الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوع الكتاب
المتبادر إلى الذهن عند قراءة عنوان كتاب عبد الحق أنه اقتصر على ذكر أحاديث الأحكام الشرعية، وما يلبث أن يذهب هذا الظن عند قراءة خطبة كتابه، إذ يقول عبد الحق مبيناً ما جمعه، مرغباً في حفظه، والعمل بما فيه:
"أما بعد، وفقنا الله أجمعين لطاعته، وأمدنا بمعونته، وتوفانا على شريعته، فإني جمعت في هذا الكتاب مفترقاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لوازم الشرع، وأحكامه وحلاله وحرامه، وفي ضروب من الترغيب والترهيب، وذكر الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما تُميز حافظها، وتُسعد العامل بها، وتخيرتها صحيحة الِإسناد معروفة عند النُّقَّاد، قد نقلها الإثبات، وتداولها الثقات
…
".
ظاهر حكاية عبد الحقّ عن موضوع كتابه أنه يختلف قليلاً عن تلك الكتب التي تعني نجمع أحاديث الأحكام والحلال والحرام، وانتقائها دون غيرها، وترتيبها على الأبواب الفقهية، والتي منها على سبيل المثال:
"عُمدة الأحكام عن سيد الآنام" للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة (600) هـ، اقتصر فيه على ما اتفق عليه الشيخان من أحاديث الأحكام.
"منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار" لأبي البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني المتوفى سنة (652) هـ، انتقى أحاديثه من الكتب الستة ومسند الِإمام أحمد في الأعم الأغلب، وهو من أوسع الكتب في هذا الباب، وشرحه الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار".
"الِإلمام بأحاديث الأحكام" للحافظ تقي الدين دقيق العيد المتوفى سنة (702) هـ، وهو مختصر إلا أنه اشترط فيه الصحة، وقد شرحه غير واحد.
"بلوغ المرام من أدلة الأحكام" الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة
(852)
هـ جمع فيه مختصراً يشتمل على أصول الأدلة الحديثية، للأحكام الشرعية، من الكتب الستة ومسند أحمد وغيرها كصحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي والدارقطني، وهو جيد في بابه، إذ تكلّم على الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً على وجه الدقة والإِيجاز، ومن شروحه النافعة "سبل السلام" لمحمد ابن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (1182) هـ.
غير أن كتاب أيى محمد ينفرد عن هذه الكتب -أو عن بعضها- ببعض الميزات كانت سبباً في اشتهاره في سالف الزمان، وحِمْلًا تسير به الركبان، منها:
1 -
سهولة حفظه، وقرب تناوله، إذ جعله مختصر الإِسناد، مقتصراً في تخرج الحديث على مصدر واحد.
2 -
جودة تصنيفه، وبراعة تأليفه، وحسن عرضه للأحاديث.
3 -
دقة اختياره للأحاديث، وانتقائه لرواياته، وتتبعه لزياداته، فقد كان يختار من روايات الحديت، أحسنها مساقاً، وأبينها مقصوداً، مع قوة الرجال، وعلو الإِسناد.
4 -
حكمه على عامة الأحاديث، والكلام على رواتها جرحاً وتعديلاً.
5 -
عدم اكتفائه بأحاديث الأحكام والحلال والحرام.
6 -
شموله لأدلة المذاهب جميعها، وعدم اقتصاره على أدلة مذهب بعينه.
7 -
كل هذا مع التجرد والإِنصاف، ولزوم العدل وعدم الإِجحاف.
وليس معنى أن كتاب عبد الحق لم يقتصر على أحاديث الأحكام، شموله لكل أبواب السُّنة وإحاطته بها، مثل كتير من الجوامع والمصنفات، المتضمنة من الحديث جميع الأنواع المحتاج إليها من العقائد والأحكام والرقائق والآداب والسير والمناقب وغير ذلك كان وجدنا إشارات إلى ذلك.
شروطه في اختيار الأحاديث
الباحث في كتاب عبد الحق يرى واضحاً اهتماماً كبيراً، باختيار
الأحاديث، وانتقاء الروايات، ويستطع أن يخرج بأسس اعتمدها في اختياره، وشروطا ارتكز عليها في انتقائه، وإن كان أشار إليها في المقدمة كما سيأتي:
هذه الشروط هى:
1 -
حسن السياق وتمامه:
يُعنى عبد الحق عناية فائقة بحسن سياق ألفاظ أحاديثه، وكمالها وبيانها لما تدل عليه من أحكام، فيختار أحسن روايات الحديث مساقاً، وأتمها كلاماً، وأبينها للمقصود، والأمثلة على هذا من الكثرة بمكان:
1 -
فهو يختار من روايات الحديث المتفق عليه رواية مسلم في الأعم الغالب، لأن مسلماً رحمه الله كان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياف، ويسوف المتون تامة محررة، لأن مسلماً صنف كتابه في بلده بحضوره أصوله، في حياته كثير من مشايخه، بخلاف البخاري فإنه صنف كتابه في طول رحلته، فروي عنه أنه قال:
"رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته في مصر"(1).
فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها، بل يتصرف فيه، ويسوقه بمعناه (2).
والحق أن هذا صنيع كثير ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد من المغاربة، فإنهم يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون (2). دون البخاري، من أجل هذا السبب، وسبب آخر هو: أن مسلماً يسوق أحاديث الباب كلها سرداً عاطفاً بعضها على بعض في موضع واحد، ولو كان المتن مشتملا على عدة أحكام، فإنه يذكره في أمس المواضع وأكثرها دخلًا فيه، فيسهل
(1) تاريخ بغداد: (2/ 11).
(2)
النكت على كتاب ابن الصلاح: (1/ 283)
ذلك على الباحث، بخلاف البخاري فإنه استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام، ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبطه منه، ولو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب (1).
ومن أجل هذا فضل طائفة من المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري، وليس هذا التفضيل راجعاً إلى الأصحية، بل إلى ما تقدم ذكره.
يقول أبو محمد القاسم بن يوسف التجيبي في برنامجه (2): "وقد فضل طائفة من أهل المغرب صحيح مسلم على صحيح البخاري، منهم أبو محمد بن حزم الحافظ لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسروداً غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها أهل الوصف المشروط في الصحيح وأيضا فإن مسلماً قد اختص بجمع طرق الحديث في مكان واحد، وبالله التوفيق".
وأما ما قاله الحافظ أبو علي النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج" ففي هذا الِإطلاق نظر، ردَّه غير واحد (3)
2 -
على أن البخاري ومسلماً إذا اتفقا على لفظ حديث، فإن عبد الحق حينئذ يكتفي بعزو الحديث إلى البخاري، مثال ذلك:
حديث أبي قتادة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فقال مستريح ومستراح منه"(4).
(1) المصدر السابق: (1/ 283).
(2)
انظر: (ص:93).
(3)
انظر: هدي السارى: (ص 12 وما بعدها) والنكت: (1/ 284).
(4)
البخاري: (11/ 369)(81) كتاب الرقائق (42) باب سكرات الموت- رقم (6512)، ومسلم:(2/ 656)(11) كتاب الجنائز (21) باب ما جاء في مستَريحَ ومستراح منه - رقم (61)(95).
فهذا الحديث اتفق على إخراجه الشيخان، وعزاه عبد الحق للبخاري وحده.
3 -
ومن باب أولى أن يعزو الحديث إلى البخاري دون مسلم إذا كان الحديث عند البخاري أتمّ مساقاً، أو أكمل بياناً، أو فيه زيادة،. مثال ذلك: حديث عقبة بن عامر "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات".
فكلمة "بعد ثماني سنين". ليست عند مسلم.
4 -
أخرج أحاديث من كتاب، وتركها في كتاب أشهر من الكتاب الذي أخرجها منه، ونبه -أحياناً- على كونها في ذلك الكتاب الأشهر، وإنما صنع ذلك- كما يقول هو في المقدمة- "لزيادة في حديث أو لبيانه، أو لكماله وحسن سياقه، أو لقوَّة سند في ذلك الحديث على غيره".
مثال ذلك مما جاء في أول باب "ما جاء في النجو والبول والدم
…
": الطحاوي، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تدافعوا الأخبثين: الغائط والبول في الصلاة" خرَّجه مسلم بن الحجاج (1). ولم يفسر الأخبثين ..
ونأخذ هنا على عبد الحق أنه أوهم أن مسلماً أخرج الحديث من مسند أبي هريرة، وليس كذلك عنده، وإنما هو من مسند عائشة، رضي الله عنها. وذكر من طريق الترمذي (2)، عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد العشاء في جماعة كان له كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة" ثم قال: خرَّجه مسلم (3) وهذا أليق. اهـ.
(1) مسلم: (1/ 393)(5) كتاب المساجد (16) باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، رقم (560). من حديث عائشة.
(2)
الترمذى: (1/ 433)(2) أبواب الصلاة (165) باب ما جاء فى فضل العشاء والفجر فى جماعة، رقم (221).
(3)
مسلم: (1/ 454)(5) كتاب المساجد (46) باب فضل صلاة العشاء والصبح جماعة، رقم (656).
ولفظ الحديث في مسلم: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كلّه".
5 -
ما قاله عبد الحق في مقدمة الأحكام الوسطى "وقد يكون حديثاً بإسناد
صحيح، وله إسناد آخر أنزل منه في الصحة، لكن يكون لفظ الإِسناد النازل أحسن مساقاً، أو أبين، فآخذه لما فيه من البيان، وحسن المساق، إذ المعنى واحد، إذ هو صحيح صت أجل الإِسناد الآخر".
