الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأوّل في سرد مضمون هذا الكتاب
ليتذكّر به أولوا الألباب من ذكر مولده صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وما بينهما من معجزاته وغزواته، بحيث لو اقتصر عليه مقتصر لأغناه عمّا فصّلناه في سائر الكتاب وفرطناه.
قال علماء السّير: ولد نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم في ربيع الأوّل، / يوم الاثنين- بلا خلاف-، لثنتي عشرة ليلة خلت منه على الأشهر «1» ، وأرضعته حليمة السّعديّة، وفصلته لحولين كاملين، وقدمت به (مكّة) ، ثمّ رجعت به إلى بلد (بني سعد) لحرصها عليه، وشقّ صدره صلى الله عليه وسلم في العام الخامس وهو عندهم.
ثمّ قدمت به بعده لمّا تخوّفت عليه، وكانت مدّة إقامته عندهم نحو خمسة أعوام.
وفي السّنة السّادسة من مولده صلى الله عليه وسلم: خرجت به أمّه معها إلى (المدينة) ، فأقامت به شهرا، ثمّ رجعت به فماتت ب (الأبواء)«2»
(1) ذكر محمود باشا الفلكي في «التّقويم العربي قبل الإسلام» ، ص 36- 39: أنّ ولادة الرّسول صلى الله عليه وسلم كانت في صبيحة يوم اثنين التّاسع من شهر ربيع الأوّل، الموافق لعشرين من (نيسان) عام الفيل سنة إحدى وسبعين وخمس مئة ميلاديّة. (أنصاريّ) .
(2)
الأبواء: قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة ممّا يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. (معجم معالم الحجاز ج 1/ 36) .
- بموحّدة- بين (مكّة والمدينة) .
وفي السّنة السّابعة: وفد جدّه عبد المطّلب على سيف بن ذي يزن الحميريّ، فأخبره سيف والكهّان بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم.
وفي السّنة الثّامنة: توفّي جدّه عبد المطّلب، وكفله عمّه أبو طالب.
وفي الثّالثة عشرة: خرج به عمّه أبو طالب إلى (الشّام) ، فلمّا بلغوا (بصرى) ، رآه بحيرا الرّاهب- بفتح الموحّدة وكسر المهملة ممدودا- فتحقّق فيه صفات النّبوّة، فأمر عمّه بردّه، فرجع به.
وفي الرّابعة عشرة: كانت حرب الفجار- بكسر الفاء- بين قريش وهوازن، وكانت الدّائرة لهوازن على قريش، فشهدها النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع قومه يوما، فانقلبت الدّائرة لقريش على هوازن.
ثمّ عقدت قريش حلف الفضول لنصرة المظلوم، فشهده مع قومه.
وفي الخامسة والعشرين: خرج صلى الله عليه وسلم مع ميسرة- غلام خديجة رضي الله عنها في تجارة لها، فرآه نسطور- بفتح النّون- الرّاهب، فقال:(أشهد أنّ هذا نبيّ، وأنّه آخر الأنبياء) . فلمّا رجعا أخبرها ميسرة بذلك، وبما شاهد منه صلى الله عليه وسلم، فخطبته إلى نفسها، فنكحها.
وفي الخامسة والثّلاثين: بنت قريش الكعبة، ووضع صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود في مكانه.
وفي الثّامنة والثّلاثين: حبّب الله إليه الخلوة، فكان يخلو بغار (حراء) ، ثمّ كان يرى الأنوار، ويسمع الهواتف، ثمّ كان تسلّم عليه الأحجار/ والأشجار.
وقبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بستّة أشهر كان وحيه مناما، وكان لا يرى رؤيا
إلّا جاءت مثل فلق الصّبح- أي: الصّبح المفلوق «1» -.
ولمّا بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: جاءه جبريل عليه السلام بالوحي من ربّه عز وجل بسورة: اقرأ، ثمّ [القلم، ثمّ] المدّثّر، ثمّ المزّمّل، فكان في أوّل أمره يدعو النّاس إلى الله عز وجل سرّا حتّى أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [سورة الحجر 15/ 94]- أي: شقّ جموعهم بالتّوحيد- فأظهر الدّعوة.
وفي السّنة الخامسة من مبعثه صلى الله عليه وسلم: هاجر جماعة من الصّحابة، منهم: عثمان والزّبير وعبد الرّحمن وجعفر رضي الله عنهم ومن معهم إلى (الحبشة) ، فأقاموا بها عشر سنين.
وفي السّنة السّادسة من مبعثه صلى الله عليه وسلم: أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما، فعزّ بإسلامهما الإسلام.
وفي السّنة السّابعة لمستهلّ المحرّم منها: تعاهدت قريش على قطيعة بني هاشم، إلّا أن يسلموا إليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويبرؤوا منه، وكتبوا بذلك بينهم صحيفة، وعلّقوها في الكعبة.
فاعتزل بنو هاشم بن عبد مناف، وتبعهم إخوانهم بنو المطّلب بن عبد مناف مع أبي طالب إلى شعب أبي طالب، فأقاموا به نحو ثلاث سنين، إلى أن سعى المطعم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف، وزمعة بن الأسود بن [المطّلب بن] أسد في نقض الصّحيفة، فخرج بنو هاشم وبنو المطّلب من الشّعب في أواخر السّنة التّاسعة.
