الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في أدلّة فضل الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين
الّذي عليه جمهور المحدّثين أنّ كلّ مسلم اجتمع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو لحظة فهو من الصّحابة.
وقد ورد في فضلهم رضي الله عنهم من الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة ما لا يحصى.
فروى البخاريّ ومسلم في «صحيحيهما» ، أنّه صلى الله عليه وسلم قال:
«خيركم- وفي رواية- خير النّاس قرني، ثمّ الّذين يلونهم- أي:
التّابعون- ثمّ الّذين يلونهم- أي: تابعو التّابعين-» «1» .
قال الشّيخ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى-: (ورواية «خير النّاس» على عمومها، والمراد منه جملة القرون السّابقة واللّاحقة، ولا يلزم منه تفضيل أهل قرنه على الأنبياء عليهم السلام، إذ المراد جملة القرون، بالنّسبة إلى كلّ قرن بجملته.
قال: والمراد بالقرن: الصّحابة، ثمّ الّذين يلونهم: التّابعون، ثمّ الّذين يلونهم: تابعو التّابعين) «2» . انتهى.
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (2509) . ومسلم برقم (2533/ 211) . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. القرن: أهل كلّ زمان، وهو مقدار التّوسّط في أعمار أهل كلّ زمان، مأخوذ من الاقتران، وكأنّه المقدار الّذي يقترن فيه أهل ذلك الزّمان في أعمارهم وأحوالهم. وقيل: القرن: أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل: مئة، وقيل: هو مطلق من الزّمان [النّهاية في غريب الحديث، ج 4/ 51. (أنصاريّ) ] .
(2)
شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 16/ 69. بتصرّف من المؤلّف.
قلت: وأوّل قرن الصّحبة من مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى موت آخرهم موتا؛ وهو أبو الطّفيل على رأس عشر بعد المئة من الهجرة، لمئة/ من الوفاة، وهو أيضا آخر قرن التّبعيّة لتعذّرها حينئذ، وأوّله من الوفاة لتعذّر الصّحبة حينئذ. والله أعلم.
قال العلماء: وإنّما كانوا خير القرون بشهادة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم بكلّ فضيلة؛ من الإخلاص والصّدق والتّقوى، والشّدّة في الدّين، والرّحمة على المؤمنين، ونصرة الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وبذل النّفوس والأموال وبيعها من الله تعالى، وإيثارهم على أنفسهم، وكونهم خير أمّة أخرجت للنّاس، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، والحائزين على الفوز والفلاح والبشارة بأعلى الجنان وجوار الرّحمن، إلى غير ذلك.
ومدح الله لا يتبدّل، ووعده لا يخلف ولا يتحوّل، إذ هو سبحانه المطّلع على عواقب الأمور، والعالم بخائنة الأعين وما تخفي الصّدور، فلا يمدح جلّ وعلا إلّا من سبقت له منه الحسنى، وكان ممدوحا في الآخرة والأولى.
قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التّوبة 9/ 100] .
وقال سبحانه: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[سورة التّوبة 9/ 88- 89] .
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [سورة التّوبة 9/ 111] .
وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ الآية [سورة الفتح 48/ 29] .
وقال تعالى في حقّ المهاجرين: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ/ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحشر 59/ 8] .
[وقال تعالى] في حقّ الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة الحشر 59/ 9] .
[وقال تعالى] في حقّ التّابعين لهم بإحسان، المستغفرين لهم، السّالمين من غلّ القلوب- جعلنا الله منهم-: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة الحشر 59/ 10] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي، فو الّذي نفسي بيده، لو أنّ أحدكم أنفق مثل (أحد) ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ، متّفق عليه «1» .
قال الشّيخ محيي الدّين النّوويّ- رحمه الله تعالى-: (ومعنى
(1) أخرجه البخاريّ، برقم (3470) . ومسلم برقم (2540/ 221) . عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الحديث: لو أنفق أحدكم في سبيل الله مثل (أحد) ذهبا ما بلغ ثوابه ثواب نفقة أحدهم مدّا من طعام ولا نصيفه. قال: وسبب ذلك كون نفقتهم رضي الله عنهم في وقت الضّرورة وضيق الحال، وفي نصرته صلى الله عليه وسلم، وحماية دينه وإعزازه، وكذلك كان جهادهم وسائر طاعاتهم، وذلك معدوم فيمن بعدهم، مع أنّ فضيلة الصّحبة ولو بلحظة لا توازيها فضيلة، ولا تنال درجتها بشيء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) «1» انتهى.
