الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(68) بَابُ إِمَامَةِ مَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَقَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ
597 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، ثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عن مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، ثنَا عُبَيْدُ اللَّه بْنُ مِقْسَمٍ، عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ مَعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ". [حم 2/ 303، خزيمة 1633، حب 2404]
===
والصحيح جواب ظاهر الرواية لما روي "أن حذيفة بن اليمان قام بالمدائن ليصلي بالناس على دكان"، الحديث، ولا شك أن المكان الذي يمكن الجذب عنه ما دون القامة، وكذا الدكان المذكور يقع على المتعارف وهو ما دون القامة، انتهى.
وفي "الدر المختار"(1): وانفراد الإِمام على الدكان للنهي، وقدر الارتفاع بذراع، ولا بأس بما دونه، وقيل: ما يقع به الامتياز وهو الأوجه، ذكره الكمال وغيره.
(68)
(بَابُ (2) إمَامَة مَنْ صَلَّى بِقَومٍ وَقَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلاة)
أي: يجوز ذلك أو لا؟
597 -
(حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، ثنا يحيى بن سعيد) القطان، (عن محمد بن عجلان، ثنا عبيد الله بن مقسم) القرشي، مولى ابن أبي نمر، المدني، ثقة مشهور، (عن جابر بن عبد الله أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء) أي صلاة العشاء، كذا في معظم روايات البخاري، وفي رواية: المغرب، فيجمع بتعدد القصة، أو بأن المراد من المغرب العشاء مجازاً، وإلَّا فما في "الصحيح" أصح وأرجح، (ثم يأتي قومه (3) فيصلي بهم تلك الصلاة) أي يؤمهم في تلك الصلاة.
(1)(2/ 500).
(2)
بسط عليه الكلام صاحب "فيض الباري" أشد البسط (2/ 223 - 231). (ش).
(3)
أي في بني سلمة كما عند البخاري، قاله ابن رسلان. (ش).
598 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عن عَمْرِو بْنِ دِينارٍ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّه يَقُولُ:"إِنَّ مَعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ يَرْجِعُ فيَؤمُّ قَوْمَهُ". [خ 700، م 465، حم 3/ 369]
===
598 -
(حدثنا مسدد، ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار) المكي، أبو محمد الأثرم، الجمحي مولاهم، ثقة ثبت، مات سنة 126 هـ، (سمع جابر بن عبد الله يقول: إن معاذًا (1) كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم) أي العشاء (ثم يرجع فيؤم قومه) أي في تلك الصلاة.
قال العيني (2): استدل الشافعي بهذا الحديث على صحة اقتداء المفترض بالمتنفل بناء على أن معاذًا كان ينوي بالأولى الفرض، وبالثانية النفل، وبه قال أحمد في رواية، واختاره ابن المنذر، وهو قول عطاء وطاوس وسليمان بن حرب وداود، وقال أصحابنا: لا يصلي المفترض خلف المتنفل (3)، وبه قال مالك في رواية، وأحمد في رواية أبي الحارث عنه، وقال ابن قدامة اختار هذه الرواية أكثر أصحابنا، وهو قول الزهري والحسن البصري وسعيد بن المسيب والنخعي وأبي قلابة ويحيى بن سعيد الأنصاري، وقال الطحاوي: وبه قال مجاهد وطاوس.
(1) قال ابن العربي (3/ 65): لا خلاف في صحة هذا الحديث، واختلفوا في توجيهه على خمسة أقوال: الأول: المفترض خلف المتنفل، وبه قال الشافعي، وأباه مالك وأبو حنيفة، وليس في حديثه بيان النية، وقال جابر: هي له تطوع ولهم فريضة، إخبار بالمغيب، الثاني: من المحتمل أن يصلي معاذ معه عليه الصلاة والسلام صلاة النهار، ومعهم صلاة الليل إذ كانوا أصحاب أعمال لا يأتون الصلاة في النهار، فأخبر الراوي حال معاذ في الوقتين، الثالث: حكايته حال لا يعلم كيفيتها فلا عمل عليها، الرابع: يعارضه "إنما جعل الإِمام ليؤتم به"، ولا يحل مخالفته في الركوع والسجود، فكيف يحل مخالفة النية
…
إلخ؟ ، الخاص: يعارض قوله عليه الصلاة والسلام: "الإِمام ضامن
…
إلخ"، السادس: يعارض قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين" تقدم قريبًا (ش).
