المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌المقصد الثامن فى طبه ص لذوى الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات

- ‌الفصل الأول فى طبه صلى الله عليه وسلم لذوى الأمراض والعاهات

- ‌النوع الأول فى طبه ص بالأدوية الإلهية

- ‌رقية الذى يصاب بالعين:

- ‌عقوبة العائن:

- ‌ذكر رقية النبى ص التى كان يرقى بها

- ‌ذكر طبه ص من الفزع والأرق المانع من النوم:

- ‌ذكر طبه ص من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى:

- ‌ذكر طبه ص من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب:

- ‌ذكر طبه ص من داء الفقر:

- ‌ذكر طبه ص من داء الحريق:

- ‌ذكر ما كان ص يطب به من داء الصرع:

- ‌ذكر دوائه ص من داء السحر:

- ‌ذكر رقية لكل شكوى:

- ‌رقيته ص من الصداع:

- ‌رقيته ص من وجع الضرس:

- ‌رقية لعسر البول:

- ‌رقية الحمى:

- ‌ذكر ما يقى من كل بلاء:

- ‌ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء:

- ‌ذكر دواء داء الطعام:

- ‌ذكر دواء أم الصبيان:

- ‌النوع الثانى طبه ص بالأدوية الطبيعية

- ‌ذكر ما كان ص يعالج به الصداع والشقيقة:

- ‌ذكر طبه ص للرمد:

- ‌ذكر طبه ص من العذرة:

- ‌ذكر طبه ص لداء استطلاق البطن

- ‌ذكر طبه ص فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه:

- ‌ذكر طبه ص للمفؤود:

- ‌ذكر طبه ص لذات الجنب:

- ‌ذكر طبه ص لداء الاستسقاء:

- ‌ذكر طبه ص من داء عرق النسا:

- ‌ذكر طبه ص من الأورام والخراجات:

- ‌ذكر طبه ص بقطع العروق والكى:

- ‌ذكر طبه ص من الطاعون:

- ‌ذكر طبه ص من السلعة

- ‌ذكر طبه ص من الحمى:

- ‌ذكر طبه ص من حكة الجسد وما يولد القمل:

- ‌ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذى أصابه بخيبر:

- ‌النوع الثالث فى طبه ص بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية

- ‌ذكر طبه ص من القرحة والجرح وكل شكوى:

- ‌ذكر طبه- ص من لدغة العقرب:

- ‌ذكر الطب من النملة:

- ‌ذكر طبه ص من البثرة:

- ‌ذكر طبه ص من حرق النار:

- ‌ذكر طبه ص بالحمية:

- ‌ذكر حمية المريض من الماء:

- ‌ذكر أمره ص بالحمية من الماء المشمس خوف البرص:

- ‌ذكر الحمية من طعام البخلاء:

- ‌ذكر الحمية من داء الكسل:

- ‌ذكر الحمية من داء البواسير:

- ‌ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحى الذباب بانغماس الثانى:

- ‌ذكره أمره ص بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته:

- ‌ذكر حمية الوليد من إرضاع الحمقى:

- ‌الفصل الثانى فى تعبيره ص الرؤيا

- ‌الرؤيا الصالحة جزء من النبوة:

- ‌الفصل الثالث فى إنبائه ص بالأنباء المغيبات

- ‌المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته

- ‌النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول:

- ‌الفصل الأول: فى ذكر وضوئه ص وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به

- ‌الفصل الثانى فى وضوئه ص مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا

- ‌الفصل الثالث فى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابع فى مسحه ص على الخفين

- ‌الفصل الخامس فى تيممه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السادس فى غسله صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع الثانى فى ذكر صلاته ص

- ‌[القسم الأول] فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب

- ‌الباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول:

- ‌الفصل الأول فى فرضها

- ‌الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس

- ‌الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته ص وفيه فروع:

- ‌الفروع الأول: فى صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع الثانى: فى ذكر قراءته ص البسملة فى أول الفاتحة

- ‌الفرع الثالث: فى ذكر قراءته ص الفاتحة وقوله آمين بعدها

- ‌الفرع الرابع: فى ذكر قراءته ص بعد الفاتحة فى صلاة الغداة

- ‌الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم فى صلاتى الظهر والعصر

- ‌الفرع السادس: فى ذكر قراءته ص فى صلاة المغرب

- ‌الفرع السابع: فى ذكر ما كان ص يقرأ فى صلاة العشاء

- ‌الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع العاشر: فى ذكر ما كان ص يقوله فى الركوع والرفع منه

- ‌الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده ص وما يقول فيه

- ‌الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه ص للتشهد

- ‌الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه ص من الصلاة

- ‌الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاة

- ‌الفصل الخامس فيما كان ص يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها

- ‌الباب الثانى فى ذكر صلاته ص الجمعة

- ‌الباب الثالث فى ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه

- ‌ذكر سياق صلاته ص بالليل

- ‌الباب الرابع فى صلاته ص الوتر

- ‌الباب الخامس فى ذكر صلاته ص الضحى

- ‌القسم الثانى فى صلاته ص النوافل وأحكامها وفيه بابان:

- ‌الباب الأول فى النوافل المقرونة بالأوقات وفيه فصلان:

- ‌الفصل الأول فى رواتب الصلوات الخمس والجمعة

- ‌الفرع الأول: فى أحاديث جامعة لرواتب مشتركة

- ‌الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر

- ‌الفرع الثالث: فى راتبة الظهر

- ‌الفرع الرابع فى سنة العصر

- ‌الفرع الخامس فى راتبة المغرب

- ‌الفرع السادس فى راتبة العشاء

- ‌الفرع السابع فى راتبة الجمعة

- ‌الفصل الثانى فى صلاته ص العيدين

- ‌الفرع الأول فى عدد الركعات

- ‌الفرع الثانى فى عدد التكبير

- ‌الفرع الثالث فى الوقت والمكان

- ‌الفرع الرابع فى الأذان والإقامة

- ‌الفرع الخامس فى قراءته ص فى صلاة العيدين

- ‌الفرع السادس فى خطبته ص وتقديمه صلاة العيدين عليها

- ‌الفرع السابع فى أكله ص يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة

- ‌الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب

- ‌الفصل الأول فى صلاته ص الكسوف

- ‌الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاء

- ‌الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابع

- ‌القسم الثالث فى ذكر صلاته ص فى السفر

- ‌الفصل الأول فى قصره ص الصلاة فيه وأحكامه

- ‌الفرع الأول فى كم كان ص يقصر الصلاة

- ‌الفرع الثانى فى القصر مع الإقامة

- ‌الفصل الثانى فى الجمع

- ‌الفرع الأول فى جمعه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى ذكر صلاته ص النوافل فى السفر

- ‌الفصل الرابع فى صلاته ص التطوع فى السفر على الدابة

- ‌القسم الرابع فى ذكر صلاته ص صلاة الخوف

- ‌القسم الخامس فى ذكر صلاته ص على الجنازة

- ‌الفرع الأول فى عدد التكبيرات

- ‌الفرع الثانى فى القراءة والدعاء

- ‌الفرع الثالث فى صلاته ص على القبر

- ‌الفرع الرابع فى صلاته ص على الغائب

- ‌النوع الثالث فى ذكر سيرته ص فى الزكاة

- ‌النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

- ‌القسم الأول فى صيامه ص شهر رمضان

- ‌الفصل الأول فيما كان يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده ص فيه

