الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ (مُسْلِمٌ) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا وَلَا حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا (فَإِنْ قُلْتَ) وَقَعَ لِابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ ذَلِكَ نَظَرًا (قُلْت) الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرَ الشَّرْطُ ابْتِدَاءً وَفِيهِ نَظَرٌ (فَإِنْ قُلْت) وَهَلْ فِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ (قُلْتُ) الشَّيْخُ هُنَا وَهُمْ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي نَقْلِهِمَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْكَافِرِ بِالْمَالِ لَا فِي كَوْنِهِ وَصِيًّا وَقَوْلُهُ الْعَدَالَةُ لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَدْلٍ قَالَ الشَّيْخُ رحمه الله الْمُرَادُ هُنَا بِالْعَدَالَةِ السِّتْرُ لَا الْعَدَالَةُ الْمُشْتَرَطَةُ فِي الشَّهَادَةِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَانْظُرْ مَا ذَكَرَ عَنْ ابْنِ حَارِثٍ (فَإِنْ قُلْتَ) إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ فَهَلْ يَعْزِلُهُ السُّلْطَانُ أَوْ يُقَدِّمُ مَعَهُ (قُلْتُ) فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ اُنْظُرْهُ قَوْلُهُ " وَالْكِفَايَةُ " أَخْرَجَ بِهِ الْعَاجِزَ فَإِنْ ثَبَتَ عَجْزُهُ عُزِلَ كَذَا ذَكَرَ اللَّخْمِيُّ قَوْلُهُ " وَالْهِدَايَةُ فِي التَّصَرُّفِ " أَخْرَجَ بِهِ السَّفِيهَ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْفَرَائِضِ]
(ف ر ض) : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ الْفَرَائِضِ قَالَ الشَّيْخُ رضي الله عنه " عِلْمُ الْفَرَائِضِ لَقَبًا الْفِقْهُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِرْثِ وَعِلْمُ مَا يُوَصِّلُ لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا يَجِبُ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ فِي التَّرِكَةِ " قَوْلُ الشَّيْخِ رضي الله عنه عِلْمُ الْفَرَائِضِ لَقَبًا هَذَا مِثْلُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَقَبًا وَإِضَافَةً فَأَمَّا الْمَعْنَى الْإِضَافِيُّ فَالْعِلْمُ الْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا الْفِقْهُ وَالْفَرَائِضُ جَمْعُ فَرِيضَةٍ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وَأَصْلُ الْفَرْضِ التَّقْدِيرُ وَالْمُرَادُ بِالْفَرَائِضِ الْأَنْصِبَاءُ الْمُقَدَّرَةُ شَرْعًا بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ مِنْ فَرْضٍ وَتَعْصِيبٍ وَعِلْمُ ذَلِكَ فِقْهُهُ وَحِفْظُهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْإِضَافِيَّ بَلْ مَا جَعَلَ الْمُضَافَ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ عَلَمًا عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ فِي عُرْفِ الْفَرَائِضِ فَلِذَا قَالَ لَقَبًا وَنَصَبَهُ عَلَى حَدِّ نَصْبِ اللَّقَبِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ قَوْلُهُ " الْفِقْهُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِرْثِ " هَذَا مَعْنَاهُ لَقَبًا لِأَنَّ مَعْنَى عِلْمِ الْفَرَائِضِ الْفِقْهُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْثِ قَوْلُهُ " وَعِلْمُ مَا يُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ إلَخْ " هَذَا هُوَ
الْعَمَلُ بِفِقْهِ الْفَرَائِضِ وَلِذَا قَالَ فِقْهُ الْفَرَائِضِ أَعَمُّ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَعِلْمُ الْفَرَائِضِ أَخَصُّ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ أَخَصُّ مِنْ فِقْهِ الْقَضَاءِ كَمَا قَرَّرَهُ الشَّيْخُ رضي الله عنه فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ وَهُوَ حَقٌّ وَمَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ مِنْ الْحَقِّ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ فِي التَّرِكَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْحِسَابِ وَقَوْلُهُ " الْفِقْهُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِرْثِ " أَخْرَجَ بِهِ الْفِقْهَ الْمُتَعَلِّقَ بِغَيْرِ الْإِرْثِ وَقَوْلُهُ " وَعِلْمُ إلَخْ " أَدْخَلَ بِهِ كَيْفِيَّةَ الْقِسْمَةِ وَالْعَمَلَ فِي مَسَائِلِ الْمُنَاسَخَاتِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ (فَإِنْ قُلْتَ) ظَاهِرُ مَا أَشَرْت إلَيْهِ وَقَرَّرْت بِهِ كَلَامَهُ رحمه الله أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ لَقَبًا أَعَمُّ مِنْهُ مُضَافًا (قُلْتُ) وَهَذَا صَحِيحٌ لَا قَدْحَ فِيهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْإِضَافِيَّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَعْنَى اللَّقَبَيَّ بَلْ الْأَمْرُ الْأَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَانْظُرْ مَا ذَكَرُوهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ رضي الله عنه أَتَى بَعْدَ هَذَا بِأُمُورٍ مَذْكُورَةٍ فِي أَوَائِلِ الْعُلُومِ مُقَرَّرَةً مِنْ الرُّءُوسِ الثَّمَانِيَةِ وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُ الْفَرَائِضِ جَعَلُوهُ عِلْمًا مُسْتَقِلًّا ذَكَرَ فِيهِ مَا يَلْزَمُ ذِكْرُهُ فِي كُلِّ عِلْمٍ مِنْ حَدِّهِ وَمَوْضُوعِهِ وَفَائِدَتِهِ فَقَالَ وَمَوْضُوعُهُ التَّرِكَةُ لَا الْعَدَدُ خِلَافًا لِلْمَصْمُودِيِّ أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى الْخِلَافِ فِي مَوْضُوعِهِ قَالَ الشَّيْخُ وَمَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ مَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَارِضِهِ الذَّاتِيِّ وَهُوَ مَا لَحِقَهُ لِذَاتِهِ أَوْ مُسَاوِيهِ أَوْ بِجُزْئِهِ أَعَمِّهَا الذَّاتِيِّ لَا عَنْ عَارِضِهِ الْقَرِيبِ كَمَا قَالَ فِي مَنْطِقَيْهِ مِثَالُ الذَّاتِيِّ مَا لَحِقَ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ إنْسَانًا وَالثَّانِي مَا لَحِقَهُ لِكَوْنِهِ مُتَعَجِّبًا وَالثَّالِثُ مَا لَحِقَهُ لِكَوْنِهِ حَيَوَانًا وَالْعَارِضُ الْقَرِيبُ مَا لَحِقَهُ لَا خَصَّهُ مِثْلُ مَا لَحِقَ حَيَوَانًا لِكَوْنِهِ إنْسَانًا وَالثَّانِي