الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: أسباب العلة
أذكر هنا أسباب العلة بالمعنى العام الذي أشرت اليه فيما سبق، وقد حصر بعض الباحثين أسباب العلة في سبعة رئيسة (1)، ويبدو لي أنها يمكن أن تصل الى تسعة أسباب. أذكرها بايجاز فيما يأتي:
أولا: السبب العام: (2)
وهو الضعف البشري الذي لا يكاد يخلو منه انسان وأن دخول الخطأ والنسيان والوهم على الجنس البشري مما علم بالضرورة فالوهم لا يخلو منه حتى كبار الأئمة الضابطين، وهذا واضح لنا من تعريف الحديث الصحيح (3) :(فهو الذي رواه عدل تام الضبط عن مثله الى منتهاه متصل السند، ولا يكون شاذا ولا معللا) . فاشتراطنا لصحة الحديث عدم الشذوذ والعلة يدل على أن الرواة التامي الضبط يدخل في حديثهم الشذوذ والعلة، ولذا يقول الامام أحمد:(4)((ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟)) .
ويقول الامام مسلم: (5)(فليس من ناقل خبر وحامل أثر من السلف الماضين الى زماننا وان كانوا من أحفظ الناس وأشدهم توقيا واتقانا لما يحفظ وينقل - الا الغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله) .
(1) الدكتور همام عبد الرحيم في دراسته على شرح علل الترمذي ج1/93-119.
(2)
شرح علل الترمذي قسم الدراسة ج1/93.
(3)
أنظر تعريف الحديث الصحيح: علوم الحديث ص6 ، التقريب مع التدريب 1/63 ، اختصار علوم الحديث ص 21
(4)
علوم الحديث 252.
(5)
التمييز ص124.
وقال ابن معين: (1)((ولست اعجب ممن يحدث فيخطيء انما أعجب ممن يحدث فيصيب))
ثانيا: خفة الضبط وكثرة الوهم: (2)
حيث أن كثيرا من الرواة مع صدقهم وثبوت عدالتهم كانوا كثيري الخطأ والوهم، لكن ذلك ليس الغالب على حديثم وهؤلاء الذين كثر غلطهم في حديثهم مقبول عند أئمة الحديث كما صنع الامام مسلم (3) ، ولكن ليس معنى ذلك ان حديثهم كله مقبول دون تمييز بل كان للأحاديث الصحيحة نصيب (4) من حديثهم مما ترجح فيه للناقد - على ما ذكرناه آنفا- أن الراوي هنا قد ضبط وحفظ حديثه، ولكتب العلل نصيب آخر مما تترجح للناقد أن فيه خطأً ووهما، ومن هؤلاء الرواة. محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وعبد الرحمن بن حرملة، وشريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة، وأبو بكر بن عياش، والربيع بن صبيح، ومبارك بن فضالة، وسهيل بن أبي صالح، وغيرهم كما ذكره ابن رجب (5) .
ثالثا: الاختلاط: (6)
وهو آفة عقلية تورث فسادا في الادراك، وتصيب الانسان في آخر عمره، أو تعرض له بسبب حادث: لفقد عزيز أو ضياع مال؛ ومن تصبه هذه الآفة لكبر سنه يقال
(1) شرح العلل 1/436.
(2)
شرح العلل قسم الدراسة 1/98.
(3)
حيث أخرج لأصحاب الطبقة الثانية كما أشار في مقدمة كتابه 1/38-39 شرح النووي، تدريب الراوي 1/92.
(4)
كما أشرت اليه في انتقاء الشيخين لأحاديث من كان في حفظهم شيء ، وانظر التنكيل ج1/77.
(5)
شرح العلل ج1/403-425.
(6)
شرح العلل قسم الدراسة ج1/102.
فيه اختلط بأخرة (1)
فالاختلاط قد يطرأ على كثير من رواة الحديث النبوي مما يؤثر على روايته فتصبح فيهاعلة، ومعرفة المختلطين من غيرهم أمر شاق على علماء العلل، فكان المحدثون يسمعون الحديث من الراوي مرارا حتى يعرفوا أنه خلط فيه أم لا، قال حماد بن زيد:(ما أبالي من خالفني اذا وافقني شعبة لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة واحدة يعاود صاحبه مرارا (2)) . ومما يذكر في معاودة الراوي والسماع منه ما حصل لمروان بن الحكم: انه استدعى ابا هريرة رضي الله عنه واجلس كاتبه ابا الزعيزعة خلف السرير دون أن يعلم أبو هريرة، وجعل يسأله وأبو الزعيزعة يكتب، فلما حال الحول دعى مروان أبا هريرة وأجلس أبا الزعيزعة من وراء حجاب وجعل يسأله عما سأله عنه سابقا من ذلك الكتاب، فأجاب دون تقديم ولا تأخير) (3) .