(2)
"عمدة القاري"(4/ 333).
(3)
قال الشعراني: قول أبي حنيفة ومالك وأحمد: لا يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل، كما لا يجوز أداء فرض خلف من يصلي فرضًا آخر، وقال الشافعي: يجوز. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(1): وأما احتجاج أصحابنا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلَّا المكتوبة" فليس بجيد، لأن حاصله النهي عن التلبس بصلاة غير التي أقيمت من غير تعرض لنية فرض أو نفل، ولو تعينت نية الفرض لامتنع على معاذ أن يصلي الثانية بقومه، لأنها حينئذ ليست فرضًا له.
وكذلك قول بعض أصحابنا: لا يظن بمعاذ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد، فإنه وإن كان فيه نوع ترجيح، لكن للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع.
وكذلك قول الخطابي: إن العشاء في قوله: "كان يصلي مع النبي-صلي الله عليه وسلم- العشاء" حقيقة في المفروضة، فلا يقال: كان ينوي بها التطوع، لأن لمخالفه أن يقول: هذا لا ينافي أن ينوي بها التنفل.
وأما قول ابن حزم: إن المخالفين لا يجيزون لمن عليه فرض إذا أقيم أن يصليه متطوعًا، فكيف ينسبون إلى معاذ ما لا يجوز عندهم؟ فهذا إن كان كما قال نقض قوي.
وأسلم الأجوبة التمسك بالزيادة المتقدمة، وهو ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب زاد:"وهي له تطوع ولهم فريضة"، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفى تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي: إنه لا يصح مردود.
واعترض عليه الطحاوي (2) بأن ابن عيينة قد روى هذا الحديث عن عمرو
(1)"فتح الباري"(2/ 196).
(2)
"شرح معاني الآثار"(1/ 409).
ابن دينار، كما رواه ابن جريج، وجاء به تامًا، وساقه أحسن من سياق ابن جريج غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج:"هي له تطوع ولهم فريضة"، فيجوز أن يكون ذلك من قول ابن جريج (1)، ويجوز أن يكون من قول عمرو بن دينار، ويجوز أن يكون من قول جابر.
فمن أي هؤلاء الثلاثة كان القول، فليس فيه دليل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا، لأنهم لم يحكوا ذلك عن معاذ، إنما قالوا قولًا على أنه عندهم كذلك، وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك.
ولو ثبت ذلك أيضًا عن معاذ، لم يكن في ذلك أنه كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أخبره به لأقره عليه أو غَيَّره.
وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على خلاف ذلك، حدثنا فهد قال: ثنا يحيى بن صالح الوحاظي ح، وثنا علي بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب قالا: ثنا سليمان بن بلال، ثنا عمرو بن يحيى المازني، عن معاذ بن رفاعة الزرقي أن رجلًا من بني سلمة يقال له: سليم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنا نظل في أعمالنا، فنأتي حين نمسي، فنصلي فيأتي معاذ بن جبل، فينادي بالصلاة، فنأتيه فيطول علينا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك".
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لمعاذ يدل على أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل أحد الأمرين: إما الصلاة معه أو بقومه، وأنّه لم يكن يجمعهما، لأنه قال:"إما أن تصلي معي"[أي] ولا تصل بقومك، "وإما أن تخفف بقومك"[أي] ولا تصل معي.
