الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبة في الحثّ على الجهاد في سبيل الله
الحمد لله الّذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، الّذي له ملك السّماوات والأرض، ولم يتّخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له في ذاته وصفاته وأفعاله، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا، تسبح له السّماوات السّبع والأرض، ومن فيهنّ، وإن من شيء إلّا يسبّح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، إنّه كان حليما غفورا.
وأشهد أنّ محمّدا/ عبده ورسوله، الّذي أرسله شاهدا ومبشّرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد، وعلى آل محمّد، بأفضل الصّلوات كلّها، وسلّم تسليما كثيرا، وعلى آله الّذين أذهب الله عنهم الرّجس، وطهّرهم تطهيرا.
وعلى أصحابه وأتباعه الّذين بشّرهم بأنّ لهم من الله فضلا كبيرا.
أمّا بعد: فإنّ الجهاد في سبيل الله هو الكنز الّذي وفّر الله منه لمن أحبّه الأقسام، والعزّ الّذي أظهر الله به دين الإسلام.
إخواني: فجاهدوا في سبيل الله فقد دلّكم الله به على المتجر الرّابح، فهل أنتم سامعون؟ وساومكم في شراء أنفسكم الّتي هي ملكه فهل أنتم لها بائعون؟
فقال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الصّفّ 61/ 10- 11] إلى آخر السّورة.
وقال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة التّوبة 9/ 111- 112] .
إخواني: يا لها صفقة خطيرة في بيع هذه الأنفس الحقيرة، المشتري فيها ربّ العالمين، والواسطة فيها سيّد المرسلين، والثّمن: جنّة عرضها السّماوات والأرض أعدّت للمتّقين.
فأوجبوا- رحمكم الله- صفقة هذا البيع الرّابح، بالثّمن الجزيل الرّاجح، فلمثل/ هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فالجهاد الجهاد أيّها المؤمنون، والجنّة الجنّة أيّها الموقنون، وقاتلوا دون أنفسكم وأموالكم أعداء الله الفجّار، وادفعوا عن أنفسكم شؤم العار والنّار، فقد جاؤوكم يحادّون الله ورسوله بكفرهم، ويستأصلون شأفة «1» الإسلام والمسلمين بمكرهم،
(1) الشّأفة: قرحة تخرج بباطن القدم، فتقطع أو تكوى فتذهب، وفي الحديث:«استأصل الله شأفتهم» ، أي: استأصل أصلهم، واستأصل الله شأفته: أذهبه كما تذهب تلك القرحة.
وقَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [سورة آل عمران 3/ 118] ، وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [سورة التّوبة 9/ 36] .
واحذروا أن تكونوا ممّن: كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [سورة التّوبة 9/ 46] ، وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [سورة العنكبوت 29/ 6] .
ولقد ابتلاكم الله بالجهاد كما ابتلى به أفضل أهل السّماوات والأرض: ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [سورة محمّد 47/ 4] ، أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة التّوبة 9/ 13] .
إخواني: إذا كانت المنيّة محتومة، فالشهادة في سبيل الله هي الغنيمة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمّد 47/ 7] . وإن أحجمتم فلن يدفع عنكم الأجل إحجامكم.
إخواني: ما أقبح عبدا يبخل على سيّده ومولاه بنفس هي من مواهبه وعطاياه، هذا مع ما وعد- وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [سورة التّوبة 9/ 111] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [سورة النّساء 4/ 122]- على ذلك ثناء جميلا وثوابا جزيلا.
إخواني: ما أقبح عبدا يقول بلسانه: قد رضيت بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد نبيّا، ثمّ يجبن عن قتال كافر بالله وباليوم الآخر، ولا يرجو ما يرجوه المؤمن من الجنّة والثّواب الوافر.
أو ما سمعتم مولاكم سبحانه يقول: فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [سورة النّساء 4/ 104] .
إخواني: أيّ عذر لمن جبن عن قتال أعداء الله؟ وبأيّ وجه يوم القيامة يلقى الله؟ هذا: (ومن لم يمت بالسّيف/ مات بغيره)«1» .
ولا جنّة من القدر شرّه وخيره: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الأحزاب 33/ 16] ، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [سورة آل عمران 3/ 154] ، أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النّساء 4/ 78] .
إخواني: فجرّدوا عزائمكم في الجهاد، فقد وضح لكم السّبيل، وكونوا كالذين قال لهم النّاس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران 3/ 173- 175] ، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [سورة النّساء 4/ 89] ، وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ
(1) صدر بيت لأبي نصر بن نباتة التميمي.
ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره
…
تنوّعت الأسباب والموت واحد
الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران 3/ 169- 172] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بالآيات والذّكر الحكيم، ووفّقنا وإيّاكم لاتباع سيّدنا محمّد [صلى الله عليه وسلم] النّبيّ الكريم، آمين.