وفي السّنة العاشرة: مات أبو طالب، ثمّ ماتت بعده خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيّام، فحزن صلى الله عليه وسلم لموتهما حزنا شديدا، ونالت
(1) رؤيا واضحة. فلق الله الصّبح: أبداه وأوضحه.
قريش منه صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تناله في حياة عمّه أبي طالب.
فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (الطّائف) ، وأقام بها شهرا يدعو ثقيفا إلى الله تعالى، فردّوا عليه قوله، وأغروا «1» به عند انصرافه سفهاءهم، فرجع إلى (مكّة) فلم يدخلها إلّا بجوار المطعم بن عديّ.
وفي السّنة الحادية عشرة/: اجتهد صلى الله عليه وسلم في عرض نفسه على القبائل في الموسم، فامن به ستّة من رؤساء الأنصار، ورجعوا إلى (المدينة) ، ففشا فيها الإسلام.
وفي السّنة الثّانية عشرة- في رجب منها أو رمضان-: أسرى به مولاه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثمّ إلى سدرة المنتهى. وفي تلك اللّيلة فرض الله عليه وعلى أمّته الخمس صلوات.
وفي آخر تلك السّنة في الموسم: وافاه اثنا عشر رجلا من الأنصار ب (العقبة) ليلا، فبايعوه بيعة النّساء المذكورة في قوله تعالى: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ الآية [سورة الممتحنة 60/ 12] ، وبعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، فأسلم على يديه السّعدان: سعد بن معاذ سيّد الأوس، وسعد بن عبادة سيّد الخزرج، فأسلم لإسلامهما كثير من قومهما.
وفي السّنة الثّالثة عشرة- في آخرها في الموسم-: وافاه سبعون رجلا من مسلمي الأنصار فبايعوه عند (العقبة) أيضا، على أن يمنعوه إن هاجر إليهم ممّا يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأخرجوا له اثني عشر نقيبا؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، ثمّ رجعوا إلى (المدينة) .
فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم حينئذ أصحابه بالهجرة إلى (المدينة) ، فهاجروا
(1) أغرى به: أولع، وحرّض عليه، والمقصود: حرّضوا عليه سفهاءهم.
إليها، وأقام صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن من ربّه تعالى في الهجرة، وحبس معه عليّا وأبا بكر رضي الله عنهما.
فاجتمعت قريش في دار النّدوة للمشاورة في أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على قتله، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام بالوحي من عند الله تعالى، فأخبره بذلك، وأمره بالهجرة إلى (المدينة) ، فهاجر إليها. وذلك في أواخر صفر من السّنة المذكورة- الرّابعة عشرة- لتمام ثلاث عشرة من مبعثه صلى الله عليه وسلم.
ودخل صلى الله عليه وسلم من عوالي (المدينة) ، يوم الاثنين، الثّاني عشر من ربيع الأوّل، فلبث في (قباء) عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة/ ليلة، وبنى فيها مسجد (قباء) ، ثمّ انتقل فنزل في بني النّجار، أخوال جدّه عبد المطّلب؛ في منزل أبي أيّوب الأنصاريّ شهرا، إلى أن بنى مسجده الشّريف ومساكنه.
وفي تلك السّنة، وهي الأولى من سنيّ الهجرة: شرع الأذان.
وفي أوّل السّنة الثّانية أو آخر الأولى؛ نزل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآيات [سورة الصّف 61/ 10- 11] ؛ فأمر بالجهاد.
وفي السّنة الثّانية في رجب، نزل قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [سورة البقرة 2/ 144] ؛ فحوّلت القبلة إلى الكعبة، بعد أن صلّى إلى بيت المقدس نحو ستّة عشر شهرا.
وفي شعبان منها-[أي: السّنة الثّانية]-: نزل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ الآيات [سورة البقرة 2/ 183] ؛ ففرض صوم رمضان، وفرض فيه صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر.
وفيها أيضا-[أي: السّنة الثّانية]- في يوم الجمعة السّابع عشر من رمضان: كانت وقعة (بدر) الكبرى، وهي يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، ونزلت سورة الأنفال في قسمة غنائمها.
وفيها-[أي: السّنة الثّانية]- بعد (بدر) : أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب ابن الأشرف الطّائيّ وأمّه من بني النّضير، وهو في حصن من (يثرب) ، فقتله خمسة من الأوس، عليهم محمّد بن مسلمة- بفتح الميم واللّام-.
ثمّ أمر [صلى الله عليه وسلم] بقتل أبي رافع بن أبي الحقيق، وهو في حصن ب (خيبر) ، فقتله سبعة من الخزرج، عليهم عبد الله بن عتيك- بتقديم الفوقيّة على التّحتيّة، كعظيم-.
وفيها-[أي: السّنة الثّانية]-: نقضت يهود (المدينة) - بنو قينقاع رهط عبد الله بن سلام الحبر الإسرائيليّ- العهد، فحاصرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى نزلوا على حكمه، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبيّ ابن سلول «1» ، وكانوا حلفاءه، فوهبهم له.
وفي السّنة الثّالثة، في شوّال، في اليوم الخامس عشر منه: كانت وقعة (أحد)، فأكرم الله تعالى فيها من أكرم بالشّهادة؛ ومنهم: حمزة رضي الله عنه، ونزل قوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ/ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ إلى آخر السّورة [سورة آل عمران 3/ 121] .
