الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال:
(الفصل التاسع: في كيفية الاستدلال بالألفاظ
.
وفيه مسائل:
الأولى: لا يخاطبنا الله بالمهمل؛ لأنه هذيان
.
احتجت الحشوية بأوائل السور. قلنا: أسماؤها
(1)
. وبأن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
(2)
واجبٌ وإلا يتخصص المعطوفُ بالحال. قلنا: يجوز حيث لا لَبْس، مثل:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}
(3)
. وبقوله تعالى: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}
(4)
. قلنا: مَثَلٌ في الاستقباح).
هذا الفصل معقود لبيان كيفية الاستدلال بخطاب الله تعالى، وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم على الأحكام، وفيه مسائل: الأولى والثانية منها يجريان مجرى المبادئ للمقصود.
أما الأولى: فنقول: لا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بالمهمل، أي: بما ليس له معنى؛ لأنه نقص، والنقص محال على الله تعالى
(5)
. هذا كلام المصنف.
وأما الإمام ففي عبارته قلق، وذلك أنه قال: "لا يجوز أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئًا، والخلاف فيه مع الحشوية. لنا وجهان:
(1)
في (ص)، و (ك):"أسماء".
(2)
سورة آل عمران: الآية 7.
(3)
سورة الأنبياء: الآية 72.
(4)
سورة الصافات: الآية 65.
(5)
انظر: جمع الجوامع مع المحلي وما قاله البناني في حاشيته 1/ 232.
أحدهما: إن التكلم بما لا يفيد شيئًا هذيان، وهو نقص، والنقص محال على الله تعالى.
والثاني: أن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدىً وشفاءً وبيانًا، وذلك لا يحصل فيما
(1)
لا يفهم معناه"
(2)
. انتهى.
ووجه القلق: أن أول كلامه يدل على أن الخلاف في جواز التكلم بشيء لا يَعْني به شيئًا، وإنْ كان ذلك الذي تكلم به له معنى يُفْهم منه. وثانيه وثالثه - وهما دليلاه - يدلان على أن الخلاف في جواز التكلم بما لا يفيد شيئًا.
وعبارة المصنف توافق ما أدته عبارة الإمام ثانيًا وثالثًا لا ما اقتضته أولًا، وبها صَرَّح الآمدي، إذ قال:"لا يُتَصَوَّر اشتمال القرآن الكريم على ما لا معنى له أصلًا"
(3)
.
وقد عرفت أن الخلاف في المسألة مع الحشوية: وهم طائفة ضلوا عن سواء السبيل، وعَمِيَت أبصارهم يُجرون آيات الصفات على ظاهرها
(4)
،
(1)
في (ت): "مما". وفي المحصول: "مما".
(2)
انظر: المحصول 1/ ق 1/ 541.
(3)
انظر: الإحكام 1/ 167.
(4)
أي: الظاهر في حق الخَلْق، لا الظاهر الذي في حق المولى تعالى أي: المعنى اللائق به تعالى، فإنه مسلَّم ومُفَوَّض علمه إليه تعالى، هو أعلم بما وصف به نفسه، وبمراده من ذلك، والشارح يقصد الأول، وأما الثاني فمع كونه يسلِّم به - كما سيأتي في كلامه - إلا أنه لا يسميه ظاهرًا كما هو حال كثير من أهل العلم؛ لأن الظاهر هو المفهوم =
ويعتقدون أنه المراد. سُمُّوا بذلك؛ لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري
(1)
رحمه الله تعالى، فوجدهم يتكلمونَ كلامًا ساقطًا، فقال: ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة. وقيل: سموا بذلك لأنَّ منهم المجسِّمة، أوْ هم هم. والجسم مَحْشُو، فعلى هذا القياسُ فيه الحَشْوية بسكون الشين؛ إذِ النسبةُ إلى الحَشْو. وقيل: المرادَ بالحشوية: الطائفة الذين لا يرون البحث في آيات الصفات التي يتعذر إجراؤها على ظاهرها، بل يؤمنون بما أراده الله مع جَزْمهم المُعْتَقَد بأن
(2)
الظاهر غيرُ مراد، ولكنهم
= من اللغة واستعمال العرب، وهو منفيٌّ لأنه تشبيه، والحاصل أننا إذا فهمنا كلامهم ومقصدهم بألفاظهم - تبين أن لا خلاف أصلًا، وانظر في شرح الكوكب 2/ 141، كيف جَعَل ظاهر الصفات تشبيهًا، وهذا على الاصطلاح في الظاهر من المعنى اللغوي، وأما المعنى اللائق به تعالى فلا يسمونه ظاهرًا، وإن قالوا بأنه هو المراد من اللفظ؛ لأن هذا المعنى غير ظاهر لنا، لا تدركه أفهامنا. فمن قال بإجراء اللفظ على ظاهره لم يقصد المعنى اللغوي الحقيقي، بل قصد إبقاء اللفظ كما ورد، وتفويض علم المراد به إلى قائله سبحانه وتعالى. ومن قال بنفي الظاهر استند إلى أن إرادة الظاهر - وهو ما ظهر لغة - تشبيه، فيكون المراد غيره وهو معنى لائق بالله تعالى، فلا خلاف بين من يقول: نجري على الظاهر، ومن يقول: لا نجري على الظاهر. والله أعلم.