- ‌الفصل الثانى فى صيامه ص برؤية الهلال

- ‌الفصل الثالث فى صومه ص بشهادة العدل الواحد

- ‌الفصل الرابع فيما كان يفعله ص وهو صائم

- ‌الفصل الخامس فى وقت إفطاره ص

- ‌الفصل السادس فيما كان ص يفطر عليه

- ‌الفصل السابع فيما كان يقوله ص عند الإفطار

- ‌الفصل الثامن فى وصاله صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل التاسع فى سحوره صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل العاشر فى إفطاره ص فى رمضان فى السفر وصومه

- ‌القسم الثانى فى صومه ص غير شهر رمضان وفيه فصول

- ‌الفصل الأول فى سرده ص صوم أيام من الشهر وفطره أياما

- ‌الفصل الثانى فى صومه ص عاشوراء

- ‌الفصل الثالث فى صيامه ص شعبان

- ‌الفصل الرابع فى صومه ص عشر ذى الحجة

- ‌الفصل الخامس فى صومه ص أيام الأسبوع

- ‌الفصل السادس فى صومه ص الأيام البيض

- ‌النوع الخامس فى ذكر اعتكافه ص واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر

- ‌النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع السابع من عبادته ص فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته

- ‌المقصد العاشر

- ‌الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص

- ‌الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف

- ‌الفصل الثالث

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف

تردى فى بئر وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت. ومن ذلك:

ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه، مما ذكرت بعضه فى المقصد الثامن.

وفى حديث أبى موسى عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أراد بأمة خيرا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حى، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره» «1» .

وإنما كان قبض النبى- صلى الله عليه وسلم قبل أمته خيرا، لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد الله بهم خيرا جعل خيرهم مستمرا ببقائهم محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات نسلا وعقبا بعد عقب.

‌الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف

اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام.

وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسى، كما ذكره فى المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة، وقال القاضى عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها.

وروى الدار قطنى من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم

(1) صحيح: أخرجه مسلم (3288) فى الفضائل، باب: إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها. من حديث أبى موسى- رضى الله عنه-.

ص: 587

قال: «من زار قبرى وجبت له شفاعتى» «1» . ورواه عبد الحق فى أحكامه الوسطى، وفى الصغرى وسكت عنه، وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته.

وفى المعجم الكبير للطبرانى: أن النبى- صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءنى زائرا لا تعمله حاجة إلا زيارتى، كان حقّا علىّ أن أكون شفيعا له يوم القيامة» «2» .

وصححه ابن السكن.

وروى عنه- صلى الله عليه وسلم: «من وجد سعة ولم يفد إلىّ فقد جفانى» «3» . ذكره ابن فرحون فى مناسكه، والغزالى فى الإحياء، ولم يخرجه العراقى، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار فى تاريخ المدينة مما هو فى معناه عن أنس بلفظ:«ما من أحد من أمتى له سعة ثم لم يزرنى إلا وليس له عذر» «4» .

ولابن عدى فى «الكامل» وابن حبان فى «الضعفاء» ، والدار قطنى فى «العلل» و «غرائب مالك» وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعا:«من حج ولم يزرنى فقد جفانى» «5» . ولا يصح.

وعلى تقدير ثبوته، فليتأمل قوله «فقد جفانى» فإنه ظاهره فى حرمة ترك الزيارة لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع فتجب الزيارة، إذ إزالة الجفاء واجبة، حينئذ، فمن تمكن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك.

وعن حاطب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «من زارنى بعد موتى فكأنما

(1) موضوع: أخرجه ابن عدى فى الكامل، والبيهقى فى شعب الإيمان، كما فى «ضعيف الجامع» (5607) .

(2)

ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (4/ 2) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط والكبير، وفيه سلمة بن سالم، وهو ضعيف.

(3)

ضعيف: ذكره الغزالى فى «الإحياء» وقال الحافظ العراقى: أخرجه ابن عدى والدار قطنى فى غرائب مالك. وابن حبان فى «الضعفاء» والخطيب فى «الرواة» عن مالك وذكره ابن الجوزى فى الموضوعات.

(4)

ضعيف: أخرجه ابن النجار فى «تاريخ المدينة» ، قاله العراقى فى الموضع السابق.

(5)

ضعيف أو موضوع: انظر ما قبلهما.

ص: 588

زارنى فى حياتى، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين» «1» . رواه البيهقى عن رجل من آل حاطب لم يسمه عن حاطب.

وعن عمر- رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: «من زار قبرى» أو قال: «من زارنى كنت له شفيعا وشهيدا» «2» . رواه البيهقى وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر.

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «من زارنى محتسبا إلى المدينة كان فى جوارى يوم القيامة» «3» . رواه البيهقى أيضا.

قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغى: وينبغى لكل مسلم اعتقاد كون زيارته- صلى الله عليه وسلم قربة، للأحاديث الواردة فى ذلك ولقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ «4» الآية «5» ، لأن تعظيمه- صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته، ولا يقال إن استغفار الرسول لهم إنما هو فى حال حياته وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: أن الآية دلت على تعليق وجدان الله توابا رحيما بثلاثة أمور: المجئ، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنه- صلى الله عليه وسلم قد استغفر للجميع، قال الله تعالى:

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ «6» فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.

(1) ضعيف: أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 278) بسند فيه هارون بن قزعة، وقيل ابن أبى قزعة، قال البخارى: لا يتابع عليه، وكذلك شيخه مجهول.

(2)

انظر ما بعده.

(3)

أخرجه البيهقى فى «شعب الإيمان» كما فى «كنز العمال» (42584) .

(4)

سورة النساء: 64.

(5)

قلت: سبحان الله لو أكمل الآية لا تضحت الصورة، وهى قول الله عز وجل لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً، أى من مكانة رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن دعوته واستغفاره بمكانة عند الله أنها تستوجب مغفرته عز وجل.

(6)

سورة محمد: 19.

ص: 589

وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووى، وأوجبها الظاهرية، فزيارته- صلى الله عليه وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص. لما سبق، ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه- صلى الله عليه وسلم واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق فى زيارته- صلى الله عليه وسلم بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفى النساء خلاف، والأشهر فى مذهب الشافعى الكراهة.

قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم والصلاة فى مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه.

وينبغى لمن نوى الزيارة أن ينوى مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه، لأنه أحد المساجد الثلاثة التى لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل، لأن الشرع لم يجئ به، وهذا الأمر لا يدخله قياس، لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص فى هذه دون غيرها.

وقد صح أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبى- صلى الله عليه وسلم. فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه. كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبى- صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء، وجها واحدا، انتهى: ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة فى المسجد الحرام. وصحح النووى أيضا أنه يخرج عنه بالصلاة فى مسجد المدينة. قال: ونص عليه الشافعى فى البويطى. وبه قال الحنفية والحنابلة.

وللشيخ تقى الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب «1» ، يتضمن منع

(1) قلت: وهل قال ابن تيمية إلا بما قال به الأولون من القرون الثلاثة السابقة، من كراهة اتخاذ قبره- صلى الله عليه وسلم عيدا أو مكانا يعبد الله فيه، لأحاديثه- صلى الله عليه وسلم ذاته الناهية عن ذلك، أم نخالفه ونعصى أمره، ونقع فى المحذور الذى حذرنا منه بعبادته دون الله كما حدث من أتباع عيسى- عليه السلام ونغالى فيه كما غالت الأمم من قبلنا فى أنبيائهم وصالحيهم فعبدوهم من دون الله.