وفيها-[أي: السّنة الثّالثة]- بعد (أحد) : بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت في عشرة عينا «2» ، فلمّا كانوا في بعض الطّريق
(1) عبد الله بن أبيّ ابن سلول؛ كتابة (ابن سلول) بالألف، ويعرب بإعراب عبد الله؛ فإنّه وصف ثان له، لأنّه عبد الله بن أبيّ. وهو عبد الله ابن سلول أيضا، فأبيّ أبوه، وسلول أمّه، فنسب إلى أبويه. (أنصاريّ) .
(2)
في ابن هشام: ستّة نفر. والأصحّ ما أثبته المؤلّف- رحمه الله وهم ستّة من المهاجرين وأربعة من الأنصار، (أخرجه البخاريّ، برقم (2880) ،
ب (الرّجيع) وهو ماء لهذيل بين (عسفان ومرّ الظّهران)«1» ظفر بهم بنو لحيان بعد أن أعطوهم العهد بالأمان، فقتلوا منهم ستّة، وهرب اثنان، وأسروا اثنين، وهما: خبيب بن عديّ، وزيد بن الدّثنّة، فباعوهما ب (مكّة) لقريش، فاشتروهما وقتلوهما.
وفيها أيضا-[أي: السنة الثّالثة]- بعد (أحد)«2» : بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع عامر بن مالك العامريّ ملاعب الأسنّة «3» سبعين رجلا، وهم القرّاء بجواره، فقتلهم قبائل سليم: عصيّة ورعل وذكوان، وأخفروا «4» جوار عامر بن مالك، فقنت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وقد أورد المؤلّف بعث الرّجيع ضمن أحداث السّنة الثّالثة للهجرة. والّذي ترجّح أنّها من أحداث السّنة الرّابعة. والله أعلم.
(1)
مرّ الظّهران: وهو في معاجم الجغرافية العربيّة (وادي فاطمة) ؛ يقع في الشّمال الشّرقي لمكّة، بعيدا عنها ب 28 كيلومتر منها، وهو أكبر الوديان سعة، وأكثرها خصبا وما آ، وأوفرها قرى وسكّانا ومساكن، يصب فيه تسعون واديا من أودية مكّة الكبار والصّغار، فهو مجمع الأودية، وطوله نحو ثمانين كيلو مترا. ويبتدئ وادي فاطمة من المناعمة شرقا بجنوب، وينتهي بجدّة غرب مكة، وتهبط مياهه من جبل (برد) وهو أعلى فرع له من جهة الجنوب، ويهبط بعض مياهه كذلك من وادي نخلة (اليمانيّة) من البوباة (البهيتة) . وكذلك يصب فيه وادي نخلة (الشامية) من الناحية الغربيّة، ويصبّ فيه وادي (حورة) أيضا، وكذلك وادي (علاف) من ناحية الشّمال، ووادي (العشر) ووادي (سرف) الذي به قبر السّيّدة ميمونة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، كلاهما يفيضان على وادي فاطمة. ولعل لإقامة الأشراف الهاشميين من بني فاطمة رضي الله عنها أثرا في تغليب اسم (وادي فاطمة) على اسم (مرّ الظهران) .
(2)
أيضا أورد المؤلّف وقعة بئر معونة ضمن أحداث السّنة الثّالثة للهجرة. والّذي ترجّح أنّها من أحداث السّنة الرّابعة. والله أعلم.
(3)
وسمّي عامر بن مالك ملاعب الأسنّة يوم السّوبان، والأسنّة: جمع سنان، وهو الرّمح، فكان عامر ملاعب الرّماح.
(4)
أخفروا: نقضوا العهد وغدروا.
عليهم وعلى بني لحيان.
وكانوا أطلقوا عمرو بن أميّة الضّمريّ، فلمّا رجع وجد اثنين من بني عامر فقتلهما ومعهما جوار من النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، فوداهما «1» النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفيها أو في الرّابعة «2» : قصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بني النّضير ليستعينهم في دية الرّجلين اللّذين قتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ، فاستند إلى جدار حصن لهم، فهمّوا بطرح حجر عليه، فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقام موهما لهم أنّه غير ذاهب، ثمّ صبّحهم صلى الله عليه وسلم بالجيش فجلاهم «3» إلى (الشّام) .
وفيهم نزلت سورة الحشر: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ [سورة الحشر 59/ 2] إلى آخرها، فجلوا إلى (الشّام) ، إلّا حييّ بن أخطب فلحق ب (خيبر) .
وفي السّنة الرّابعة: خرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه في شهر رمضان «4» في موعد [مع] أبي سفيان له يوم (أحد) إلى (بدر) ، فلم يأته أبو سفيان وقومه، فرجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفيها-[أي: السّنة الرّابعة]-: كانت غزوة ذات الرّقاع، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى (نجد) يريد غطفان، فالتقى بهم ولم يكن قتال، فنزلت:
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآيات [سورة النّساء 4/ 102] .
(1) وداهما: دفع ديتهما.
(2)
والصّواب: الرّابعة، لأنّ غزوة بني النضير كانت بعد أحد بستّة أشهر. والله أعلم.
(3)
جلاهم: أخرجهم من ديارهم.
(4)
أجمع أهل السّير على أنّ خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في شعبان. ويسمّى ب (غزوة بدر الآخرة) . والله أعلم.
فصلّوا صلاة الخوف.
ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم منها- أي: رجع- نام تحت/ شجرة وقت القيلولة، وتفرّق عنه النّاس، وعلّق سيفه بالشّجرة، فهمّ غورث بن الحارث بقتله به، فعصمه الله منه، ونزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة المائدة 5/ 11] ، في ذلك أو في قصّة بني النّضير «1» .
وفي السّنة الرّابعة «2» : بلغه أنّ بني المصطلق من خزاعة أجمعوا لحربه، فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم حتّى لقيهم ب:(المريسيع)«3» - مصغّرا بمهملات- وهو ماء لهم من ناحية (قديد)«4» - مصغّرا بقاف ومهملة مكرّرة- وهو مكان بين (مكّة والمدينة) ، فهزمهم، وسبى أموالهم وذراريّهم، واصطفى منهم أمّ المؤمنين جويريّة بنت الحارث المصطلقيّة رضي الله عنها.
ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم منها ازدحم المهاجرون والأنصار على ماء.
وكان من أمر عبد الله بن أبيّ ابن سلول ما كان من قوله: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون 63/ 8] ،
(1) قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصّة، ثمّ ينزل ذكرها مرّة أخرى لادّكار ما سبق.
(2)
قلت: ترجّح أنّها في السّنة الخامسة. والله أعلم.
(3)
المريسيع: قرية من قرى وادي القرى وهو من ناحية قديد إلى الشّام، (الزّهر المعطار، ص 532) .
(4)
قديد: في الجنوب الشّرقي عن رابغ، تبعد عنها بمرحلة وربع (سبعة وعشرون ميلا) . ويسكنها بنو زبيد، وبها عيون ونخيل وبساتين، وبقربها إلى جهة البحر كان صنم (مناة) منصوبا.
فنجم نفاقه- أي: ظهر- ونزلت فيه سورة (المنافقون) .
ولمّا دنا صلى الله عليه وسلم من (المدينة) تخلّفت عائشة رضي الله عنها عن الجيش ليلا في قضاء حاجة لها، فرحلوا هودجها ولم يشعروا بها، فقال فيها أهل الإفك ما قالوا، ونزلت عشر الآيات من سورة النّور:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [سورة النّور 24/ 11] .
وفيها-[أي: السّنة الخامسة]-: كانت وقعة الخندق- وهي الأحزاب أيضا- في شوّال سنة [خمس]«1» بعد غزوة (بدر) الصّغرى، وكان المشركون فيها أحد عشر ألفا، واشتدّ الحصار على أهل (المدينة) ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [سورة الأحزاب 33/ 10] كما حكى الله عنهم، وكانت مدّة الحصار نحو شهر، ثمّ كشف الله عنهم بما ذكره في قوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [سورة الأحزاب 33/ 9] ، ونزلت سورة الأحزاب.
ووقع في أيّام (الخندق) ما وقع من معجزاته صلى الله عليه وسلم الباهرة، كحديث الكدية «2» - بضمّ الكاف- الّتي اعترضت، فهدّها النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمعول.
وحديث جابر حيث دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم خامس خمسة/ إلى عناق «3» وصاع من شعير، فأشبع من ذلك جيش الخندق كلّه؛ وهم ألف فأكثر.
وحديث أبي طلحة حيث بعث أنسا بأقراص تحت إبطه فأشبع منها صلى الله عليه وسلم ثمانين رجلا جياعا.
(1) في المخطوط: أربع.
(2)
الكدية: قطعة صلبة غليظة، لا تعمل فيها الفأس. (النّهاية، ج 4/ 156) .
(3)
العناق: الأنثى من أولاد الماعز ما لم يتمّ لها سنة. (النّهاية، ج 3/ 311) .
وكانت بنو قريظة معاهدين له صلى الله عليه وسلم فنقضت العهد في مدّة الحصار، وأعانوا المشركين.
فلمّا هزم الله الأحزاب وانقضى الحصار، جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقت القيلولة «1» ، فأمره بالخروج إليهم، فخرج صلى الله عليه وسلم فحاصرهم.
فأرسلوا إلى أبي لبابة رضي الله عنه يستشيرونه، فكان من أمره رضي الله عنه ما كان، فلمّا اشتدّ بهم الحصار نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكانوا حلفاءه، وكان قد أصيب بسهم يوم (الخندق) ، فحكم فيهم بقتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم وقسمة أموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«لقد وافقت حكم الله تعالى» «2» ثم مات رضي الله عنه، فاهتزّ العرش لموته رضي الله عنه فرحا بقدوم روحه.
وفي السّنة الخامسة: زوّجه الله تعالى زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها، كما نطق به القرآن: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ الآيات [سورة الأحزاب 33/ 37] .
وفيها: -[أي: السّنة السّادسة]- خرج صلى الله عليه وسلم معتمرا في ذي القعدة، فصدّته قريش عن البيت، فوقعت بيعة الرّضوان. ثمّ صلح الحديبية عشر سنين، وفيه:
أنّه لا يأتيه أحد مسلما إلّا ردّه إليهم.
(1) القيلولة: الاستراحة نصف النّهار، وإن لم يكن معها نوم. (النّهاية، ج 4/ 133) .
(2)
أخرجه البخاريّ، برقم (3895) ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. بنحوه.
وأنّ بني بكر في صلحهم، وخزاعة في صلحه صلى الله عليه وسلم.
وألّا يدخل (مكّة) إلّا من عام قابل.
فنحر هديه وحلق ورجع صلى الله عليه وسلم، ونزلت سورة الفتح: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الآيات [سورة الفتح 48/ 18] .
