الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فاعترف بعجز البشر عن معارضته، وقصورهم عن مماثلته، وأصرّ مع ذلك على العناد، وأضلّه الله سبيل الرّشاد، وكان يقول لقريش إذا قالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّه كاهن، أو شاعر، أو ساحر: والله، ما أنتم بعاقلين من هذا شيئا. إلّا وأنا أعلم أنّه لباطل، ولقد سمعت قولا والله ما سمعت مثله، ولا يقوله بشر.
[إخبار القرآن عن القرون السّالفة]
ومن وجوه إعجازه ما أنبأ به من أخبار القرون السّالفة، والأمم الخالية، ممّا كان لا يعلم منه/ القصّة الواحدة إلّا الفذّ من أحبار أهل الكتاب، وقد علموا أنّه صلى الله عليه وسلم أمّيّ، لا يقرأ ولا يكتب، حتّى كان علماء أهل الكتاب يسألونه عن كثير ممّا يختلفون فيه، فيورده لهم على وجهه، ويأتي به على نصّه، فيعترف العالم منهم بذلك له بصدقه.
قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة النّمل 27/ 76] .
[إعجاز النّظم والأسلوب]
ويقطع الموافق والمخالف أنّه لم ينل ذلك بتعليم، وإنّما هو بإعلام العزيز العليم، حتّى لم يقدر أحد من أحبار اليهود مع شدة عداوتهم له على تكذيبه فيما سألوه عنه من قصّة يوسف وإخوته، وذي القرنين، وموسى والخضر، ولقمان وابنه، وأصحاب الكهف، مع أنّ أقرب قصّة كانت بينه وبين عيسى عليه السلام؛ قصّة أصحاب الكهف، وكان أهل الكتاب فيها، كما قال الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، فقال الله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وقال:
وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [سورة الكهف 18/ 22] .
فاعترفوا له بالصّدق، وأقرّوا له بالحقّ، فإذا كان هذا شأنهم في أقرب القصص إلى عصرهم، فما ظنّك بقصّة آدم وإبليس، وابني آدم، وإدريس، ونوح وأصحاب السّفينة، وعاد وثمود، وإبراهيم وإسماعيل، وإسحاق ويعقوب. وغيرهم ممّن لا يعلمهم إلّا الله؟
وكانوا إذا نازعوه في شيء ممّا أخبرهم به- كحكم الرّجم، وما حرّم إسرائيل على نفسه- احتجّ عليهم بأنّهم يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل، وقال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة آل عمران 3/ 93- 94] ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة 2/ 89] .
وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى-[من البسيط]«1» :
دعني ووصفي آيات له ظهرت
…
ظهور نار القرى ليلا على علم «2»
فالدّرّ يزداد حسنا وهو منتظم
…
وليس ينقص قدرا غير منتظم «3»
فما تطاول آمال المديح إلى
…
ما فيه من كرم الأخلاق والشّيم «4»
(1) البردة، ص 26- 29. في شرف القرآن ومدحه.
(2)
آيات: معجزات. نار القرى: النّار الّتي كانت توقد للضيافة. العلم: الجبل.
(3)
منتظم: مرتّب ومنسّق في العقد.
(4)
الشّيم- جمع شيمة-: الغريزة والطبيعة والجبلّة، وهي الّتي خلق الإنسان عليها.
آيات حقّ من الرّحمن محدثة
…
قديمة صفة الموصوف بالقدم «1»
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا
…
عن المعاد وعن عاد وعن إرم «2»
دامت لدينا ففاقت كلّ معجزة
…
من النّبيّين إذ جاءت ولم تدم «3»
محكّمات فما تبقين من شبه
…
لذي شقاق وما تبغين من حكم «4»
ما حوربت قطّ إلّا عاد من حرب
…
أعدى الأعادي إليها ملقي السّلم
ردّت بلاغتها دعوى معارضها
…
ردّ الغيور يد الجاني عن الحرم «5»
لها معان كموج البحر في مدد
…
وفوق جوهره في الحسن والقيم
(1) محدثة: حديثة النّزول عليه صلى الله عليه وسلم. قديمة: قديمة الوجود، بقدم الله تعالى، لأنّ الصّفة تتبع الموصوف.
(2)
عاد وإرم: من الأقوام الّتي أهلكها الله تعالى. وهم قوم هود عليه الصلاة والسلام.
(3)
تتميّز معجزة القرآن عن كلّ المعجزات الّتي جاءت بها الرّسل السّابقون ببقائها إلى يوم القيامة، بخلاف معجزاتهم الّتي لم تدم.
(4)
محكّمات: متقنات وبيّنات ليس فيهنّ شكّ. شبه: لم يبق لمن تتبّعها مجال للشّبهة في توجيهاتها وأحكامها.
(5)
إذ تحدّى الله فصحاء العرب وبلغاءهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو بمثل سورة منه. أو بمثل آية.
فما تعدّ ولا تحصى عجائبها
…
ولا تسام على الإكثار بالسّأم «1»
قرّت بها عين قاريها فقلت له
…
لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم
إن تتلها خيفة من حرّ نار لظى
…
أطفأت حرّ لظى من وردها الشّبم «2»
كأنّها الحوض تبيضّ الوجوه به
…
من العصاة وقد جاؤوه كالحمم
وكالصّراط وكالميزان معدلة
…
فالقسط من غيرها في النّاس لم يقم
لا تعجبن لحسود راح ينكرها
…
تجاهلا وهو عين الحاذق الفهم «3»
قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد
…
وينكر الفم طعم الماء من سقم «4»
(1) تسام بالسّأم: تصاب بالملل لكثرة قراءتها.
(2)
نار لظى: نار جهنّم. الشّبم: البارد.
(3)
الحاذق: العارف الخبير. وهو عتبة بن ربيعة، الّذي جادل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسمعه من آيات القرآن، فعاد إلى قومه وقال: والله يا قوم، ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة؛ إنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أدناه لمغدق، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وما هو بقول بشر.
(4)
الرّمد: مرض يصيب العين يتأذّى من الضّوء. السّقم: المرض.