المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌3 - نشأته ومعالم حياته: - الأحكام الصغرى - جـ ١

[عبد الحق الإشبيلي]

فهرس الكتاب

- ‌موضوع الكتاب

- ‌طريقته في عرض الأحاديث

- ‌طريقته في التبويب

- ‌طريقته في شرح غريب الحديث وبيان معانيه

- ‌(التعريف بمؤلف الكتاب)

- ‌1 - اسمه ونسبه:

- ‌2 - مولده:

- ‌3 - نشأته ومعالم حياته:

- ‌4 - علومه ومعارفه:

- ‌علوم الحديث:

- ‌أ - علم الحديث رواية

- ‌ب - علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال

- ‌ج - علم نقد الحديث وعلله:

- ‌د - علم مصطلح الحديث:

- ‌ثانيا: الفقه:

- ‌ثالثا: اللغة:

- ‌رابعاً: الأنساب:

- ‌خامساً: الوعظ والرقائق:

- ‌وأخيراً: الأدب والشعر:

- ‌النثر:

- ‌6 - (*) ثناء العلماء عليه:

- ‌شيوخه:

- ‌تلاميذه:

- ‌مصنفاته:

- ‌باب في الإِيمان

- ‌بابُ انقطاعِ النبوةِ بعدَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم

- ‌بابُ طلبِ العلم وفضله

- ‌كتاب الطهارة

- ‌باب الوضوء للصلاة وما يوجبه

- ‌باب ما جاء في الوضوء من النوم ومما مست النار

- ‌باب إذا توضأ ثم شك في الحديث

- ‌باب الوضوء لكل صلاة ومن صلى الصلوات بوضوء واحد، والوضوء عند كل حدث، والصلاة عند كل وضوء

- ‌باب المضمضة من اللبن وغيره ومن ترك ذلك

- ‌باب في السِّوَاك لكل صلاة ولكل وضوء

- ‌باب ذكر المياه وبئر بضاعة

- ‌باب وضوء الرجل والمرأة معًا من إناء واحد وما جاء في الوضوء بفضل المرأة، والوضوء في آنية الصفر والنية للوضوء والتسمية والتيمن

- ‌باب غسل اليد عند القيام من النوم ثلاتًا قبل إدخالها في الإِناء، وصفة الوضوء والإِسباغ، والمسح على العمامة والناصية والمسح على الخفين في السفر والحضر والتوقيت فيه

- ‌باب ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة، ونوم الجنب إذا توضأ وأكله ومشيه ومجالسته، وكم يكفي من الماء واغتسال الرجل والمرأة في إناء واحد، وما نُهي أن يغتسل فيه الجنب، وتأخير الغسل وتعجيله وصفته والتستر

- ‌بابٌ في الجنب يذكر الله تعالى وهل يقرأ القرآن ويمس المصحف، والكافر يغتسل إذا أسلم

- ‌باب في الحائض وما يحل منها، وحكمها، وفي المستحاضة والنفساء

- ‌باب التيمم

- ‌باب في قص الشارب، وإعفاء اللحية، والإستحداد، وتقليم الأظافر ونتف الإِبط، والختان، ودخول الحمام، والنهي أن ينظر أحدٌ إلى عورة أحد

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب فرض الصلوات والمحافظة عليها وفضلها ومن صلاها في أول وقتها

- ‌بابُ وقوتِ الصَّلاةِ وما يتعلق بها

- ‌باب فيمن أدرك ركعة مع الإِمام، وفيمن نام عن صلاة أو نسيها، ومن فاتته صلوات كيف يؤديها، وفي الإِمام إذا أخر الصلاة عن وقتها

- ‌باب صلاة الجماعة وما يبيحُ التخلف عنها وما يمنع من إتيانها وفضلها وفضل المشي إليها وانتظارها وكيف يمشي إليها ومن خرج إلى الصلاة فوجد الناس وقد صلّوا، أو صلى في بيته ثم وجد صلاة جماعة وفي خروج النساء إلى المسجد وما يفعلن