فلما لم يكن في الآثار الأول من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، وكان في هذا
(1) وجزم في "فبض الباري"(2/ 226) بأنه مدرج عن ابن جريج، وفي "العرف الشذي"(1/ 257) أنها ليست في رواية الشافعي أيضًا. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
الأثر ما ذكرنا، ثبت بهذا الأثر أنه لم يكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لمعاذ شيء متقدم، ولا علمنا أنه كان في ذلك أيضًا منه شيء متأخر، فيجب به الحجة علينا.
ولو كان في ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر، كما قال أهل المقالة الأولى، لاحتمل أن يكون ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت ما كانت الفريضة تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل في أول الإِسلام حتى نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب صلاة الخوف.
ففعل معاذ الذي ذكرنا يحتمل أن يكون قبل النهي عن ذلك، ثم كان النهي فنسخه، ويحتمل أن يكون كان بعد ذلك، فليس لأحد أن يجعله في أحد الوقتين إلَّا كان لمخالفه أن يجعله في الوقت الآخر، انتهى ملخصًا.
قلت: وحاصل كلام الطحاوي منوع على الاستدلال بهذا الحديث وبالزيادة التي زادها ابن جريج في روايته، وحاصل المنع الأول: أن الزيادة التي استدل بها غير حقيق بالاستدلال، فإن ابن عيينة روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار تامًا، وسياقه أحسن من سياق ابن جريج، غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج:"هي له تطوع، ولهم فريضة"، فلما جاء به تامًا وساقه أحسن من سياق ابن جريج، فغير ممكن أن ابن عيينة يترك هذه الزيادة التي عليها مدار الاستدلال، وهذا يقتضي ريبة في نقل ابن جريج توجب التوقف عنها.
وأجاب الحافظ ابن حجر في "الفتح"(1) عن هذا بأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة، وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ ولا أكثر عددًا، فلا معنى للتوقف في صحتها.
(1)"فتح الباري"(2/ 196).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال العيني في جوابه (1): هذه مكابرة لتمشية كلامه في حق الطحاوي، فإن هذه الزيادة قد تكلموا فيها، فزعم أبو البركات ابن تيمية: أن الإِمام أحمد ضعف هذه الزيادة، وقال: أخشى أن لا تكون محفوظة، لأن ابن جريج (2) يزيد فيها كلامًا لا يقوله أحد.
وقال ابن قدامة في "المغني": وروى الحديث منصور بن زاذان وشعبة فلم يقولا ما قال ابن جريج (3)، وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح، ولو صحت لكانت ظنًا من جابر، وبنحوه ذكره ابن العربي في "العارضة"(4).
فهل ذكر هذا عند قول أحمد، وهو أجل من ابن جريج وابن عيينة: هذه الزيادة ضعيفة، أو عند كلام ابن الجوزي: إن هذه الزيادة لا تصح، أو عند كلام ابن العربي على ما ذكرنا؟
وهذا الرافعي الذي هو من أكابر أئمتهم، وممن يعتمد عليهم، قال في شرح هذا الحديث: هذا غير محمول على ما قالوا، لأن الفرض لا يقطع بعد الشروع فيه، وكون ابن جريج أسن من ابن عيينة وأقدم أخذًا عن عمرو بن دينار منه بعد التسليم لا يستلزم نفي ما قاله الطحاوي، انتهى.
فثبت بهذا أن هذه الزيادة غير ثابتة ولا صحيحة، بل هي زيادة شاذة، لأن هذا الحديث رواه غير واحد من الحفاظ من أصحاب عمرو بن دينار عنه بدون هذه الزيادة، كشعبة عند البخاري في "صحيحه"، وسليم بن حيان في "الأدب"، وابن عيينة ومنصور وأيوب عند مسلم، وغيرهم عند غيرهما، وكذلك أصحاب جابر من الثقات الأثبات كلهم لم يذكروا هذه الزيادة مع توفر دواعيهم على الأخذ، فظهر كالشمس أن هذه الزيادة شاذة لا يعتبر بها.
(1)"عمدة القاري"(4/ 331).