ص: 590

شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك.

ورد عليه الشيخ تقى الدين السبكى فى «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين.

وحكى الشيخ ولى الدين العراقى، أن والده كان معادلا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقى فى التوجه إلى بلد الخليل- عليه السلام، فلما دنا من البلد قال: نويت الصلاة فى مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل- عليه السلام. ثم قلت: أما أنت فقد خالفت النبى- صلى الله عليه وسلم، لأنه قال:

«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأما أنا فاتبعت النبى- صلى الله عليه وسلم لأنه قال:«زوروا القبور» أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! قال: فبهت.

وينبغى لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه فى طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل الله أن ينفعه بزيارته ويسعده بها فى الدارين. وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجل ماشيا باكيا. ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله- صلى الله عليه وسلم ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم- صلوات الله وسلامه عليه-.

وروينا مما ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» أن أبا الفضل الجوهرى لما ورد إلى المدينة زائرا، وقرب من بيوتها ترجل ومشى باكيا منشدا:

ولما رأينا رسم من لم يدع لنا

فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا

نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة

لمن بان عنه أن نلم به ركبا

وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة، كان معى رفيقى الوزير أبو عبد الله بن أبى القاسم بن الحكيم، وكان أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوى الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشى على قدميه احتسابا لتلك الآثار،

ص: 591

وإعظاما لمن حل تلك الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه فى وصف الحال لمن حل فى تلك الديار:

ولما رأينا من ربوع حبيبنا

بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا

وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا

شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا

وحين تبدى للعيون جمالها

ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا

نزلنا عن الأكوار نمشى كرامة

لمن حل فيها أن نلم به ركبا

نسح سجال الدمع فى عرصاته

ونلثم من حب لواطئه التربا

وإن بقائى دونه لخسارة

ولو أن كفى تملك الشرق والغربا

فيا عجبا ممن يحب بزعمه

يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا

وزلات مثلى لا تعدد كثرة

وبعدى عن المختار أعظمها ذنبا

ولما كنت سائرا لقصد الزيارة فى ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالا لمشاهدة تلك الآثار واقتباسا لمشاهدة تلك الأنوار فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية فأنشدت:

ألا مع برق يغتدى ويروح

أم النور من أرض الحجاز يلوح

وريح الصبا هبت بطيّب عرفهم

أم الروض فى وجه الصباح يفوح

إذا ريح ذاك الحى هب فإنها

حياة لمن يغدو لها ويروح

ترفق بنا يا حادى العيس والتفت

فللنور بين الواديين وضوح

فما هذه إلا ديار محمد

وذاك سناها يغتدى ويروح

وإلا فما للركب هاج اشتياقهم

فكل من الشوق الشديد يصيح

وأنّت مطايا الركب حتى كأنها

حمام على قضب الأراك تنوح

وقد مدت الأعناق شوقا وطرفها

إلى النور من تلك الديار لموح

رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها

ومدمعها فى الوجنتين سفوح

إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق

خفاء فما للضب ليس يبوح

ص: 592

ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبدت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلا:

أتيتك زائرا وودت أنى

جعلت سواد عينى أمتطيه

وما لى لا أسير على الماقى

إلى قبر رسول الله فيه

ولما وقع بصرى على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات وقلت:

أيها المغرم المشوق هنيئا

ما أنالوك من لذيذ التلاق

قل لعينيك تهملان سرورا

طالما أسعداك يوم الفراق

واجمع الوجد والسرور ابتهاجا

وجميع الأشجان والأشواق

ومر العين أن تفيض انهمالا

وتوالى بدمعها المهراق

هذه دارهم وأنت محب

ما بقاء الدموع فى الآماق

وقلت:

وكان ما كان مما لست أذكره

فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر

ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف- صلى الله عليه وسلم. فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية. قال فى «تحقيق النصرة» وهو استدراك حسن. قاله بعض شيوخنا.

وفى منسك ابن فرحون: فإن قلت: المسجد إنما تشرف بإضافته إليه- صلى الله عليه وسلم فينبغى البداءة بالوقوف عنده- صلى الله عليه وسلم. قلت: قال ابن حبيب فى أول كتاب الصلاة: حدثنى مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال:«أدخلت المسجد فصليت فيه؟» قلت: لا، قال:

«فاذهب فادخل المسجد وصل فيه، ثم ائت فسلم علىّ» .

ص: 593

قال: ورخص بعضهم فى تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج:

وكل ذلك واسع ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى.

وينبغى للزائر أن يستحضر الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدا فى سلامه بين الجهر والإسرار. وفى البخارى: أن عمر- رضى الله عنه- قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما فى مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم «1» .

وقد روى عن أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- قال: لا ينبغى رفع الصوت على نبى حيّا ولا ميتا. وروى عن عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد والمسمار يضرب فى بعض الدور المطيفة بمسجد النبى- صلى الله عليه وسلم فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

قالوا: وما عمل على بن أبى طالب- رضى الله عنه- مصراعى داره إلا بالمصانع توقيا لذلك. نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما فى حياته.

وينبغى للزائر أن يتقدم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلى الصاحبين فهو أبلغ فى الأدب من الإتيان من جهة رأسه المكرم.

ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه- صلى الله عليه وسلم بأن يقابل المسمار الفضة المضروب فى الرخام الذى فى الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم، لأن هناك عدة قناديل.

وقد روى أن مالكا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسى: يا أبا عبد الله أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك:

ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السلام إلى الله عز وجل يوم القيامة.

لكن رأيت منسوبا للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: أن هذه

(1) صحيح: أخرجه البخارى (470) فى الصلاة، باب: رفع الصوت فى المسجد. من حديث السائب بن يزيد- رضى الله عنه-.

ص: 594

الحكاية كذب على مالك. وأن الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون ويدعون فى مسجده- صلى الله عليه وسلم. قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.

وينبغى أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاض البصر فى مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه فى حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه وسماعه لسلامه، كما هو الحال فى حال حياته، إذ لا فرق بين موته وحياته فى مشاهدته لأمته ومعرفته بأحوالهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جلى لا خفاء به.

فإن قلت: هذه الصفات مختصة بالله تعالى. فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء غالبا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور فى مظنة ذلك من الكتب.

وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلا ويعرض على النبى- صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم.

ويمثل الزائر وجهه الكريم- صلى الله عليه وسلم فى ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته، وعلو منزلته، وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلا كأخى السرار، تعظيما لما عظم الله من شأنه.

وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة- رضى الله عنها-: أن اكشفى لى عن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم فكشفته فبكت حتى ماتت.

وحكى عن أبى الفضائل الحموى، أحد خدام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته.

ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغض بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبى الله، السلام عليك

ص: 595

يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة خلق الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جازى نبيّا ورسولا عن أمته، وصلى الله عليك كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت فى الله حق جهاده.

ومن ضاق وقته عن ذلك، أو عن حفظه فليقل ما تيسر منه، أو مما يحصل به الغرض.

وفى «التحفة» : أن ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون فى هذا جدّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته.

وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قدم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.

وينبغى أن يدعو، ولا يتكلف السجع فإنه قد يؤدى إلى الإخلال بالخشوع.

وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ فى «الشامل» الحكاية المشهورة عن العتبى، واسمه: محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبى سفيان صخر بن حرب، وتوفى فى سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزى فى مثير الغرام الساكن. عن محمد بن حرب الهلالى قال: أتيت قبر النبى- صلى الله عليه وسلم فزرته

ص: 596

وجلست بحذائه، فجاء أعرابى فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابا صادقا، قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً «1» وقد جئتك مستغفرا من ذنبى مستشفعا بك إلى ربى وأنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ووقف أعرابى على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقنى من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا تسأل العتق لك وحدك، هلا سألت لجميع الخلق. اذهب فقد أعتقناك من النار.

إن الملوك إذا شابت عبيدهم

فى رقهم أعتقوهم عتق أبرار

وأنت يا سيدى أولى بذاكرما

قد شبت فى الرق فاعتقنى من النار

وعن الحسن البصرى قال: وقف حاتم الأصم على قبر النبى- صلى الله عليه وسلم فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودى: يا هذا ما أذنا لك فى زيارة قبر حبيبنا إلا وقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورا لكم.

وقال ابن أبى فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبى- صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ «2» وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، ولم تسقط له حاجة.

قال الشيخ زين الدين المراغى وغيره: الأولى أن ينادى يا رسول الله وإن كانت الرواية يا محمد، انتهى. وقد نبهت على ذلك مع مزيد بيان فى كتاب

(1) سورة النساء: 64.

(2)

سورة الأحزاب: 56.

ص: 597

«لوامع الأنوار فى الأدعية والأذكار» . فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبى- صلى الله عليه وسلم فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان.

ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على أبى بكر- رضى الله عنه-، لأن رأسه بحذاء منكب رسول الله- صلى الله عليه وسلم، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد الله به- يوم الردة- الدين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللهم ارض عنه، وارض عنا به.

ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلم على عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد الله به الدين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، اللهم ارض عنه، وارض عنا به.

ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم بعد السلام على سيدنا أبى بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده، ويصلى على النبى- صلى الله عليه وسلم، ويكثر من الدعاء والتضرع، ويجدد التوبة فى حضرته الكريمة، ويسأل الله بجاهه أن يجعلها توبة نصوحا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبى- صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه.

وقد روى أبو داود من حديث أبى هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يسلم علىّ إلا رد الله علىّ روحى حتى أرد عليه السلام» «1» .

وعند ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة مرفوعا: «من صلى على عند قبرى سمعته، ومن صلى على نائيا بلغته» .

وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضى عياض فى «الشفاء» قال:

رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم فى النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.

(1) حسن: أخرجه أبو داود (2041) فى المناسك، باب: زيارة القبور. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 598

ولا شك أن حياة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا- صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغى أن تكون حياته- صلى الله عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم.

فإن قال سقيم الطبع ردئ الفهم، لو كانت حياته- صلى الله عليه وسلم مستمرة ثابتة لما كان لرد روحه معنى كما قال:«إلا رد الله على روحى» . يجاب على ذلك من وجوه:

أحدها: أن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائما لثبوت رد السلام دائما، فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائما لأن ملزوم ملزومه ثابت دائما، وهذا من نفاثات سحر البيان فى إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التى هى قطرة من بحار بلاغته العظمى.

ومنها: أن ذلك عبارة عن إقبال خاص، والتفات روحانى يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وهذا الإقبال يكون عامّا شاملا، حتى لو كان المسلمون فى كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف لوسعهم ذلك الإقبال النبوى والالتفات الروحانى، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبر عنه، ولقد أحسن من سئل: كيف يرد النبى- صلى الله عليه وسلم على من يسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها فى آن واحد فأنشد قول أبى الطيب:

كالشمس فى وسط السماء ونورها

يغشى البلاد مشارقا ومغاربا

ولا ريب أن حاله- صلى الله عليه وسلم فى البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل- عليه السلام يقبض مائة ألف روح فى وقت واحد ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا- صلى الله عليه وسلم حى يصلى ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال فى حضرة اقترابه، متلذذا بسماع خطابه، وقد تقدم الجواب عن قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» فى أواخر الخصائص من المقصد الرابع.

(1) سورة الزمر: 30.

ص: 599

وقد روى الدارمى عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم يؤذن فى مسجد النبى- صلى الله عليه وسلم، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبى- صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ قال سعيد- يعنى ابن المسيب-. فلما حضرت الظهر سمعت الأذان فى القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة فى القبر المقدس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعنى ليالى أيام الحرة.

وقد روى البيهقى وغيره: من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:

«الأنبياء أحياء فى قبورهم يصلون» «1» . وفى رواية: «أن الأنبياء لا يتركون فى قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدى الله حتى ينفخ فى الصور» .

وله شواهد فى صحيح مسلم منها: قوله- صلى الله عليه وسلم: «مررت بموسى وهو قائم يصلى فى قبره» «2» . وفى حديث أبى ذر فى قصة المعراج: أنه لقى الأنبياء فى السموات، وكلموه وكلمهم «3» . وقد ذكرت مزيد بيان لذلك فى حجة الوداع من مقصد عباداته، وفى ذكر الخصائص الكريمة فى مقصد معجزاته، وفى مقصد الإسراء والمعراج.

وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ، ويحتمل أن يكونوا فى البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا فى استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبا لله التوفيق.

وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ

(1) صحيح: أخرجه أبو يعلى عن أنس، كما فى «صحيح الجامع» (2790) .

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (2375) فى الفضائل، باب: من فضائل موسى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

(3)

انظر المجلد الأول، باب: إسرائه- صلى الله عليه وسلم.

ص: 600

أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» حياة الشهيد، ثبت للنبى- صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، والذى عليه جمهور العلماء: أن الشهداء أحياء حقيقة، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان.

وقد صح عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح وكانا ممن استشهد بأحد ودفنا فى قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأمطيت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة.

وروى عنه- صلى الله عليه وسلم أنه قال فى شهداء أحد: «والذى نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه» . رواه البيهقى عن أبى هريرة.

وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «أكثروا من الصلاة علىّ فى الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء» «2» . رواه أبو داود وابن ماجه.

ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه» .

وقد ثبت أن نبينا- صلى الله عليه وسلم مات شهيدا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمّا قاتلا من ساعته حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه- صلى الله عليه وسلم

(1) سورة آل عمران: 169.

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (1047) فى الصلاة، باب: فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة، وابن ماجه (1636) فى الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه من حديث أوس بن أوس- رضى الله عنه-، ولفظه «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علىّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علىّ» ، فقال رجل: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت يعنى بليت؟ قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» . والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 601

معجزة، فكان ألم السم يتعاهده إلى أن مات به، ولذا قال فى مرض موته- كما مر-:«ما زالت أكلة خيبر تعادّنى حتى كان الآن قطعت أبهرى» «1» .

والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعب منهما الشرايين، كما ذكره فى الصحاح. قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة.

انتهى.

وقد اختلف فى محل الوقوف للدعاء. فعند الشافعية أنه قبالة وجهه كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا فى محل الوقوف للدعاء، ففى الشفاء قال مالك- فى رواية ابن وهب-: إذا سلم على النبى- صلى الله عليه وسلم يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكا فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السلام إلى الله يوم القيامة. وقال مالك فى «المبسوط» ، لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضى. قال ابن فرحون: ولعل ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك لأنه يعلم ما يدعو، ويعلم آداب الدعاء بين يديه- صلى الله عليه وسلم، فأمن عليه من سوء الأدب فأفتاه بذلك، وأفتى العامة أن يسلموا وينصرفوا، لئلا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسلوا به فى حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينبغى الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم، فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم باداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى.