وفيها-[أي: السّنة السّادسة]-: انفلت أبو بصير- بموحّدة ومهملة، كعظيم- إلى (المدينة) مسلما، فردّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقتل واحدا من الرّجلين اللّذين رجعا به، وانفلت، فلحق بسيف البحر «1» ، فانفلت إليه أبو جندل- بجيم ونون- ابن سهيل بن عمرو ورجال من المسلمين/ المستضعفين ب (مكّة) ، فاجتمعت منهم عصابة، فقطعوا سبيل قريش إلى (الشّام) ، حتّى سألت قريش من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يضمّهم إليه، ومن جاءه فهو آمن، فضمّهم إليه.
وفيها-[أي: السّنة السّابعة]- أسلم جماعة من رؤساء قريش منهم: عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، بعد أن أسلم عمرو ب (الحبشة) على يد النّجاشيّ «2» .
وفيها-[أي: السّنة السّابعة]- أرسل النّبيّ صلى الله عليه وسلم رسله بكتبه إلى ملوك الأقاليم.
(1) سيف البحر: ساحله.
(2)
أورد ابن هشام هذا الخبر إثر غزوة بني قريظة، لأنّ ذهاب عمرو بن العاص إلى النّجاشيّ كان بعد غزوة الخندق، وقد ذكر هنا قبل فتح مكّة؛ لأنّ خالد بن الوليد كان في خيل المشركين يوم الحديبية، وقد ذكر البيهقي في «الدّلائل» ، وابن سعد في «الطّبقات» ، والهيثميّ في «مجمع الزّوائد» ، وغيرهم أنّ إسلام هؤلاء الصّحابة كان في أوائل سنة ثمان. والله أعلم.
ومنهم: عبد الله بن حذافة السّهميّ، بعثه بكتابه إلى كسرى فمزّقه، فدعا عليهم أن يمزّقوا كلّ ممزّق «1» .
ومنهم: دحية بن خليفة الكلبيّ رضي الله عنه، بعثه بكتابه إلى قيصر [ملك الرّوم] ، فوجد عنده أبا سفيان، فاستدعاه قيصر، فسأله عن صفات النّبيّ صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه، فأخبره أبو سفيان بها، فاعترف قيصر بنبوّته صلى الله عليه وسلم، ولم يوفّق للإسلام، لعدم مساعدة جنوده له مع شقاوته، فوقع الإسلام من يومئذ في قلب أبي سفيان.
وفي السّنة السّادسة «2» في المحرّم منها: افتتح النّبيّ صلى الله عليه وسلم (خيبر) بعد أن حاصرهم سبع عشرة ليلة، ثمّ قسم أموالهم نصفين، نصفا لنوائبه «3» ونصفا بين المسلمين «4» .
وقدم عليه جعفر فيمن بقي من مهاجرة (الحبشة) رضي الله عنهم، فأسهم لهم.
وأهدت إليه اليهوديّة «5» الشّاة المصليّة- أي: المشويّة- المسمومة، فأخبره الذّراع بذلك.
واصطفى صلى الله عليه وسلم من سبايا (خيبر) أمّ المؤمنين صفيّة بنت حييّ
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (64) ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(2)
قلت: ترجّح أنّها في السّنة السّابعة. والله أعلم.
(3)
نوائبه: جمع نائبة؛ وهي ما ينوب الإنسان، أي: ما ينزل به من المهمّات والحوادث.
(4)
أخرج البخاريّ، برقم (2366)، عن عبد الله رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود، أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها.
(5)
وهي: زينب بنت الحارث، امرأة سلّام بن مشكم، وابنة أخي مرحب. (أنصاريّ) .
الإسرائيليّة الهارونيّة رضي الله عنها.
وفي ذي القعدة منها-[أي: السّنة السّابعة]-: اعتمر صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء، وأقام ب (مكّة) ثلاثا، ثمّ رجع فدخل صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث الهلاليّة، أمّ المؤمنين رضي الله عنها خالة ابن عبّاس، وذلك ليلة منصرفه من (مكّة) ب (سرف)«1» - ككتف، بموحّدة وسين مهملة- وهو بين (التّنعيم «2» ومرّ الظّهران) ، وبذلك المكان كان موتها وقبرها رضي الله عنها.
وفي السّنة السّابعة: اتّخذ له المنبر صلى الله عليه وسلم، / وكان من قبل يخطب إلى جذع نخلة، فحنّ إليه الجذع، حتّى مسح عليه وضمّه إليه.
وفيها-[أي: السّنة السّابعة]- في رجب: قدم عليه وفد عبد القيس يسألونه عن الإسلام، ورئيسهم الأشجّ «3» - بمعجمة وجيم- فأثنى عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليهم خيرا.
وفي السّنة الثّامنة في جمادى الأولى منها: كانت غزوة مؤتة- بفوقيّة مضمومة الميم مهموزة [الواو]- وهي قرية من قرى (البلقاء) من أرض (الشّام) ، فأكرم الله فيها جعفرا وزيدا وابن رواحة وجماعة رضي الله عنهم بالشّهادة، ثمّ أخذ الرّاية خالد بن الوليد رضي الله عنه، ففتح الله على يديه، وانحاز بالمسلمين، وكانوا ثلاثة آلاف، وكان هرقل ملك الرّوم في مئتي ألف.
(1) سرف: موضع على ستّة أميال من مكّة شمالا.