(2)
وما في "عمدة القاري" بدله ابن عيينة، فهو سبق قلم.
(3)
وما في "عمدة القاري" بدله ابن عيينة، فهو سبق قلم.
(4)
انظر: "عارضة الأحوذي"(3/ 65).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وحاصل [المنع] الثاني: أن هذه الزيادة ليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من كلام معاذ، وهذا ظاهر جدًا، فيحتمل أن يكون من قول ابن جريج أو من قول ابن دينار أو من قول جابر، فمن أي هؤلاء الثلاثة كان القول فليس فيه دليل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا، لأنهم لم يحكوا ذلك عن معاذ إنما قالوا قولًا على أنه عندهم كذلك، وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك.
فأجاب عنه الحافظ ابن حجر: وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة، فجوابه: أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضمومًا إلى الحديث فهو منه لا سيما إذا روي من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعًا لعمرو بن دينار عنه.
ورده العيني بقوله: قلت: لا دليل على كونها غير مدرجة لجواز أن تكون من ابن جريج، وجواز أن تكون من عمرو بن دينار، ويجوز أن تكون من قول جابر، فمن أي هؤلاء الثلاثة كان هذا القول فليس فيه دليل على حقيقة ما كان يفعل معاذ، وقول الحافظ: فمهما كان مضمومًا إلى الحديث فهو منه، غير صحيح، لأنه يوجب أن لا يوجد مدرج أصلًا، انتهى.
قلت: وأما قول الحافظ: فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعًا لعمرو بن دينار عنه، رده في "آثار السنن" (1) بقوله: قلت: هذا الوجه الآخر لا يصلح أن يذكر في المتابعة، لأن الشافعي أخرجها عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، عن ابن عجلان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر.
وإبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي متروك، قال الذهبي في "الميزان": قال يحيى بن معين: سمعت القطان يقول: إبراهيم بن أبي يحيى كذاب،
(1)(1/ 135).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وروى أبو طالب عن أحمد بن حنبل قال: تركوا حديثه، وقال البخاري: تركه ابن المبارك والناس، وروى عباس عن ابن معين: كذاب رافضي، وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة سمعت عليًا يقول: إبراهيم بن أبي يحيى كذاب، وكان يقول بالقدر، وأخوه أنيس ثقة، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك، انتهى. قلت: فحاصل الكلام أن هذه الزيادة قد تفرد بها ابن جريج، ولا يتابع عليها بمتابع صحيح، انتهى.
وحاصل المنع الثالث: لو ثبت أن هذه الزيادة نقله جابر عن معاذ وسمعه منه، لم يكن في ذلك دليل أنه كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أن رسول الله لو أخبره به لأقره عليه أو غَيَّره، فهذا الفعل لو ثبت أن معاذًا فعله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن في ذلك دليل على أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأجاب عنه الحافظ ابن حجر بقوله: فجوابه: أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبيًا، وأربعون بدريًا، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبو الدرداء وأنس وغيرهم، انتهى.
فرده العيني بقوله: قلت: يحتمل أن يكون عدم مخالفة غيره له بناء على ظنهم أن فعله كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون من هذا الوجه أيضًا عدم امتناع غيره من ذلك.
وأقول: يمكن أن يجاب بأن سكوت الصحابة وعدم مخالفتهم ليس فيه دليل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذه القصة غضب على معاذ وقال له:"لا تكن فتانًا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك"، فلما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكاره على معاذ فسكوت الصحابة لا يكون حجة، وسيأتي بحث هذا الحديث.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وحاصل المنع الرابع: لو سلمنا أن الذي كان يفعل معاذ من الصلاة مرتين كان بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإذنه، فيمكن أن يكون ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت كانت الفريضة تصلَّى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل في أول الإِسلام حتى نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا ذلك بأسانيده في باب صلاة الخوف، ففعل معاذ الذي ذكرنا يحتمل أن يكون قبل النهي عن ذلك، ثم كان النهي فنسخه، ويحتمل أن يكون كان بعد ذلك، فليس لأحد أن يجعله في أحد الوقتين، إلَّا كان لمخالفه أن يجعله في الوقت الآخر، انتهى.
