الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأسرع السّير حتّى أجاز الوادي «1» .
[مصالحة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل أيلة وجرباء وأذرح]
ولمّا انتهى صلى الله عليه وسلم إلى (تبوك) ، وهي أدنى بلاد الرّوم، أقام بها بضع عشرة ليلة. وصالح جملة من أهل الناحية على الجزية، ثمّ رجع إلى (المدينة) ، ولم يلق عدوّا.
[اعتذار المنافقين عن تخلّفهم]
فلمّا قدم (المدينة) ، جاء المنافقون يعتذرون إليه عن تخلّفهم عنه، ويحلفون له، فقبل منهم معذرتهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى فيهم: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ الآيات، إلى قوله: فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [سورة التّوبة 9/ 94- 96] .
ونزلت فيهم سورة براءة، وسمّاها ابن عبّاس رضي الله عنهما الفاضحة- والعياذ بالله تعالى- وقال: لم يزل ينزل فيهم:
وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ حتّى ظنّوا أنّها لم تبق أحدا منهم إلّا ذكرته.
[أمر كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع]
أمّا الثّلاثة الّذين خلّفوا، وهم: كعب بن مالك الخزرجيّ، وهلال بن أميّة الأوسيّ، ومرارة/ بن الرّبيع، فإنّهم لم يتخلّفوا لنفاق ولا لعذر، بل كسلا مع استطاعتهم، كمن ترك الصّلاة كسلا، فاستحقّوا العقاب، فعوقبوا، ثمّ تاب الله عليهم.
وكان من خبرهم ما ذكره البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلّا في غزوة (تبوك) ، غير أنّي لم أشهد (بدرا) ، ولم
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (4157) . ومسلم برقم (2980/ 39) . عن ابن عمر رضي الله عنه.
يعاتب [الله] أحدا تخلّف عنها، ولم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة، فتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهّز بعده بيوم أو بيومين، فلم يزل يتباطأ بي الأمر حتّى تباعد الغزو، فكنت إذا خرجت في النّاس أحزنني أنّي لا أجد إلّا رجلا مغموصا عليه بالنّفاق- أي: معيّرا به- أو رجلا ممّن عذر الله من الضّعفاء، فلمّا بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل راجعا طفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ ثمّ زاح عنّي الكذب، وعرفت أنّي لا أخرج عنه بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.
فلمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فسلّمت عليه فتبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال:«ما خلّفك؟» ، فقلت: والله لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا «1» ، ولكنّي والله لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ أن يسخطك الله عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، فقال صلى الله عليه وسلم:«أمّا هذا فقد صدق، فقم حتّى يقضي الله فيك» ، فقمت، فلامني رجال من بني سلمة- أي:
بكسر اللّام- أن لا أكون اعتذرت كما اعتذر إليه المخلّفون، فقلت: هل لقي معي هذا أحد؟، قالوا: نعم؛ مرارة/ بن الرّبيع العمريّ، وهلال بن أميّة الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين،
(1) مقابلة الحجّة بالحجّة.
قد شهدا (بدرا) فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيّها الثّلاثة خاصّة «1» ، فاجتنبنا النّاس، وتغيّروا لنا، حتّى تنكّرت الأرض، فما هي بالأرض الّتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فلمّا صلّيت صلاة الفجر، وأنا على الحال الّتي ذكرها الله تعالى «2» ، وقد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، وضاقت عليّ نفسي، سمعت وأنا جالس على ظهر بيتي صارخا، أوفى على (سلع)«3» ، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت لله ساجدا، وقد آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم النّاس بتوبة الله علينا، فذهبوا يبشّروننا، فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته نزعت له ثوبيّ، فكسوته إيّاهما ببشراه. وو الله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني النّاس فوجا فوجا، فلمّا دخلت المسجد وسلّمت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لي- ووجهه يبرق من السّرور-:«أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» .
وأنزل الله على رسوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ
(1) المعنى: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثّلاثة مخصوصين من بين النّاس.
(2)
وهي قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [سورة التوبة 9/ 118] .
(3)
سلع: جبل معروف في المدينة.