مَا لَحِقَ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ مَاشِيًا هَذَا مَعْنَى مَا وَقَعَ فِي مُخْتَصَرِهِ الْمَنْطِقِيِّ وَيُقَالُ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ ذَلِكَ عَلَى رَسْمِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَانْظُرْ الشِّيرَازِيَّ وَغَيْرُهُ مِنْ كُتُبِ الْحُكَمَاءِ قَالَ وَفَائِدَتُهُ كَالْفِقْهِ مَعَ مَزِيَّةِ التَّنْصِيصِ وَمَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ وَحَدُّ كُلِّ عِلْمٍ وَفَائِدَتُهُ هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ كُلِّ عِلْمٍ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِذَلِكَ وَقَدْ قَرَّرُوا ذَلِكَ فِي مَبَادِئِ الْعُلُومِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَطَالِبُ كُلِّ عِلْمٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَوْضُوعِهِ وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَوْضُوعًا لِعُلُومٍ مُخْتَلِفَةٍ بِجِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَوْضُوعُ الْعَرَبِيَّةِ الْكَلِمَاتُ الْعَرَبِيَّةُ مِنْ حَيْثُ إعْرَابُهَا وَجَرْيُهُ عَلَى سُنَنِ طَرِيقِهِ وَالْكَلِمَاتُ أَيْضًا مَوْضُوعُ اللُّغَةِ لَكِنْ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتُهَا عَلَى مَعَانِيهَا الْمُفْرَدَةِ وَكَذَلِكَ الْفِقْهُ مَوْضُوعُهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِهِ لَا مِنْ حَيْثُ خَلْقُهُ
لِلَّهِ تَعَالَى وَمَوْضُوعُ الْحِسَابِ الْعَدَدُ مِنْ حَيْثُ جَمْعُهُ وَتَقْسِيمُهُ لَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ وَمَوْضُوعُ الْبَيَانِ التَّرَاكِيبُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ فِيهِ إلَى فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَمُطَابَقَتِهِ لِلْحَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأُصُولُ الْفِقْهِ مَوْضُوعُهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ حَيْثُ التَّوَصُّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ وَمَوْضُوعُ أُصُولِ الدِّينِ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْقَوْمِ فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَوْلُ الشَّيْخِ وَمَوْضُوعُهُ التَّرِكَةُ لَا الْعَدَدُ يَعْنِي التَّرِكَةَ مِنْ حَيْثُ الْعَارِضُ لَهَا الْخَاصُّ بِالْفَرِيضَةِ وَالْعَدَدُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ آلَةٌ لِاسْتِخْرَاجِ الْفَرْضِ مِنْ التَّرِكَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجْعَلْ الْعَدَدَ مَوْضُوعًا وَلَمَّا رَأَى غَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا بِاتِّفَاقِ الْعَمَلِ بِالْعَدَدِ صَيَّرَ الْعَدَدَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضُوعُ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْفَرْضَ الْمُقَدَّرَ إنَّمَا أُخْرِجَ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ مَالٌ فَالتَّرِكَةُ أَنْسَبُ لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَهُ وَالْعَدَدُ إنَّمَا هُوَ آلَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا عِلْمٌ شَرِيفٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلِذَلِكَ حَضَّ فِي السُّنَّةِ عَلَيْهِ.
وَوَقَعَ هُنَا لِلشَّيْخِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله أَنْ قَالَ عِلْمُ الْفَرَائِضِ شَرِيفٌ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا امْتَزَجَ الْحِسَابُ بِهِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ صَارَ كَأَنَّهُ عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ فَلِذَلِكَ أَفْرَدَ لَهُ الْعُلَمَاءُ تَوَالِيفَ هَذَا مَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ فِي فَضْلِهِ وَأَحَدُهُمَا ذُكِرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَرَائِضَ ثُلُثُ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ ذُكِرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ قَالَ رحمه الله وَالنَّظَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ مِنْ نَظَرِ الْفَقِيهِ قَالَ وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لَتَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةَ غَيْرِهِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالنِّصْفِ الْمُبَالَغَةُ وَقِيلَ لَمَّا كَانَ لِلْإِنْسَانِ حَالَةُ حَيَاةٍ وَحَالَةُ مَوْتٍ وَكَانَتْ الْفَرَائِضُ بَعْدَ الْمَوْتِ نَاسَبَ نِسْبَةَ النِّصْفِ لَهَا اُنْظُرْ الشَّيْخَ الْإِمَامَ الْعُقْبَانِيّ رحمه الله فَإِنَّ لَهُ فَوَائِدَ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْحَوفِيِّ وَكَانَ الشَّيْخُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي هَذَا الْعِلْمِ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ صِنَاعَةً وَعِلْمًا مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ تِلْمِيذُهُ رحمه الله قَرَأَ الْحُوفِيُّ عَلَيْهِ ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ الشَّيْخُ السَّطِّيُّ رحمه الله مَعَ السُّلْطَانِ أَبِي الْحَسَنِ اجْتَمَعَ بِهِ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ الْحُوفِيُّ فَقَالَ لَهُ إنِّي لَا أَجِدُ مَحِلًّا لِلْإِقْرَاءِ إلَّا فِي سَاعَةٍ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي بَابِ جَامِعِ الْقَصَبَةِ الْعَلِيَّةِ فَكَانَ الشَّيْخُ رحمه الله يُبَكِّرُ وَيَجْلِسُ هُنَاكَ يَنْتَظِرُهُ فَإِذَا قَدِمَ فَتَحَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ فِي أَوَّلِ قِرَاءَتِهِ هَلَّا اكْتَفَيْت بِالشَّيْخِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِأَنَّك خَتَمْت عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَذَكَرَ لَهُ رحمه الله أَنَّ بِهِ مَوَاضِعَ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَهَا بَيَّنَهَا لَهُ كَمَا يَجِبُ فِي الْإِقْرَارَاتِ وَالْوَصَايَا وَالْمُنَاسَخَاتِ فَرَحِمَ