وأحيانا كان الناقد يدخل على الراوي ليختبره فيقلب عليه الأسانيد والمتون، ويلقنه ما ليس من روايته، فان لم ينتبه الشيخ لما يراد به فانه يعد مختلطا ويعزف الناس من الرواية عنه (4) . قال الدكتور همام عبد الرحيم (5) : (ولكن بصيرة الناقد ويقظة المجتمع ليس لهما تلك القدرة التي تحدد ساعات بدء الاختلاط، اذ الاختلاط حالة عقلية تبدأ خفية ثم يتعاظم أمرها بالتدريج، وبين الخفاء والظهور يكون المختلط قد
(1) لسان العرب مادة ((خلط))
(2)
الجرح والتعديل 1/168.
(3)
مقدمة التمييز ص41، سير أعلام النبلاء 2/598 والمستدرك 3/510 قال الشيخ شعيب- في تعليقه على السير-:((أبو الزعيزعة لا يعرف)) .
(4)
أنظر المثال على ذلك في المحدث الفاصل 398-399.
(5)
شرح علل الترمذي قسم الدراسة 1/105.
روى أحاديث تناقلها الثقات عن الثقات وما دروا أنهم أخذوها عن الثقة ولكن في اختلاطه) .
وهكذا تدخل العلة في الحديث النبوي بسبب اختلاط بعض الرواة لكن العلماء عالجوا هذه القضية بواسطة الرواة عن المختلطين، وقسموهم الى أربعة أقسام:
1-
الذين رووا عن المختلط قبل اختلاطه.
2-
الذين رووا عنه بعد اختلاطه.
3-
الذين رووا عنه قبل الاختلاط وبعده ولم يميزوا هذا من هذا.
4-
الذين رووا عنه قبل اختلاطه وبعده وميزوا هذا من هذا.
فمن روى عن المختلط قبل الاختلاط قبلت روايته عنه ومن روى عنه قبل الاختلاط وبعده وميز ما سمع قبل الاختلاط ولم يقبل ما سمع بعد الاختلاط، ومن لم يميز حديثه أو سمع بعد الاختلاط لم تقبل روايته (1) .
رابعا: خفة الضبط بالأسباب العارضة: (2)
قد يكون المحدث ضابطا لروايته ثم تعرض عليه أمور طارئة تجعل الوهن في ضبطه فتدخل العلة في حديثه، ومن هذه الأمور الطارئة.
أ- ضياع الكتب، فقد يعتمد الراوي في ضبطه على كتبه، فاذا ضاعت كتبه وحدث مما علق بذهنه دخلت العلة في حديثه كما حصل لهشيم بن بشير فقد كتب صحيفة بمكة عن الزهري، فجاءت الريح فحملت الصحيفة فطرحتها فلم يجدها (3) ،
(1) أنظر العواصم والقواصم لابن الوزير 3/101-102.
(2)
شرح العلل قسم الدراسة 1/107.
(3)
تهذيب التهذيب 11/60.
وكذلك علي بن مسهر الكوفي (1)
ب- احتراق الكتب- وقد يعتمد الراوي على كتبه ثم تحترق فيحدث من حفظه فتدخل العلة في ذلك، وممن احترقت كتبه فحدث من حفظه بعدها عبد الله بن لهيعة (2) .
ج - من لم يصحب كتابه معه وحدث من حفظه - كذلك بعض الرواة اصطحبوا كتبهم في أماكن وحدثوا منها فلم يخطئوا وحدثوا في أماكن عند غياب كتبهم فأخطأوا كمعمر بن راشد قال يعقوب بن شيبة: (سماع اهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب لأن كتبه لم تكن معه)(3) .
د- الانشغال عن العلم من أسباب خفة الضبط فقد ضعفت روايات بعض المحدثين لانشغالهم عن العلم حفظا وكتابة بالقضاء كشريك بن عبد الله النخعي حيث ولي قضاء واسط سنة 155 هـ - قال عنه الحافظ في التقريب (4) : ((تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة)) .