ورأيت مما نسب للشيخ تقى الدين بن تيمية فى منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلى إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهى عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء، كذب على مالك، وكذا قال، والله أعلم، انتهى.

(1) تقدم.

ص: 602

وأما قول الأبوصيرى فى بردة المديح:

لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه

طوبى لمنتشق منه وملتثم

فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنه إشارة إلى النوعين المستعملين فى الطيب، لأنه إما أن يستعمل بالشم، وإليه أشار بقوله «لمنتشق» وإما بالتضمخ وإليها أشار ب «ملتثم» ، قال: وأقل ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود فى مسجده- صلى الله عليه وسلم، فليس المراد به تقبيل القبر الشريف فإنه مكروه.

ونقل الزركشى عن السيرافى: أن «طوبى» الطيب، قال ابن مرزوق:

طوبى فعلى من أنواع الطيب.

وهذا مبنى على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إما لأنه كذلك فى نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار المؤمن فى ذلك فإن المؤمن لا يعدل بشم رائحة تربته- صلى الله عليه وسلم شيئا من الطيب.

فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد.

فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط وتنتفى الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه.

ولما كانت أحوال القبر من الأمور الآخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلا من كشف له الغطاء من الأولياء المقربين، لأن متاع الآخرة باق، ومن فى الدنيا فان، والفانى لا يتمتع بالباقى للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلق بشريعة الإسلام أن قبره- صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرناه وقد حوى جسمه الشريف- عليه الصلاة والسلام هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدس.

ويرحم الله أحمد بن محمد العريف حيث يقول فى قصيدته التى أولها:

ص: 603

إذا ما حدا الحادى بأحمال يثرب

فليت المطايا فوق خدى تعبّق

ثم قال بعد أبيات:

فما عبق الريحان إلا وتربها

أجلّ من الريحان طيبا وأعبق

وله أيضا:

راحت ركائبهم تبدى روائحها

طيبا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا

نسيم قبر النبى المصطفى لهم

روض إذا نشروا من ذكره فاحا

ولله در القائل:

فاح الصعيد بجسمه فكأنه

روض بنم يعرفه المتأرج

ما جسمه مما يغيره الثرى

والروح منه كالصباح الأبلج

وقال ابن بطال فى قوله- صلى الله عليه وسلم: «المدينة ينصع طيّبها» «1» هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل والتزام المخافة من العدو فلما باع نفسه والتزم هذا الأمر بأن صدقه ونصع إيمانه وقوى لاغتباطه بسكن المدينة ولقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقا على سائر البلاد، خصوصية خص الله بها بلدة رسوله- صلى الله عليه وسلم الذى اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر، وقد جاء فى الحديث «أن المؤمن يقبر فى التربة التى خلق منها» فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو- صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى.

وينبغى للزائر أن يكثر من الدعاد والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل به- صلى الله عليه وسلم، فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه.

واعلم أن الاستغاثة هى طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1883) فى الحج، باب: المدينة تنفى الخبث، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.

ص: 604

به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجه، لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علو القدر والمنزلة.

وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه بالنبى- صلى الله عليه وسلم كما ذكره فى «تحقيق النصرة» و «مصباح الظلام» - واقع فى كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، فى مدة حياته فى الدنيا وبعد موته فى مدة البرزخ، وبعد البعث فى عرصات القيامة.

فأما الحالة الأولى فحسبك ما قدمته فى المقصد الأول من استشفاع آدم- عليه السلام به لما أخرج من الجنة، وقول الله تعالى له:«يا آدم لو تشفعت إلينا بمحمد فى أهل السماوات والأرض لشفعناك» . وفى حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقى وغيرهما: «وإن سألتنى بحقه فقد غفرت لك» . ويرحم الله «1» ابن جابر حيث قال:

به قد أجاب الله آدم إذ دعا

ونجّى فى بطن السفينة نوح

وما ضرت النار الخليل لنوره

ومن أجله نال الفداء ذبيح

وصح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لى، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتنى بيدك ونفخت فىّ من روحك، رفعت رأسى فرأيت قوائم العرش مكتوبا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلى، وإذ سألتنى بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك «2» . ذكره الطبرى وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك.

(1) قلت: بل يغفر الله لقائله تلك الكلمات التى ليس عليها دليل، إلا أهواء قائليها، وما ضرهم إذ وصفوه بما وصفه الله تعالى به أو وصف به نفسه دون إفراط أو تفريط.

(2)

تقدم أنه موضوع.

ص: 605

وأما التوسل بعد خلقه فى مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به- صلى الله عليه وسلم عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته فى مقصد المعجزات ومقصد العبادات فى الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوى العاهات به، وحسبك ما رواه النسائى والترمذى عن عثمان بن حنيف، أن رجلا ضرير أتاه- صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله يعافينى، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنى أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبى الرحمة، يا محمد إنى أتوجه بك إلى ربك فى حاجتى لتقضى، اللهم شفعه فىّ» «1» وصححه البيهقى، وزاد: فقام وقد أبصر.

وأما التوسل به- صلى الله عليه وسلم بعد موته فى البرزخ فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفى كتاب «مصباح الظلام فى المستغيثين بخير الأنام» للشيخ أبى عبد الله بن النعمان طرف من ذلك.

ولقد كان حصل لى داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به- صلى الله عليه وسلم ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة بمكة زادها الله شرفا، ومنّ علىّ بالعود فى عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذ جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلانى من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوى، ثم استيقظت فلم أجد بى- والله- شيئا مما كنت أجده، وحصل الشفاء ببركة النبى- صلى الله عليه وسلم.

ووقع لى أيضا فى سنة خمس وثمانين وثمانمائة فى طريق مكة، بعد رجوعى من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها أياما، فاستشفعت به- صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فأتانى آت فى منامى، ومعه الجنى الصارع لها فقال: لقد أرسله لك النبى- صلى الله عليه وسلم، فعاتبته وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا

(1) صحيح: وقد تقدم، إلا أن المقصود بالتوسل به هنا التوسل بدعائه، لا التوسل بذاته، وبينهما فرق.

ص: 606

زالت فى عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين «1» .

وأما التوسل به- صلى الله عليه وسلم فى عرصات القيامة، فمما قام عليه الإجماع وتواترت به الأخبار فى حديث الشفاعة.

فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصل لحسن الحال فى حضرة الغيب والشهادة، بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسل بجاهه الشريف والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالى واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه، وتدرك رضى من أحاط بكل شئ علما وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك فى تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق فى مدارج العبادات، ولج فى سرادق المرادات.

تمتع إن ظفرت بنيل قرب

وحصل ما استطعت من ادخار

فها أنا قد أبحت لكم عطائى

وها قد صرت عندى فى جوارى

فخذ ما شئت من كرم وجود

ونل ما شئت من نعم غزار

فقد وسعت أبواب التدانى

وقد قربت للزوار دارى

فمتع ناظريك فها جمالى

تجلى للقلوب بلا استتار

ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة فى مسجده المكرم، خصوصا بالروضة التى ثبت أنها روضة من رياض الجنة «2» . كما رواه البخارى.

(1) قلت: هذه حكايات أعيان لا حجة فيها، لأنه ليس عليه دليل شرعى، ولو فتح هذا الباب لقال من شاء ما شاء.