اللَّهُ الْعُلَمَاءَ كَيْفَ كَانَ طَرِيقُهُمْ وَحِرْصُهُمْ عَلَى تَحْصِيلِ الْعُلُومِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ وَكَانَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْقَاضِي أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلَاعِيُّ الْمُشْتَهِرُ بِالْحَوْفِيِّ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي هَذَا الْفَنِّ وَمَا أَلَّفَ فِي الْفَرَائِضِ مِثْلُهُ جَمْعًا وَتَحْصِيلًا وَعَمَلًا وَعِلْمًا وَقَدْ رَدَّ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رحمه الله عَلَى شَيْخِهِ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِ وَبَحَثَ مَعَهُ حَيْثُ قَسَمَ الْفُرُوضَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مُسَمَّاةٌ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَفِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً الْآيَةَ وَمِنْهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ مَحْدُودٌ غَيْرُ مُسَمًّى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَلَمَّا جَعَلَ لَهَا الثُّلُثَ عُلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ وَهُوَ الثُّلُثَانِ وَمِنْهَا سِتَّةُ فُرُوضٍ فَذَكَرَ الْفُرُوضَ السِّتَّةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَا ذَكَرَهُ مَعَ حُسْنِهِ وَغَرَابَتِهِ فَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ عَدَدُ الْفُرُوضِ الْمُسَمَّاةِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ لِتَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا وَجَعَلَهَا ثَلَاثَةً وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ اثْنَانِ لِأَنَّ الَّذِي لِلْأَوْلَادِ مِثْلُهُ لِلْإِخْوَةِ فَإِنْ كَانَ لِتَعَدُّدِ سَبَبِ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِثْلُهُ فِي الْفُرُوضِ السِّتَّةِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْحَابًا مَا عَدَا الثُّمُنَ وَالتَّعَدُّدَ فِيهَا لِتَعَدُّدِ أَصْحَابِهَا بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ هُنَا فَرَدَّ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ اثْنَانِ إلَخْ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي اثْنَيْنِ بِجَعْلِ الْبِنْتَيْنِ وَالْإِخْوَةِ نَوْعًا وَاحِدًا إلَّا إذَا جَعَلَ مُوجِبَ التَّعَدُّدِ اخْتِلَافَ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُوجِبُهُ اخْتِصَاصُ نَوْعٍ مِنْهَا بِلَفْظِ قُرْآنٍ يَخُصُّهُ بِالتَّسْمِيَةِ وَالذِّكْرِ دُونَ إشَارَةٍ إلَى نِسْبَةِ الْقَدْرِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ مِنْ التَّرِكَةِ قَالَ فَتَأَمَّلْهُ قَالَ وَكَانَ يَمْشِي لَنَا النَّظَرُ فِي هَذَا الرَّدِّ بَعْدَ مُطَالَعَةِ شُرَّاحِ الْحَوفِيِّ مِنْ الْعُقْبَانِيِّ وَالسَّطِّيِّ وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّيْخ الْإِمَامُ الْعَلَامَةُ سَيِّدِي الْفَقِيهُ رحمه الله لَهُ يَدٌ عَالِيَةٌ سَبَقَ بِهَا أَهْلَ السَّبْقِ فِي جِدُّهُ وَاجْتِهَادِهِ وَفَهْمِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَقُوَّةِ فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَلَمَّا جَرَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ الْعَقْلِيَّةُ عَنْهُ وَعِنْدَهُ وَتَمَكَّنَتْ وَصَارَتْ مَلَكَةً لَهُ أَقْدَرُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَشْفِ حَقَائِقِ دَقَائِقِ أَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ وَمَلَكَ زِمَامَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ وَعَلَا فَخْرُهُ وَانْتَشَرَ فِي الْعَالَمِ ذِكْرُهُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي خَوْضِ مِثْلِي الْقَاصِرِ فِي بَاعِهِ الْمُتَطَفِّلِ عَلَى شَرْحِ كَلَامِ أَحِبَّائِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ فَنَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ لِي وَالرَّحْمَةَ مِنْهُ وَسِتْرَ عَيْبِي وَمَا خَفِيَ مِنْ غَيْبِي وَمِنْ تَصَنُّعِي وَقِلَّةِ عَمَلِي وَنَرْجُو مِنْهُ سُبْحَانَهُ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ بِخِدْمَةِ هَذَا السَّيِّدِ الْوَلِيِّ حَبِيبِ الرَّحْمَنِ وَنَرْغَبُ مِنْهُ رضي الله عنه أَنْ يَسْتَوْهِبَ لَنَا مِنْ اللَّهِ الْجُودَ وَالْإِحْسَانَ وَقَدْ ظَهَرَتْ
بَرَكَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذَا الْإِمَامِ وَسَعَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي تَخْصِيصِهِ بِفَضْلِهِ مِنْ بَيْنِ الْأَنَامِ وَلَكِنْ لَا يَيْئِسْ مِنْ رَحْمَةِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ بِمَحَبَّتِنَا وَخِدْمَتِنَا فِي مُحِبِّي النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَأَفْضَلُ السَّلَامِ.
وَقَدْ أَنْشَدَ رضي الله عنه أَبْيَاتًا فِي آخِرِ كِتَابِهِ فِي الْفَرَائِضِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْأَكْدَرِيَّةِ يُنَاسِبُ إنْشَادُهَا حَالِي لِأَنِّي الْمَفْضُولُ فِي أَعْمَالِي وَأَقْوَالِي وَلَيْسَ لِي فِي الْحَقِيقَةِ فَضْلٌ وَلَا عِلْمٌ وَعَمَلٌ قَالَ رحمه الله وَنَفَعَ بِهِ وَرَضِيَ عَنْهُ
وَلَا يَيْئِسْ الْمَفْضُولُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى
…
مَزِيدٍ عَلَيْهِ فَضْلُهُ بِالضَّرُورَةِ
فَرُبَّ مَقَامٍ أَنْتَجَ الْأَمْرُ عَكْسَهُ
…
كَحَمْلٍ بِأُنْثَى جَاءَ فِي الْأَكْدَرِيَّةِ
لَهَا إرْثُهَا فِيهِ وَزَادَ لِجَدِّهَا
…
وَلِلذَّكَرِ الْحِرْمَانُ دُونَ زِيَادَةِ
وَإِنْ كُنَّا مَفْضُولِينَ مُقَصِّرِينَ فَنَرْجُو مِنْ أَرْحَمْ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَجْبُرَ قُلُوبَنَا بِمَا نَبْلُغُ بِهِ دَرَجَاتِ الصَّالِحِينَ بِحُرْمَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَشَفِيعِ الْمُذْنِبِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنِّي أَقُولُ وَأَتَوَسَّلُ بِالسَّيِّدِ الرَّسُولِ
أُحِبُّ الصَّالِحِينَ وَلَسْت مِنْهُمْ
…
وَلَكِنِّي بِهِمْ أَرْجُو الشَّفَاعَهْ
وَأَكْرَهُ مِنْ بِضَاعَتُهُ الْمَعَاصِي
…
وَإِنْ كُنَّا سَوَاءً فِي الْبِضَاعَهْ
وَنُكْمِلُ الْفَائِدَةَ بِمَعْنَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْدَرِيَّةِ.