وفقدان البصر فقد كان بعض الثقات يعتمد على كتبه فلما ذهب بصره حدث من حفظه فدخل الوهم في حديثه بعد ذلك، كعبد الرزاق بن همام الصنعاني مع أنه من
(1) وفي تهذيب التهذيب 7/384 ((قال العجلي صاحب سنة ثقة في الحديث صالح الكتاب كثير الرواية عن الكوفيين ، وقال أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل لما سأل عنه لا أدري كيف أقول كان قد ذهب بصره فكان يحدثهم من حفظه)) .
(2)
تهذيب التهذيب 5/373-379.
(3)
شرح علل الترمذي 2/767. وانظر ميزان الاعتدال 4/154 والتقريب 2/266 وتهذيب التهذيب 5/373-379.
(4)
1/351. وأنظر الميزان 2/270 وتهذيب التهذيب 4/333.
رجال هذا الميدان قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب (1) : ((عمي آخر عمره فتغير)) .
خامسا: قصر الصحبة: (2)
قصر الصحبة للشيخ وقلة ممارسته لحديثه، وهذه في الأصل ليست علة تعل بها الأحاديث لكن العلماء أعطوها أهمية كبيرة لأنه يستفاد من ذلك في ترجيح رواية على أخرى عند الاختلاف؛ لأن من طالت صحبته لشيخه وكثرت ممارسته لحديثه يكون أتقن لحديث شيخه وتترجح روايته عمن قصرت صحبته لهذا الشيخ (3) .
سادسا: اختصار الحديث أو روايته بالمعنى: (4)
اختلف العلماء سلفا وخلفا في حكمه: فذهبت طائفة الى منع رواية الحديث بالمعنى، وذهبت أخرى الى جواز ذلك في غير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب الجمهور الى تجويزها بالمعنى في الجميع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روي عن غيره اذا قطع بالمعنى وكان عارفا بالمعاني ودقائق الألفاظ (5) .
وقد يروي أحد الرواة الحديث بالمعنى بصورة تخل بالمعنى وتذهب المقصود فتكون علة في الحديث. كما في الحديث الذي روي من طريق ابن أبي ذئب قال: حدثني صالح مولى التوآمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من
(1) 1/505. وأنظر الميزان 2/609 وتهذيب التهذيب 6/310.
(2)
شرح العلل قسم الدراسة 1/113.
(3)
انظر على سبيل المثال علل ابن أبي حاتم رقم (2024) و (1647) .
(4)
شرح العلل قسم الدراسة 1/116.
(5)
المحدث الفاصل ص533 ، الكفاية 168 ، المستصفى 1/107 ، التمهيد 1/234 و 6/63 ، شرح السنة 1/238 ، توجيه النظر 298 ، أعلام المحدثين ص42.
صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)) (1) .
وقد جاء في بعض النسخ والكتب ((فلا شيء له)) (2) . وهذا من تصرف الرواة بالمعنى (3) .
سابعا: تدليس الثقات: (4)
أن التدليس يكون أحيانا سببا من أسباب العلة، والتدليس أنواع كثيرة. أشهرها تدليس الأسناد، وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه (5) .
وتدليس الشيوخ وهو: أن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف (6) .
وكلا النوعين يكون أحيانا سببا في اعلال الحديث، فقد يكشف الأئمة النقاد عن
(1) أخرجه أبو داود (3191) ، وابن ماجه (1517) ، وأحمد 2/444 و 455 و 502 ، والبيهقي 4/51 وسنده قوي لأن ابن أبي ذئب سمع من صالح قبل الاختلاط. وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن ابن المغيرة ثقة فاضل كما في التقريب 2/184 وصالح بن نبهان مولى التوآمة صدوق اختلط بأخرة ، قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء كابن ابي ذئب وابن جريج. وأنظر الميزان 2/303 وتهذيب التهذيب 4/405 ، وتهذيب الكمال 13/102 وما بعدها.
(2)
كما في زاد المعاد 1/500 وعون المعبود 3/182 ومصنف عبد الرزاق 3/527 حديث (6579) وسنن أبي داود قال المزي في تحفة الاشراف 10 / حديث (13503) قال في رواية يحيى: (...... فلا شيء له)) .
(3)
كما ذكره الشيخ محمد عوامة عن الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي. أنظر أثر الحديث في اختلاف الفقهاء ص30.
(4)
شرح العلل قسم الدراسة 1/118.
(5)
علوم الحديث ص66.
(6)
علوم الحديث ص66.