(2)

قلت: الذى فى صحيح البخارى: «ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة» أخرجه برقم (1195) فى الجمعة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر، والمقصد أن هذه البقعة سببا فى دخول الجنة، إما لأنها مكان علم (المسجد النبوى) ينتفع به، أو تؤدى فيه عبادة مقبولة فتكون سببا فى دخول الجنة، وكلاهما مقصود.

ص: 607

قال ابن أبى جمرة معناه: تنقل تلك البقعة بعينها فى الجنة، فتكون روضة من رياض الجنة، ويحتمل أن يكون المراد: العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معا، يعنى احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة فى الجنة، قال:

ولكل وجه منهما دليل يعضده ويقويه من جهة النظر والقياس.

أما الدليل على أن العمل فيها يوجب روضة فى الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة فى مسجده- صلى الله عليه وسلم بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقى البقع كما كان للمسجد زيادة على غيره.

وأما الدليل على كونها بعينها فى الجنة، وكون المنبر أيضا على الحوض، كما أخبر- صلى الله عليه وسلم وأن الجذع فى الجنة، والجذع فى البقعة نفسها، فالعلة التى أوجبت للجذع الجنة هى فى البقعة سواء، على ما أذكره بعد- إن شاء الله تعالى-.

والذى أخبر بهذا أخبر بهذا، فينبغى الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان فى موضعه، ويكون للعامل فيه روضة فى الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلو منزلته- صلى الله عليه وسلم، ولما خص الخليل- عليه السلام بالحجر من الجنة، خص الحبيب- صلى الله عليه وسلم بالروضة من الجنة.

وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد، فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة فحينئذ يحتاج إلى البحث.

والأظهر أنه لحكمة، وهى أنه قد سبق فى العلم الربانى بما ظهر أن الله عز وجل فضله على جميع خلقه، وأن كل ما كان منه بنسبة ما من جميع

ص: 608

المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه كما استقرئ فى كل أموره، من بدء ظهوره- صلى الله عليه وسلم إلى حين وفاته، فى الجاهلية والإسلام. فمنها ما كان فى شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم.

ومثل ذلك حليمة السعدية. وحتى الأتان، وحتى البقعة التى تجعل الأتان يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم.

وكان مشيه- صلى الله عليه وسلم حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع- صلى الله عليه وسلم يده المباركة ظهر فى ذلك كله من الخيرات والبركات حسّا ومعنى، كما هو منقول معروف.

ولما شاء صاحب القدرة أنه- صلى الله عليه وسلم لا بدّ له من بيت، ولا بدّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر تردده- صلى الله عليه وسلم بين المنبر والبيت، فالحرمة التى أعطى غيرهما إذا كان من مسّة واحدة بمباشرته أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده- صلى الله عليه وسلم فى البقعة الواحدة مرارا فى اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهى الآن منها، وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه فى هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرنا فى جنسها.

فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغى أن يكون ذلك للمدينة بكمالها، لأنه- صلى الله عليه وسلم كان يطؤها بقدمه مرارا.

فالجواب: أنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أن ترابها شفاء كما أخبر- صلى الله عليه وسلم، مع ما شاركت فيه البقعة المكرمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام. وأنه- صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأن ما كان لها من الوباء والحمى رفع عنها، وأنه بورك فى طعامها وشرابها وأشياء كثيرة، فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولا، بأن تردده- صلى الله عليه وسلم فى المسجد نفسه أكثر مما فى المدينة نفسها، وتردده- صلى الله عليه وسلم فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض، لأنه جاءت البركة متناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة

ص: 609

المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة وحجة ظاهرة موجودة. انتهى.

وقال الخطابى: المراد من هذا الحديث الترغيب فى سكنى المدينة، وأن من لازم ذكر الله فى مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقى يوم القيامة من الحوض انتهى. وتقدم فى الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك.

وعند مسلم من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:

«صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» .

وقد اختلف العلماء فى المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم فى مكة والمدينة أيهما أفضل؟

ومذهب سفيان بن عيينة والشافعى وأحمد- فى أصح الروايتين عنه- وابن وهب ومطرف وابن حبيب- الثلاثة من المالكية- وحكاه الساجى عن عطاء بن أبى رباح، والمكيين والكوفيين. وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلى وابن مسعود وأبى الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة.

وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه فى مذهبه تفضيل المدينة.

انتهى. وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل.

ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة: حديث عبد الله بن الحمراء أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته يقول: «والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» «1» . قال الترمذى:

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3925) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل من رأى النبى- صلى الله عليه وسلم وصحبه، وابن ماجه (3108) فى المناسك، باب: فضل مكة، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 610

حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه- صلى الله عليه وسلم. قال: وهذا قاطع فى محل الخلاف. انتهى.

فعند الشافعى والجمهور معناه- أى الحديث-: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة فى مسجدى.

وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فى مسجدى تفضله بدون الألف.

وعن عبد الله بن الزبير قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام، وصلاة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة فى هذا» «1» رواه أحمد وابن حبان فى صحيحه. وزاد: يعنى فى مسجد المدينة، البزار ولفظه:«صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه مائة» .

قال المنذرى: وإسناده صحيح أيضا.

ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب فى «الواضحة» أنه- صلى الله عليه وسلم قال:«صلاة فى مسجدى كألف صلاة فيما سواه. وجمعة فى مسجدى كألف جمعة فيما سواه، ورمضان فى مسجدى كألف رمضان فيما سواه» .

ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين- كما قاله القاضى عياض- أن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد.

وأجمعوا على أن الموضع الذى ضم أعضاءه الشريفة- صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجى والقاضى عياض، بل نقل التاج السبكى كما ذكره السيد السمهودى فى «فضائل المدينة» عن ابن عقيل الحنبلى أنها أفضل من العرش، وصرح الفاكهانى بتفضيلها على السماوات ولفظه: وأقول أنا وأفضل من بقاع السماوات أيضا. ولم أر من

(1) صحيح: أخرجه ابن ماجه (1406) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى فضل الصلاة، من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

ص: 611

تعرض لذلك، والذى أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها لكونه- صلى الله عليه وسلم حالا فيها لم يبعد، بل هو عندى الظاهر المتعين. انتهى.

وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووى: إن الجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أى ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة.

وقد استشكل ما ذكر من الإجماع على أفضلية ما ضم أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام فى تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذى فيهما أن الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى. ملخصا.

لكن تعقبه الشيخ تقى الدين السبكى بما حاصله: إن الذى قاله لا ينفى أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل، لأن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبى- صلى الله عليه وسلم.

وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبى- صلى الله عليه وسلم حى كما تقرر، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.

قال: ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضى عياض من تفضيل ما ضم أعضاءه الشريفة- صلى الله عليه وسلم باعتبارين: أحدهما، ما قيل إن كل أحد يدفن فى الموضع الذى خلق منه، والثانى: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله

ص: 612

تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته ولكن لأجل من حلّ فيه- صلى الله عليه وسلم.

انتهى.

وقد روى أبو يعلى عن أبى بكر أنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبض النبى إلا فى أحب الأمكنة إليه» . ولا شك أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى، لأن حبه تابع لحب ربه جل وعلا، وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال- صلى الله عليه وسلم:«اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة، وإنى أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه» «1» . ولا ريب أن دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعى. وقد صح أنه- صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكة أو أشد» «2» . وفى رواية «بل أشد» وقد أجيبت دعوته، حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه- صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم إنك أخرجتنى من أحب البقاع إلىّ فأسكنى فى أحب البقاع إليك» «3» أى فى موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان. قيل ضعفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث «إن مكة خير بلاد الله» ، وفى رواية «أحب أرض الله إلى الله» ، ولزيادة التضعيف بمسجد مكة.