وَصُورَةُ الْأَكْدَرِيَّةِ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ أَوْ لِأَبٍ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ الْفَرِيضَةُ مِنْ سِتَّةٍ ثُمَّ يُفْرَضُ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَذَلِكَ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيُعَالُ بِنِصْفِ الْفَرِيضَةِ إلَى تِسْعَةٍ ثُمَّ إنَّ الْجَدَّ يَطْلُبُ الْمُقَاسَمَةَ مَعَهَا بِخَلْطِ سِهَامِهِ مَعَ سِهَامِهَا فَتُقْسَمُ أَرْبَعَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَتُضْرَبُ التِّسْعَةُ فِي الثَّلَاثِ فَتَصِحُّ الْفَرِيضَةُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا تِسْعَةٌ وَلِلْأُمِّ سِتَّةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِهَذَا يُقَالُ:
فَرِيضَةٌ لِأَرْبَعَةٍ أَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَهَا وَانْصَرَفَ ثُمَّ أَخَذَ الثَّانِي ثُلُثَ مَا بَقِيَ وَانْصَرَفَ ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثُ ثُلُثَ مَا بَقِيَ ثُمَّ قِيلَ أَيْضًا مَا فَرِيضَةٌ يُؤَخَّرُ قَسْمُهَا لِحَمْلٍ فَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى وَرِثَتْ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا لَمْ يَرِثْ فَإِذَا هَلَكَتْ هَالِكَةٌ وَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَجَدَّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ حَامِلًا آخَرَ قُسِمَ التَّرِكَةُ فَإِنْ أَتَتْ بِأُخْتٍ شَقِيقَةٍ أَوْ لِأَبٍ كَانَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْعَمَلِ وَوَقَعَ الْمِيرَاثُ لَهَا وَإِنْ وَضَعَتْ ذَكَرًا فَلَا إرْثَ لَهُ مَعَ الْجَدِّ فَهَذَا الَّذِي قَصَدَ بِقَوْلِهِ فِي الْأَبْيَاتِ رحمه الله فَإِنَّ الذَّكَرَ أَفْضَلُ مِنْ الْأُنْثَى وَرُبَّمَا كَانَ لِلْأُنْثَى مَا لَا يَكُونُ لِلذَّكَرِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ خَالِقُ الْجُودِ الْعَمِيمِ وَجَرَتْ عَادَتُهُ رضي الله عنه يُنْشِدُ أَبْيَاتًا
حِكَمِيَّةً لَوْذَعِيَّةً فِي مَعَانٍ حُكْمِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ فِقْهِيَّةٍ وَقَوَاعِدَ عَقْلِيَّةٍ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِ بِحُسْنِ سَرِيرَتِهِ وَطَيَّبَ فَهْمَهُ وَعَقِيدَتَهُ وَحَفِظَ لِسَانَهُ وَكَتَبَ بَنَانَهُ وَلَمَّا كَاتَبَهُ شَيْخُ الْمُوَحِّدِينَ بِزَمَنِهِ الشَّيْخُ ابْنُ تَافَرَا حِينَ بَعَثَ إلَيْهِ سُؤَالًا مُسْتَفْتِيًا لَهُ فِي نَازِلَةٍ وَقَعَتْ لَهُ فَسَأَلَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ وَعَلَمَ الْأَعْلَامِ وَخَاطَبَهُ بِأَبْيَاتٍ فِيهَا مَحَاسِنُ وَآيَاتٌ فَقَالَ وَأَجَادَ فِي الْمَقَالِ مُخَاطِبًا لِأَهْلِ الْكَمَالِ.
يَا دَوْحَةَ الْأَدَبِ الْمَصُونِ فِي الْعُلَا
…
مِنْك اسْتَطَبْنَا الطَّعْمَ وَالْمَشْمُومَا
أَوْرَتْ زِنَادُك فِي الْعُلُومِ فَأَصْبَحَتْ
…
تُهْدِي إلَيْك نَفَائِسًا وَعُلُومَا
فَإِذَا تَرَى لِمُتَيَّمٍ لَعِبْت بِهِ
…
أَيْدِي الزَّمَانِ فَصَبَّحَتْهُ هَشِيمَا
ذِي زَوْجَتَيْنِ كَرِيمَتَيْنِ مِنْ الْعُلَا
…
أَصْلًا وَفَرْعًا زَادَتَا تَكْرِيمَا
بَيْضَاوَتَانِ عَلَيْهِمَا نَسْجُ الْحَيَا
…
حُلَلًا فَأَصْبَحَتَا بِذَاكَ نَظِيمَا
أَبْدَى الْيَمِينَ بِزَوْجَتَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
…
يَدْرِي فُرَادَى قَالَ أَوْ تَحْرِيمَا
فَالشَّكُّ خَالَطَهُ وَأَوْهَمَ عَقْلَهُ
…
حَتَّى غَدَا مَا يَفْهَمُ التَّسْلِيمَا
وَلَقَدْ يَجُولُ بِفِكْرِهِ فِي رَأْيِهِ
…
وَيُمَحِّصُ الْأَوْهَامَ وَالتَّقْسِيمَا
فَيَعُودُ وَهُوَ مُشَكَّكٌ فِي أَمْرِهِ
…
قَدْ كَادَ يَمْنَعُ جَفْنَهُ التَّنْوِيمَا
أَفْصِحْ فَدَيْتُك مَا سَأَلْتُ مُحَقَّقًا
…
تَجْلُو عَنَاهُ وَتَمْنَحُ التَّعْلِيمَا
فَأَجَابَ الشَّيْخُ رضي الله عنه الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَبَرَّدَ ضَرِيحَهُ وَأَثَابَ مَادِحَهُ وَلَقَدْ أَجَادَ فِي مَدْحِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ قَالَ رحمه الله