ونقل الحافظ ابن حجر الجواب عن هذا المنع بقوله: فقد تعقبه ابن دقيق العيد بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ، وبأنه يلزمه إقامة الدليل على ما ادعاه من إعادة الفريضة.
ثم اعترض الحافظ على الجواب الثاني بقوله: وكأنه لم يقف على كتابه، فإنه قد ساق فيه دليل ذلك، وهو حديث ابن عمر رفعه:"لا تصلوا الصلاة في اليوم مرتين"، ومن وجه آخر مرسل:"إن أهل العالية كانوا يصلون في بيوتهم، ثم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغه ذلك فنهاهم".
ثم قال الحافظ: ففي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة، وبذلك جزم البيهقي جمعًا بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ، لم يكن بعيدًا، ولا يقال: القصة قديمة، لأن صاحبها (1) استشهد بأحد، لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة فلا مانع في أن يكون المنع في الأولى، والإذن في الثالثة مثلًا، انتهى.
فرد العلامة العيني الجواب الأول الذي أجاب به ابن دقيق العيد بقوله:
(1) يعني الذي شكا معاذًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو سليم، كما في "العرف الشذي"(ص 255) وسيأتي الاختلاف فيه في أبواب القراءة، "باب في تخفيف الصلاة". (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قلت: يستدل على ذلك بوجه حسن، وذلك لأن إسلام معاذ متقدم، وقد صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم بعد سنين من الهجرة صلاة الخوف غير مرة من وجه وقع فيه مخالفة ظاهرة بالأفعال المناقضة للصلاة، فيقال: لو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لأمكن إيقاع الصلاة مرتين على وجه لا تقع فيه المناقضات والمفسدات في غير هذه الحالة، وحيث صليت على هذا الوجه مع إمكان دفع المفسدات على تقدير جواز اقتداء المفترض بالمتنفل دل على أنه لا يجوز ذلك، انتهى.
فقال الحافظ في جوابه بقوله: وأما تقوية بعضهم لكونه منسوخًا بأن صلاة الخوف وقعت مرارًا على صفة فيها مخالفة ظاهرة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لَصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل دل ذلك على المنع، فجوابه أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى بهم صلاة الخوف مرتين، كما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة، ولمسلم عن جابر نحوه، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز، انتهى.
وأجاب الطحاوي (1) عن رواية أبي بكرة وجابر بن عبد الله بعد ما ساقهما بقوله: ولا حجة لهم عندنا في هذه الآثار، لأنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلاها كذلك، لأنه لم يكن في سفر يقصر في مثله الصلاة، فصلَّى بكل طائفة ركعتين، ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين، وهكذا نقول نحن إذا حضر العدو في مصر، فأراد أهل ذلك العصر أن يصلوا صلاة الخوف فعلوا هكذا، يعني بعد أن تكون تلك الصلاة ظهرًا أو عصرًا أو عشاءً، قالوا: فإن القضاء ما ذكر، قيل لهم: قد يجوز أن يكونوا قد قضوا ولم ينقل ذلك في الخبر، وقد يجيء في الأخبار مثل هذا كثيرًا وإن كانوا لم يقضوا، فإن ذلك عندنا لا حجة لهم فيه أيضًا، لأنه يجوز أن يكون ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم والفريضة تصلَّى حينئذ مرتين، فيكون كل واحد منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل في أول الإِسلام ثم نسخ، انتهى.