- ‌باب في المساجد

- ‌باب في الأذان والإِقامةِ

- ‌باب فيما يصلي به وعليه وما يكره من ذلك

- ‌باب في الإِمامة وما يتعلق بها

- ‌باب في سترة المصلي وما يصلي إليه وما نُهي عنه من ذلك

- ‌باب في الصفوف وما يتعلق بها

- ‌باب ما جاء لا نافلة إذا أقيمت المكتوبةُ وما جاء أن كل مصلٍ فإنما يصلي لنفسه وفى الخشوع وحضور القلب وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن فى الصلاة شغلاً

- ‌باب فى القبلة

- ‌باب تكبيرة الإِحرام وهيئةِ الصلاة والقراءة والركوع والسجود والتشهد والتسليم وما يقال بعدها

- ‌باب النهي عن رفع البصر إلى السماء وعن الكلام فيها

- ‌بابٌ في مسح الحصباء في الصلاة وأين يبزق المصلي وفي الإِقعاء وفيمن صلى مُختصِرًا ومعقوص الشعر وفي الصلاة بحفرة الطعام وقول النبي صلى لله عليه وسلم - لا غِرَارَ في الصلاة وما يفعل من أحدث فيها

- ‌باب الإلتفات في الصلاة، وما يفعل المصلي إذا سُلِّم عليه، ومن تفكَّرَ في شيء وهو في الصلاة، ومن صلى وهو حامل شيئًا، وما يجوز من العمل فيها، وما يقتل فيها من الدواب وما جاء في العطاس فيها والتثاؤب، وفي صلاة الريض، وفي الصحيح يصلي قاعدًا في النافلة، وفي الصلاة على الدابة

- ‌باب السّهو في الصّلاة

- ‌باب في الجمع والقصر

- ‌باب ذكر صلاة الخوف

- ‌باب في الوتر وصلاة الليل

- ‌باب في ركعتي الفجر وصلاة الضحى والتنفل في الظهر والعصر والمغرب والعشاء

- ‌باب في العيدين

- ‌باب في صلاة الإستسقاء

- ‌باب في صلاة الكسوف

- ‌باب

- ‌باب سجود القرآن

- ‌بابٌ في الجمعة

- ‌كتاب الجنائز

- ‌كتاب الزكاة

- ‌بابُ زكاةِ الحبوب وما سقته السماء وما سقي بالنضح

- ‌باب زكاة الإبل والغنم

- ‌ باب تفسير أسنان الإبل

- ‌باب ما لا يؤخذ في الصدقة

- ‌باب زكاة الذهب والورق

- ‌ باب زكاة الفطر

- ‌باب المكيال والميزان

- ‌باب في الخرص وفيمن لم يُؤدِ زكاة ماله

- ‌باب

- ‌كتاب الصيام

- ‌باب فضل الصيام، والنهي أن يقال قمت رمضان كله وصمته، وقول الله عز وجل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} - وفيمن له الفدية

- ‌باب الصوم والفطر للرؤية أو للعدة وفي الهلال يُرى كبيراً أو الشهادة على الرؤية وقوله عليه السلام: شهران لا ينقصان

- ‌باب متى يحرم الأكل وفي السحور وصفة الفجر، وتبييتِ الصيام ووقت الفطر وتعجيله والإفطار على التمر أو الماء

- ‌باب في صيام يوم الشك والنهي أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين والنهي عن الوصال في الصوم وما جاء في القُبلة والمباشرة للصائم، وفي الصائم يصبح جنباً

- ‌باب الحجامة للصائم، وفيمن ذرعه القيء ومن نسيَ فأكل أو شرب وهو صائم، وفيمن جهده الصوم

- ‌باب حفظ اللسان وغيره في الصوم وذكر الأيام التي نُهِيَ عن صيامها

- ‌باب فيمن دُعِيَ إلى طعام وهو صائم والصائم المتطوع يفطر، وفيمن ينوي الصيام من النهار

- ‌باب النبي أن تصوم المرأة متطوعة بغير إذن زوجها، وكفارة من وطئ في رمضان، وفي الصيام في السفر

- ‌‌‌بابفيمن مات وعليه صيام

- ‌باب

- ‌بابٌ

- ‌باب في الاعتكاف وليلة القدر

- ‌كتاب الحج

- ‌باب

- ‌باب القران والإِفراد

- ‌باب حجَّة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب

- ‌باب

- ‌باب

- ‌باب

- ‌باب سقاية الحاج

- ‌باب في الاشتراط في الحج وفي المحصر والمريض ومن فاته الحج

- ‌باب

- ‌باب في لحم الصيد للمحرم وما يقتل من الدواب وفي الحجامة وغسله رأسه وما يفعل إذا اشتكى عينيه