وَنَفَعَ بِهِ يَا مَنْ غَدَا مَثَلًا لِحُسْنِ فِعَالِهِ
…
وَمَقَالِهِ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ
يَا مَنْ نَتَائِجُ فِكْرِهِ مَعْرُوفَةٌ
…
بِالصِّدْقِ مِثْلُ ذِمَامِهِ الْمَأْمُولِ
مَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ بِحِنْثِهِ
…
فِي حَلْفِهِ بِمَقَالِهِ الْمَبْذُولِ
مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا يُعَمِّمُ حِنْثَهُ
…
فِي كُلِّ مَعْنَى شَكِّهِ الْمَدْلُولِ
وَمَقَالَةٌ أُخْرَى تُخَصِّصُ حِنْثَهُ
…
بِيَقِينِهِ لَا شَكِّهِ الْمَحْلُولِ
وَجْهَاهُمَا اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ سَابِقٍ
…
مُتَيَقِّنٍ أَوْ لَاحِقٍ مَجْهُولٍ
فَانْظُرْ بِعَيْنِ كَمَالِكُمْ وَمَجَالِكُمْ
…
فِي مَنْزَعَاتِ الْعَقْلِ وَالْمَنْقُولِ
فَهَذَا جَوَابُ الشَّيْخِ رضي الله عنه وَعَفَا عَنْهُ فَتَأَمَّلْ حُسْنَ أَدَبِهِ مَعَ عُلُوِّ رِفْعَتِهِ وَعِزِّ قَدْرِهِ وَقَدْ عَلِمَتْ الْأَكَابِرُ فَضْلَهُ وَدِينَهُ وَهَدْيَهُ وَعِلْمَهُ وَفَهْمَهُ وَمَا يَقَعُ فِي جَانِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ وَظَهَرَتْ فَضِيحَتُهُ وَقَلَّ حَيَاؤُهُ وَذَهَبَ مَاؤُهُ وَنَظَرَ مِنْ غَيْرِ مِشْكَاتِهِ وَمِنْ خُفَّاشِ مِرْآتِهِ وَلَمَّا ذَهَبَتْ مُرُوءَةُ الْعِلْمِ وَمَحَبَّةُ أَهْلِ الْفَهْمِ فَلَا تَجِدُ مَنْ يُحِبُّ أَهْلَ
الْحَقَائِقِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الرِّقَّةِ وَالدَّقَائِقِ وَلَمَّا قَدِمَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ الْمَرَّاكُشِيُّ الْكَفِيفُ حَضَرَ مَجْلِسَ الشَّيْخِ الْإِمَامِ وَعَلَمِ الْأَعْلَامِ الَّذِي اعْتَرَفَ لَهُ بِالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ صِنْفِهِ سَيِّدُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ وَكَانَ مَجْلِسُهُ مَعْلُومًا حُسْنُهُ شَاعَ فَخْرُهُ فِي الْمَغَارِبِ وَالْمَشَارِقِ وَاعْتَرَفَ لَهُ أَهْلُ الْفَضْلِ بِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ سَابِقٌ مِنْهُمْ وَلَا لَاحِقٌ فَحَضَرَ الْفَقِيهُ الْمَذْكُورُ خَلْفَ الْحَلْقَةِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ وَلَا وَصْلٍ إلَى تَمَامٍ فَقَامَ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ الْمُبَارَكِ بِالْإِعْرَاضِ وَنَطَقَ بِكَلِمَاتٍ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَاضِ فَلَيْتَهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَأَنْصَفَ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا يَجِدُهُ عِنْدَ السُّؤَالِ.
أَتَيْت دُرُوسَهُمْ يَوْمًا صَبَاحًا
…
فَإِنْ شِئْت أَسْتَمِعُ بَيْتَ الْقَصِيدَهْ
سَمِعْت بِهِ النَّتَائِجَ وَالتَّنَادِي
…
كَأَنَّهُمْ الْكِلَابُ عَلَى الطَّرِيدَهْ
مَا أَغْنَاهُ عَنْ كَلَامِهِ وَمَا أَحْلَمَ اللَّهَ عَلَيْهِ فِي إمْهَالِهِ فَأَجَابَتْهُ أَهْلُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْأَفْئِدَةِ الْكَرِيمَةِ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ كَادَتْ تَنْفَطِرُ وَالْبِحَارُ تَنْفَجِرُ فَلَمَّا بَلَغَ الشَّيْخُ رضي الله عنه كَلَامُهُ أَعْرَضَ عَنْ الْقِيَامِ لِنَفْسِهِ فَأَجَابَهُ بِمَا يَهْدِيهِ إلَى الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ وَخَاطَبَهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ قَلْبُهُ السَّلِيمُ
وَمَا حَالُ مَنْ يَهْجُو أَخَاهُ بِلَفْظَةٍ
…
إذَا ذُكِرَ الْمَرْوِيُّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ
…
سِوَى حَالِ مَنْ قَدْ سَاءَهُ قَلْبُ نُكْتَةِ
فَبَاءَ بِفِسْقٍ قَالَهُ سَيِّدَاتِي
…
بِصِدْقٍ وَتِبْيَانٍ وَوَعْظٍ وَوَحِكْمَةِ
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ شَيْخِهِ قَوْلَهُ سِبَابٌ
…
لَدَى الْإِسْلَامِ فِسْقٌ بِحُجَّةِ
بِصُغْرَى وَكُبْرَى يُنْتَجَانِ فُسُوقَهُ
…
فَبِاَللَّهِ أَعْرِضْ عَنْهُ وَادْفَعْهُ بِاَلَّتِي
رضي الله عنه بِاسْتِعْمَالِهِ الْعِلْمَ وَوُقُوفِهِ عِنْدَهُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ.