(2)
التّنعيم: واد يقع شمال مكّة بقمّة جبال بشم شرقا وجبل الشهيد جنوبا. وهو ميقات لمن أراد العمرة من المكيين. وفيه مسجد عائشة رضي الله عنها. يقع على مقربة ستّة أميال شمالا من المسجد الحرام على طريق المدينة، (معالم مكّة ص 50- 51) .
(3)
واسمه: المنذر بن الحارث العبديّ.
وفيها-[أي: السّنة الثامنة]- في رمضان: كان فتح (مكّة) .
وسبب انتقاض الصّلح: أنّ قريشا أعانت حلفاءهم (بني بكر) على (خزاعة) حلفاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقدم أبو سفيان (المدينة) يطلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلحا، فلم يجبه إليه، فرجع، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي الكعبيّ يستنصر النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش، فأجابه إلى ذلك، وتجهّز النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (مكّة) في عشرة آلاف، فلمّا بلغ (الجحفة)«1» - بجيم مضمومة ثمّ حاء مهملة ساكنة- على ثلاث مراحل من (المدينة) لقيه عمّه العبّاس رضي الله عنه مهاجرا بأهله، فردّه معه، وكان قد أسلم بعد (بدر) ، واستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يقيم ب (مكّة) على سقاية الحاجّ، فأذن له. ولقيه أيضا ابن عمّه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب قد أقبل مسلما، معتذرا ممّا كان جرى منه، فردّه معه. وأخذ الله العيون على قريش بدعوته صلى الله عليه وسلم «2» ، فلم يشعر أحد بخروجه صلى الله عليه وسلم إليهم.
فلمّا بلغ (مرّ الظّهران) أدركت العبّاس الرّقّة على قومه، فركب بغلة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بإذنه ليخبرهم أن يأخذوا أمانا منه صلى الله عليه وسلم، فلقي أبا سفيان بن حرب في نفر من قريش/ خرجوا يتطلّعون، وذلك في اللّيل، فردّهم إلى (مكّة) ، وأتى بأبي سفيان إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثمّ أصبح صلى الله عليه وسلم فدخل (مكّة) ضحى من أعلاها، وذلك لعشر بقين من رمضان، وأقام بها ثمانية عشر يوما يقصر الصّلاة.
(1) الجحفة: وهو واد يبتدىء من شرق رابغ من ناحية الجبال، ويصبّ جنوب رابغ في البحر، ببعد ثلاث ساعات. وهو ميقات حجّاج (مصر والشّام) ؛ إن لم يمرّوا على (المدينة) ، وكانت الجحفة قرية تاريخيّة، وهي الآن خربة، وبها آثار القرية المعمورة، وأطلال قصر أثريّ مبنيّ بالحجارة السوداء؛ اسمه (قصر العلياء) .
(2)
ودعاؤه صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش» .
ثمّ بلغه أنّ (هوازن) اجتمعت لحربه في أربعة آلاف، عليهم مالك بن عوف النّصريّ «1» ، فخرج صلى الله عليه وسلم إليهم لعشرين [من] شوّال، في عشرة آلاف جيش الفتح، وألفين ممّن أسلم يوم الفتح، فكانوا اثني عشر ألفا، فأعجبتهم كثرتهم، فقالوا: لن نغلب اليوم من قلّة، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا، ووجدوا المشركين قد كمنوا لهم في شعاب (حنين) وهو واد بين (مكّة والطّائف) ، فلمّا توسّط المسلمون فيه شدّوا عليهم ورشقوهم بالنّبل، وكانوا رماة، فانهزم المسلمون، وثبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في جماعة، فنزل عن بغلته وأخذ كفّا من الحصى فرمى به في وجوه المشركين فانهزموا، ونصر الله المسلمين، فغنموا ذراريّهم وأموالهم، وكانوا قد جعلوهم معهم ليقاتلوا دونهم، فانهزم منهم طائفة عليهم: دريد بن الصّمّة، وساقوا المال والذّراريّ، فأدركهم أبو عامر الأشعري في سريّة ب (أوطاس) فهزموهم بعد أن قتل أبو عامر رضي الله عنه ولحق أكثرهم ب (الطّائف) ، فتوجّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (الطّائف) وقاتلهم قتالا شديدا، وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، فلم يظفر بهم، فدعا لهم بالهداية ورجع، فأتوه بعد رجوعه إلى (المدينة) مسلمين على يدي مالك بن عوف.
ولمّا قفل صلى الله عليه وسلم من (الطّائف) قسم غنائم (حنين) ب (الجعرانة)«2» - على مرحلتين من (مكّة) -.
ثمّ أحرم منها بعمرة، وذلك في ذي القعدة، فدخل (مكّة) فقضى نسكه.
(1) في الأصل: عوف بن مالك النّصري، وهو كذلك أينما ورد في الأصل.
(2)
الجعرانة: قرية صغيرة في صدر وادي (سرف) ، فيها مسجد يعتمر منه أهل مكّة المكرّمة، تقع شمال شرقي مكّة المكرّمة، على قرابة 24 كيلا. وتقع على 11 كيلا شمالا عدلا من طريق اليمانية، (معالم مكّة ص 64- 65) .