(1)
هو الحسن بن أبي الحسن يسار، أبو سعيد البصريّ، مولى زيد بن ثابت الأنصاريّ رضي الله عنه، وقيل غير ذلك، ولد رحمه الله لسنتين بقيتا مِنْ خلافة عمر رضي الله عنه. كان سيد زمانه علمًا وعملًا، ثقةً حجةً، من الشجعان الموصوفين، ومن أهل الفصاحة المعروفين. توفي رحمه الله سنة 110 هـ. انظر: سير 4/ 563، طبقات ابن سعد 7/ 156.
(2)
في (ت): "أن".
يفوضون التأويل إلى الله سبحانه وتعالى
(1)
. وعلى هذا فإطلاق الحشوية عليهم غير مستحسن؛ لعدم مناسبته لمعتقدهم؛ ولأن ذلك مذهب طوائف السلف من أهل السنة رضي الله عنهم.
إذا عرفتَ ذلك فقد استدل المصنف على امتناع ذلك: بأنه هذيان.
قال الجاربردي شارح الكتاب: وهو مصادرة على المطلوب؛ لأن الهذيان: هو اللفظ المركب المهمل، وهو الذي ادّعَى امتناعه
(2)
.
وهذا اعتراض منقدح، ولكن المصنف أخذ هذا الدليل من الإمام
(3)
، والإمام إنما استدل
(4)
به على ما صَدَّر به المسألة من قوله: لا يتكلم الله بشيء، و
(5)
لا يعني به شيئًا
(6)
. وقد بينا أن هذه الدعوى في الحقيقة غير دعوى المصنف، فليس استدلال الإمام بكونه هذيانًا مصادرة على المطلوب. نعم هو ضعيف من جهة أنه قد يقال: لا نسلم أن الكلام المفيد بالوضع الذي فاه به الناطق إذا لم يَعْن به شيئًا - هذيانٌ، وإنما يكون هذيانًا إذا لم يكن له مدلول في نفسه. وقد يقال: إنَّ قَصْد
(1)
فالظاهر الذي في حق المخلوق متعذر، والظاهر أي: المعنى الذي في حق الخالق يُفَوَّض تأويله إليه سبحانه وتعالى، فالشارح يريد بتعذر إجراء الظاهر هو ما كان في حق المخلوق؛ لأنه تشبيه.
(2)
انظر: السراج الوهاج 1/ 406.
(3)
انظر: المحصول 1/ ق 1/ 541.
(4)
في (غ): "يستدل".
(5)
سقطت الواو من (ت)، و (غ).
(6)
انظر: المحصول 1/ ق 1/ 539.
المتكلم بالكلام معناه - شَرْطٌ في كونه كلامًا مفيدًا، وقد سبق البحث في هذا.
واحتجت الحشوية على ما ذهبوا إليه بثلاثة أوجه:
الأول: زعموا أنه ورد في القرآن في قوله تعالى: {الم}
(1)
{المص}
(2)
{كهيعص}
(3)
{طه}
(4)
{حم}
(5)
وأمثالها، فإنا لا نفهم لها معنى.
والجواب: أن أقوال أئمة التفسير في ذلك كثيرة مشهورة، قال الإمام:"والحق أنها أسماء للسور"
(6)
، وتبعه المصنف، وهو ما عليه جماعةٌ من المفسرين
(7)
.
(1)
سورة البقرة: الآية 1، سورة آل عمران: الآية 1. سورة الروم: الآية 1. سورة لقمان: الآية 1. سورة السجدة: الآية 1.
