد الله ابن أنيس فمات كمدا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق- رضى الله عنه-، جاء وعيناه تهملان وزفراته تتردد وغصصه تتصاعد وتترفع، فدخل على النبى- صلى الله عليه وسلم فأكب عليه وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حيّا وميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك.
ووقع فى حديث ابن عباس وعائشة عند البخارى: أن أبا بكر قبل النبى- صلى الله عليه وسلم بعد ما مات، كما قدمنا. وكذا وقع فى رواية غيره.
وفى رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قبل رأسه، فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه.
وعند ابن أبى شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم فجعل يقبله ويبكى ويقول: بأبى أنت وأمى، طبت حيّا وميتا.
وعن عائشة: أن أبا بكر دخل على النبى- صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فوضع فاه
(1) سورة آل عمران: 185.
(2)
سورة الزمر: 30.
بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدى كما ذكره الطبرى. قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدم مما تضمن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال.
وأخرج البيهقى وأبو نعيم من طريق الواقدى عن شيوخه: أنهم شكوا فى موته- صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه- صلى الله عليه وسلم فقالت: قد توفى، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان هذا الذى قد عرف به موته. وأخرجه ابن سعد عن الواقدى أيضا.
ولما توفى- صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربّا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه «1» . رواه البخارى.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله: وقد قيل الصواب: إلىّ جبريل نعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزى فى مرآة الزمان. قال: والأول متوجه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن. وزاد الطبرانى: يا أبتاه، من ربه ما أدناه. وقد عاشت فاطمة- رضى الله عنها- بعده- صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فما ضحكت تلك المدة، وحق لها ذلك.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
…
وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
وأخرج أبو نعيم عن على قال: لما قبض- صلى الله عليه وسلم صعد ملك الموت باكيا إلى السماء، والذى بعثه بالحق نبيّا لقد سمعت صوتا من السماء ينادى:
وا محمداه. الحديث. كل المصائب تهون عند هذه المصيبة.
وفى سنن ابن ماجه: أنه- صلى الله عليه وسلم قال فى مرضه: «أيها الناس، إن أحد من الناس، أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بى عن المصيبة التى
(1) صحيح: أخرجه البخارى (4462) فى المغازى، باب: مرض النبى ووفاته. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
تصيبه بغيرى، فإن أحدا من أمتى لن يصاب بمصيبة بعدى أشد عليه من مصيبتى» «1» . وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله، اتق الله، فإن فى رسول الله أسوة حسنة. ويعجبنى قول القائل:
اصبر لكل مصيبة وتجلد
…
واعلم بأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبر الكرام فإنها
…
نوب تنوب اليوم تكشف فى غد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها
…
فاذكر مصابك بالنبى محمد
ويرحم الله القائل:
تذكرت لما فرق الدهر بيننا
…
فعزيت نفسى بالنبى محمد
وقلت لها إن المنايا سبيلنا
…
فمن لم يمت فى يومه مات فى غد
كادت الجمادات تتصدع من ألم فراقه- صلى الله عليه وسلم، فكيف بقلوب المؤمنين؟
لما فقده الجذع الذى كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حنّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
وروى أن بلالا لما كان يؤذن بعد وفاته- صلى الله عليه وسلم، وقبل دفنه، فإذا قال:
أشهد أن محمدا رسول الله، ارتج المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دفن ترك بلال الأذان. ما أمرّ عيش من فارق الأحباب خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب.
لو ذاق طعم الفراق رضوى
…
لكان من وجده يميد
قد حملوني عذاب شوق
…
يعجز عن حمله الحديد
(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1599) فى الجنائز، باب: ما جاء فى الصبر على المصيبة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .
وقد كانت وفاته- صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا خلاف، وقت دخول المدينة فى هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء.
فعند ابن سعد فى الطبقات، عن على: توفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء. وعنده أيضا عن عكرمة، توفى يوم الاثنين، فحبس بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضا: عن عثمان بن محمد الأخنس: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس ودفن يوم الأربعاء. وروى أيضا عن أبىّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفى يوم الاثنين، فمكث بقية يوم الاثنين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء. وعنده أيضا: عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب: توفى يوم الاثنين حين زاغت الشمس «1» .