ثمّ رجع إلى (المدينة) فدخلها في آخر ذي القعدة، فولد له صلى الله عليه وسلم في ذي الحجّة إبراهيم، وعاش ثلاثة أشهر ثمّ مات، وانكسفت الشّمس يوم موته، وذلك وقت الضّحى في أوّل ربيع من سنة/ [تسع]«1» ، فقال النّاس: انكسفت الشّمس لموت إبراهيم، فجمع [صلى الله عليه وسلم] النّاس وصلّى بهم صلاة الكسوف، ثمّ خطب بهم فقال:«إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» «2» .
وفي السّنة التّاسعة: دخل النّاس في دين الله أفواجا، كما أخبر الله تعالى بذلك، وجعله علما على وفاته صلى الله عليه وسلم.
ووفدت عليه الوفود؛ فمنهم: وفد (بني حنيفة) ، في جمع كثير، عليهم: مسيلمة الكذّاب، وأبى أن يسلم إلّا أن يجعل له النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمر من بعده، ورجع خائبا.
ومنهم: وفد (نجران) ، وكانوا نصارى، فحاجّوه في عيسى عليه الصلاة والسلام أنّه ابن الله لكونه خلقه من غير أب، فنزلت:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [سورة آل عمران 3/ 59]- أي: من غير أمّ ولا أب-.
ونزلت آية المباهلة- أي: الملاعنة-: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ الآية [سورة آل عمران 3/ 61]، فقال لهم رئيساهم- السّيّد «3» والعاقب «4» -: لاتفعلوا،
(1) والراجح أنّها سنة عشر. انظر تعليقنا ص 364.
(2)
أخرجه البخاريّ، برقم (1001) . عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
السّيّد: رئيسهم ومفتيهم، واسمه: الأيهم.
(4)
العاقب: أمير القوم. واسمه: عبد المسيح.
ثمّ صالحوه على الجزية، وقالوا: ابعث معنا رجلا أمينا من أصحابك، فقال:«لأبعثنّ معكم [رجلا] أمينا حقّ أمين» ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، وقال:«هذا أمين هذه الأمّة» «1» .
ومنهم: وفود (اليمن) ، فأسلموا، فقال:«أتاكم أهل (اليمن) ، هم أرقّ أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» «2» وبعث معهم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعريّ رضي الله عنهما.
وقدم عليه: كعب بن زهير رضي الله عنه، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه لشعر عرّض فيه بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأسلم واعتذر إليه ممّا كان منه، وأنشده في المسجد قصيدته المشهورة:(بانت سعاد) فقبل عذره وكساه بردته صلى الله عليه وسلم.
وفيها-[أي: السّنة التّاسعة]-: كانت غزوة (تبوك) إلى (الشام) لقتال الرّوم، فخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفا من المسلمين، وخلّف على (المدينة) عليّا رضي الله عنه، فقال: أتخلّفني في الصّبيان والنّساء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» «3» /.
فلمّا بلغ (تبوك) وهي أدنى بلاد الرّوم، أقام بها بضع عشرة ليلة، ولم يلق عدوّا، وصالح جملة من أهل تلك النّاحية على الجزية.
ثمّ رجع إلى (المدينة) وجاءه المنافقون يعتذرون إليه لتخلّفهم
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (4119) . عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاريّ، برقم (4127) . عن أبي هريرة رضي الله عنه. وتتمّته:«والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسّكينة والوقار في أهل الغنم» .
(3)
أخرجه مسلم، برقم (2404/ 31) . عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.
عنه، وقد سمّاه الله: جيش العسرة، وحلفوا له بالكذب، فقبل عذرهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، ففضحهم الله تعالى بما أنزله في سورة براءة، كقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ [سورة التّوبة 9/ 75- 77] وغير ذلك، فسمّيت الفاضحة.
وأمّا الثّلاثة الّذين خلّفوا وصدقوه، واعترفوا بأنّهم لا عذر لهم فخلّف أمرهم إلى قضاء الله تعالى فيهم، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أميّة، ومرارة- بالضّم- ابن الرّبيع، فتاب الله عليهم، فسمّيت سورة التّوبة.
وفيها-[أي: السّنة التّاسعة]- في رجب: نعى لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّجاشيّ «1» ، وصلّى عليه في المصلّى جماعة.
وفي خاتمة هذه السّنة: [أي: السّنة التّاسعة]- أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يحجّ بالنّاس، فسار بهم، ثمّ بعث بعده عليّا رضي الله عنه ليبرأ من المشركين بصدر سورة براءة يوم الحجّ الأكبر، فنبذ إلى كلّ مشرك عهده.
وفي السّنة العاشرة: حجّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وحجّ بأزواجه كلّهنّ، وبخلق كثير، فحضرها من الصّحابة أربعون ألفا رضي الله عنهم، فودّع [صلى الله عليه وسلم] النّاس وحذّرهم وأنذرهم، وقال: «إنّ الله حرّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في
(1) واسمه: أصحمة.
شهركم هذا، في بلدكم هذا» ثمّ قال:«ألا هل بلّغت» قالوا:
نعم. قال: «اللهمّ اشهد» «1» .
ثمّ قفل النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى (المدينة) فدخلها في أواخر ذي الحجّة، فلبث بها المحرّم وصفر.
ثمّ أمر النّاس في أوّل ربيع بالجهاد إلى (الشّام) ، وأمّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم، فأخذوا في جهازهم؟
فمرض النّبيّ صلى الله عليه وسلم وثقل مرضه، فأقاموا ينتظرون أمره، فتوفّي صلى الله عليه وسلم لتمام عشر سنين من هجرته، في السّنة الحادية عشرة، ضحى يوم الاثنين، ثاني عشر من ربيع الأوّل، في الوقت واليوم والشّهر الّذي دخل فيه (المدينة)«2» ، ودفن يوم الثّلاثاء بعد العصر/ صلّى الله وسلّم عليه، وزاده فضلا وشرفا لديه.