قَالَ يُقَالُ الْهَاجِي سَابٌّ وَكُلُّ سَابٍّ فَاسِقٌ فَالْهَاجِي فَاسِقٌ الصُّغْرَى جَلِيَّةٌ وَالْكُبْرَى مِنْ الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ وَالنَّتِيجَةُ لَازِمَةٌ وَقَدْ طَلَبَهُ الشَّيْخُ الشَّرِيفُ النَّجَّارُ أَنْ يُجِيزَهُ إجَازَةً بِالشَّعْرِ فَأَجَازَهُ بِقَوْلِهِ
أَجَزْتُكُمْ كَيْفَ شِئْتُمْ كُلُّ مُشْتَرِطٍ
…
بِشَرْطِهِ حَاصِلٌ دُرًّا عَلَى صُدِفَهْ
وَالْوَهْمُ فِي مَدْحِكُمْ إيَّايَ ذَكَّرَنِي
…
ضَرُورَةَ الْقَلْبِ قَلْبُ الْمُهْتَدِي عَرَّفَهُ
أَرَدْت بِالْقَلْبِ قَلْبَ الْمَدْحِ لَا ضَرَرًا
…
بَلْ سِتْرَ رَسْمِي جَمَالًا اجْتَنَى لُطْفَهْ
وَلَهُ رضي الله عنه فِي أَشْعَارِهِ الَّتِي جَمَعَتْ مَحَاسِنَ وَآدَابًا وَهَدْيًا إلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ مَا يَحْتَاجُ إلَى جَمْعٍ وَتَقْيِيدٍ دَلَّتْ عَلَى تَوْفِيقٍ لَهُ وَتَأْيِيدٍ وَمِنْ أَحْسَنِ مَا خَتَمَ بِهِ شِعْرَهُ مَا
ذَكَرَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ الْمُبَارَكِ فِي آخِرِ عَامِ ثَمَانِيَةٍ وَتِسْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ قَالَ بَعْضُ تَلَامِذَتِهِ أَنْشَدَ الشَّيْخَ الْإِمَامَ رحمه الله وَنَفَعَ بِهِ
بَلَغْت الثَّمَانِينَ بَلْ جُزْتهَا
…
وَهَانَ عَلَى النَّفْسِ صَعْبُ الْحِمَامِ
وَآحَادُ عَصْرِي مَضَوْا جُمْلَةً
…
وَصَارُوا خَيَالًا كَطَيْفِ الْمَنَامِ
وَأَرْجُوا بِهَا نَيْلَ صَدْرِ الْحَدِيثِ
…
بِحُبِّ اللِّقَاءِ وَكُرْهِ الْمَقَام
وَكَانَتْ حَيَّاتِي بِلُطْفٍ جَمِيلٍ
…
لِسَبْقِ دُعَاءِ أَبِي فِي الْمَقَامِ
وَالْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ رضي الله عنه «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» وَهَذَا بَعْدَ مَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ مِنْ التَّقْيِيدِ عَلَى رُسُومِهِ وَبَعْضِ ضَوَابِطِهِ بِبَرَكَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمَقْصِدِي بِذَلِكَ خِدْمَتُهُ وَأَنْ تَعُودَ عَلَيَّ وَعَلَى عَقِبِي بَرَكَتُهُ وَنَرْجُو اللَّهَ وَإِنْ كُنْت مُقَصِّرًا فِي الْأَعْمَالِ قَلِيلَ الْعَمَلِ بَيْنَ فُحُولِ الرِّجَالِ أَنَّ حُبَّهُ يَسْتُرُ عَلَيْنَا جَهْلَنَا وَيُعَرِّفُنَا قَدْرَنَا وَنَرْجُو اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْ نُكْمِلَ الْفَائِدَةَ بِمَا فِي كِتَابِهِ بَيَانُ ضَوَابِطِهِ وَشَرْحُ حِكَمِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَمُنُّ عَلَيْنَا بِفَضْلِهِ وَلَا يُخَيِّبُنَا مِنْ رَجَاءِ عَفْوِهِ وَيَسْتُرُنَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ أَحْوَالِنَا كَمَا سَتَرَنَا فِيمَا مَضَى مِنْ أَعْمَارِنَا وَلَا يَفْضَحُنَا يَوْمَ لِقَاهُ وَيَعْمُرُ قُلُوبَنَا بِحُبِّهِ حَتَّى لَا نَرَى إلَّا إيَّاهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا سَلَامًا يَكُونُ لَنَا عُدَّةً نَنَالُ بِهِ رِضَاهُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ تَقْيِيدِهِ فِي الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامِ اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ وَفَاتِحَةُ ابْتِدَاءِ تَقْيِيدِهِ أَوَاسِطَ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ الْمُنْصَرِمِ عَنْ عَامِ تَارِيخِهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِالرِّضَى وَالرِّضْوَانِ وَالْعَافِيَةِ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ وَالْأَمَانِ وَنَرْغَبُ مِنْ نَاظِرِهِ الْوَفَاءَ بِأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ لِوَلِيِّ اللَّهِ صَاحِبِ هَذِهِ الْحُدُودِ بِالْغُفْرَانِ وَلِمَنْ اعْتَنَى بِهَا مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ سَاتِرًا لِمَعَايِبِهِ فِيمَا يَكُونُ مِنْهُ أَوْ كَانَ وَمُؤَلِّفُ هَذَا التَّأْلِيفِ يُخَاطِبُ نَاظِرَهُ مِنْ أَهْلِ التَّعْرِيفِ وَيَقُولُ
بِاَللَّهِ يَا مُسْتَفِيدًا مِنْ فَوَائِدِهِ
…
لَا تَبْخَلَن بِأَنْ تَدْعُوَ لِكَاتِبِهِ
وَاذْكُرْ لِوَاضِعِهِ أَيْضًا فَإِنَّ لَهُ
…
حَظًّا وَلَا تَنْسَ أَيْضًا حَقَّ كَاسِبِهِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ الْوَرْغَمِّيُّ وُلِدَ سَنَةَ 716 وَكَانَ وَالِدُهُ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ جَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ وَكَانَ يَعْمُرُ بَعْضَ اللَّيْلِ بِالتَّهَجُّدِ ثُمَّ يَدْعُو لِوَلَدِهِ صَاحِبِ التَّرْجَمَةِ وَنَشَأَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ بِحَزْمٍ وَجِدٍّ وَلَازَمَ الْأَجِلَّةَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقْتَبِسُ مِنْ أَنْوَارِهِمْ فَأَخَذَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ عَنْ ابْنِ سَلَامَةَ. قَالَ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ» إلَخْ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ ذَهَبَ وَالِدِي إلَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ يَسْتَشِيرُهُ فِيمَنْ أَقْرَأُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْك بِابْنِ سَلَامَةَ فَإِنَّ مِيعَادَهُ نَقِيٌّ وَإِيَّاكَ فُلَانًا فَإِنِّي سَمِعْت عَنْهُ وَعَنْ مِيعَادِهِ شَرًّا. وَأَخَذَ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ وَالْفِقْهَ وَالْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ تَلَامِيذِهِ مُلَازَمَةً لَهُ وَأَخَذَ الْفَرَائِضَ عَنْ وَالسَّطِّيِّ وَأَخَذَ الْمَنْطِقَ وَالْجَدَلَ عَنْ ابْنِ الْحُبَابِ وَأَخَذَ الْحِسَابَ وَعُلُومًا عَقْلِيَّةً أُخْرَى عَنْ الْأُبُلِّيِّ.