ورثته عمته صفية بمراثى كثيرة منها قولها:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا
…
وكنت بنا برّا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما
…
ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكى النبى لفقده
…
ولكن لما أخشى من الهجر آتيا
كأن على قلبى لذكر محمد
…
وما خفت من بعد النبى المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد
…
على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمى وخالتى
…
وعمى وخالى ثم نفسى وماليا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا
…
سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية
…
وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته
…
يبكّى ويدعو جده اليوم نائيا
ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال:
أرقت فبت ليلى لا يزول
…
وليل أخى المصيبة فيه طول
وأسعدنى البكاء وذاك فيما
…
أصيب المسلمون به قليل
(1) انظر «الطبقات الكبرى» لابن سعد (2/ 272) .
لقد عظمت مصيبتنا وجلت
…
عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها
…
تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحى والتنزيل فينا
…
يروح به ويغدو جبرائيل
وذاك أحق ما سالت عليه
…
نفوس الناس أو كادت تسيل
نبى كان يجلو الشك عنا
…
بما يوحى إليه وما يقول
ويهديناا فلا نخشى ضلالا
…
علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر
…
وإن لم تجزعى ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر
…
وفيه سيد الناس الرسول
ورثاه الصديق بقوله:
لما رأيت نبينا متجندلا
…
ضاقت على بعرضهن الدور
فارتاع قلبى عند ذاك لهلكه
…
والعظم منى ما حييت كسير
أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى
…
فالصبر عنك لما لقيت يسير
يا ليتنى من قبل مهلك صاحبى
…
غيبت فى جدث على صخور
فلتحدثن بدائع من بعده
…
يعيى بهن جوارح وصدور
ورثاه الصديق أيضا بقوله:
ودعنا الوحى إذا وليت عنا
…
فودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا
…
تضمنه القراطيس الكرام
ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه- صلى الله عليه وسلم:
كنت السواد لناظرى
…
فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت
…
فعليك كنت أحاذر
ورثاه حسان بقوله أيضا:
بطيبة رسم للرسول ومعهد
…
مبين وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تنمحى الآيات من دار حرمه
…
بها منبر الهادى الذى كان يصعد
وأوضح آيات وباقى معالم
…
وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها
…
من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها
…
أتاها البلى فالآى منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده
…
وقبرا بها واراه فى الترب ملحد
أطالت وقوفا تذرف العين دمعها
…
على طلل القبر الذى فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت
…
بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا
…
عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعين
…
تباكت وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة
…
عشية عالوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم
…
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكى السماوات موته
…
ومن قد بكته الأرض والناس وأكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك
…
رزية يوم مات فيه محمد
ولما تحقق عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- موته- صلى الله عليه وسلم بقول أبى بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكى: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلما كثروا اتخذت منبرا لتسمعهم، فحن الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه فسكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: من يطع الرسول فقد أطاع الله، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك فى أولهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «1» الآية، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أن أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم فى أطباقها يعذبون، يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول. الخبر ذكره أبو العباس القصار فى شرحه لبردة الأبوصيرى،
(1) سورة الأحزاب: 7.
ونقله عنه الرشاطى فى كتابه «اقتباس الأنوار والتماس الأزهار» وذكره ابن الحاج فى المدخل وساقه بتمامه، والقاضى عياض فى «الشفاء» لكنه ذكر بعضه، ويقع فى كثير من نسخ الشفاء: روى عن عمر بن الخطاب-- رضى الله عنه- أنه قال فى كلام بكى به النبى- صلى الله عليه وسلم، بتشديد الكاف من بكى، والصواب فيها التخفيف، لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر- رضى الله عنه- بعد موته- صلى الله عليه وسلم كما تقدم، ونبهت عليه فى حاشية الشفاء والله أعلم. ويؤيد هذا قوله فى الخبر نفسه: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد اتبعك فى قصر عمرك ما لم يتبع نوحا فى كثرة سنه وطول عمره، فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل.
وأخرج ابن عساكر عن أبى ذؤيب الهذلى قال: بلغنا أن النبى- صلى الله عليه وسلم عليل، فأوجس الحى خيفه، وبث بليلة طويلة حتى إذا كان السحر نمت فهتف بى هاتف وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام
…
بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبى محمد فعيوننا
…
تبدى الدموع عليه بالتسجام
فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح فعلمت أن النبى- صلى الله عليه وسلم قبض!! أو هو ميت، فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
ومن عجيب ما اتفق ما روى عن عائشة: أنهم لما أرادوا غسل النبى- صلى الله عليه وسلم قالوا: لا ندرى، أنجرد النبى- صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه فى صدره، ثم كلهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، اغسلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا وغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص «1» . رواه البيهقى فى دلائل النبوة.
(1) انظر «دلائل النبوة» للبيهقى (7/ 242) .