وقد يصلح مثلاً على هذا ما ذكره عبد الحق من طريق أبي داود (1)، عن أبي سعيد الخدري "أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها، ثم أقبل على الناس مغْضباً، فقال: "أيسُرُّ أحدكم أن يُبصق في وجهه؟! إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه عز وجل والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه، ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمر فليقل هكذا" ووصف ابن عجلان ذلك "أن يتفل في ثوبه، ثم يرد بعضه على بعض".
ثم قال خرجه مسلم والبخاري إلا ذكر العرجون. اهـ.
ولفظ الحديث في صحيح البخاري (2): "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة، في ضى أن يبزق الرجلُ بين يديه أو عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى". ونحوه لفظ مسلم (3). أخرجاه من طريق سفيان، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن أي سعيد، وأخرجه أبو داود من طريق خالد بن الحارث، عن محمد ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد، ورجاله ثقات، غير
(1) أبو داود (1/ 323)(2) كتاب الصلاة (22) باب كراهة البزاق في المسجد، رقم (480).
(2)
البخاري: (1/ 609)(8) كتاب الصلاة (36) باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، رقم (413).
(3)
مسلم: (1/ 389)(5) كتاب المساجد (13)، باب النهي عن البصاق: في المسجد في الصلاة وغيرها، رقم (548).
محمد بن عجلان، لخص ابن حجر أمره، فقال: صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة (1)، وقال في تهذيب التهذيب: أخرج له مسلم في المتابعات ولم يحتج به، وذكره الذهبى في رسالته (2) "ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق. وقال: صدوق، قال الحاكم وغيره: سيئ الحفظ وخرج له مسلم في الشواهد".
فظهر أن طريق الشيخين أعلى رتبة، وأشد صحة. ولكن عبد الحق اختار رواية أبي داود لأنها أكمل من حيث المعنى، ولا تخرج في متنها عن رواية الصحيحين.
وقد يؤخذ هذا على عبد الحق، ولكن هذا هو منهجه الذي بينه وطبقه
(ب) قوة الإِسناد:
وفيما عدا ما رأيناه من ترك رواية الصحيحين إلى ما عداها فإنه في الأعم الأغلب يختار من روايات الحديث أقواها رجالاً، وأشدها اتصالاً، وأصحها إسنادا، وهذه أمثلة:
1 -
حديث "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" رواه الترمذي والنسائي، واختار عبد الحق ذكره من طريق النسائي لاتقان بعض رجاله.
إسناد الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا عبيدة بن حميد، عن يوسف ابن صهيب عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم به.
أما النسائي فقد رواه من طريق:
إسناد النسائي: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، قال: سمعت يوسف بن صهيب به.
فإن معتمر بن سليمان أوثق وأحفظ من عبيدة بن حميد، فإن معتمراً
(1) تقريب التهذيب: (ص: 496)، رقم (6136).
(2)
انظر: (ص: 165)، رقم (306).
قال فيه ابن حجر: ثقة، ورمز له بأن روى عنه الجماعة (1)، وقال في عبيدة: صدوق نحوي ربما أخطأ (2)، ونقل في تهذيبه (3) أقوال أهل الجرح والتعديل فيه، فوثقه قومٌ، ولم يوثقه آخرون، منهم يعقوب بن شيبة قال فيه: كتب الناس عنه ولم يكن من الحفاظ المتقنين، ومنهم الساجي قال فيه: ليس بالقوي وهو من أهل الصدق.
2 -
حديث " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له"رواه سمع من أشهر المصنفين الذين أخرج عنهم عبد الحق، عن حديث جماعة من الصحابة منهم:
1 -
ابن مسعود (4): أخرجه من حديثه: الترمذي، والنسائي، وعبد الرزاق.
2 -
أبو هريرة (5): أخرجه من حديثه: ابن أيى شيبة، والترمذي في علله، وابن الجارود، والبزار.
3 -
على بن أبي طالب (6): أخرجه من حديثه: أبو داود، والترمذي، وابن عدي.
4 -
جابر بن عبد الله (7): أخرجه من حديثه: الترمذي، وابن أبي شيبة.
واختار عبد الحق أن يخرجه من حديث أبن مسعود، من طريق الترمذي، وقال فيه: حسن صحيح، وقال ابن حجر: صححه ابن القطان وابن دقيق
(1) تقريب التهذيب: (539)، رقم (6785).
(2)
المصدر السابق: (379)، رقم (4408).
(3)
انظر: (7/ 81).
(4)
الترمذي (3/ 428)(9) كتاب النكاح (27) باب ماجاء فى المحلل والمحلل له، رقم (1120). والنسائي:(27) كتاب الطلاق (13) باب إحلال الطلقة ثلاثاً وما فيه ص التغليظ وابن أبي شيبة: (190)، رقم (18036).
(5)
ابن أبي شيبة في المصنف: (14/ 195).
(6)
أبو داود: (2/ 562)(6) كتاب النكاح (16) باب في التحليل، رقم (2076)، (2077). والترمذي: نفس الكتاب والبابين السابقين، رقم (1119).
(7)
الترمذي، وابن أبي شيبة نفس الموضع السابق.