- ‌باب دخول مكة بغير إحرام، وفي بيع دورها وتوريثها، ونقض الكعبة وبنيانها وما جاء في مالها

- ‌باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وفي تحريم المدينة وفضلها وفضل مسجده وفي بيت المقدس وفي مسجد قباء

الفصل: ‌3 - نشأته ومعالم حياته:

‌3 - نشأته ومعالم حياته:

نشأ أبو محمد في إشبيلية، وليس لدينا تصور واضح عن نشأته المبكرة وأسرته، وتعدُّ هذه الفترة التي عاش فيها أبو محمد في إشبيلية، من أخصب الفترات بالنسبة لشيوع العلوم العربية والإِسلامية، ولا ريب أن ذلك كان له أبلغ الأثر في تكوين شخصية أبي محمد، فتلقى الحديث والفقه واللغة وغيرها من كبراء مشايخ إشبيلية، واجتهد في التحصيل والحفظ والإِتقان، وتلمذ لشيخ المقرئين والمحدثين وخطيبها أيى الحسن شريح بن محمد الرُّعيني (1)، وهو آخر من أجاز له مروياته وتواليفه أبو محمد بن حزم الظاهري.

وفي سنة (541) هـ وقعت فتنة كبرى في إشبيلية، وذلك أن الموحدين قضوا على المرابطين في المغرب، ثم اتجهوا إلى الأندلس، ودخلوا إشبيلية في (12/ 8/ 541) هـ بعد حصار (2)، فاستحل الموحدون سفك الدماء فيها ونهب الأموال.

فخرج منها أبو محمد إلى "لَبْلَة (3) " وقد ناهز الثلاثين من عمره المبارك، واستقر فيها بضبع سنين، سمع في غضونها أكابر علمائها، وأشاهر حفاظها، وتلمذ لهم، ولازم منهم أبا الحسن خليل بن إسماعيل السكوني (1)، وأبا جعفر أحمد بن أيى مروان (1)، مؤلف "المنتخب المنتقى" الذي بنى عليه عبدُ الحق أحكامه، ويبدو أن أبا محمد قد تأهل علمياً في لَبْلَة، إذ ألَّف كتابين كبيرين نُهبا منه فيما بعد في فتنة أخرى، عنيت بالكتابين:"الجامع الكبير في الحديث" و "جامع الكتب الستة".

لكن الفتن والحروب لم تلبث أن عكرمة عليه صفوة هذا الهدوء، إذ اقتحم

(1) ستأتي ترجمته محمد ذكر أشياخه.

(2)

انظر عصر المرابطين والموحدين: (1/ 325 - 326).

(3)

لبلة: قصبةُ كورة (أي وسط قرية) بالأندلس، يتصل عملها بعمل أكشونية شرقي اكشونية وغرب قرطبة، غزيرة التمر والشجر، كذا في مراصد الإطلاع:(3/ 1197).

ص: 23

لَبْلَة أحدُ الثوار على الموحدين، ثم أستردها منه والي الموحدين على قرطبة وإشبيلية، واعتبر أهل ليلة كلهم عصاةً، فأوقع فيهم بالسيف، وباع نساءهم وأولادهم، وقدرت القتلى بثمانية آلاف من بينهم أعيان العلماء (1)، كالفقيه المحدث أبي جعفر بن أبي مروان.

وامتمت من نجا من القتل كالعلامة الفقيه أبي بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن فرج بن الجد الفِهري اللبلي، ثم الإِشبيلي المالكي، قال الذهبي: كان كبير الشأن، انتهت إليه رئاسة الحفظ في الفتيا، -إلى أن قال- امتحن في كائنة ليلة، وقيِّد وسجن، وكان فقيه عصره، تخرَّج به أئمة (2).