وروى ابن ماجه بسند جيد عن على يرفعه: «إذا أنا مت فاغسلونى بسبع قرب من بئرى بئر غرس» «1» . قال فى النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملتين.
وقد روى ابن النجار: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة أنى أصبحت على بئر من الجنة» ، فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها.
وغسّل- صلى الله عليه وسلم ثلاث غسلات، الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وغسله على، والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه- صلى الله عليه وسلم يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر. لحديث على:«لا يغسلنى إلا أنت فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» «2» رواه البزار والبيهقى.
وأخرج البيهقى عن الشعبى قال: غسل على النبى- صلى الله عليه وسلم فكان يقول وهو يغسله- صلى الله عليه وسلم: بأبى أنت وأمى طبت حيّا وميتا.
أخرج أبو داود، وصححه الحاكم عن على قال: غسلته- صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميت، فلم أر شيئا، وكان طيبا حيّا وميتا.
وفى رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط «3» .
قيل: وجعل على على يده خرقة وأدخلها تحت القميص ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه وجمروه عودا وندّا «4» .
وذكر ابن الجوزى أنه روى عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1468) فى الجنائز، باب: ما جاء فى غسل النبى. من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن ابن ماجه» .
(2)
ذكره الهيثمى فى «المجمع» (9/ 36) وقال: رواه البزار وفيه يزيد بن بلال، قال البخارى: فيه نظر وبقية رجاله وثقوا وفيهم خلاف.
(3)
أخرجه ابن سعد فى «الطبقات الكبرى» (2/ 281) ، وهو ليس عند أبى داود كما قال المصنف.
(4)
انظر ما قبله.
فى جفون النبى- صلى الله عليه وسلم فكان على يحسوه. وأما ما روى أن عليّا لما غسله- صلى الله عليه وسلم امتص ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووى: ليس بصحيح.
وفى حديث عروة عن عائشة قالت: كفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة أثواب سحولية بيض «1» ، أخرجه النسائى من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة «2» . وليس قوله «من كرسف» عند الترمذى ولا ابن ماجه.
زاد مسلم: أما الحلة فإنما شبّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها، فتركت الحلة وكفن فى ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبى بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسى، ثم قال: لو رضيها الله عز وجل لنبيه لكفنه فيها فباعها وتصدق بثمنها «3» .
وفى رواية له: أدرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى حلة يمانية كانت لعبد الله ابن أبى بكر ثم نزعت عنه «4» ، وذكر الحديث بطوله.
وفى رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم كفن فى ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه «5» . قال الترمذى: حسن صحيح.
(1) صحيح: أخرجه النسائى (4/ 35) فى الجنائز، باب: كفن النبى. من حديث عائشة وأصله فى الصحيح وسيأتى فى الذى بعده. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1264) فى الجنائز، باب: الثياب البيض للكفن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
صحيح: أخرجه مسلم (941) فى الجنائز، باب: فى كفن الميت. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(4)
تقدم فى الذى قبله.
(5)
صحيح: أخرجه الترمذى (996) فى الجنائز، باب: ما جاء فى كفن النبى. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الترمذى: حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .
وفى رواية البيهقى: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد «1» .
والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووى: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفى النهاية تبعا للهروى، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها، أى يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقى، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضا.
والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء:
القطن.
وقال الترمذى: روى فى كفن النبى- صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث فى ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
وقال البيهقى فى «الخلافيات» : قال أبو عبد الله- يعنى الحاكم-:
تواترت الأخبار عن على بن أبى طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد الله بن مغافل، فى تكفين النبى- صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
وعن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن على: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كفن فى سبعة أثواب «2» ، وقد روى هذا الحديث أحمد فى مسنده، وذكر ابن حزم: أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده.
وقد اختلف فى معنى قوله: «ليس فيها قميص ولا عمامة» . فالصحيح أن معناه: أنه ليس فى الكفن قميص ولا عمامة أصلا. والثانى: أن معناه أنه كفن فى ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة.
قال الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر فى المراد، وذكر
(1) أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 246) .
(2)
أخرجه أحمد (1/ 94 و 102) من حديث على بن أبى طالب.
النووى فى شرح مسلم أن الأول تفسير الشافعى وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذى يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثانى ضعيف، فلم يثبت أنه- صلى الله عليه وسلم كفن فى قميص وعمامة، انتهى.