وتعقبه العلامة السيد السمهودى: بأن ما ذكر لا يقتضى صرفه عن ظاهره، إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها الله كذلك. وحديث:

«إن مكة خير بلاد الله» محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقا بعد، ولهذا

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1373) فى الحج، باب: فضل المدنية ودعاء النبى فيها بالبركة. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1889) فى الحج، باب: كراهية النبى أن تعدى المدينة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3)

ذكره العجلونى فى «كشف الخفاء» (555) وعزاه للحاكم فى المستدرك، وابن سعد فى شرف المصطفى- صلى الله عليه وسلم، إلا أنى لم أقف عليه فى المستدرك.

ص: 613

افترض الله تعالى على نبيه- صلى الله عليه وسلم الإقامة بها، وحث هو- صلى الله عليه وسلم على الاقتداء به فى سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل.

قال: وأما مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر فى ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة، إذ فى الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر- رضى الله عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة. إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه- صلى الله عليه وسلم بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضا. وقد يبارك فى العدد القليل فيربو نفعه على الكثير، ولهذا استدل به على تفضيل المدينة.

وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما عداها، فلا يرد شئ مما جاء فى فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومى. أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هى حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول فى حرم الله وبيته شيئا، فأشير على عبد الله فانصرف.

وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صح فى إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء فى فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقل من مكة على القول به، فقد كانت سببا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر الفرائض وإكمال الدين، حتى كثر تردد جبريل- عليه السلام بها، ثم استقر بها- صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة. ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا- يعنى المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين فى أقل من ساعة؟!

ص: 614

وروى الطبرانى حديث «المدينة خير من مكة» «1» وفى رواية للجندى «أفضل من مكة» وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان فى الثقات وقال: كان يخطئ، وقال أبو زرعة: لين، وقال: ابن عدى، روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوى.

وفى الصحيحين عن أبى هريرة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنفى الناس كما ينفى الكير خبث الحديد» «2» . أى أمرنى الله بالهجرة إليها، إن كان قاله- صلى الله عليه وسلم بمكة، أو:

بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. وقال القاضى عبد الوهاب: لا معنى لقوله:

«تأكل القرى» إلا رجوح فضلها عليها، أى على القرى وزيادتها على غيرها.

وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك: غلبة فضلها على فضل غيرها، أى أن الفضائل تضمحل فى جنب عظيم فضلها حتى تكون عدما، وهذا أبلغ من تسمية مكة «أم القرى» لأن الأمومة لا ينمحى معها ما هى له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى.

ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى، والأقرب: حمله عليهما، إذ هو أبلغ فى الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودى.

وقد أطلت فى الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعى- رحمه الله تفضيل مكة، لأن هوى كل نفس أين حل حبيبها.

علىّ لربع العامرية وقفة

ليملى على الشوق والدمع كاتب

ومن مذهبى حب الديار لأهلها

وللناس فيما يعشقون مذاهب

(1) ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الكبير والدار قطنى فى الأفراد عن رافع بن خديج كما فى «ضعيف الجامع» (5920) .

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1871) فى الحج، باب: فضل المدينة وأنها تنفى الناس، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ص: 615

على أن للقلم فى أرجاء تفضيل المدينة مجالا واسعا ومقالا جامعا، لكن الرغبة فى الاختصار تطوى أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه.

وقد استنبط العارف ابن أبى جمرة من قوله- صلى الله عليه وسلم المروى فى البخارى «ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة» «1» . التساوى بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطى التسوية بينهما فى الفضل، لأن جميع الأرض يطؤها الدجال إلا هذين البلدين، فدل على تسويتهما فى الفضل، قال: ويؤيد ذلك أيضا من وجوه النظر: لأنه إن كانت خصت المدينة بمدفنه- صلى الله عليه وسلم وإقامته بها ومسجده، فقد خصت مكة بمسقطه- صلى الله عليه وسلم بها ومبعثه منها، وهى قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة مثل إقامته- صلى الله عليه وسلم بالمدينة، عشر سنين فى كل واحدة منهما. كذا قاله.

وأنت إذا تأملت قوله- صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث سعد «يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده لا يخرج أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه» «2» ظهر لك أن فيه إشعارا بذم الخروج من المدينة. بل نقل الشيخ محب الطبرى عن قوم أنه عام أبدا مطلقا، وقال: إنه ظاهر اللفظ.

وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:

«لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتى إلا كنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» «3» .

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1881) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة، ومسلم (2943) فى الفتن، باب: قصة الجساسة، من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1381) فى الحج، باب: المدينة تنفى شرارها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1378) فى الحج، باب: الترغيب فى سكنى المدينة والصبر على لأوائها. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ص: 616

وفيه عن سعيد- مولى المهرى- أنه جاء إلى أبى سعيد الخدرى ليالى الحرة، فاستشاره فى الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال: ويحك. لا آمرك بذلك، إنى سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يصبر أحد على لأوائها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة» . و «اللأواء» : بالمد، الشدة والجوع.

و «أو» فى قوله: «إلا كنت له شفيعا أو شهيدا» الأظهر أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبى وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبى عبيد، عنه- صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله- صلى الله عليه وسلم.

وتكون «أو» للتقسيم، ويكون شهيدا لبعض أهل المدينة وشفيعا لباقيهم، إما شفيعا للعاصين وشهيدا للمطيعين، وإما شهيدا لمن مات فى حياته، وشفيعا لمن مات بعده، أو غير ذلك.

وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين فى القيامة، وعلى شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله علو مرتبة وزيادة منزلة وحظوة.

وإذا قلنا «أو» للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة «شهيدا» اندفع الاعتراض لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة «شفيعا» فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، وأو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات لكونهم على منابر، أو فى ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة أو غير ذلك من خصوص الكرامات.

كيف لا يتحمل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز

ص: 617

وعده لشفاعته وشهادته وبلوغ قصده فى المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأملت يا هذا، لوجدت فى البلاد ما هو فى الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوى على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال.

على أن المدينة مع شظف العيش بها فى غالب الأحيان، قد وسع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها ممن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعم بها باله دون سائر البلدان، فإن من الله على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلا فالصبر للمؤمن أولى، فمن وفقه الله تعالى صبره فى إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرع مرارة غصتها ليجتلى عروس منصتها، ويلقى نزرا من لأوائها ليوقى بذلك من مصائب الدنيا وبلائها.

وقد روى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:

«إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها» «1» أى ينقبض وينضم ويلتجئ، مع أنها أصل فى انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها فى جميع الأزمان، لحبه فى ساكنها- صلى الله عليه وسلم، فأكرم بسكانها ولو قيل فى بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة بهذا الحبيب الجليل. فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عنهم اسم الجار، وقد عمم- صلى الله عليه وسلم فى قوله:«ما زال جبريل يوصينى بالجار» «2» ولم يخص جارا دون جار، وكل ما احتج به محتج من رمى بعض عوامهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك فى شخص منهم فلا يترك إكرامه، ولا ينقص احترامه فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته فى الدار

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1876) فى الحج، باب: الإيمان يأرز إلى المدينة، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (6014) فى الأدب. باب: الوصاة بالجار، ومسلم (2624) فى البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ص: 618

كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح بهذا القرب الصورى قرب المعنى.