أما عبد الحق فقد امتُحن في كتبه، فنُهب منه الكتابان المذكوران، وكانت هذه الفتنة في (14/ 8/ 549) هـ، فارتحل إلى بجاية، ويبدو أن رحيله إليها لم يكن مقصودا بادي الأمر، إذ يقول ابو جعفر بن الزبير:"وكان قد رحل عن الأندلس بنية الحج، فلم يقدر له ذلك، فأقام ببجاية (3) " التي كانت وقتذاك قابعة في أيدي الموحدين الذين أنهوا دولة الحماديين بها سنة (547) هـ.

وكانت بجاية في هذا الوقت تعيش أزهى عصورها العلمية، فأضحت مثابة للعلماء، ومنارة لأنواع من العلوم والمعارف، وكانت طريقاً للحجيج بسبب موقعها الفريد، فكان طلحة العلم يمرون بأبي محمد، ويأخذون عنه، بل هو نفسه كان يسعى للقاء الطلبة الوافدين إلى بجاية، فقد كان حريصاً على تبليغ

العلم، جاداً فِى نشره.

قال أبو جعفر بن الزبير: "وكان رحمه الله من أهل العلم والعمل، زاهداً فاضلاً عاكفاً على الإشتغال بالعلم جاداً في نشره، وإذاعته، حسن النية

(1) انظر عصر الرابطين والموحدين: (1/ 340) وعدَّ مؤلفه ممن قتل من العلماء أبو الحكم بن بطال وأبو عمار بن الجد، وتبعه الشيخ أبو محمد الرحمن فى الشروح والتعليقات:(1/ 28)، والحق أن ابن الجد، قد توفي بعد ذلك في شوال شة (586) هـ، انظر ما يأتي من مصادر.

(2)

التكملة لوفيات النقلة: (1/ 145) وسير أعلام البلاء: (21/ 177).

(3)

صلة الصلة: (5).

ص: 24

فيه، ولذلك اشتهر اسمه، وعُني الناس بتواليفه (1) "

ومما يدل على أثر موقع بجاية في ارتفاع ذكر أبي محمد، وانتشار كتبه مبها ذكره ابن الزبير في ترجمته لأيى الحجاج يوسف بن محمد البلوي (604) قال:"ورحل إلى الحج عام (560) أو نحوه، فأخذ في طريقه ببجاية عن أبي محمد عبد الحق الأزدي الإِشبيلي، وعزم عليه في تأليف كتاب الأحكام، وقد فاوضه في ذلك، ولما قفل عن رحلته أقام معه ببجاية، وصحبه أشهرًا، وأخذ عنه أحكامه وغير ذلك (2) "

وما يقول ابن الأبار في ترجمة أبي عبد الله محمد بن أحمد البلنسي: "خرج إلي الحج في شبيبته سنة ست أو سبع وستين وخمس مئة، فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإِشبيلي وسمع منه، وأجاز له"(3)

وقال في ترجمة ابن الحاج: ورحل حاجاً فلقى في طريقه أبا محمد عبد الحق

ابن عبد الرحمن الإِشبيلي نزيل بجاية، وسمع منه (4).

وتهيأت الظروف في بجاية ليصنف أبو محمد التصانيف الحافلة، التي أُغرم بها أهل الشرق والغرب معاً.

قال الغبريني: رحل إلى بجاية، وتخيرها موطناً، وكمل بها خبرة، فألف التآليف، وصنف الدواوين، وولي الخطبة وصلاة الجماعة بجامعها الأعظم، وجلس للوثيقة والشهادة (5).

وقال الذهبي: سكن مدينة بجاية

فنشر بها علمه، وصنف التصانيف،

(1) صلة الصلة (5).

(2)

المصدر السابق (217).

(3)

التكملة لكتاب الصلة: (2/ 614).

(4)

المصدر السابق: (2/ 585).

(5)

عنوان الدراية. (41).

ص: 25

واشتهر اسمه، وسارت بأحكامه الصغرى والوسطى الركبان (1).

وقال ابن شاكر الكتبي: ونزل بجاية وقت فتنة الأندلس، فبث بها علمه، وصنف التصانيف، وولي الخطبة والصلاة بها (2).

ويلقي الضوء على حياة عبد الحق ببجاية أبو جعفر الضبي (ت 599) صاحب بغية الملتمس وأحد تلاميذ عبد الحق الذين عرفوه عن كثب ويقول في ذلك "صحبته مدة مقامي ببجاية وسامرته"(3) ويوضح المقري في "نفح الطيب"(4) أن هذه الصحبة كانت أثناء رحلة حجه، يقول الضبي:

"أبو محمد الخطيب ببجاية، فقيه، محدث مشهور، حافظ، زاهد، فاضل، أديب شاعر، له تواليف حسان، قرأت عليه بعضها، وناولني أكثرها، وكان رحمه الله متواضعاً، متقللا من الدنيا، قسم نهاره على أقسام:

- كان إذا صلى الصبح في الجامع أقرأ إلى وقت الضحى ثم قام فركع ثماني ركعات.

- ونهض إلى منزله، واشتغل بالتأليف إلى صلاة الظهر.

- فإذا صلى الظهر أدى الشهادات، وقرئ عليه في أثناء ذلك إلى العصر.

- فإذا صلى العصر مشى في حوائج الناس.

- وكان لا يدخل بجايةَ أحدٌ من الطلبة إلا سأل عنه، ومشى إليه، وآنسه بما يقدر عليه (5).

قال الغبريني: سمعت أنه رحمه الله كان يقسم ليله ثلاثاً، ثلثا للقراءة، وثلثا للعبادة، وثلثا للنوم، وكان مع ذلك متقللاً من الدنيا، مقتصراً على أقل

(1) سير أعلام النبلاء: (21/ 168).

(2)

فوات الوفيات: (2/ 256).

(3)

بغية الملتمس: (391).

(4)

انظر: (2/ 381).

(5)

بغية الملتمس: (391).

ص: 26

الكافي منها، وكان مصاحباً وموالياً للفقيه أبى علي المسيلي رحمه الله (1).

ومما يُلقي الضوء أيضا على حياة أبى محمد ببجاية وعلاقته بعلمائها، ما ذكره الغبريني في ترجمة الفقيه أبي علي السيلي، قال:

"وكان رحمه الله وللفقيه أبي محمد عبد الحق الإِشبيلي، وللفقيه العالم أبي عبد الله محمد بن عمر القرشي، المعروف بابن قرشية، مجلس، أظنه يجلسون فيه للحديث، وكثيراً ما كانوا يجلسون بالحانوت الذي هو بطرف حارة القدسي، وهو المقابل للطالع لحارة المذكورة، وكان الحانوت المذكور يسمى

"مدينة العلم" لإجتماع هؤلاء الثلاثة فيه" (2).

وقال في ترجمة عبد الحقّ: "وكان كثيراً ما يجلس مع الفقيه أبي علي المسيلي -رحمهما الله- فربما أتته الوصيفة من داره لقضاء بعض مآرب منزله، فإذا أتته تطلب منه ما يقضى بالشيء اليسير يخرج لها أضعاف ذلك

فربما قال له بعض الحاضرين: هذا اكثر من المطلوب أو من المحتاج إليه، فيقول: لا أجمع على أهل المنزل ثلاث شينات، شيخ وإشبيلى وشحيح، يكفى ثنتان، وهذا من لوذعته وطيب طينته، مع ما هو عليه من جلالة العلم، وكمال الفهم (3) ".

على أن هاتيك الحياة الوادعة لم تدم طويلاً، فقد هجم على بجاية عليُّ ابن إسحاق، المشهور بابن غانية المَيُورْقي اللَّمتُوني (4) ودخلها يوم الإثنين (6/ 8 /580) هـ في أول ولاية المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وأقام بها اسبعة أيام صلى فيها الجمعة فخطب ودعا لبنى العباس، وتولى له أبو محمد الصلاة والخطابة والقضاء!

(1) عنوان الدراية: (42).

(2)

المصدر السابق: (36).

(3)

عنوان الدارية: (44).

(4)

أمير جزائر مَيُورقة وما حولها: مَنورقة، وياسة، في شرقي الأندلس قال الذهبى: وميورقة هذه طيبة خصبة، نحو ثلاثين فرسخا، عديمة الهوام والوحوش.