وترتب على اختلافهم: فى أنه هل يستحب أن يكون فى الكفن قميص وعمامة أم لا؟
فقال مالك والشافعى وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا فى زيادة القميص والعمامة أو غيرها على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو فى حق النساء آكد. قال: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الأثواب الثلاثة، إزار وقميص ولفافة. وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية فيجب فى ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.
واختلف أصحابنا فى المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأول الرافعى فى «الشرح الصغير» و «المحرر» والنووى فى «المنهاج» . وذهب إلى الثانى: الرافعى فى «الشرح الكبير» والنووى فى «الروضة» و «شرح المهذب» وقال فيه: قيد الغزالى وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه، انتهى.
ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعا، ثم إن الواجب ثوب واحد، وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه بخلاف الثانى والثالث فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما.
وفى هذا الحديث أيضا دلالة على أن القميص الذى غسل فيه النبى- صلى الله عليه وسلم نزع عنه عند تكفينه. قال النووى فى شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذى لا يتجه غيره، لأنه لو بقى مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأما الحديث الذى فى سنن أبى داود عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم كفن فى
ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان وقميصه الذى توفى فيه، فحديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات.
وفى حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه- صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته ثم دخل الناس عليه- صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم أحد «1» .
وفى رواية: إن أول من صلى عليه- صلى الله عليه وسلم الملائكة أفواجا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجا فوجا، ثم نساؤه آخرا.
وروى أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليّا فقال لهم قولوا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» الآية، لبيك اللهم ربنا وسعديك، صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين، والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شئ يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين ورسول رب العالمين، الشاهد البشير الداعى إليك بإذنك السراج المنير، وعليه السلام، ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغى فى كتابه تحقيق النصرة.
ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر- رضى الله عنه-: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: «ما هلك نبى قط إلا يدفن حيث تقبض روحه» ، وقال على:
وأنا أيضا سمعته «3» .
وحفر أبو طلحة لحد رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى موضع فراشه حيث قبض.
(1) ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1628) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، وقال الألبانى: ضعيف ولكن قصة الشقاق واللحد ثابتة.
(2)
سورة الأحزاب: 56.
(3)
أخرجه البيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 260- 261) .
وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصح ما روى: أنه نزل فى قبره عمه العباس وعلى وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم قثم بن العباس «1» .
وروى أنه بنى فى قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطى بها، فرشها شقران فى القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك «2» .
قال النووى: وقد نص الشافعى وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت فى القبر.
وشذ البغوى من أصحابنا فقال فى كتابه «التهذيب» : لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهيته أن يلبسها أحد بعد النبى- صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفى كتاب «تحقيق النصرة» : قال ابن عبد البر: ثم أخرجت، يعنى القطيفة من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة.
ولما دفن- صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة- رضى الله عنها- فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وأنشأت تقول:
ماذا على من شم تربة أحمد
…
أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علىّ مصائب لو أنها
…
صبت على الأيام عدن لياليا
قال رزين: ورش قبره- صلى الله عليه وسلم، رشه بلال بن رباح بقرية، بدأ من قبل
(1) أخرجه أحمد (1/ 100) من حديث على بن أبى طالب، والبيهقى فى «دلائل النبوة» (7/ 257) .
(2)
ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1628) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الألبانى وتقدم.
رأسه. حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء.
ورفع قبره من الأرض قدر شبر.
وفى حديث عائشة عند البخارى قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى مرضه الذى لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشى أو خشى أن يتخذ مسجدا «1» .
كذا فى رواية أبى عوانة عن هلال «خشى أو خشى» على الشك.
فرواية «الضم» مبهمة يمكن أن تفسر بأنها هى التى منعت من إبرازه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضى أنهم فعلوه باجتهاد بخلاف رواية الفتح فإنها تقتضى أن النبى- صلى الله عليه وسلم هو الذى أمرهم بذلك.
وقوله: «لأبرز قبره» أى: لكشف قبره- صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه حائل.
والمراد: الدفن خارج بيته، وهذا قالته عائشة- رضى الله عنها- قبل أن يوسع المسجد، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلاثة الشكل محددة، حتى لا يتأتى لأحد أن يصلى إلى جهة القبر الكريم مع استقبال القبلة.
وفى البخارى أيضا من حديث أبى بكر بن عياش عن سفيان التمار: أنه حدثه أنه رأى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم مسنما أى مرتفعا «2» . زاد أبو نعيم فى «المستخرج» : وقبر أبى بكر وعمر كذلك.
واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبى حنيفة ومالك وأحمد والمزنى وكثير من الشافعية، وادعى القاضى حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقب: بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نص عليه الشافعى. وبه جزم الماوردى وآخرون.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1330) فى الجنائز، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ومسلم (529) فى المساجد، باب: النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1390) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى- صلى الله عليه وسلم.