(1) شرح معاني الآثار" (1/ 315).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قلت: وكذلك نقل القاري (1) عن صاحب "المصابيح" الشافعي: قال في "شرح السنَّة": يحتمل أن يكون هذا في حال كون النبي صلى الله عليه وسلم مقيمًا، والمقيم يصلي صلاة الخوف في العصر كذلك، إلَّا أنه لم يذكر في الحديث أن القوم قضوا، ويجوز أن يكونوا قضوا، ومثل هذا جائز في الأحاديث، ويحتمل أن يكون ذلك قبل نزول الآية بالقصر، فهذا بحمد الله شافعي منصف غاية الإنصاف، ومجتهد مجتمع جميع الأوصاف، حمل الحديث على ما اخترناه فيه، وصاحب البيت أدرى بما فيه، انتهى.
قلت: وهذا الجواب الذي أجاب به الطحاوي أولًا وصاحب "المصابيح" يتمشى على الروايات التي ساقها الطحاوي عن أبي بكرة وجابر بأنه ليس فيها لفظ: "ثم سلم"، وكذلك ما أخرجه الشيخان من رواية جابر فإنهما لم يذكرا فيه لفظ:"ثم سلم"، وكذلك ما أخرجه النسائي من طريق يحيى بن سعيد، ثنا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، ومن طريق يونس، عن الحسن حديث جابر، فإن هذه الروايات كلها ليس فيها ذكر السلام على الركعتين الأوليين، وكذلك ما روى عن جابر يزيدُ الفقير وعطاء وأبو الزبير فإنهم لم يذكروا السلام ولا الركعتين.
وأما على الرواية التي أخرجها أبو داود من طريق أشعث عن الحسن عن أبي بكرة، وما رواه النسائي من هذا الطريق عن أبي بكرة، وكذلك ما أخرجه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن جابر، فلا يتمشى الجواب، فإنها ذكر فيها:"ثم سلم على الركعتين الأوليين"، فلا يمكن أن يحمل على أنهم كانوا مقيمين، وقد صلَّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين وقضوا ركعتين ركعتين، لأن السلام مانع عن ذلك.
فعلى هذه الروايات التي ذكر فيها السلام لا يجاب إلَّا ما أجاب به
(1)"مرقاة المفاتيح"(3/ 471).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
الطحاوي ثانيًا بقوله: وإن كانوا لم يقضوا، فإن ذلك عندنا لا حجة لهم فيه أيضًا، لأنه يجوز أن يكون ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفريضة تصلَّى حينئذ مرتين، فيكون كل واحدة منهما فريضة، وقد كان ذلك يفعل في أول الإِسلام ثم نسخ، أو يقال: إن ذكر السلام اختلفت الرواية فيه، ولم يذكر أكثر الرواة، فوقع الشك فيه، فلا يفيد ثبوت الحكم، والله أعلم.
قلت: وهذا تبرع من العلامة العيني، فليس على المانع أن يستدل على منعه، فإن الاحتمال يكفيه، وقول ابن دقيق العيد: بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، عجيب من مثله، فإن جواز الصلاة في اليوم مرتين ونسخه ثابت ليس فيه احتمال أصلًا، نعم وقوع فعل معاذ إما أن يكون قبل النسخ، ويحتمل أن يكون بعده، فلما احتمل أن يكون وقوعه قبل النسخ فسد الاستدلال به حتى يثبت أنه وقع بعد النسخ، ودون إثباته خرط القتاد.
ثم رد العلامة العيني ما أجاب به الحافظ بقوله: وفي الاستدلال بذلك على تقدير صحته نظر، بقوله: قلت: إن كان الرد بالاحتمال، ونحن أيضًا نقول:[يحتمل] أن يكون النهي في ذلك لأجل أن أحدًا يقتدي به في واحدة من الصلاتين اللتين صلاهما على أنهما فرض، وفي نفس الأمر فرضه إحداهما من غير تعيين، فيكون الاقتداء به في صلاة مجهولة، فلا يصح، انتهى.