(2)
سورة الأعراف: الآية 1.
(3)
سورة مريم: الآية 1.
(4)
سورة طه: الآية 1.
(5)
سورة غافر: الآية 1. سورة فصلت: الآية 1. سورة الشورى: الآية 1. سورة الزخرف: الآية 1. سورة الدخان: الآية 1. سورة الجاثية: الآية 1. سورة الأحقاف: الآية 1.
(6)
المحصول 1/ ق 1/ 543.
(7)
رُوي هذا عن زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مَوْلى أم هانئ. انظر زاد المسير 1/ 21، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره 1/ 36: "قال العلامة محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: وعليه إطباق الأكثر، ونقل عن سيبويه أنه نَصَّ عليه. ويُعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة {الم} السجدة، =
الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
(1)
. وجه الاحتجاج: أن الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} واجبٌ، وحينئذ فـ {وَالرَّاسِخُونَ} مبتدأ و {يَقُولُونَ} خبر عنه. والدليل على أنه يجب الوقف على ذلك: أنه لو لم يجب لكان الراسخون معطوفًا عليه، وحينئذ يتعين أن يكون قوله تعالى:{يَقُولُونَ} جملة حالية، والمعنى: قائلين. وإذا كانت حاليةً فإما أن تكون حالًا من المعطوف
(2)
والمعطوف عليه، أو من المعطوف فقط. والأول: باطل؛ لامتناع أن يقول الله تعالى: {آمَنَّا بِهِ} . والثاني: خلاف الأصل؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلَّقات، وإذا انتفى هذا تَعَيَّن ما ادعيناه مِنْ وجوب الوقف على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} ، وإذا وجب الوقف على ذلك لَزِم أنه تكلم بما لا يَعْلم تأويله إلا هو، وهو المدَّعى.
واعلم أن هذا الدليل لا يوافق دعوى المصنف؛ لأنه يقتضي أن الخلاف
= و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} . وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال {الم} ، و {حم} ، و {المص} ، و {ص} ، فواتح افتتح الله بها القرآن، وكذا قال غيره عن مجاهد. وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال:{الم} اسم من أسماء القرآن. وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم، ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه اسم من أسماء السور، فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن، فإنه يبعد أن يكون {المص} اسمًا للقرآن كله؛ لأن المتبادر إلى فهم سامع مَنْ يقول: قرأت {المص} إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن، والله أعلم".
(1)
سورة آل عمران: الآية 7.
(2)
وهم الراسخون في العلم
في الخطاب بلفظٍ له معنى لا نفهمه، ودعواه فإما ليس له معنى مطلقًا. ثم إنَّ هذا - أعني: كَون
(1)
القرآن يشتمل على ما لا يُقدر على فَهْمه - مما لا ينازع فيه، فالناس في كتاب الله تعالى على مراتب ودرجات، بحسب تفاوتهم في الأفهام والتضلع من العلوم، فرُبَّ مكانٍ يشترك في فهمه الخاصُّ والعام؛ وآخر لا يفهمه إلا الراسخون، ويتفاوت العلماء إلى ما لا نهاية له، على حسب استعدادهم وأقدارهم، إلى أن يصل الأمر إلى (ما لا يفهمه أحدٌ غير)
(2)
النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقع معه الخطاب، فهو يَفْهم ما خوطب به لا يَخفى عليه منه خافية.
وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه: بأنه إنما يمتنع
(3)
تخصيص المعطوف بالحال إذا لم تقم قرينةٌ تدل عليه، وأما عند قيام القرينة الدافعة لِلَّبْس فلا يمتنع
(4)
حينئذ، وذلك كقوله تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} فإن {نَافِلَةً} حال مِنْ {وَيَعْقُوبَ} فقط؛ لأن النافلة ولد الولد وما نحن فيه كذلك
(5)
؛ إذ العقل قاض بأنه سبحانه وتعالى لا يقول آمنا به.
الثالث: قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ}
(6)
فإن العرب
(1)
سقطت من (ت)، و (غ).
(2)
في (ت)، و (غ):"ما لا يفهمه إلا".
(3)
في (ت)، و (ك):"يُمْنع".
(4)
في (ك): "بمنع".
(5)
انظر: فتح القدير 3/ 416.
(6)
سورة الصافات: الآية 65.