وقول سفيان التمار لا حجة فيه، كما قال البيهقى لاحتمال أن قبره- صلى الله عليه وسلم فى الأول لم يكن مسنما. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبى بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفى لى عن قبر النبى- صلى الله عليه وسلم فكشفت لى عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء «1» . زاد الحاكم: فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفى النبى- صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلى النبى- صلى الله عليه وسلم. وهذا كان فى خلافة معاوية. فكأنها كانت فى الأول مسطحة، ثم لما بنى جدار القبور فى إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك صيروها مرتفعة.
وقد روى أبو بكر الآجرى فى كتاب «صفة قبر النبى- صلى الله عليه وسلم» من طريق إسحاق بن عيسى ابن بنت داود بن أبى هند، عن عثيم بن نسطاس المدنى قال: رأيت قبر النبى- صلى الله عليه وسلم فى إمارة عمر بن عبد العزيز: رأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبى بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبى بكر أسفل منه.
ثم الاختلاف فى ذلك فى أنهما أفضل، لا فى أصل الجواز، ورجح المزنى التسنيم من حيث المعنى، بأن المسطح يشبه ما يصنع للجلوس، بخلاف المسنم. ويرجح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوى ثم قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها.
وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعنى حائط حجرة النبى- صلى الله عليه وسلم فى زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا فى بنائه، فبدت لهم قدم ففزعوا وظنوا أنها قدم النبى- صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدا يعلم ذلك حتى قال لهم عروة، والله ما هى قدم النبى- صلى الله عليه وسلم، والله ما هى إلا قدم عمر «2» ، رواه البخارى أيضا.
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (3220) فى الجنائز، باب: فى تسوية القبر. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1390) فى الجنائز، باب: ما جاء فى قبر النبى وأبى بكر وعمر. من حديث عروة بن الزبير بن العوام- رضى الله عنهما-.
والسبب فى ذلك ما رواه الآجرى من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرنى أبى قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلى إليه أحد، فلما هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال: هذا ساق عمر وركبته فسري عن عمر بن عبد العزيز.
وروى الآجرى قال رجاء بن حيوة: قبر أبى بكر عند وسط النبى- صلى الله عليه وسلم، وعمر خلف أبى بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح.
وأما ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره فسنده ضعيف. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وقد اختلف أهل السير وغيرهم فى صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر فى «تحفة الزائر» ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقى فى البيت موضع قبر فى السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى ابن مريم- عليهما السلام، ويكون قبره. الرابع.
وفى «المنتظم» لابن الجوزى: عن ابن عمر، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:
«ينزل عيسى ابن مريم فى الأرض، فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبى بكر وعمر» . كذا ذكره فى «تحقيق النصرة» والله أعلم.
فإن قلت: تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم توفى يوم الاثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلم أخر دفنه- صلى الله عليه وسلم؟ وقد قال- صلى الله عليه وسلم لأهل بيت أخروا دفن ميتهم:«عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروا» .
فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون. حيث يدفن، قال قوم فى البقيع، وقال آخرون: فى المسجد، وقال قوم: يحمل إلى إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق
الأمة: سمعته يقول: «ما دفن نبى إلا حيث يموت» «1» . ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدم. وفى رواية الترمذى: «ما قبض الله نبيّا إلا فى الموضع الذى يحب أن يدفن فيه، ادفنوه فى موضع فراشه» «2» .
ولأنهم اشتغلوا فى الخلاف الذى وقع بين المهاجرين والأنصار فى البيعة، فنظروا فيها حتى استقر الأمر فى الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملأ منهم، وكشف الله به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبى- صلى الله عليه وسلم، فنظروا فى دفنه فغسلوه وكفنوه ودفنوه.
ولما قبض- صلى الله عليه وسلم تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك. إذا كان عرش الرحمن قد اهتز لموت بعض أتباعه فرحا واستبشارا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح.
ولما قدم- صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفى رواية الدارمى قال أنس: ما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم المدينة، وما رأيت يوما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم «3» .
وفى رواية الترمذى: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا «4» .
ومن آياته- صلى الله عليه وسلم ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى
(1) تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
أخرجه الدارمى (88) فى المقدمة، باب: فى وفاة النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.
(4)
صحيح: أخرجه الترمذى (3618) فى المناقب، باب: فى فضل النبى. من حديث أنس ابن مالك- رضى الله عنه-، قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .