المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية - جـ ٣

[القسطلاني]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌المقصد الثامن فى طبه ص لذوى الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات

- ‌الفصل الأول فى طبه صلى الله عليه وسلم لذوى الأمراض والعاهات

- ‌النوع الأول فى طبه ص بالأدوية الإلهية

- ‌رقية الذى يصاب بالعين:

- ‌عقوبة العائن:

- ‌ذكر رقية النبى ص التى كان يرقى بها

- ‌ذكر طبه ص من الفزع والأرق المانع من النوم:

- ‌ذكر طبه ص من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى:

- ‌ذكر طبه ص من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب:

- ‌ذكر طبه ص من داء الفقر:

- ‌ذكر طبه ص من داء الحريق:

- ‌ذكر ما كان ص يطب به من داء الصرع:

- ‌ذكر دوائه ص من داء السحر:

- ‌ذكر رقية لكل شكوى:

- ‌رقيته ص من الصداع:

- ‌رقيته ص من وجع الضرس:

- ‌رقية لعسر البول:

- ‌رقية الحمى:

- ‌ذكر ما يقى من كل بلاء:

- ‌ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء:

- ‌ذكر دواء داء الطعام:

- ‌ذكر دواء أم الصبيان:

- ‌النوع الثانى طبه ص بالأدوية الطبيعية

- ‌ذكر ما كان ص يعالج به الصداع والشقيقة:

- ‌ذكر طبه ص للرمد:

- ‌ذكر طبه ص من العذرة:

- ‌ذكر طبه ص لداء استطلاق البطن

- ‌ذكر طبه ص فى يبس الطبيعة بما يمشيه ويلينه:

- ‌ذكر طبه ص للمفؤود:

- ‌ذكر طبه ص لذات الجنب:

- ‌ذكر طبه ص لداء الاستسقاء:

- ‌ذكر طبه ص من داء عرق النسا:

- ‌ذكر طبه ص من الأورام والخراجات:

- ‌ذكر طبه ص بقطع العروق والكى:

- ‌ذكر طبه ص من الطاعون:

- ‌ذكر طبه ص من السلعة

- ‌ذكر طبه ص من الحمى:

- ‌ذكر طبه ص من حكة الجسد وما يولد القمل:

- ‌ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذى أصابه بخيبر:

- ‌النوع الثالث فى طبه ص بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية

- ‌ذكر طبه ص من القرحة والجرح وكل شكوى:

- ‌ذكر طبه- ص من لدغة العقرب:

- ‌ذكر الطب من النملة:

- ‌ذكر طبه ص من البثرة:

- ‌ذكر طبه ص من حرق النار:

- ‌ذكر طبه ص بالحمية:

- ‌ذكر حمية المريض من الماء:

- ‌ذكر أمره ص بالحمية من الماء المشمس خوف البرص:

- ‌ذكر الحمية من طعام البخلاء:

- ‌ذكر الحمية من داء الكسل:

- ‌ذكر الحمية من داء البواسير:

- ‌ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحى الذباب بانغماس الثانى:

- ‌ذكره أمره ص بالحمية من الوباء النازل فى الإناء بالليل بتغطيته:

- ‌ذكر حمية الوليد من إرضاع الحمقى:

- ‌الفصل الثانى فى تعبيره ص الرؤيا

- ‌الرؤيا الصالحة جزء من النبوة:

- ‌الفصل الثالث فى إنبائه ص بالأنباء المغيبات

- ‌المقصد التاسع فى لطيفة من عباداته

- ‌النوع الأول فى الطهارة وفيه فصول:

- ‌الفصل الأول: فى ذكر وضوئه ص وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به

- ‌الفصل الثانى فى وضوئه ص مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا

- ‌الفصل الثالث فى صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابع فى مسحه ص على الخفين

- ‌الفصل الخامس فى تيممه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل السادس فى غسله صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع الثانى فى ذكر صلاته ص

- ‌[القسم الأول] فى الفرائض وما يتعلق بها وفيه أبواب

- ‌الباب الأول فى الصلوات الخمس وفيه فصول:

- ‌الفصل الأول فى فرضها

- ‌الفصل الثانى فى ذكر تعيين الأوقات التى صلى فيها- صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس

- ‌الفصل الثالث فى ذكر كيفية صلاته ص وفيه فروع:

- ‌الفروع الأول: فى صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع الثانى: فى ذكر قراءته ص البسملة فى أول الفاتحة

- ‌الفرع الثالث: فى ذكر قراءته ص الفاتحة وقوله آمين بعدها

- ‌الفرع الرابع: فى ذكر قراءته ص بعد الفاتحة فى صلاة الغداة

- ‌الفرع الخامس: فى ذكر قراءته- صلى الله عليه وسلم فى صلاتى الظهر والعصر

- ‌الفرع السادس: فى ذكر قراءته ص فى صلاة المغرب

- ‌الفرع السابع: فى ذكر ما كان ص يقرأ فى صلاة العشاء

- ‌الفرع الثامن: فى ذكر صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع التاسع: فى مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع العاشر: فى ذكر ما كان ص يقوله فى الركوع والرفع منه

- ‌الفرع الحادى عشر: فى ذكر صفة سجوده ص وما يقول فيه

- ‌الفرع الثانى عشر: فى ذكر جلوسه ص للتشهد

- ‌الفرع الثالث عشر: فى ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم

- ‌الفرع الرابع عشر: فى ذكر تسليمه ص من الصلاة

- ‌الفرع الخامس عشر: فى ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاة

- ‌الفصل الخامس فيما كان ص يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها

- ‌الباب الثانى فى ذكر صلاته ص الجمعة

- ‌الباب الثالث فى ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه

- ‌ذكر سياق صلاته ص بالليل

- ‌الباب الرابع فى صلاته ص الوتر

- ‌الباب الخامس فى ذكر صلاته ص الضحى

- ‌القسم الثانى فى صلاته ص النوافل وأحكامها وفيه بابان:

- ‌الباب الأول فى النوافل المقرونة بالأوقات وفيه فصلان:

- ‌الفصل الأول فى رواتب الصلوات الخمس والجمعة

- ‌الفرع الأول: فى أحاديث جامعة لرواتب مشتركة

- ‌الفرع الثانى: فى ركعتى الفجر

- ‌الفرع الثالث: فى راتبة الظهر

- ‌الفرع الرابع فى سنة العصر

- ‌الفرع الخامس فى راتبة المغرب

- ‌الفرع السادس فى راتبة العشاء

- ‌الفرع السابع فى راتبة الجمعة

- ‌الفصل الثانى فى صلاته ص العيدين

- ‌الفرع الأول فى عدد الركعات

- ‌الفرع الثانى فى عدد التكبير

- ‌الفرع الثالث فى الوقت والمكان

- ‌الفرع الرابع فى الأذان والإقامة

- ‌الفرع الخامس فى قراءته ص فى صلاة العيدين

- ‌الفرع السادس فى خطبته ص وتقديمه صلاة العيدين عليها

- ‌الفرع السابع فى أكله ص يوم الفطر قبل خروجه إلى الصلاة

- ‌الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب

- ‌الفصل الأول فى صلاته ص الكسوف

- ‌الفصل الثانى فى صلاته ص صلاة الاستسقاء

- ‌الفصل الثالث

- ‌الفصل الرابع

- ‌القسم الثالث فى ذكر صلاته ص فى السفر

- ‌الفصل الأول فى قصره ص الصلاة فيه وأحكامه

- ‌الفرع الأول فى كم كان ص يقصر الصلاة

- ‌الفرع الثانى فى القصر مع الإقامة

- ‌الفصل الثانى فى الجمع

- ‌الفرع الأول فى جمعه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثالث فى ذكر صلاته ص النوافل فى السفر

- ‌الفصل الرابع فى صلاته ص التطوع فى السفر على الدابة

- ‌القسم الرابع فى ذكر صلاته ص صلاة الخوف

- ‌القسم الخامس فى ذكر صلاته ص على الجنازة

- ‌الفرع الأول فى عدد التكبيرات

- ‌الفرع الثانى فى القراءة والدعاء

- ‌الفرع الثالث فى صلاته ص على القبر

- ‌الفرع الرابع فى صلاته ص على الغائب

- ‌النوع الثالث فى ذكر سيرته ص فى الزكاة

- ‌النوع الرابع فى ذكر صيامه صلى الله عليه وسلم

- ‌القسم الأول فى صيامه ص شهر رمضان

- ‌الفصل الأول فيما كان يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده ص فيه

- ‌الفصل الثانى فى صيامه ص برؤية الهلال

- ‌الفصل الثالث فى صومه ص بشهادة العدل الواحد

- ‌الفصل الرابع فيما كان يفعله ص وهو صائم

- ‌الفصل الخامس فى وقت إفطاره ص

- ‌الفصل السادس فيما كان ص يفطر عليه

- ‌الفصل السابع فيما كان يقوله ص عند الإفطار

- ‌الفصل الثامن فى وصاله صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل التاسع فى سحوره صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل العاشر فى إفطاره ص فى رمضان فى السفر وصومه

- ‌القسم الثانى فى صومه ص غير شهر رمضان وفيه فصول

- ‌الفصل الأول فى سرده ص صوم أيام من الشهر وفطره أياما

- ‌الفصل الثانى فى صومه ص عاشوراء

- ‌الفصل الثالث فى صيامه ص شعبان

- ‌الفصل الرابع فى صومه ص عشر ذى الحجة

- ‌الفصل الخامس فى صومه ص أيام الأسبوع

- ‌الفصل السادس فى صومه ص الأيام البيض

- ‌النوع الخامس فى ذكر اعتكافه ص واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر

- ‌النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع السابع من عبادته ص فى ذكر نبذة من أدعيته وأذكاره وقراءته

- ‌المقصد العاشر

- ‌الفصل الأول فى إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه ص

- ‌الفصل الثانى فى زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف

- ‌الفصل الثالث

- ‌خاتمة

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة فى ليالى العشر دون غيره من الليالى.

ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففى حديث أنس وعائشة أنه- صلى الله عليه وسلم كان فى ليالى العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة:

كان- صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبى عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا «1» . وإسناد الأول مقارب، والثانى فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدى: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج فى الصحيح كما قدمته.

ومنها: اغتساله- صلى الله عليه وسلم بين العشاءين: المغرب والعشاء، روى من حديث على، وفى إسناده ضعف.

‌النوع السادس فى ذكر حجه وعمره صلى الله عليه وسلم

اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلى الرحمانى، وإلمام بمعهد العهد الربانى، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد فى تلك المواطن فخار وسمو، فإن المحال المحترمة لم تزل تفرع على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك فى هذا ما يحكى فى أبيات عن مجنون بنى عامر:

رأى المجنون فى البيداء كلبا

فجر عليه للإحسان ذيلا

فلاموه على ما كان منه

وقالوا لم منحت الكلب نيلا

فقال دعوا الملام فإن عينى

رأته مرة فى حى ليلا

(1) ضعيف: ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 174) وقال: رواه الطبرانى فى الأوسط وفيه حفص بن واقد البصرى، قال ابن عدى: له أحاديث منكرة.

ص: 453

فينبغى للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى فى غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.

وروى ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم قال: «من أراد الحج فليتعجل» «1» . رواه أبو داود. وفى حديث على بن أبى طالب، عنه- صلى الله عليه وسلم:«من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا» «2» .

الحديث رواه الترمذى. وخطب- صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس: قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» «3» . رواه مسلم والنسائى من حديث أبى هريرة. وفى رواية النسائى، من حديث ابن عباس مرفوعا:«إن الله كتب عليكم الحج» ، فقال الأقرع بن حابس التميمى: كل عام يا رسول الله؟ فقال: «لو قلت نعم لوجبت» «4» الحديث. فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. واختلفوا: هل هو على الفور، أو على التراخى؟ فقال الشافعى وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخى، إلى أن ينتهى إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور. واختلفوا أيضا فى وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف فى سنته.

فالجمهور على أنه سنة ست، لأنه نزل فيها قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ «5» ، وهذا ينبنى على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض. ويؤيده

(1) حسن: أخرجه أبو داود (1732) فى المناسك، باب: التجارة فى الحج، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2)

ضعيف: أخرجه الترمذى (812) فى الحج. باب: ما جاء فى التغليظ فى ترك الحج، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن الترمذى» .

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1337) فى الحج، باب: فرض الحج مرة فى العمر، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم. وقد تقدم فى الذى قبله.

(5)

سورة البقرة: 196.

ص: 454

قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعى بلفظ «وأقيموا» رواه الطبرى بأسانيد صحيحة عنهم.

وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضى تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع فى قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وكان قدومه على ما ذكر الواقدى سنة خمس، وهذا يدل- إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو وقوعه فيها.

وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا:

بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله- صلى الله عليه وسلم وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد.

ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا فى أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1» الآية، فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآيات والمنادات بها إنما كان سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك فى مكة فى موسم الحج، وأردفه بعلى.

وفى الترمذى من حديث جابر، أن النبى- صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعد ما هاجر معها عمرة، فساق ثلاث وستين بدنة، ثم جاء على من اليمن ببقيتها، فيها جمل فى أنفه برة من فضة فنحرها «2» ، الحديث. وعن ابن عباس: حج- صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر ثلاث حجج «3» . أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبنى على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضى نفى الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى، أن النبى- صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا «4» .

(1) سورة التوبة: 28.

(2)

صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى- صلى الله عليه وسلم. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(3)

تقدم فى الذى قبله.

(4)

أخرجه الحاكم فى «المستدرك» (1/ 642) و (3/ 56) وفى الموضع الأول رفعه جابر- رضى الله عنه-.

ص: 455

وقال ابن الجوزى: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان- صلى الله عليه وسلم يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وقال جابر فى حديثه الطويل- كما فى رواية مسلم-: مكث- صلى الله عليه وسلم تسع سنين لم يحج ثم أذن فى العاشرة؛ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله- صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبى بكر، فأرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم:

كيف أصنع؟ قال: «اغتسلى واستثفرى بثوب وأحرمى» ، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء، نظرت مدّ بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شئ عملنا به «1» .

وفى رواية عند النسائى: قال جابر: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذى القعدة وخرجنا معه، حتى إذا أتى ذا الحليفة الحديث «2» . وكان خروجه- صلى الله عليه وسلم من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذى الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر.

وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول.

وفى الترمذى، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد رسول الله- صلى الله عليه وسلم لإهلاله واغتسل «3» . وفى الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة «4» ، وفى رواية

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى. من حديث جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما-.

(2)

صحيح: أخرجه النسائى (5/ 155) فى مناسك الحج، باب: ترك التسمية عند الإهلال. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(3)

صحيح: أخرجه الترمذى (830) فى الحج، باب: ما جاء فى الاغتسال عند الإحرام. من حديث زيد بن ثابت بن الضحاك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (5930) فى اللباس، باب: الذريرة، ومسلم (1189) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ص: 456

قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب فى مفارقه- صلى الله عليه وسلم وهو محرم «1» ، وفى رواية قالت: طيبته عند إحرامه، ثم طاف فى نسائه، ثم أصبح محرما «2» ، زاد فى رواية: ينضح طيبا «3» . وفى رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم «4» ، تعنى ليس له بقاء. وهذا يدل على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم فى الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعى وأبى حنيفة وأبى يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابى عن أكثر الصحابة، وحكاه النووى عن جمهور العلماء من السلف والخلف.

وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وعن عائشة قالت: كان- صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان «5» ، رواه الدار قطنى. وفى حديث أنس عند أبى داود والترمذى: أنه- صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل «6» . وفى رواية ابن عمر، عند البخارى ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد «7» ، يعنى مسجد ذى الحليفة.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (271) فى الغسل، باب: من تطيب ثم اغتسل وبقى أثر الطيب، ومسلم (1190) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2)

تقدم فى الذى قبله.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1192) فى الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(4)

صحيح الإسناد: أخرجه النسائى (5/ 137) فى مناسك الحج، باب: إباحة الطيب عند الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. وقال الألبانى: «صحيح الإسناد» .

(5)

أخرجه الدار قطنى فى «سننه» (2/ 226) .

(6)

ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 162) فى مناسك الحج، باب: العمل فى الإهلال. من حديث أنس- رضى الله عنه-. والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .

(7)

صحيح: أخرجه البخارى (1541) فى الحج، باب: الإهلال عند مسجد ذى الحليفة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

ص: 457

وفى رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره «1» . وفى رواية: حين وضع رجله فى الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذى الحليفة. وفى رواية جابر- عند أبى داود والترمذى- أنه- صلى الله عليه وسلم لما أراد الحج أذن فى الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم «2» .

وفى حديث ابن جبير- عند أبى داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى إهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين أوجب!؟ فقال: إنى لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كانت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج- صلى الله عليه وسلم حاجّا فلما صلى فى مسجده بذى الحليفة ركعتيه أوجبه فى مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب فى مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.

قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس أهل فى مصلاه إذا فرغ من ركعتيه «3» ، وهو مذهب أبى حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعى أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. قال ابن القيم: ولم ينقل عنه- صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر، انتهى.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1799) فى الحج، باب: القدوم بالغداة، ومسلم (1186) فى الحج، باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذى الحليفة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(2)

صحيح: أخرجه الترمذى (817) فى الحج، باب: ما جاء فى أى موضع أحرم، من حديث جابر وقد تقدم. وصححه الألبانى فى صحيح الترمذى.

(3)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1770) فى المناسك، باب: فى وقت الإحرام. من حديث ابن عباس وضعفه الألبانى فى «ضعيف أبى داود» .

ص: 458

قلت: ثبت فى الصحيحين عن ابن عمر أنه- صلى الله عليه وسلم كان يركع بذى الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذى الحليفة أهل «1» .

قال النووى: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضى وغيره عن الحسن البصرى أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قل:

لأنه روى أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث.

وقد اختلفت روايات الصحابة فى حجه- صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروى كل منها فى البخارى ومسلم وغيرهما.

واختلف الناس فى ذلك على ستة أقوال:

أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.

الثانى: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره.

الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدى ولم يكن قارئا.

الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين.

الخامس: أنه حج مفردا، اعتمر بعده من التنعيم.

السادس: أنه- صلى الله عليه وسلم حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدى.

واختلفوا أيضا فى إحرامه على ستة أقوال:

أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.

الثانى: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه.

الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.

(1) تقدم.

ص: 459

الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج.

الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.

السادس: لبى بالحج والعمرة معا.

وقد أطنب أبو جعفر الطحاوى الحنفى فى الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه فى زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم فى حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبرى تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضى عياض والنووى فى شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.

والذى ذهب إليه الشافعى فى جماعة: أنه- صلى الله عليه وسلم حج حجّا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما فى الصحيحين أن عائشة قالت:«خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من أهلّ بحج وعمرة، ومنا أهلّ بالحج وحده، وأهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالحج» . فهذا التقسيم والتنويع صريح فى إهلاله بالحج وحده. ولمسلم عنها: أنه- صلى الله عليه وسلم أهل بالحج وحده «1» . ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالحج «2» .

ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أفرد الحج «3» . وعن ابن عمر:

أنه- صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. رواه البخارى.

قالوا: وهؤلاء لهم قرب فى حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو

(1) صحيح: أخرجه مسلم (2731) فى مناسك الحج، باب: القرآن. من حديث أنس قال: سمعت النبى- صلى الله عليه وسلم يلبى بالعمرة والحج جميعا فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبّى بالحج وحده

الحديث.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1240) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج، من حديث ابن عباس، وبنحوه عن عائشة.

(3)

صحيح: أخرجه ابن ماجه (2966) فى المناسك، باب: الإفراد بالحج، وهو عند مسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ص: 460

أحسن الصحابة سياقا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه- صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره. وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته- صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإنى كنت تحت ناقته- صلى الله عليه وسلم يمسنى لعابها، أسمعه يلبى بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله فى خلواته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه فى الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم التى لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة.

واحتجوا أيضا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على «الإفراد» مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن أحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله على- رضى الله عنه- لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقران.

وذهب النووى إلى أن الصواب أنه- صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ويؤيده أنه- صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فى تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذى لا يعتمر فى سنته عندنا، ولم يقل أحد إن الحج وحده أفضل من القران. انتهى. وقد صرح القاضى حسين والمتولى بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر فى تلك السنة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور.

منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع. وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه فى ذلك. وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه- صلى الله عليه وسلم بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.

ص: 461

وبأن القران رواه عنه- صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه.

وبأنه لم يقع فى شئ من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال:«لولا أن معى الهدى لأحللت» «1» .

وأيضا: فإن من روى القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وينتفى التعارض، ويؤيده: أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران، لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران.

وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيّا. انتهى.

وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر ابن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلى، وعمران ابن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد ابن أبى وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيّا، منهم من روى فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.

فإن قيل: كيف تجعلون منهم ابن عمر وجابرا، وعائشة، وابن عباس؟

وعائشة تقول: أهلّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالحج، وفى لفظ: أفرد الحج، والأول فى الصحيحين، والثانى فى مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخارى، وهذا ابن عباس يقول: أهلّ بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه.

قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1558) فى الحج، باب: من أهل فى زمن النبى كإهلال النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ص: 462

الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرتم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.

وهذا يقتضى رفع الشك عنها والمصير إلى أنه- صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الثورى «1» وأبو حنيفة وإسحاق بن راهواه واختاره من الشافعية المزنى وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزى، ومن المتأخرين الشيخ تقى الدين السبكى، وبحث مع النووى فى اختياره أنه- صلى الله عليه وسلم كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه- صلى الله عليه وسلم اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه- صلى الله عليه وسلم فى عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها فى ذى القعدة، وهى عمرة الحديبية التى صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط- مع أن الأفضل خلافه- لاكتفى فى ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.

ومذهب الشافعى ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، فإن قلت: إذا كان الراجح أنه- صلى الله عليه وسلم كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووى فى شرح المهذب:

بأن ترجيح الإفراد لأنه- صلى الله عليه وسلم اختاره أولا، فأهلّ بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار فى أشهر الحج، وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته.

وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه- صلى الله عليه وسلم تمناه، فقال: «لولا أنى سقت

(1) زيادة من «فتح البارى» المصدر المنقول منه.

ص: 463

الهدى لأحللت» «1» ، ولا يتمنى إلا الأفضل. وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله تعالى له، واستمر عليه- صلى الله عليه وسلم.

وأما القائلون، إنه- صلى الله عليه وسلم لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج «2» . وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبى- صلى الله عليه وسلم فى تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذى أخبرنى سالم عن ابن عمر. وقال ابن عباس: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «هذه عمرة استمتعنا بها» «3» . وقال سعد بن أبى وقاص فى المتعة: صنعها رسول الله- صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه «4» .

وأجيب: بأن التمتع عندهم يتناول القران، ويدل له ما فى الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع على وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال على: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إنى لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى على ذلك أهلّ بهما جميعا «5» .

فهذا يبين أن من جمع بينهما كانت متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذى فعله رسول الله- صلى الله عليه وسلم. ووافقه عثمان على أنه- صلى الله عليه وسلم فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل فى حقنا أم لا؟ فقد اتفق على وعثمان على أنه

(1) صحيح: وقد تقدم.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1241) فى الحج، باب: جواز العمرة فى أشهر الحج. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4)

ضعيف الإسناد: أخرجه الترمذى (822) فى الحج، باب: ما جاء فى التمتع. من حديث سعد بن أبى وقاص والضحاك. وقال الألبانى: ضعيف الإسناد.

(5)

صحيح: أخرجه البخارى (1569) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج، ومسلم (1223) فى الحج، باب: جواز التمتع.

ص: 464

- صلى الله عليه وسلم تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران. وأيضا: فإنه- صلى الله عليه وسلم قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى.

وفى فتح البارى عن أحمد: أن من ساق الهدى فالقران له أفضل ليوافق فعل النبى- صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدى فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه. انتهى.

وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة الأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قاله ابن تيمية.

وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدى فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة «1» ، وحديثه فى الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا فى غير حجة الوداع، لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبى- صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح محرما، ولا يمكن أن يكون فى عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما: أنه فى بعض ألفاظ الحديث الصحيح «وذلك فى حجته» «2» ، الثانى: أن فى رواية النسائى بإسناد صحيح: «وذلك فى أيام العشر» «3» وهذا إنما كان فى حجته، وهذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر فى قوله: 7 نه اعتمر فى رجب كما سيأتى. وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه- صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله:«لولا أن معى الهدى لأحللت» «4» وقوله: «إنى سقت الهدى وقرنت فلا أحل عن حتى

(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 244) فى المناسك، باب: أين يقصر المعتمر، وفى الكبرى (3981) ، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

ص: 465

أنحر» «1» . وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلاط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله فى زاد المعاد.

وأما اختلاف الروايات عنه- صلى الله عليه وسلم فى إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينها، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذى قدمته.

قال البغوى: والذى ذكره الشافعى فى كتاب «اختلاف الأحاديث» كلاما موجزه: «أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، فكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز فى لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائها، وكما روى أنه- صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه- صلى الله عليه وسلم كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابى نحوه.

وقال النووى: كان- صلى الله عليه وسلم أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنا، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعنى حمله على ما أهل به فى أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوى والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد. وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره. قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض.

وقالت طائفة: إنما أحرم- صلى الله عليه وسلم قارنا ابتداء يعنى بالحج والعمرة معا واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس فى صحيح مسلم سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم أهل بهما:«لبيك عمرة وحجّا» «2» .

ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس أن لفظ النبى- صلى الله عليه وسلم كان إهلالا بحج وعمرة معا.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1566) فى الحج، باب: التمتع والإقران والإفراد بالحج. من حديث حفصة ولفظه إنى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى أنحر.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1692) فى الحج، باب: من ساق البدن معه. من حديث ابن عمر. وقد تقدم أكثر من مرة.

ص: 466

وأما من قال: إنه- صلى الله عليه وسلم أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما فى البخارى من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدى من ذى الحليفة، وبدأ- صلى الله عليه وسلم فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج.

وقد تقدم فى الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه- صلى الله عليه وسلم بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه. والمشكل فى هذا الحديث قوله:

«بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج» . وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أى لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال:«لبيك بعمرة وحج معا» «1» ولبعضهم: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة «2» ، أى أمرهم بها أولا، أى بتقديمها على الحج.

ومذهب الشافعى: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، فلو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعى، أصحهما لا يصح إحرامه بالعمرة، لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمى. والضعيف لا يدخل على القوى. انتهى.

وعن ابن عباس قال: صلى- صلى الله عليه وسلم الظهر بذى الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها فى صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين «3» ، رواه مسلم وأبو داود. وفى رواية الترمذى: قلد نعلين، وأشعر الهدى فى الشق الأيمن، بذى الحليفة، وأماط عنه الدم «4» . وفى رواية لأبى داود بمعناه، وقال: ثم

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1243) فى الحج، باب: تقليد الهدى وإشعاره عند الإحرام، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4)

صحيح: أخرجه الترمذى (906) فى الحج، باب: ما جاء فى إشعار البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 467

سلت الدم بيده «1» ، وفى أخرى بأصبعه «2» . وعند النسائى: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين «3» . وفى أخرى: أمر ببدنة فأشعر فى سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين «4» .

وكان حجه- صلى الله عليه وسلم على رحل رث يساوى أربعة دراهم «5» . رواه الترمذى فى الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عباس.

وعن أسماء بنت أبى بكر قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وجلست إلى جنب أبى بكر، وكانت زمالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم وزمالة أبى بكر واحدة، مع غلام لأبى بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ وطفق يضربه ورسول الله- صلى الله عليه وسلم يبتسم ويقول: «انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع» ، وما يزيد على ذلك ويبتسم «6» . رواه أبو داود.

وخرج معه- صلى الله عليه وسلم أصحابه لا يعرفون إلا الحج- كما قالت عائشة- فبين لهم- صلى الله عليه وسلم وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار فى أشهر الحج فقال:

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1752) فى المناسك، باب: فى الإشعار. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2)

قاله أبو داود عقب الحديث السابق، حيث قال: رواه همام فذكره.

(3)

صحيح: أخرجه النسائى (5/ 170) فى مناسك الحج، باب: سلت الدم عن البدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(4)

تقدم فى الذى قبله.

(5)

صحيح: أخرجه ابن ماجه (2890) فى المناسك، باب: الحج على الرحل. من حديث أنس- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن ابن ماجه» .

(6)

حسن: أخرجه أبو داود (1818) فى المناسك، باب: المحرم يؤدب غلامه. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنهما-، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 468

«من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل» «1» . رواه البخارى. ولأحمد: «من شاء فليهل بعمرة» .

ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا فرده عليه، فلما رأى ما فى وجهه قال:«7 نا لم نرده عليك إلا أنا حرم» «2» . رواه البخارى ومسلم. وله فى رواية: حمار وحش «3» . وفى أخرى: من لحم حمار وحش «4» ، وفى رواية: عجز حمار وحش يقطر دما «5» ، وفى رواية: شق حمار وحش «6» ، وفى رواية عضو من لحم صيد «7» .

ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم.. فذكره. واتفقت الروايات كلها عن أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقى من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبى- صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش، وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقى: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحى وقبل اللحم.

قال فى فتح البارى: وفى هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق محفوظة فلعله رد حيّا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعى فى «الأم» : إن كان الصعب

(1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل الحيض، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1825) فى الحج، باب: إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيّا حيّا لم يقبل، ومسلم (1193) فى الحج، باب: تحريم الصيد للمحرم. من حديث الصعب ابن جثامة الليثى- رضى الله عنه-.

(3)

تقدم فى الذى قبله.

(4)

تقدم فى الذى قبله.

(5)

مسلم (1194) وتقدم فى الذى قبله.

(6)

تقدم فى الذى قبله.

(7)

أخرجه مسلم (1195) وتقدم فى الذى قبله.

ص: 469

أهدى حمارا حيّا فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش حى، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذى عن الشافعى: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور فى حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه- صلى الله عليه وسلم من مكة، ويؤيده: أنه جازم فيه بوقوع ذلك فى الجحفة، وفى غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبى: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا ثم قطع منه عضوا بحضرته- صلى الله عليه وسلم فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيّا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبى- صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون من قال حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أهداه له حيّا، فلما رده عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظانا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة.

قال النووى: قال الشافعى وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوها، وفى ملكه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده، أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضى عياض عن على وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً «1» ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه- صلى الله عليه وسلم رد وعلل رده بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.

واحتج الشافعى وموافقوه: بحديث أبى قتادة المذكور فى صحيح

(1) سورة المائدة: 96.

ص: 470

مسلم، فإنه- صلى الله عليه وسلم قال فى الصيد الذى صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين:«هو حلال فكلوه» «1» . وفى الرواية الآخرى قال: «فهل معكم منه شئ؟» قالوا: معنا رجله فأخذها رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأكلها «2» .

ولما مرّ- صلى الله عليه وسلم بوادى عسفان قال: «يا أبا بكر، أى واد هذا؟» قال:

وادى عسفان قال: «لقد مرّ به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف، وأرزهما العباء وأرديتهما النمار يلبون بالحج يحجون البيت العتيق» «3» . رواه أحمد. وفى رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادى الأزرق قال:«كأنى أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه فى أذنيه مارا بهذا الوادى، وله جؤار إلى الله بالتلبية» «4» .

ووادى الأزرق خلف أمج- بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد، ولم يعين فى رواية البخارى الوادى، ولفظه: أما موسى كأنى أنظر إليه إذ انحدر من الوادى يلبى. قال المهلب:

هذا وهم من بعض رواته، لأنه لم يأت فى أثر ولا خبر أن موسى حى، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوى، ويدل عليه قوله فى الحديث الآخر:«ليهلن ابن مريم بفج الروحاء» «5» انتهى.

وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخارى الحديث فى اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاده؟

وفى رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوى الآخر قد غلط فزاد يونس؟

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1196) وتقدم فى الذى قبله.

(2)

تقدم فى الذى قبله.

(3)

أخرجه أحمد (1/ 232) من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (166) فى الإيمان، باب: الإسراء برسول الله- صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(5)

صحيح: أخرجه مسلم (1252) فى الحج، باب: إهلال النبى وهديه. من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

ص: 471

وتعقب أيضا: بأن توهيم المهلب للراوى وهم منه، وإلا فأى فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل. وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال:«كأنى أنظر إليه» ولهذا استدل المهلب بحديث أبى هريرة الذى فيه «ليهلن ابن مريم بالحج» .

وقد اختلف فى معنى قوله: «كأنى أنظر إليه» . فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحى.

وقيل: هو على الحقيقة، لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا مانع أن يحجوا فى هذه الحالة، كما فى صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى- عليه السلام قائما فى قبره يصلى.

قال القرطبى: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ «1» الآية لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: المنظور إليه هى أرواحهم، فلعلها مثلت له- صلى الله عليه وسلم فى الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهى فى القبور.

قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى فى اليقظة كما يرى فى النوم. وقيل: كأنه مثلت أحوالهم التى كانت فى الحياة الدنيا، كيف تعبدوا، وكيف حجوا، وكيف لبوا، ولهذا قال:«كأنى»

وقيل: كأنه أخبر بالوحى عن ذلك، فلشدة قطعه به قال:«كأنى أنظر إليه» . انتهى. وقد ذكرت فى مقصد الإسراء من ذلك ما يكفى والله الموفق.

ولما نزل- صلى الله عليه وسلم بسرف خرج إلى أصحابه فقال من لم يكن معه هدى فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدى فلا. وحاضت عائشة فدخل عليها- صلى الله عليه وسلم وهى تبكى، فقال:«ما يبكيك يا هنتاه» ، قالت:

سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال:«وما شأنك؟» قالت: لا

(1) سورة يونس: 10.

ص: 472

أصلى، قال:«فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكونى فى حجك، فعسى الله أن يرزقكها» «1» ، رواه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى.

وفى رواية قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علىّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأنا أبكى، فقال:«ما يبكيك» فقلت: والله لوددت أنى لم أكن خرجت العام، فقال:«ما لك، لعلك نفست؟» قلت: نعم، قال:«هذا شئ كتبه الله على بنات آدم، افعلى ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى» «2» . الحديث.

وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل إنها كانت أولا أحرمت بالحج وهو ظاهر هذا الحديث.

وفى حجة الوداع من المغازى عند البخارى، من طريق هشام بن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهرى: ولم أسق هديا، وفى رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم نلبى لا نذكر حجّا ولا عمرة.

ويحتمل فى الجمع أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبى- صلى الله عليه وسلم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهى حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج.

وقال القاضى عياض: واختلف فى الكلام على حديث عائشة، فقال:

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1560) فى الحج، باب: قول الله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (305) فى الحيض، باب: تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ص: 473

ما لك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا. قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل عليه فى رفض العمرة وجعلها حجّا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف فى جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله:«ارفضى عمرتك» «1» . أى اتركى التحلل منها وأدخلى عليها الحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله فى رواية لمسلم «وامسكى عن العمرة» «2» أى عن أعمالها. وإنما قالت عائشة:«وأرجع بحج» لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. واستبعد هذا التأويل لقولها فى رواية عطاء عنها «وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة» «3» أخرجه أحمد. وهذا يقوى قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا فى ذلك بقوله لها «دعى عمرتك» «4» ، وفى رواية «اقضى عمرتك» «5» ونحو ذلك.

واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة.

لكن فى رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال فى ذلك: ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبى- صلى الله عليه وسلم:«أهلى بالحج» حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال:«قد حللت من حجتك وعمرتك» ، قالت: يا رسول الله إنى أجد نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت، قال:«فأعمرها من التنعيم» «6» .

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1783) فى الحج، باب: العمرة ليلة الحصبة وغيرها، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2)

هى رواية عند مسلم (1211)(113) وقد تقدمت.

(3)

أخرجه أحمد فى «المسند» (6/ 165 و 219) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(4)

أخرجه البخارى (317) وقد تقدم.

(5)

تقدم.

(6)

صحيح: أخرجه البخارى (1518) فى الحج، باب: الحج على الرحل، من حديث عائشة وقد تقدم.

ص: 474

ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبى- صلى الله عليه وسلم: «طوافك يسعك لحجك وعمرتك» فهذا صريح فى أنها كانت قارنة، لقوله:«قد حللت من حجك وعمرتك، وإنما أعمرها من التنعيم» «1» تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع فى رواية مسلم: وكان- صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا إذا هويت الشئ تابعها عليه «2» .

ثم قال- صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» «3» . وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفى منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء فى رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء فى رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك فى الموضعين. وأن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.

وفى رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال- صلى الله عليه وسلم:«من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه» «4» .

وهذا الحديث ظاهر فى الدلالة لأبى حنيفة وأحمد وموافقيهما، فى أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدى لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.

ومذهب مالك والشافعى وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شئ فى الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدى، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شئ، كما لو تحلل المحرم بالحج.

(1) تقدم.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1213) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1556) فى الحج، باب: كيف تهل الحائض والنفساء، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (319) فى الحيض، باب: كيف تهل الحائض بالحج والعمرة، ومسلم (1211) فى الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

ص: 475

وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التى ذكرها مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا» «1» فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التى احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل، لأن القصة واحدة، والراوى واحد، فتعين الجمع بين الروايتين على ما ذكر والله أعلم.

ولما بلغ سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذا طوى- بضم الطاء وبفتحها، وقيدها الأصيلى بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بى الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل «2» رواه البخارى. وللنسائى: كان- صلى الله عليه وسلم ينزل بذى طوى، يبيت به حتى يصلى صلاة الصبح حين يقدم إلى مكة.

ومصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس فى المسجد الذى بنى ثمّ، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة. وفى الصحيحين: أنه- صلى الله عليه وسلم دخلها من أعلاها «3» . وفى حديث ابن عمر فى الصحيح: كان- صلى الله عليه وسلم يدخل من الثنية العليا يعنى أعلى مكة من كداء «4» - بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هى التى ينزل منها إلى المعلاة- مقبرة مكة- وهى التى يقال لها: الحجون- بفتح الحاء المهملة وضم الجيم-.

ولم يقع أنه- صلى الله عليه وسلم دخل مكة ليلا إلا فى عمرة الجعرانة، فإنه- صلى الله عليه وسلم

(1) هو عند مسلم (1211) وقد تقدم.

(2)

أخرجه البخارى تعليقا فى الحج، باب: الإهلال مستقبل القبلة.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1577) فى الحج، باب: من أين يخرج من مكة، ومسلم (1258) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (1257) فى الحج، باب: استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

ص: 476

أحرم من الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت «1» كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبى. وعن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا ليلا، إنكم لستم كرسول الله- صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائى.

ثم دخل- صلى الله عليه وسلم مكة لأربع خلون من ذى الحجة. ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بنى عبد مناف، وهو باب بنى شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة فى جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام فى «القواعد» .

وكان- صلى الله عليه وسلم إذا رأى البيت قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرّا» «2» . رواه الثورى عن أبى سعيد الشامى عن مكحول. وروى الطبرانى عن حذيفة بن أسيد: كان- صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى البيت قال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرّا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرّا ومهابة» «3» .

ولم يركع- صلى الله عليه وسلم تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد. ثم استلم- صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود، وفى رواية جابر عند البخارى:«استلم الركن» ، والاستلام افتعال من السلام، أى التحية، قاله الأزهرى، وقيل من السلام- بالكسر- أى الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى تصيبه، وكانت محنية الرأس، وهى المراد بقوله فى الحديث ب «المحجن» .

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (935) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(2)

موضوع: أخرجه الطبرانى فى الكبير عن حذيفة بن أسيد، كما فى «ضعيف الجامع» (4456) .

(3)

انظر ما قبله.

ص: 477

واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان: كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثانى: الثانية فقط، وليس للآخرين شئ منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثانى فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان.

وروى الشافعى عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن قال:«بسم الله والله أكبر» ، وكلما أتى الحجر قال:«الله أكبر» ، رواه الطبرانى. وهل كان- صلى الله عليه وسلم طائفا على بعيره أم على قدميه؟

ففى مسلم عن عائشة: طاف- صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع على بعيره. وفيه عن أبى الطفيل: رأيته- صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على بعيره «1» . وقد اختلف فى علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه- صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته «2» ، وفى حديث جابر عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه «3» . فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين.

قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التى يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك، لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. وتعقب:

بأنه ليس فى الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلوث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته- صلى الله عليه وسلم كانت منوقة، أى مدربة معلمة، فيأمن معها ما يحذر من التلويث.

قال بعضهم: وهذا كان- والله أعلم- فى طواف الإفاضة، لا فى طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل فى الثلاثة الأول، وذلك لا يكون

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1879) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث أبى الطفيل ولفظه رأيت النبى- صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمعجنه ثم يقبله وصححه الألبانى فى «صحيح أبى داود» .

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1881) فى المناسك، باب: الطواف واجب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

(3)

تقدم حديث جابر مرارا.

ص: 478

إلا مع المشى، ولم يقل أحد رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أى بنفسه.

وقال الشافعى: أما سعيه الذى طاف لمقدمه فعلى قدميه. انتهى.

ولما استلم- صلى الله عليه وسلم الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعا.

وكان ابتداء الرمل فى عمرة القضية، لما قدم- صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلى الحجر، وأمرهم النبى- صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين ليرى المشركين جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا «1» . رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس.

ولما كان فى حجة الوداع رمل- صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكان سنة مستقلة.

قال الطبرى: قد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعنى فى حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا شئ عليه. انتهى. فلو ترك الرمل فى الثلاث لم يقضه فى الأربع، لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والله أعلم.

ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم من طوافه أتى المقام، فقرأ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «2» فصلى ركعتين بينه وبين البيت، قرأ فيهما ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «3» وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» ثم رجع إلى الركن الذى فيه الحجر فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «5» ، أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1266) فى الحج، باب: استحباب الرمل فى الطواف والعمرة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(2)

سورة البقرة: 125.

(3)

سورة الكافرون: 1.

(4)

سورة الإخلاص: 1.

(5)

سورة البقرة: 158.

ص: 479

رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه فى بطن الوادى رمل، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة» «1» .

وفى حديث أبى الطفيل عند مسلم وأبى داود، قال: قلت لابن عباس، أخبرنى عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشى والسعى أفضل. هذا لفظ رواية مسلم. وفى أوله ذكر الرمل فى طواف البيت «2» .

وعند أبى داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيؤوا العام المقبل، فيقيموا ثلاثة أيام، فقدم- صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه:«أرملوا البيت» ، وفيه: طاف- صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعير، لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، ولا تناله أيديهم «3» .

وكان- صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر الله وحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال:

«لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» ، فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك- صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة فى

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

ص: 480

الآخرى وقال: «دخلت العمرة فى الحج هكذا- مرتين-، لا بل لأبد أبد» «1» .

وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة.

قال النووى: وقد اختلف فى هذا الفسخ، هل هو خاص للصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟

فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصّا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدى أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها.

وقال مالك والشافعى وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف:

هو مختص بهم فى تلك السنة، لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج.

ومما يستدل به للجماهير، حديث أبى ذر فى مسلم: كانت المتعة فى الحج لأصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم خاصة. يعنى فسخ الحج إلى العمرة «2» . وفى النسائى عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«بل لنا خاصة» «3» .

قال: وأما الذى فى حديث سراقة: «ألعامنا هذا أم لأبد؟» فقال: «لا، بل لأبد أبد» «4» فمعناه: جواز الاعتمار فى أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة فى أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم، انتهى.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (2506) فى الشركة، باب: الاشتراك فى الهدى والبدن. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(2)

تقدم.

(3)

ضعيف: أخرجه النسائى (5/ 179) فى مناسك الحج، باب: إباحة فسخ الحج بعمرة

من حديث بلال بن الحارث- رضى الله عنه-. والحديث ضعف الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن النسائى» .

(4)

تقدم.

ص: 481

وفى رواية النسائى أيضا: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة «1» ، يعنى متعة النساء ومتعة الحج، يعنى فسخ إلى العمرة، ومتعة النساء: هى نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ فى أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف فى العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه.

وكان- صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمنزله الذى نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة، لأنه قدم فى الرابع، وخرج فى الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله- صلى الله عليه وسلم مكة وخروجه يوم النفر الثانى من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء. وقدم على من اليمن على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال له:«بما أهللت؟» فقال: بما أهل به رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فقال:«لولا أن معى الهدى لأحللت» «2» . رواه الشيخان من حديث أنس.

وفى حديث البراء عند الترمذى والنسائى: دخل علىّ على فاطمة- رضى الله عنهما- فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب. فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه فأحلوا، قال: قلت لها إنى أهللت بإهلال رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: فأتيته فقال لى رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «كيف صنعت؟» قال: وقال لى: انحر من البدن سبعا وستين، أو ستّا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها قطعة.

وفى رواية جابر عند مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبى أمرنى بهذا، فقال: صدقت صدقت، ما قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت اللهم إنى أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معى الهدى فلا تحل. قال: فكان جماعة الهدى الذى

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1224) فى الحج، باب: جواز التمتع. من حديث أبى ذر- رضى الله عنه-.

(2)

تقدم.

ص: 482

قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى- صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم كلهم وقصروا إلا النبى- صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى.

فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب- صلى الله عليه وسلم وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى- صلى الله عليه وسلم بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية، وكان «الحمس» وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن قطين الله، أى جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ «1» .

وعن جبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لى فى الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن الله وفقه لذلك. وفى رواية: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا، الحديث. ولما بلغ- صلى الله عليه وسلم عرفة وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر ب «القصواء» فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادى فخطب الناس وقال: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا إن كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمىّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا فى بنى سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا، ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن

(1) سورة البقرة: 199.

ص: 483

فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول:«اللهم اشهد» ثلاث مرات.

ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا «1» . وهذا الجمع مختص بالمسافرين عند الجمهور، وعن مالك والأوزاعى، وهو وجه للشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوى: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف. قال الشافعى والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم.

ولما فرغ- صلى الله عليه وسلم من صلاته ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر دعائه- صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فى الموقف:«اللهم لك الحمد كالذى نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، ولك رب تراثى، اللهم إنى أعوذبك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أسألك من خير ما تجئ به الرياح وأعوذبك من شر ما تجىء به الريح» «2» . رواه الترمذى من حديث على.

وفى رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه- صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بعد قوله؛ لا إله إلا الله وحده لا شريك له: «اللهم لك الحمد كالذى نقول: اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، وإليك مابى، وعليك يا رب ثوابى، اللهم

(1) صحيح: أخرجه النسائى (1/ 290) فى المواقيت، باب: الجمع بين الظهر والعصر بعرفة، من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(2)

ضعيف: أخرجه الترمذى (3520) فى الدعوات، من حديث على بن أبى طالب- رضى الله عنه-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 484

إنى أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذى شر» .

وفى الترمذى: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير» «1» .

وكان من دعائه فى عرفة أيضا- كما فى الطبرانى الصغير- من حديث ابن عباس: «اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكانى، وتعلم سرى وعلانيتى، لا يخفى عليك شئ من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيّا، وكن بى رؤفا رحيما، يا خير المسئولين ويا خير المعطين» «2» .

وأتاه- صلى الله عليه وسلم ناس من أهل نجد- وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه «3» ، رواه الترمذى. وفى رواية جابر عند أبى داود، قال- صلى الله عليه وسلم بعرفة:«وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف» «4» . وهناك أنزلت عليه الْيَوْمَ

(1) حسن: أخرجه الترمذى (3585) فى الدعوات، باب: فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، والحديث حسنه الشيخ الألبانى فى «صحيح الجامع» (3274) .

(2)

ذكره الهيثمى فى «المجمع» (3/ 252) وقال: رواه الطبرانى فى الكبير والصغير، وفيه يحيى بن صالح الأيلى، قال العقيلى روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح.

(3)

صحيح: أخرجه الترمذى (889) فى الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، من حديث عبد الرحمن بن يعمر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(4)

صحيح: أخرجه أبو داود (1907) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى- صلى الله عليه وسلم والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 485

أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1» الآية «2» ، كما فى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته- وهو محرم- فمات، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن يكفن فى ثوبيه ولا يمس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبى «3» . رواه البخارى ومسلم. أى يبعث على هيئته التى مات عليها.

واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافا للمالكية والحنفية، قال النووى: يتأول هذا الحديث على أن النهى عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة، والله أعلم.

ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض- صلى الله عليه وسلم من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده: أيها الناس السكينة السكينة، وكلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد وأفاض من طريق المأزمين. وفى رواية ابن عباس أنه- صلى الله عليه وسلم سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل وراءه فأشار بسوطه وقال:«أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع» «4» ، يعنى بالإسراع.

وفى رواية أبى داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة،

(1) سورة المائدة: 3.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: ما جاء أن عرفة كلها موقف، وأبو داود (1907) فى المناسك، باب: صفة حجة النبى، من حديث جابر وقد تقدم.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1849) فى الحج، باب: المحرم يموت يوم عرفة، ومسلم (1206) ى الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(4)

صحيح: أخرجه السنائى (5/ 257) فى مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، من حديث ابن عباس عن أسامة بن زيد ولفظه فإن البر ليس فى إيضاع الإبل، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

ص: 486

فقال: «أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل» ، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا «1» . وفى رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص «2» ، قال هشام: والنص فوق العنق.

وأخرج الطبرانى فى المعجم عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفات وهو يقول:

إليك تعدو قلقا وضنيها

مخالف دين النصارى دينها

قال فى النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله. والقلق:

الانزعاج: والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل. ولما كان- صلى الله عليه وسلم فى أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله؟ قال: «الصلاة أمامك» «3» .

فركب حتى أتى مزدلفة، وهى المسماة ب «جمع» بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أى دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا لأنه يجمع فيها بين صلاتين، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله تعالى، أى يتقربون إليه بالوقوف فيها. انتهى.

فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى إثر كل واحدة منهما «4» . وفى رواية: فأقام المغرب، ثم

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1920) فى المناسك، باب: الدفعة من عرفة، من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1666) فى الحج، باب: السير إذا دفع من عرفة، ومسلم (1286) فى الحج، باب: الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (139) فى الوضوء، باب: إسباغ الوضوء، ومسلم (1280) فى الحج، باب: إدامة الحاج التلبية. من حديث أسامة بن زيد- رضى الله عنهما-.

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (1673) فى الحج، باب: من جمع بينهما ولم يتطوع، من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

ص: 487

أناخ الناس فى منازلهم ولم يجلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا «1» . وترك- صلى الله عليه وسلم قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده- صلى الله عليه وسلم فى الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه- صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم فى عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر من كونه ينحر بيده المباركة ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى، كما نبه عليه فى شرح تقريب الأسانيد.

وعن عباس بن مرداس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: إنى قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإنى آخذ للمظلوم منه، قال:«أى رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم» ، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال:

فضحك- صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما-: بأبى أنت وأمى، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذى أضحكك، أضحك الله سنك، قال:«إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائى وغفر لأمتى أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكنى ما رأيت من جزعه» «2» ، رواه ابن ماجه. ورواه أبو داود من الوجه الذى رواه ابن ماجه ولم يضعفه.

وقد جاء فى بعض الروايات عن غير العباس ما يبين أن المراد من «الأمة» من وقف بعرفة. وقال القرطبى: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقد رواه البيهقى بنحو رواية ابن ماجه ثم قال:

وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1280) وقد تقدم.

(2)

ضعيف: أخرجه ابن ماجه (3013) فى المناسك، باب: الدعاء بعرفة، من حديث عباس ابن مرداس بن أبى عامر، وضعفه الألبانى.

ص: 488

تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» وظلم بعضهم بعضا دون الشرك.

انتهى.

وقال الترمذى فى الحديث الصحيح: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «2» . وهو مخصوص بالمعاصى المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه، لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هى نفسها، فلو أخرها بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.

وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمى بالحج إجماعا. انتهى والله أعلم.

واستأذنت سودة رسول الله- صلى الله عليه وسلم ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتنى كنت استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة، وفى رواية: فاستأذنته أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلىّ من مفروح به «3» . رواه البخارى: وفى رواية أبى داود والنسائى: أرسل- صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذى يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلم، تعنى عندها «4» .

(1) سورة النساء: 48.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1521) فى الحج، باب: فضل الحج المبرور، ومسلم (1350) فى الحج، باب: فضل الحج، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1681) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1290) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(4)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1942) فى المناسك، باب: التعجيل من جمع، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

ص: 489

وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل «1» . وفى رواية البخارى ومسلم والنسائى عن ابن عباس قال: أرسلنى- صلى الله عليه وسلم مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة «2» . وفى الموطأ والصحيحين والنسائى عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلى ساعة ثم قالت: يا بنى هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ فقلت:

نعم، قالت: فارتحلوا، إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن- بالضم-:

النساء فى الهوادج «3» .

وقد اختلف السلف فى ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعى والشعبى: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهرى وقتادة والشافعى والكوفيون وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف.

وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع.

انتهى. ولما طلع الفجر صلى النبى- صلى الله عليه وسلم الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة.

وفى سنن البيهقى والنسائى بإسناد صحيح على شرط مسلم أنه- صلى الله عليه وسلم قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: «التقط لى حصى» ، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف «4» - وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده. وفى رواية للنسائى قال- صلى الله عليه وسلم لابن عباس، غداة النحر، وهو

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1292) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أم حبيبة- رضى الله عنها-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1677) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1293) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن، والنسائى (5/ 266) فى مناسك الحج، باب: الرخصة للضعفة أن يصلوا يوم النحر الصبح بمنى. من حديث ابن عباس واللفظ للنسائى.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1679) فى الحج، باب: من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون، ومسلم (1292) فى الحج، باب: استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن. من حديث أسماء بنت أبى بكر- رضى الله عنها-.

(4)

لم أقف على رواية الفضل، ولعلها فى الكبرى، وانظر ما بعده.

ص: 490

- صلى الله عليه وسلم على راحلته: «هات القط لى» ، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن فى يده قال:«بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلوّ فى الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فى الدين» «1» .

قال العلماء: فى هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأى البغوى، قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، نص عليه الشافعى فى «الأم» و «الإملاء» لكن الجمهور كما قال الرافعى: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به فى الحج، وبه جزم فى «التنبيه» وأقره عليه النووى فى تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعى، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعى أيضا فى شرح «المهذب» . والاحتياط أن يزيد فربما سقط منها شئ.

انتهى.

ثم ركب النبى- صلى الله عليه وسلم القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس «2» . وفى رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس.

وفى حديث على عند الطبرى: لما أصبح- صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: «هذا الموقف وكل المزدلفة موقف» ، حتى إذا أسفر دفع.

وفى رواية جابر: وأردف- صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس، قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع- صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول

(1) صحيح: أخرجه النسائى (5/ 268) فى مناسك الحج، باب: التقاط الحصى. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى من حديث جابر الطويل.

ص: 491

الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله- صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر «1» .

وفى رواية: كان الفضل رديف رسول الله- صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال:«نعم» . وذلك فى حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما. وقد روى أيضا من حديث عبد الله بن عباس، لكن رجح البخارى رواية الفضل لأنه كان رديف النبى- صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكان عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أباه بما شاهد فى تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمى جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما فى الترمذى: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمى، وأن العباس كان شاهدا. وفيه: أنه- صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال:«رأيت شابّا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان» . وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه.

وفى هذا الحديث دلالة على جواز النيابة فى الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك فى ذلك، ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه فى الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعى. وعن أحمد روايتان انتهى.

وفى رواية ابن عباس: أن أسامة قال: كنت ردف النبى- صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم

(1) تقدم.

ص: 492

يزل النبى- صلى الله عليه وسلم يلبى حتى رمى جمرة العقبة «1» . رواه الشيخان وغيرهما.

وفى رواية جابر: فلما أتى- صلى الله عليه وسلم بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا «2» .

قال الإسنوى: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعى، أو العرب، كما قاله فى الوسيط، فأمر بمخالفتهم. قال: وظهر لى فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه الإسراع لما ثبت فى الصحيح: أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك «3» . وقال غيره: وهذه كانت عادته- صلى الله عليه وسلم فى المواضع التى نزل فيها بأس الله بأعدائه، وسمى وادى محسر لأن الفيل حسر فيه، أى أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى.

ثم سلك- صلى الله عليه وسلم الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.

رمى من بطن الوادى، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه- صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، كما قاله «4» جابر فى رواية مسلم والترمذى وأبى داود والنسائى.

وفى رواية أم الحصين، عند أبى داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة «5» . وفى رواية النسائى: ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا. وعن أم جندب: رأيته- صلى الله عليه وسلم يرمى الجمرة من بطن الوادى، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

تقدم.

(4)

تقدم.

(5)

صحيح: أخرجه أبو داود (1834) فى المناسك، باب: فى المحرم يظلل، من حديث أم الحصين- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 493

فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبى- صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف» «1» . وفى هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه- صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة من شعر بنمرة.

وفى رواية جابر عند مسلم وأبى داود قال: رأيته- صلى الله عليه وسلم يرمى على راحلته يوم النحر، وهو يقول:«خذوا عنى مناسككم لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه» «2» . وفى رواية قدامة عند الترمذى رأيته يرمى الجمار على ناقة له صهباء، ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك «3» انتهى. ثم انصرف- صلى الله عليه وسلم إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليّا فنحر ما غبر، وأشركه فى هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت فى قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها «4» . وفى رواية جابر عند مسلم: نحر- صلى الله عليه وسلم عن نسائه بقرة، وقالت عائشة: نحر- صلى الله عليه وسلم عن آل محمد فى حجة الوداع بقرة واحدة «5» . رواه أبو داود.

ثم أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم منزله بمنى، ثم قال للحلاق:«خذ» ، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس «6» . وفى رواية: أنه قال للحلاق: «ها» ، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم «7» . وفى

(1) تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

صحيح: أخرجه الترمذى (9035) فى الحج، باب: ما جاء فى كراهية طرد الناس عند رمى الجمار، من حديث قدامة بن عبد الله- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(4)

صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاءكم كم حج النبى. من حديث جابر- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(5)

تقدم.

(6)

صحيح: أخرجه مسلم (1305) فى الحج، باب: بيان أن السنة يوم النحر أن يرمى ثم ينحر ثم يحلق. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(7)

تقدم فى الذى قبله.

ص: 494

أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: ها هنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه «1» . وفى أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده على رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال: احلق الشق الآخر، فقال: أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه «2» . رواه الشيخان.

وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه بالموسى، ونظر فى وجهه وقال: يا معمر، أمكنك رسول الله- صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه وفى يدك الموسى، قال: فقلت له، أما والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله علىّ ومنّه، قال:«أجل» «3» . وقال البخارى: وزعموا أن الذى حلق للنبى- صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة فى صحيحه، وعند الإمام أحمد: وقلم- صلى الله عليه وسلم أظفاره وقسمها بين الناس.

وعنده أيضا: من حديث محمد بن زياد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبى- صلى الله عليه وسلم عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحى، فلم يصبه شئ ولا صاحبه، فحلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم رأسه فى ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم.

وعن أبى هريرة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال:«اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال:«اللهم اغفر للمحلقين» ، قالوا يا رسول الله، وللمقصرين، قال:«وللمقصرين» «4» رواه الشيخان. وليس فيه تعيين: هل قاله- صلى الله عليه وسلم فى الحديبية أو فى حجة الوداع؟

(1) تقدم فى الذى قبله.

(2)

تقدم فى الذى قبله.

(3)

تقدم فى الذى قبله.

(4)

تقدم.

ص: 495

قالوا: ولم يقع فى شئ من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبى- صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان فى حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية. وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبى قرة فى «السنن» ومن طريقه الطبرانى فى الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق فى المغازى. وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبى مريم السلولى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم ومن حديث قارب بن الأسود الثقفى عند أحمد وابن أبى شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث.

والأحاديث التى فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذا قال النوى عقب أحاديث ابن عمر وأبى هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل على أن هذه الواقعة كانت فى حجة الوداع. قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت فى الحديبية، وجزم إمام الحرمين فى النهاية أن ذلك كان فى الحديبية، ثم قال النووى: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك فى الموضعين. انتهى. وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب.

قال فى فتح البارى: بل هو المتعين لتظاهر الروايات بذلك فى الموضعين، إلا أن السبب فى الموضعين مختلف، فالذى فى الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم فى أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبى- صلى الله عليه وسلم وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو- صلى الله عليه وسلم قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعضهم وقص بعضهم، فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب فى حديث ابن عباس، فإن فى آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال:«لأنهم لم يشكوا» .

وأما السبب فى تكرير الدعاء للمحلقين فى حجة الوداع، فقال ابن

ص: 496

الأثير فى «النهاية» : كان أكثر من حج معه- صلى الله عليه وسلم لم يسق الهدى، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير فى أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجح- صلى الله عليه وسلم فعل من حلق لكونه أبين فى امتثال الأمر. انتهى.

قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد، لأن المتمتع يستحب فى حقه أن يقصر فى العمرة ويحلق فى الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك فى حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابى وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى.

وفى رواية عبد الله بن عمرو بن العاص: وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال:«اذبح ولا حرج» ، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمى؟ فقال: «ارم ولا حرج» . قال: فما سئل عن شئ قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج «1» . رواه مسلم.

وفى رواية: حلقت قبل أن أرمى «2» ، وفى رواية: وقف- صلى الله عليه وسلم على راحلته فطفق الناس يسألونه فيقول القائل منهم: يا رسول الله إنى لم أكن أشعر أن الرمى قبل النحر، فنحرت قبل أن أرمى، فقال- صلى الله عليه وسلم:«فارم ولا حرج» ، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلا قال- صلى الله عليه وسلم: «افعلوا ذلك ولا حرج» «3» .

(1) صحيح: أخرجه البخارى (83) فى العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها، ومسلم (1306) فى الحج، باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمى. من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(2)

تقدم فى الذى قبله.

(3)

تقدم فى الذى قبله.

ص: 497

وفى رواية: أنه- صلى الله عليه وسلم بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفى رواية: حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمى وأشباه ذلك. وفى رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمى.

ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدى أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعى بعده، وقد تقدم أنه- صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق.

وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا فى وجوب الدم فى بعض المواضع. ومذهب الشافعى وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم وجوب الدم لقوله- صلى الله عليه وسلم للسائل: «لا حرج» ، وهو ظاهر فى رفع الإثم والفدية معا، لأن اسم الضيق يشملهما.

وقال الطحاوى: ظاهر الحديث يدل على التوسعة فى تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله «لا حرج» أى لا إثم فى ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية.

وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه- صلى الله عليه وسلم حينئذ لأنه وقت الحاجة فلا يجوز تأخير عنه. وتمسك الإمام أحمد بقوله فى الحديث «لم أشعر» وبما فى رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال:«افعل ولا حرج» بأنه إذا كان ناسيا أو جاهلا فلا شئ عليه وإن كان عالما فلا.

قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوى من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول فى الحج لقوله «خذوا عنى مناسككم» وهذه الأحاديث

ص: 498

المرخصة فى تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل «لم أشعر» فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع فى الحج. انتهى.

وعن أبى بكرة قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال:

«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان» . وقال: «أى شهر هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:

«أليس ذا الحجة؟» قلنا: بلى، قال:«أى بلد هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:«أليس البلد الحرام؟» قلنا:

بلى، قال:«فأى يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:«أليس يوم النحر؟» قلنا: بلى، قال:«فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعن بعدى كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟» قالوا: نعم، قال:«اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» «1» .

رواه الشيخان. وفى رواية للبخارى: «فودع الناس» .

ووقع فى طريق ضعيفة عند البيهقى من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «2» على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة واجتمع إليه الناس فقال: يا أيها الناس فذكر الحديث.

وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه أخذ الشافعى ومن تبعه.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1741) فى الحج، باب: الخطبة أيام منى، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-.

(2)

سورة النصر: 1.

ص: 499

وخالف فى ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذى الحجة، ويوم عرفة، وثانى يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعى إلا أنه قال:

بدل ثانى النحر ثالثه، لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهى يوم النحر، قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمى والذبح والحلق والطواف.

وتعقبه الطحاوى: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج، لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذى يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج.

وقال ابن بطال: إنما فعل ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذى اجتمع من أقاصى الدنيا، فظن الذى رآه أنه خطب. قال: وأما ما ذكره الشافعى: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين، لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى.

وأجيب: بأنه- صلى الله عليه وسلم نبه فى الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذى الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكر يوم عرفة، يعكر عليه فى كونه يرى مشروعية الخطبة ثانى يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان فى كل يوم أعمال ليست فى غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوى:«إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل» فلا ينفى وقوع ذلك أو شئ منه فى نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه شهد النبى- صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عن تقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوى هذا النفى المطلق. انتهى.

وقد روى أبو داود والنسائى عن عبد الرحمن بن معاذ التيمى قال:

ص: 500

خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن فى منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال:«بحصى الخذف» ، ثم أمر المهاجرين فنزلوا فى مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك «1» .

وفى رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم الناس بمنى ونزلهم منازلهم فقال: «لينزلن المهاجرون هاهنا» ، وأشار إلى ميمنة القبلة، «والأنصار هاهنا» ، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال:«لينزل الناس حولهم» «2» .

وعن ابن أبى نجيح عن أبيه عن رجلين من بنى بكر قالا: رأينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهى خطبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم التى خطب بمنى، رواه أبو داود. وعن رافع بن عمرو المزنى قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلى يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا.

وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن قال: حدثتنى جدتى سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت فى الجاهلية، قالت خطبنا النبى- صلى الله عليه وسلم يوم الرؤس فقال:«أى يوم هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:«أليس أوسط أيام التشريق» «3» . وفى رواية: أنه خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا.

ثم ركب- صلى الله عليه وسلم قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة،

(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1951) فى المناسك، باب: النزول بمنى. والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(2)

تقدم.

(3)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1953) فى المناسك، باب: أى يوم يخطب بمنى، من حديث سراء بنت نبهان، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .

ص: 501

وهو طواف الزيارة والركن والصدر «1» . وفى البخارى: ويذكر عن أبى حسان عن ابن عباس، أن النبى- صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت أيام منى «2» . وقد وصله الطبرانى من طريق قتادة عنه. وقال ابن المدينى فى «العلل» : روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثنى جدى حدثنى أبو حسان عن ابن عباس أن النبى- صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث.

وأتى- صلى الله عليه وسلم زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها، فقال:«انزعوا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» ، فناولوه دلوا فشرب منه «3» . وفى رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم «4» ، وفى رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير «5» ، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين فى رواية جابر عند مسلم. واختلف أين صلى- صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ، ففى رواية جابر عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم صلى بمكة «6» ، وكذلك قالت عائشة. وفى حديث ابن عمر- فى الصحيحين- أنه- صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى «7» .

فرجح ابن حزم فى كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة، لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد، ولأن عائشة أخص

(1) تقدم من حديث ابن عمر أخرجه مسلم.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى فى الحج، باب: الزيارة يوم النحر، تعليقا عن ابن عباس.

(3)

صحيح: أخرجه مسلم (1218) فى الحج، باب: حجة النبى- صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر- رضى الله عنه-.

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (2027) فى الأشربة، باب: فى الشرب من زمزم قائما. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(5)

صحيح: أخرجه البخارى (1637) فى الحج، باب: ما جاء فى زمزم. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(6)

تقدم.

(7)

تقدم.

ص: 502

الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، ولأن سياق جابر لحجته- صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقرّ منها ما لا يتعلق بالمناسك، وهو نزوله- صلى الله عليه وسلم فى الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوآ خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت فى «آذار» وهو تساوى الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضى فى مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر فى فصل آذار.

ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه فى حجته- صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلى بمنزله بالمسلمين مدة مقامه، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب فى وقت طوافه، فروى عنها أنه طاف نهارا، وفى رواية عنها: أنه أخر الطواف إلى الليل، وفى رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة. وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع، لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف فى الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر، انتهى.

ثم رجع- صلى الله عليه وسلم إلى منى، فمكث بها ليالى أيام التشريق، يرمى الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمى الثالثة فلا يقف عندها «1» .

رواه أبو داود من حديث عائشة. وعن ابن عمر- عند الترمذى-: كان

(1) أخرجه أبو داود (1973) فى المناسك، باب: فى رمى الجمار. من حديث عائشة- رضى الله عنها-. قال الألبانى: صحيح إلا قوله حين صلى الظهر فهو منكر.

ص: 503

- صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا «1» . وفى رواية أبى داود:

وكان يستقبل القبلة فى الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمى جمرة العقبة من بطن الوادى «2» الحديث.

واستأذنه- صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالى منى، من أجل السقاية فأذن له «3» ، رواه البخارى ومسلم من رواية ابن عمر، وفى رواية الإسماعيلى: رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته. وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج، لأن التعبير ب «الرخصة» يقتضى أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما فى معناها لم يحصل الإذن. وبالوجوب قال الجمهور. وفى قول للشافعى، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة.

ووجوب الدم بتركه مبنى على هذا الخلاف. ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة فى ذلك إعداد الماء للشاربين.

وجزم الشافعى، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد. قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة.

ثم أفاض- صلى الله عليه وسلم بعد الظهر يوم الثلاثاء- بعد أن أكمل رمى أيام التشريق، ولم يتعجل فى يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (900) فى الحج، باب: ما جاء فى رمى الجمار راكبا وماشيا. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1751) فى الحج، باب: 7 ذا رمى الجمرتين يقوم ويهل مستقبل القبلة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1745) فى الحج، باب: هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالى منى. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-.

ص: 504

الجبلين إلى المقبرة، وهو خيف بنى كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرنى- صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكنى جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل «1» . رواه مسلم.

وفيه وفى البخارى، عن أنس أنه- صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح «2» . وفيهما من حديث أبى هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلم قال- من الغد يوم النحر، وهو بمنى-:«نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» «3» ، يعنى بذلك المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بنى هاشم وبنى المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبى- صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس، ليس التحصيب بشئ، إنما هو منزل نزله رسول الله- صلى الله عليه وسلم «4» ، أى: ليس التحصيب من أمر المناسك الذى يلزم فعله، لكن لما نزل به- صلى الله عليه وسلم كان النزول به مستحبّا اتباعا له، لتقريره على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده «5» ، كما فى مسلم.

وعن أنس أن النبى- صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به «6» ، رواه البخارى. وهذا

(1) صحيح: أخرجه مسلم (1313) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب يوم النفر والصلاة. من حديث أبى رافع- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه البخارى (1653) فى الحج، باب: أين يصلى الظهر يوم التروية. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(3)

صحيح: أخرجه البخارى (1589) فى الحج، باب: نزول النبى بمكة. من حديث أبى هريرة.

(4)

صحيح: أخرجه البخارى (1766) فى الحج، باب: المحصب. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(5)

صحيح: أخرجه مسلم (1310) فى الحج، باب: استحباب النزول بالمحصب. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-. ولفظه حصب رسول الله- صلى الله عليه وسلم، والخلفاء بعده.

(6)

صحيح: أخرجه البخارى (1756) فى الحج، باب: طواف الوداع. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

ص: 505

هو طواف الوداع، ومذهب الشافعى أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح:

وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود: هو سنة لا شئ بتركه.

واختلف فى المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن عمر يقول فى أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال فى آخر أمره: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم رخص لهن «1» . رواه الشيخان. وعن عائشة: أن صفية بنت حيى حاضت، فذكر ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال:«أحابستنا هى؟» قالوا: إنها قد أفاضت، قال:«فلا إذن» «2» . ومعنى أحابستنا هى؟ أى أمانعتنا من التوجه من مكة فى الوقت الذى أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه- صلى الله عليه وسلم أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهى باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثانى.

وفى رواية: فحاضت صفية، فأراد النبى- صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت يا رسول الله إنها حائض. قال:«أحابستنا هى؟» «3» الحديث. وهذا مشكل، لأنه- صلى الله عليه وسلم إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول:«أحابستنا هى؟» وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثانى؟

ويجاب عنه: بأنه- صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه فى طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة،

(1) صحيح: أخرجه البخارى (330) فى الحيض، باب: المرأة تحيض بعد الإفاضة، ومسلم (1328) فى الحج، باب: طواف الوداع وسقوطه على الحائض. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.

(2)

صحيح: أخرجه مسلم (1211) فى الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوط الحائض. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(3)

تقدم.

ص: 506

فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى.

وقالت عائشة: يا رسول الله، ينطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبى بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج «1» .

رواه الشيخان. وفى رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها- يعنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» ، فقالت: يا رسول الله، إنى أجد فى نفسى أنى لم أطف بالبيت حين حججت، قال:«فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» ، وذلك ليلة الحصبة. زاد فى رواية: وكان- صلى الله عليه وسلم رجلا سهلا، إذا هويت شيئا تابعها عليه «2» .

وقد كانت عائشة قارنة، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت فى نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرنّ، وترجع هى بعمرة فى ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها.

ثم ارتحل- صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى «3» - بضم الكاف مقصورا- وهى عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان.

واختلف فى المعنى الذى لأجله خالف- صلى الله عليه وسلم بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من فى طريقه، وقيل: الحكمة فى ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة دخل منها: وقيل غير ذلك.

(1) صحيح: أخرجه البخارى (317) فى الحيض، باب: نقض المرأة شعرها عند غسل المحيض، ومسلم وقد تقدم. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(2)

تقدم.

(3)

صحيح: أخرجه أبو داود (1868) فى المناسك، باب: دخول مكة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

ص: 507

وفى صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه- صلى الله عليه وسلم لقى ركبا بالروحاء، فقال:«من القوم؟» فقالوا: المسلمون يا رسول الله، فرفعت امرأة صبيا لها فى محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال:«نعم ولك أجر» . ولما وصل- صلى الله عليه وسلم لذى الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقا، حكاه القاضى إسماعيل فى أحكامه عن محمد ابن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا.

فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» . ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرّس- بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، فكل من المعرس والشجرة التى بات بها- صلى الله عليه وسلم فى ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح البارى وغيره، والله أعلم.

وأما عمره- صلى الله عليه وسلم، فالعمرة فى اللغة: الزيارة. ومذهب الشافعى وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية. وقد اعتمر- صلى الله عليه وسلم أربع عمر، ففى الصحيحين وسنن الترمذى وأبى داود عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة فى ذى القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين «1» ، هذا لفظ رواية الترمذى وقال: حسن صحيح.

وفى رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن فى ذى القعدة إلا التى مع حجته: عمرة الحديبية- أو زمن الحديبية- فى ذى القعدة، وعمرة من العام

(1) صحيح: أخرجه الترمذى (815) فى الحج، باب: ما جاء فى حج النبى. من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

ص: 508

المقبل فى ذى القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين فى ذى القعدة، وعمرة فى حجته «1» .

وعن محرش الكعبى: أنه- صلى الله عليه وسلم خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا، فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد، خرج من بطن سرف، حتى جاء مع الطريق طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس «2» . رواه الترمذى وقال: حديث غريب. وعن ابن عمر قال: اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج «3» ، رواه أبو داود.

وعن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع صوتها بالسواك تستن، قال: فقلت يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم فى رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أى أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم فى رجب، فقالت: يغفر الله لأبى عبد الرحمن، لعمرى ما اعتمر فى رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما قال: لا ولا نعم، سكت «4» .

وفى رواية أبى داود عن عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين فى ذى القعدة، وعمرة فى شوال «5» . وفى رواية له عن مجاهد

(1) صحيح: أخرجه البخارى (1780) فى الحج، باب: كم اعتمر النبى. من حديث أنس- رضى الله عنه-.

(2)

صحيح: أخرجه الترمذى (935) فى الحج، باب: ما جاء فى العمرة من الجعرانة. من حديث محرش الكعبى- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن الترمذى» .

(3)

صحيح: أخرجه أبو داود (1986) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .

(4)

صحيح: أخرجه مسلم (1255) فى الحج، باب: بيان عدد عمر النبى وزمانهن، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.

(5)

أخرجه أبو داود (1991) فى المناسك، باب: العمرة. من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وقال الألبانى: صحيح لكن قوله فى شوال يعنى ابتداء وإلا فهى كانت فى ذى القعدة أيضا.

ص: 509

قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبى- صلى الله عليه وسلم قال: عمرتين، فبلغ عائشة فقالت: لقد علم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى التى قرنها بحجة الوداع.

وقد ذكرت الاختلاف فيما كان- صلى الله عليه وسلم محرما به فى حجة الوداع.

والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك. والمشهور عن عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وحديثها هذا يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه قال:«إنه- صلى الله عليه وسلم كان قارنا» مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا، لأنه لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا لأنه- صلى الله عليه وسلم اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدى.

واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه- صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه- صلى الله عليه وسلم اعتمرها بنفسه. وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة فى حجته- صلى الله عليه وسلم من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف.

قال بعض العلماء المحققين: وفى عدهم عمرة الحديبية التى صدّ عنها- صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صدّ عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأن النبى- صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التى صدّ عنها، إذ لو كان كذلك لكانت عمرة واحدة. وأما حديث أبى داود عن عائشة: أنه اعتمر فى شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج فى شوال، ولكن إنما أحرم فى ذى القعدة.

وأنكر ابن القيم أن يكون- صلى الله عليه وسلم اعتمر فى رمضان، نعم قد أخرج الدار قطنى من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى عمرة رمضان فأفطر

ص: 510