فيا ساكن أكناف طيبة كلكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

ولله در ابن جابر حيث قال:

هناؤكم يا أهل طيبة قد حقا

فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا

فلا يتحرك ساكن منكم إلى

سواها وإن جار الزمان وإن شقا

فكم ملك رام الوصول لمثل ما

وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا

فبشراكم نلتم عناية ربكم

فها أنتم فى بحر نعمته غرقى

ترون رسول الله فى كل ساعة

ومن يره فهو السعيد به حقا

متى جئتم لا يغلق الباب دونكم

وباب ذوى الإحسان لا يقبل الغلقا

فيسمع شكواكم ويكشف ضركم

ولا يمنع الإحسان حرّا ولا رقا

بطيبة مثواكم وأكرم مرسل

يلاحظكم فالدهر يجرى لكم وفقا

وكم من نعمة لله فيها عليكم

فشكرا ونعم الله بالشكر تستبقى

أمنتم من الدجال فيها فحولها

ملائكة يحمون من دونها الطرقا

كذاك من الطاعون أنتم بمأمن

فوجه الليالى لا يزال لكم طلقا

فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم

وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا

حياة وموتا تحت رحماه أنتم

وحشرا فستر الجاه فوقكم ملقى

فيا راحلا عنها لدنيا تريدها

أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى

أتخرج عن حوز النبى وحرزه

إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا

لئن سرت تبغى من كريم إعانة

فأكرم من خير البرية ما تلقى

هو الرزق مقسوم فليس بزائد

ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا

فكم قاعد قد وسع الله رزقه

ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا

فعش فى حمى خير الأنام ومت به

إذا كنت فى الدارين تطلب أن ترقا

إذا قمت فيما بين قبر ومنبر

بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى

لقد أسعد الرحمن جار محمد

ومن جار فى ترحاله فهو الأشقى

ص: 619

وقد روى الترمذى وابن ماجه وابن حبان فى صحيحه من حديث ابن عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإنى أشفع لمن يموت بها» «1» ورواه الطبرانى فى الكبير من حديث سبيعة الأسلمية. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:

«لا يدخل المدينة الدجال ولا الطاعون» «2» .

وفيه: عن أبى بكرة- رضى الله عنه- عن النبى- صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان» «3» .

قال فى فتح البارى: وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونه شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما.

وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدم فى المقصد الثامن من أنه طعن الجن حسن مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم.

وقد أجاب القرطبى فى المفهم عن ذلك فقال: المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذى وقع فى غيرها، كطاعون عمواس والجارف.

وهذا الذى قاله يقتضى أنه دخلها فى الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة فى «المعارف» وتبعه جمع منهم الشيخ محى الدين النووى فى «الأذكار» : بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلا، ولا مكة أيضا، لكن نقل

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (3917) فى المناقب، باب: ما جاء فى فضل المدينة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (7134) فى الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1879) فى الحج، باب: لا يدخل الدجال المدينة. من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-.

ص: 620

جماعة أنه دخل مكة الطاعون فى العام الذى كان فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلا.

وأجاب بعضهم بأنه- صلى الله عليه وسلم عوضهم عن الطاعون بالحمى، لأن الطاعون يأتى مرة بعد مرة، والحمى تتكرر فى كل حين فيتعادلان فى الأجر، ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة.

قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لى جواب آخر، بعد استحضار الذى أخرجه أحمد من رواية أبى عسيب- بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه:«أتانى جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام» «1» ، وهو أن الحكمة فى ذلك: أنه- صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان فى قلة من أصحابه عددا ومددا، وكانت المدينة وبيئة، كما فى حديث عائشة، ثم خير- صلى الله عليه وسلم فى أمرين يحصل بكل منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار، وأذن له فى القتال كانت قضية استمرار الحمى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون ربما حصلت له بالقتل فى سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمى التى هى حظ المؤمن من النار، ثم استمر ذلك بالمدينة تمييزا لها عن غيرها لتحقق إجابة دعوته وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره فى هذه المدة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها ولوازم دعائه- صلى الله عليه وسلم لها بالصحة. وقال بعضهم:

هذا من المعجزات المحمدية، لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصا والله أعلم.

ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص بل من كل

(1) أخرجه أحمد (5/ 81) من حديث أبى عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

ص: 621

داء، كما رواه رزين العبدرى فى جامعه من حديث سعد، زاد فى حديث ابن عمر: وعجوتها شفاء من السم، ونقل البغوى عن ابن عباس فى قوله تعالى:

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً «1» أنها المدينة.

وذكر ابن النجار تعليقا عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف وافتتحت المدينة بالقرآن. وروى الطبرانى فى الأوسط بإسناد لا بأس به عن أبى هريرة يرفعه: «المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام» «2» .

وبالجملة، فكل المدينة وترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد شملته بركته- صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يتبركون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها وإلى الصلاة فى بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابة فى المدينة وقال:

لا أطأ بحافر دابة فى عراص كان- صلى الله عليه وسلم يمشى فيها بقدميه- صلى الله عليه وسلم.

وينبغى أن يأتى قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان- صلى الله عليه وسلم يزوره راكبا وماشيا، رواه مسلم وفى رواية له:«يأتى» بدل «يزور» فيصلى فيه ركعتين.

وعنده أيضا: إن ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت.

وعند الترمذى وابن ماجه والبيهقى من حديث أسيد بن ظهير الأنصارى، يرفعه:«صلاة فى مسجد قباء كعمرة» «3» ، قال الترمذى: حسن غريب. وقال المنذرى: لا نعرف لأسيد حديثا صحيحا غير هذا.

ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: «من تطهر

(1) سورة النحل: 41.

(2)

ضعيف: أخرجه الطبرانى فى الأوسط، كما فى «ضعيف الجامع» (5921) .

(3)

صحيح: أخرجه الترمذى (324) فى الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وابن ماجه (1411) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 622

فى بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة» «1» ، وصححه الحاكم.

وينبغى أيضا بعد زيارته- صلى الله عليه وسلم أن يقصد المزارات التى بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم التماسا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفى فى المدينة فى حياته- صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته مدفون فى البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين.

وروى عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان- صلى الله عليه وسلم يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول:«السلام عليكم دار قوم مؤمنين» «2» رواه مسلم.

قال ابن الحاج فى «المدخل» وقد فرق علماؤنا بين الآفاقى والمقيم فى التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف فى حق الآفاقى أفضل له، والتنفل فى حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيما خرج إلى زيارة أهل البقيع ومن كان مسافرا فليغتنم مشاهدته- صلى الله عليه وسلم.

وحكى عن العارف ابن أبى جمرة، أنه لما دخل المسجد النبوى لم يجلس إلا الجلوس فى الصلاة، وأنه لم يزل واقفا بين يديه- صلوات الله وسلامه عليه-، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى.

(1) صحيح: أخرجه النسائى (2/ 37) فى المساجد، باب: فضل مسجد قباء بالصلاة فيه، وابن ماجه (1412) فى إقامة الصلاة، باب: ما جاء فى الصلاة فى مسجد قباء، وأحمد (3/ 487) ، والحاكم (3/ 13) والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (249) فى الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل فى الوضوء من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ص: 623