قَالَ الشَّيْخُ بَابَا نَقْلًا عَنْ ابْنِ الْأَزْرَقِ وَوَقَفْت فِي مَكْتُوبٍ لِابْنِ عَرَفَةَ وَفِيهِ أَنَّهُ قَرَأَ عَنْ ابْنِ الْحُبَابِ جُمْلَةً مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ قِرَاءَةَ بَحْثٍ وَتَحْقِيقٍ وَجُمْلَةً مِنْ التَّسْهِيلِ عَلَى بَعْضِ شُيُوخِهِ وَسَمِعَ إلْقَاءَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ التَّفْسِيرَ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِآخِرِهِ بِمَا يَجِبُ لِذَلِكَ مِنْ تَحْقِيقِ أَحْكَامِ الِاعْتِقَادِ وَالْفِقْهِ وَقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْبَيَانِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَتَوَقَّفُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ عَلَيْهِ مَعَ مُرَاجَعَةٍ وَبَحْثٍ وَسُؤَالٍ وَجَوَابٍ وَقَرَأْت عَلَيْهِ جَمِيعَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِهِ إلَّا يَسِيرًا وَسَمَّعْت عَلَيْهِ بَعْضَ الْبُخَارِيِّ وَالْمُوَطَّأُ وَقَرَأْت عَلَيْهِ جُمْلَةً مِنْ التَّهْذِيبِ. وَتَبَرَّزَ رحمه الله فِيمَا دَرَسَهُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَصُعُوبَةِ بَعْضِهِ. وَمِمَّا قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِيهِ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ بِالْمَغْرِبِ سَمِعَ مِنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ سَلَامَةَ وَابْنِ بَلَّارٍ وَاشْتَغَلَ وَمَهَرَ فِي الْفُنُونِ وَأَتْقَنَ الْمَعْقُولَ حَتَّى صَارَ الْمَرْجِعَ فِي الْفُنُونِ إلَيْهِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ مُعَظَّمًا عِنْدَ السُّلْطَانِ فَمَنْ دُونَهُ مَعَ دِينٍ مَتِينٍ وَصَلَاحٍ وَقَدْ انْتَصَبَ رحمه الله لِلتَّدْرِيسِ وَأَخَذَ عَنْهُ جَهَابِذَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا يُقَارِبُ النِّصْفَ قَرْنٍ. وَمِمَّنْ أَخَذَهُ وَتَخَرَّجَ عَنْهُ الشَّيْخُ الْبُرْزُلِيُّ وَالشَّيْخُ الْأَبِيُّ وَالشَّيْخُ الرَّصَّاعُ وَالشَّيْخُ ابْنُ عَلْوَانَ وَأَضْرَابُهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ. وَكَانَ الشَّيْخُ يَقُولُ فِي دَرْسِهِ
إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ نُكْتَةٌ
…
وَتَقْرِيرُ إيضَاحٍ لِمُشْكِلٍ صُوَرَهْ
وَعَزْوُ غَرِيبِ النَّقْلِ أَوْ فَتْحُ مُقْفِلٍ
…
أَوْ إشْكَالٌ أَبْدَتْهُ نَتِيجَةُ فِكْرِهْ
فَدَعْ سَعْيَهُ وَانْظُرْ لِنَفْسِك وَاجْتَهِدْ
…
وَإِيَّاكَ تَرْكًا فَهُوَ أَقْبَحُ خُلَّهْ
وَقَدْ أَجَابَهُ تِلْمِيذُهُ الشَّيْخُ الْأَبِيُّ بِقَوْلِهِ
يَمِينًا بِمِنْ أَوْلَاك أَرْفَعَ رُتْبَةٍ
…
وَزَانَ بِك الدُّنْيَا بِأَكْمَلِ زِينَةِ
لِمَجْلِسِك الْأَعْلَى كَفِيلٌ بِكُلِّهَا
…
عَلَى حِينِ مَا عَنْهَا الْمَجَالِسُ وَلَّتْ
فَأَبْقَاك مَنْ رَقَّاك لِلْخَلْقِ رَحْمَةً
…
وَلِلدِّينِ سَيْفًا قَاطِعًا كُلَّ فِتْنَةِ
قَالَ الشَّيْخُ الْأَبِيُّ رحمه الله وَإِنِّي لَبَارٌّ فِي قَسَمِي فَلَقَدْ كُنْت أُقَيِّدُ مِنْ زَوَائِدِ إلْقَائِهِ وَفَوَائِدِ إبْدَائِهِ عَلَى الدُّوَلِ الْخَمْسِ الَّتِي تُقْرَأُ بِمَجْلِسِهِ مِنْ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالثَّلَاثِ الَّتِي فِي التَّهْذِيبِ نَحْوُ الْوَرَقَتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكُتُبِ اهـ. وَكَانَ لَهُ رحمه الله دُرُوسٌ يُلْقِيهَا فِي الْمَدْرَسَةِ التَّوْفِيقِيَّةِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى الزَّوَالِ فِي فُنُونٍ مُخْتَلِفَةٍ يَبْتَدِئُهَا بِالتَّفْسِيرِ وَزَارَهُ فِيهَا الْإِمَامُ ابْنُ مَرْزُوقٍ وَهُوَ يُفَسِّرُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] الْآيَةَ فَقَالَ لَهُ أَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَنْ هَا هُنَا مَوْصُولَةً فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ كَيْفَ وَقَدْ جَزَمَتْ فَقَالَ جَزَمَتْ تَشْبِيهًا لَهَا بِالشَّرْطِيَّةِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ إنَّمَا يُقْدَمُ عَلَى هَذَا بِنَصٍّ مِنْ إمَامٍ أَوْ شَاهِدٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فَقَالَ أَمَّا النَّصُّ فَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي التَّسْهِيلِ كَذَا وَأَمَّا الشَّاهِدُ فَقَوْلُهُ
فَلَا تَحْفِرَن بِئْرًا تُرِيدُ إخَابَهَا
…
فَإِنَّك فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ
كَذَاك الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا
…
تُصِبْهُ عَلَى رَغْمِ عَوَاقِبِ مَا صَنَعْ
فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فَأَنْتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ نَعَمْ فَرَحَّبَ بِهِ وَفِي سَنَةِ 750 وَلِيَ إمَامَةَ جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ ثُمَّ وَلِيَ الْخَطَابَةَ بِهِ سَنَةَ 722 وَكَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ يَتَيَمَّمُ الْجَامِعَ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ حَكَاهُ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَحَكَى الشَّيْخُ ابْنُ غَازِيٍّ فِي تَكْمِيلِ التَّقْيِيدِ إنَّ خُطَبَاءَ تُونُسَ كَانُوا يَصِفُونَ الْمَهْدِيَّ فِي خُطَبِهِمْ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فَلَمَّا وَلِيَ الشَّيْخُ ابْنُ عَرَفَةَ الْخَطَابَةَ تَلَطَّفَ فَأَبْدَلَ الْمَعْصُومَ بِالْمَعْلُومِ. ثُمَّ فِي سَنَةِ 773 وَلِيَ الْفُتْيَا بِالْجَامِعِ وَكَانَ أَشْهَرَ رِجَالِهَا فِي عَصْرِهِ وَإِلَيْهِ الْمَفْزَعُ فِيهَا مِنْ تُونُسَ وَغَيْرِهَا. قَالَ تِلْمِيذُهُ أَبُو حَامِدٍ الْمَكِّيُّ تَأْتِي إلَيْهِ الْفَتْوَى مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ. وَفِي سَنَةِ 792 خَرَجَ حَاجًّا وَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَمِصْرَ وَأَخَذَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الْبَدْرُ الدَّمَامِينِيُّ قَالَ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى الْمُغْنِي كُنْت يَوْمًا بِمَجْلِسِ شَيْخِنَا ابْنِ عَرَفَةَ وَذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ مِنْ سَنَةِ 792 وَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ دَرْسًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ مُخْتَصَرِهِ وَكَانَ شَخْصٌ مِنْ الطَّلَبَةِ الْمَوْسُومِينَ بِالتَّمَشْدُقِ وَالْإِكْثَارِ بِمَا لَا يُجْدِي حَاضِرٌ فِي الْمَجْلِسِ فَمَرَّ مَوْضِعٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ عَادَ فِيهِ ضَمِيرٌ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّخْصُ كَيْفَ أَعَدْتُمْ الضَّمِيرَ عَلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ وَالنَّحْوِيُّونَ بِخِلَافِهِ فَأَجَابَهُ الشَّيْخُ فَوْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] وَفِيهِ مِنْ اللُّطْفِ مَا لَا يَخْفَى وَالْحَالُ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ إنْ وُجِدَ ضَمِيرٌ يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَى الْمُضَافِ أَوْ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَعَوْدُهُ إلَى الْمُضَافِ أَوْلَى لِأَنَّهُ الْمُحْدَثُ عَنْهُ وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَوْدَهُ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ اهـ كَلَامُهُ. وَاسْتَخْلَفَ فِي هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْفَتْوَى بِالْجَامِعِ تِلْمِيذَهُ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ أَبَا مَهْدِيٍّ عِيسَى الْغُبْرِينِيَّ وَعَلَى الْخَطَابَةِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيَّ ثُمَّ آبَ فِي جُمَادَى الْأَوَّلِ سَنَةَ 793 وَبَاشَرَ خُطَطَهُ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ 803 وَدُفِنَ بِالْجَلَّازِ وَأَرْخَتْ وَفَاتُهُ بِتَارِيخَيْنِ أَحَدُهُمَا خَرَجَ وَالْآخَرُ ابْنُ عَرَفَةَ وَنَقَلَ عَنْهُ ابْنُ الشَّابَاطِ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَوْلَا خَوْفُ الْحَاجَةِ فِي الْكِبَرِ مَا بِتُّ وَعِنْدِي عَشْرَةُ دَنَانِيرَ قَالَ ابْنُ عَمَّارٍ فِيهِ: انْتَهَتْ إلَيْهِ الرِّئَاسَةُ فِي قُطْرِهِ أَجْمَعَ فِي الْفُنُونِ وَالتَّحْقِيقِ وَالْمُشَاوَرَةِ مَعَ خُشُونَةِ جَانِبِهِ وَشِدَّةِ عَارِضَتِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ وَحِرْزِهِ مِنْ الْمُخَاشَنَةِ. وَقَالَ الْغُبْرِينِيُّ: يَقُومُ الشَّيْخُ رحمه الله فِي جَامِعِ الزَّيْتُونَةِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ فِي كُلِّ عَامٍ حَتَّى عَجَزَ قُرْبَ وَفَاتِهِ " مُؤَلَّفَاتُهُ ". أَمَالِي فِي التَّفْسِيرِ جَمَعَهَا تِلْمِيذُهُ الْأَبِيُّ. نَظَمَ قِرَاءَةَ يَعْقُوبَ بِرِوَايَتَيْ الدَّانِيِّ وَابْنِ شُرَيْحٍ. نَظَمَ تَكْمِلَةَ الْقَصْدِ لِخَلَفِ ابْنِ شُرَيْحٍ. أَمَالِي فِي الْحَدِيثِ. أَمَالِي فِي الْحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ. مُخْتَصَرٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ عَارَضَ بِهِ طَوَالِعَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيِّ. نَظَمَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. مُخْتَصَرٌ فِي الْفِقْهِ أَحْصَى فِيهِ كَثِيرًا مِنْ فُرُوعِ الْمَذْهَبِ وَأَوْدَعَهُ مُنَاقَشَاتٍ نَفِيسَةً مَعَ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَارِحِهِ مُعَوِّلًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَصَدَّرَ كُلَّ بَابٍ بِحَدِّهِ ابْتَدَأَ تَصْنِيفَهُ سَنَةَ 772 وَأَكْمَلَهُ سَنَةَ 786 مُخْتَصَرٌ فِي النَّحْوِ. مُخْتَصَرٌ فِي الْمَنْطِقِ أَوْدَعَهُ اعْتِرَاضَاتٍ كَثِيرَةً عَلَى شُيُوخِ الْفَنِّ وَمِمَّا يُرْوَى عَنْهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ رحمه الله
بَلَغْت الثَّمَانِينَ بَلْ جُزْتهَا
…
فَهَانَ عَلَى النَّفْسِ صَعْبُ الْحِمَامِ
وَآحَادُ عَصْرِي مَضَوْا جُمْلَةً
…
وَصَارُوا خَيَالًا كَطَيْفِ الْمَنَامِ
وَأَرْجُو بِهِ نَيْلَ صَدْرِ الْحَدِيثِ
…
بِحُبِّ اللِّقَاءِ وَكُرْهِ الْمَقَامِ
وَكَانَتْ حَيَاتِي بِلُطْفٍ جَمِيلٍ
…
بِسَبْقِ دُعَاءِ أَبِي فِي الْمَقَامِ
انْتَهَى مُلَخَّصًا بِبَعْضِ تَصَرُّفٍ مِنْ كِتَابِ تَرَاجِمِ الْمُفْتِينَ بِتُونُسَ لِلْأُسْتَاذِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْبَشِيرِ النيفر أَبْقَاهُ اللَّهُ.