فهذا جملة ما اشتمل عليه كتابنا هذا ملخّصا من سيرته صلى الله عليه وسلم، من مولده إلى وفاته، وسيأتي ذلك مفصّلا في موضعه إن شاء الله تعالى، مع ذكر ما سبق ذكره ممّا اشتمل عليه الكتاب أيضا، كالخطبة البليغة السّابقة، وخطبة الجهاد اللّاحقة، والأحاديث الواردة في فضل الجهاد، وشرف (مكّة والمدينة) بلدي مولده ووفاته صلى الله عليه وسلم، وشرف نسبه، وماثر آبائه وحسبه، ومن بشّر به قبل ظهوره، إلى ما اشتمل عليه من قواعد الدّين الكلّيّة، كنسخ دينه صلى الله عليه وسلم لكلّ دين، وتفضيله على جميع النّبيّين والمرسلين، وجملة من معجزاته الباهرة، وفضائل الصّحابة رضي الله عنهم، ثمّ ذكر ما اشتمل عليه الكتاب أيضا من عباداته صلى الله عليه وسلم لربّه، وشكره له بلسانه
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (1654) . عن أبي بكرة رضي الله عنه.
(2)
انظر تعليقنا على ذلك، ص 390.
وقلبه، صلى الله عليه وسلم، وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم.
ولي من قصيدة مسمّطة «1» هذه الأبيات، [من الوافر] :
ألا يا أيّها الحادي إذا ما
…
أتيت قباب طيبة والخياما «2»
فخيّم واقر ساكنها السّلاما
…
وقبّل من منازله العتابا «3»
هناك فهنّ نفسك بالوصول
…
وقل يا نفس مأمولي وسولي
رسول الله يا لك من رسول
…
قفي وردي مناهله العذابا «4»
ومرّغ حول ذاك القبر خدّا
…
وقدّ مرائر الأشواق قدّا «5»
ونح ممّا اقترفت أسى ووجدا
…
لما اجترحت جوار حك اكتسابا «6»
(1) المسمّطّ من الشّعر: أبيات مشطورة تجمعها قافية واحدة. وأشهر أنواعه: المربّع؛ وهو أن يبتدئ الشّاعر قصيدته ببيت مصرّع، ثمّ يأتي بثلاثة أقسام على رويّ واحد، ثمّ يعيد قسما واحدا من مثل ما ابتد. به مقفّى.
(2)
الحادي: الّذي يسوق الإبل بالحداء. طيبة: اسم لمدينة الرّسول صلى الله عليه وسلم، يقال لها: طيبة وطابة؛ من الطّيب. وهي الرّائحة الحسنة لحسن رائحة تربتها فيما قيل. والطّاب والطّيب لغتان. وقيل: من الشّيء الطّيّب، وهو الطّاهر الخالص بخلوصها من الشّرك وتطهيرها منه. وقيل: لطيبها لساكنيها ولأمنهم ودعتهم فيها. وقيل: من طيب العيش بها، من طاب الشّيء؛ إذا وافق [معجم البلدان 4/ 53 (أنصاريّ) ] .
(3)
العتبة: خشبة الباب الّتي يوطأ عليها، وكلّ مرقاة.
(4)
المناهل: مفردها: منهل، وهو الموضع الّذي فيه المشرب. والورد: الإشراف على الماء وغيره. وأيضا: الماء الّذي يؤتى إليه.
(5)
مرّغ: قلّب ونزّه خدّك كي يكون لوجهك بريق وضياء. المرّة: مؤنث المرّ، ضد الحلوة. (ج) مرائر، على غير قياس.
(6)
اجترحت: اكتسبت.
وقل يا خير من ركب البراقا «1»
…
وأكرم من علا السّبع الطّباقا
أتيتك كي تحلّ لي الوثاقا
…
ذنوبا قد دهت قلبي المصابا
فأنت الشّافع المقبول حقّا
…
وكم لك معجزات ليس ترقى
قد اتّضحت لنا غربا وشرقا
…
وأعيت كلّ ذي فهم حسابا
أتتنا في ولادك كلّ بشرى
…
غداة تساقط الأصنام قسرا «2»
/ وزلزل هيبة إيوان كسرى
…
وأضحى عرش دولته خرابا
وفي بضع السّنين شرحت صدرا
…
وظلّلت الغمامة منك حرّا
وجاءت معجزات منك تترى
…
رأى الرّهبان منهنّ العجابا
إلى أن أشرقت شمس اليقين
…
تمام الأربعين من السّنين
وأزهر كوكب الحقّ المبين
…
ونجم الشّرك والبهتان غابا «3»
أتاك الحقّ من ربّ العباد
…
فقمت مشمّرا ساق الجهاد
تبيّن للورى طرق الرّشاد
…
وتتلو الوحي فيهم والكتابا
بحقّك سل إلهك أن يكونا
…
لنا عونا على الأعدا معينا
ومن كلّ الأذى حصنا حصينا
…
ويكفينا برحمته العذابا
(1) البراق: دابّة ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
(2)
قسرا: قهرا.
(3)
البهتان: كذب يبهت سامعه لفظاعته. (أنصاريّ) .