وقد أقام بميورقة محمد بن غانية جدّ علي، وأقام الدعوة لبني العباس على قاعدة المرابطين إلى أن مات سنة (546)، فخلفه ابنه إسحاق وأقبل على العزو في البحر، وبقى يداري الموحدين إلى أن توفي =

ص: 27

قال عبد الواحد المراكشى في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب: "وكان خطيبه الفقيه الإِمام المحدّث أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإِشبيلي، مؤلف كتاب باب الأحكام وغيره من التآليف، فأحنق ذلك عليه أبا يوسف يعقوب أمير المومنين، ورام سفك دمه؛ فعصمه الله منه، وتوفَّاه حتف أنفه، وفوق فراشه (1) ".

وقال الذهبي في ترجمة أبي يوسف المنصور: فما عتم أن خرج عليه عليُّ ابن غانية الملثم، فأخذ بجاية وخطب للناصر العباسي، فكان الخطيب بذلك عبد الحق مصنف "الأحكام" ولولا حضور أجله، لأهلكوا المنصور (2).

وقال ابن الزبير: "ودُعى بها إلى خطَّتي القضاء والخطابة للموحدين، فامتنع عن ذلك وأبى، ودعى إلى ذلك حين دخلها الميورقي فأجاب، وكان ذلك سبب امتحانه عند خروج الميوروقي عنها، ورجوعها للموحدين، واستُغرب ذلك المرتكب من أبي محمد عبد الحق، وجهات الإعتذار في مثله متسعة (3) ".

وكان رجوع بجاية للموحدين، في (19/ 2/ 581) هـ، ووفاة أبي محمد -رحمة الله عليه- في أواخر ربيع الآخر سنة (581) هـ وقيل سنة (582) هـ، والأول أقرب -وهو قول الأكثرين- لدنوه من تاريخ عودة بجاية- للموحدين وتوغر صدورهم عليه، وامتحانهم له، وهذا ما يدل عليه كلام ابن الأبار والذهبي وابن شاكر.

قال الذهبي: وبها توفي بعد محنة لحقته من الدولة في ربيع الآخر،

= سنة (579) استشهد في بلاد الفرنج، فولي المملكة بعده ابنه الأمير علي، انظر السير:(73/ 21).

(1)

انظر المعجب: (269 - 272).

(2)

سير أعلام النبلاء: (21/ 313).

(3)

صلة الصلة: (5).

ص: 28

عن إحدى وسبعين سنة (1).

وقال ابن الأبار: وتوفي ببجاية بعد محنة نالته منبل الولاة في ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين وخمس مئة (2)

قال ابن شاكر: وتوفى بعد محنة نالته من قبل الولاية (3).

وقال ابن الزبير: وأحسب وفاته كانت إثر امتحانه (4).

وبعد

فهذه معالم حياة الإِمام الحافظ أبي محمد عبد الحق الإِشبيلي رحمه الله

وبقى فيها أن نناقش أمرين:

الأول: ميله لابن غانية الميورقي اللمتوني وإعراضه عن الموحدين.

الثاني: سبب وفاته.

أما الأمر الأول فواضح إعراض عبد الحق عن الموحدين من خلال استعراض معالم حياته، فقد ودَّع إشبيلية مسقط رأسه حين دخلوها، ورحل عن ليلة بعد ما أوقعوا في أهلها السَّيف وعندما استوطن ببجاية أبى دعوتهم إلى خطتي القضاء والخطابة، والحقُّ أن أبا محمد يصدر في موقفه ذلك عن رأي يراه ويذهب إليه- وهذا أجمع ظني وعلى ما يليق بمثل عبد الحق- إذ إن الموحدين نازعوا المرابطين أمرهم، وخرجوا من الطاعة، وفارقوا الجماعة، وفرقوا أمر هذه الأمة، وأخذوا البلاد عنوة، وبزوال دولة المرابطين وأفول نجمهم انقطعت الدعوة العباسية، وانفصمت بلاد المغرب والأندلس عن تلك الخلافة الشرعية فلعل أبا محمد رأى أن الموحدين خارجون، وأن خلافتهم ليست شرعية، لا سيما وهم غير قرشيين بخلاف العباسين.

(1) العبر: (3/ 82).

(2)

سير أعلام النبلاء: (21/ 199)، الديباج المذهب:(176).

(3)

فوات الوفيات: (2/ 257).

(4)

صلة الصلة: (ص 6).

ص: 29

والحق أن النصوص الشرعية تؤيد هذا القول جداً، فحدث عبد الله ابن مسعود، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال هذا الأمر في قريش، ما بقى من الناس اثنان" رواه الشيخان (1)، وحدث عتبة بن

عبد عنه صلى الله عليه وسلم، قال:"الخلافة في قريش" رواه أحمد (2)

وغيره، وفي الباب أحاديث أخرى.

قال النووي: هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإِحماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم فهو محجوج بإحماع الصحابة والتابعين، فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة -ثم نقل عن القاضى قوله- اشتراط كونه قرشياً هو مذهب العلماء كافة

وقد احتج به أبو بكر وعمر - رضى الله عنهما - على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد،

وقد عدَّها العلماء في مسائل الإِجماع ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار

ولا اعتداد يقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش (3).

ومن ثم مال أبو محمد لابن غانية، لأنه يدعو لبنى العباس، وتولى لهم الخطابة والقضاء وامتنع عن ذلك للموحدين.

ينضاف إلى ذلك ما عاينه أبو محمد من ادعائهم العصمة لزعيمهم ابن تومرت، وزعمهم أنه المهدي المنتظر، وحملهم أهل المغرب على ما كتبه ابن تومرت في "المرشدة"، وقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية في "درء تعارض

(1) البخاري: (13/ 112)(93) كتاب الأحكام (2) باب الأمراء من قريش، رقم (740).

مسلم: (13/ 1452)(33) كتاب الإِمارة (1) باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، رقم (1820). واللفظ له.

(2)

المسند: (4/ 185).

(3)

صحيح مسلم بشرح النووي: (12/ 200).

ص: 30

العقل والنقل (1)" أنه "لم يذكر في مرشدته شيئاً من إثبات الصفات وْلا إثبات الرؤية، ولا قال: إن كلام الله غير مخلوق، ونحو ذلك من المسائل التي جرت عادة مثبتة الصفات بذكرها

" وقال الذهبي: "كان لهجا بعلم الكلام، خائضا في مزالّ الأقدام، ألف عقيدة لقَّبها بالمرشدة، فيها توحيد وخير بانحراف! فحمل عليه أتباعه وسماهم الموحدين، ونبذ من خالف المرشدة بالتجسيم، وأباح دمه، نعوذ بالله من الغي والهوى (2) ".

قال اليسع بن حزم: سمَّى ابن تومرت المرابطين بالمجسمين، وما كان أهل المغرب يدينون إلا بتنزيه الله تعالى عما لا يجب وصفه بما يجب له، مع ترك خوضهم عما تقصر العقول عن فهمه

إلى أن قال: فكفرهم ابن تومرت لجهلهم العرض والجوهر، وأن من لم يعرف ذلك لم يعرف المخلوق من الخالق وبأن من لم يهاجر إليه، ويقاتل معه، فإنه حلال الدم والحريم (3) ".

هذا إلى جانب ما رآه من الموحدين من سفكهم الدماء ويكفي أن قتلى لَبْلَة على أيديهم قدروا بثمانية آلاف من بينهم أعيان العلماء، وأنهم لم يكتفوا بذلك، بل باعوا نساءهم وأولادهم!

أما الأمر الثاني، وهو سبب موت عبد الحقّ فيبدو أنه إثر محنة نالته حقاً من الموحدين، على ما قرره ابن الزبير والأبار والذهبي وابن شاكر، فمن البعيد عن الموحدين، وقد قتلوا أعيان العلماء في لَبْلَة، أن يتركوا أبا محمد وقد تولى لأعدائهم الخطابة والقضاء، ولم يتولهما لهم، ولا ينافي هذا قول المراكشي "فأحنق ذلك عليه أبا يوسف يعقوب أمير المؤمنين، ورام سفك دمه، فعصمه الله منه وتوفاه حتف أنفه، وفوق فراشه" لأن فيه تقريراً أن أبا يوسف رام سفك دمه فعلاً، ولا يمنع أن يموت فوق فراشه بعد إيذائهم له ويبدو أن قول المراكشي "فعصمه الله منه" معناه عصمة من سفك دمه فقط، وليس معناه

(1) انظر: (3/ 438) وما بعدها.

(2)

سير أعلام النبلاء: (19/ 540).

(3)

المصدر السابق: (19/ 550).

ص: 31