ثم استدل الطحاوي (1) على أن فعل معاذ هذا لم يكن بأمر رسول الله ولا بعلمه، فإنه روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على خلاف ذلك، حدثنا فهد، ثنا يحيى بن صالح الوحاظي، ح وثنا علي بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، قالا: ثنا سليمان بن بلال، ثنا عمرو بن يحيى المازني، عن معاذ بن رفاعة الزرقي أن رجلًا من بني سلمة يقال له: سليم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نظل في أعمالنا، فنأتي حين نمسي، فنصلي فيأتي
(1)"شرح معاني الآثار"(1/ 409).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
معاذ بن جبل، فينادي بالصلاة، فنأتيه فيطول علينا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"يا معاذ لا تكن فتانًا إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن (1) قومك".
فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لمعاذ يدل على أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل أحد الأمرين: إما الصلاة معه أو بقومه، وأنه لم يكن يجمعهما، لأنه قال:"إما أن تصلي معي" أي ولا تصل بقومك، "وإما أن تخفف قومك" أي ولا تصل معي.
فلما لم يكن في الآثار الأول من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، وكان في هذا الأثر ما ذكرنا، ثبت بهذا الأثر أنه لم يكن من رسول الله في ذلك لمعاذ شيء متقدم، ولا علمنا أنه كان في ذلك أيضًا منه شيء متأخر، فيجب به الحجة علينا، انتهى.
فأجاب عنه الحافظ ابن حجر بقوله: وأما استدلال الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم نهى معاذًا عن ذلك بقوله في حديث سليم بن الحارث: "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف بقومك"، ودعواه أن معناه "إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي" ففيه نظر، لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير إما أن تصلي معي فقط، إذا لم تخفف، وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي، وهو أولى من تقديره، لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف، لأنه هو المسؤول عنه المتنازع فيه، انتهى.
فرده العيني بقوله: قلت: الذي قدره المخالف باطل، لأن لفظ الحديث:"لا تكن فتانًا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف عن قومك"، فهذا يدل على أنه يفعل أحد الأمرين: إما الصلاة معه أو بقومه، ولا يجمعهما، فدل على أن المراد عدم الجمع والمنع، وكل أمرين بينهما منع الجمع كان بين نقيضيهما منع الخلو، كما قد بين هكذا في موضعه.
(1) في نسخة: "على".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وأما الحنفية ومن وافقهم في عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل استدلوا عليه أولًا: بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى بالناس صلاة الخوف، فجعل الناس طائفتين، وصلَّى بكل طائفة شطر الصلاة لينال فريق فضيلة الصلاة، ولو جاز اقتداء المفترض بالمتنفل لأتم الصلاة بالطائفة الأولى، ثم نوى النفل، وصلى بالطائفة الثانية، لينال كل طائفة فضيلة الصلاة خلفه من غير الحاجة إلى المشي وأفعال كثيرة ليست من الصلاة.
وثانيًا: بما أخرجه الإِمام أحمد بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "الإِمام ضامن"، بمعنى أنه تضمن صلاته صلاة المقتدي، والمفترض أقوى حالًا من المتنفل، والشئ لا يتضمن ما هو فوقه.
وثالثًا: بما أخرجه الطحاوي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "يا معاذ لا تكن فتانًا، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك"، والذي صح عند أئمتنا وترجح أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفلًا، وبقومه فرضًا، لقوله حين شكوا تطويله بهم:"يا معاذ إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك"، فشرع له أحد الأمرين: الصلاة معه ولا يصلي بقومه، أو الصلاة بقومه على وجه التخفيف ولا يصلي معه، هذا حقيقة اللفظ، فأفاد منعه من الإمامة إذا صلَّى معه عليه السلام، ولا تمتنع إمامته مطلقًا بالاتفاق، فعلم أنه منعه من الفرض.
ورابعًا: بما أخرجه مسلم في "صحيحه" في "باب ائتمام المأموم بالإمام": حدثنا قتيبة بن سعيد قال: نا المغيرة يعني الحِزامي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه"، الحديث.
قال النووي (1): قوله عليه السلام: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به"، فمعناه
(1)"شرح صحيح مسلم"(2/ 370).