والمخاطب بقوله: «لا تسبّوا أصحابي» الأمّة، أو أنّه نزّل السّابّ منزلة من ليس من أصحابه، أو خصّ بالصّحبة السّابقين منهم، كما ورد في سبب الحديث أنّ خالد بن الوليد سبّ عبد الرّحمن بن عوف.
قال العلماء: وإذا ثبت ثناء الله ورسوله عليهم رضي الله عنهم بكلّ فضيلة، والشّهادة لهم بالمناقب الجليلة، فأيّ دين/ يبقى لمن نبذ كتاب الله وراء ظهره، فنسبهم إلى باطل، أيقول هذا الجاهل بأنّ الله- تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا- لمّا وصفهم وأثنى عليهم كان جاهلا بما يؤول إليه حالهم، فتبدّل قوله الحقّ باطلا، والصّدق كذبا، أم كان عالما بذلك، ولكنّه خان رسوله بالثّناء على من ليس أهلا للثّناء، ورضي لرسوله المجتبى عنده بصحبة الفاسقين، ومصافاة المنافقين.
كلّا، والله لقد كانوا أحقّ بتلك الفضائل وأهلها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [سورة الأحزاب 33/ 40] .
(1) شرح صحيح مسلم، للنّوويّ، ج 16/ 76. بتصرّف من المؤلّف.
وكانوا كما وصفهم الله: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [سورة الأحزاب 33/ 23] .
اللهمّ إنّا نشهد أنّهم كما وصفتهم من أنّهم خير أمّة، ونثني عليهم بما أثنيت عليهم من الفضائل الجمّة، ونعتقد أنّهم قد قلّدوا رقاب الخاصّة والعامّة المنّة؛ لأنّهم الّذين جاهدوا في الله حقّ جهاده، حتّى قرّروا هذا الدّين، ثمّ حملوه إلى النّاس كما نقلوه، باذلين في ذلك غاية الجهد والنّصح، ونعتقد وجوب تعظيمهم واحترامهم ومحبّتهم، والكفّ عمّا شجر بينهم، وحسن الظّنّ بهم، والإعراض عمّا يورده الإخباريّون عنهم، ممّا لا يسلم من مثله بشر، إلّا من عصمه الله، وهم غير معصومين، وحمل ما صحّ عنهم من الهفوات الّتي هي قطرة كدرة في بحر صاف من محاسنهم على أحسن المحامل، وتأويله بما يليق بجلالة قدرهم، ولا يحرم ذلك إلّا من حرم التّوفيق.
اللهمّ فانفعنا بحبّهم، واعصمنا عن سبّهم، وأحينا على سنّتهم، وتوفّنا على ملّتهم، واحشرنا في زمرتهم، يا أرحم الرّاحمين.
وما أحسن قول صاحب البردة- رحمه الله تعالى- فيهم، [من البسيط] «1» :
ما زال يلقاهم في كلّ معترك
…
حتّى حكوا بالقنا لحما على وضم «2»
(1) البردة، في جهاد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ص 33- 34.
(2)
الوضم: ما يضع القصّاب اللّحم عليه من خشبة أو نحوها. والمراد هنا: أنّه صلى الله عليه وسلم ما زال يقاتل الكفّار حتّى تركهم قتلى معدّين لأكل السّباع والطّيور لحومهم.
كأنّما الدّين ضيف حلّ ساحتهم
…
بكلّ قرم إلى لحم العدا قرم «1»
يجرّ بحر خميس فوق سابحة
…
يرمي بموج من الأبطال ملتطم «2»
من كلّ منتدب لله محتسب
…
يسطو بمستأصل للكفر مصطلم «3»
/ حتّى غدت ملّة الإسلام وهي بهم
…
من بعد غربتها موصولة الرّحم
مكفولة أبدا منهم بخير أب
…
وخير بعل فلم تيتم ولم تئم «4»
(1) القرم: السّيّد الشّجاع. القرم: شديد الشّهوة إلى اللّحم.
(2)
الخميس: الجيش العظيم، سمّي بذلك لأنّه مركّب في خمس قوائم؛ المقدّمة، والميمنة، والميسرة، والقلب، والمؤخّرة. السّابحة: الخيل. كأنّها تسبح مسرعة في طلب الكفّار.
(3)
يسطو: يصول. بمستأصل للكفر: أزال الكفّار من أصلهم. مصطلم: مهلك لهم.
(4)
البعل: الزّوج. تيتم: تفقد الأب. تئم: تفقد الزّوج، والأيّم: من لا زوج لها.
الخاتمة
في ذكر شيء من سيرته صلى الله عليه وسلم في أحواله النفسيّة وأقواله القدسيّة