الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
41 - باب الوضوء بِماءِ البَحْر
83 -
حَدَّثَنا عَبْد اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مالِك، عَنْ صَفْوانَ بْنِ سلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ -مِنْ آلِ ابن الأزرَق- أَنَّ المُغِيرَةَ بْنَ أَبِي برْدَةَ -وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ- أَخْبَرَهُ أَنَّه سَمِعَ أَبا هُريرَةَ يَقُولُ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ إِنّا نَرْكَبُ البَحْرَ وَنَحْمِلُ مَعَنا القَلِيلَ مِنَ الماءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنا بِهِ عطَشْنا، أَفَنَتَوَضَّأ بِماءِ البَحْرِ؟ فَقالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ"(1).
* * *
باب الوُضُوءِ بِمَاءِ البَحْرِ
[83]
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيمٍ) بضم السِّين المهملة مصغر، المدني القرشي الزُّهري الفقيه، وأبوه سُليم مولى حميد بن (2) عبد الرحمن بن عوف، ذكر صفوان عند ابن حنبل فقال: هذا رجُل يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء يذكره، فإنَّه مِن عَباد الله الصالحين (3).
وقيل: لو قيل له: غدًا (4) يوم القيامة ما كان له مزيد على ما هو عليه من العبادة.
(1) رواه الترمذي (69)، والنسائي 1/ 17650، وابن ماجة (386)، (3246)، وأحمد 2/ 237.
وصحَّحه الألباني في "صحيح أبي داود"(76).
(2)
من (د)، و "التهذيب"(2882).
(3)
أسنده ابن عساكر في "تاريخ دمشق" عن أحمد 24/ 134.
(4)
في (ص، ل، م، س): هذا.
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ) بفتح السين واللام المخزومي (مِنْ آلِ)(1) عقبة (ابْنِ الأَزْرَقِ) وثق النسَائي سَعيدًا (أَنَّ المُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ) الكنَاني وثقه النسَائي وابن حبان (2)، ولي غزو البَحر لسُليمان بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين (3).
(وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ) وكانَ حليفًا لهم (أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: سَأَلَ رَجُل رسُول الله صلى الله عليه وسلم) وقع في بعض الطُّرق التي ذكرها الدارقطني أن (4) اسم السَّائل عَبدُ اللهِ المدلجي (5)، وكذا ساقه ابن بشكوال (6) بإسناده وأوردهُ الطبراني فيمن اسمهُ عبد، قال ابن منيع: بَلغني أن اسْمه عَبد، وقيل: عبيد بالتصغير، قال السّمعَاني في "الأنساب": اسمهُ العركي (7)، وغلِطَ فيه، وإنما العَرَكي بفتح العَين والراء وصف له، وهو ملاح السّفينة.
قال الشافعي (8): هذا الحديث نصف علم الطهَارة (فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ) ورواية ابن مَاجَه عن ابن الفراسي قال: كنتُ أصيدُ وكانت لي قربة أجعَل فيها ماء وإنّي تَوضَّأت بماءِ البحْر فذكرتُ ذلك
(1) في (م): بني.
(2)
"الثقات" 5/ 410.
(3)
"تهذيب الكمال" 28/ 352.
(4)
سقط من (م).
(5)
"علل الدراقطني" 9/ 12.
(6)
في (ص): بشكو إسناده. وفي (م): بشكوال في إسناده.
(7)
"الأنساب" للسمعاني 4/ 158.
(8)
في (ص): القراني، وفي (م): العرايني. غير منقوط. وفي (س): العركي.
لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، وفي البحر لأهل اللغة أصلان أحدهما معنى السَّعة، والثَّاني معنى الشق. قال القَزَّاز: سُمي بحرًا لسعته، من قولهم: تبحَّر الرجُل في العِلم. وفيه نظر؛ لأنَّ التبحُّر (2) في العِلم مأخُوذ من البحْر؛ لا أنَّ البحر مأخوذ منهُ، وحَكى الأزهري عن اللَّيث: سُمي بحرًا لاستبحاره وانبساطه وسَعته (3).
وقال الأزهري: سُميت الأنهار بحارًا (4)؛ لأنها مَشقوقة في الأرض شقًّا، والبَحرُ في كلام العَرب الشق، ومنه قيل للناقة التي تشق في أذنها: بحيرة (5) وتسمية الماء الكَثير بالبحر لملازمته الشق أو مجاورته، وهذا (6) يلزم منهُ المجَاز بالنسبة إلى الموضع اللغَوي، فإن ادّعِيَ فيه النقلُ عرفًا أو الاشتراك، فالكل خلاف الأصل وفيه دليل على جواز ركوب البحَر في الجملة.
قال ابن دقيق العيد: وورد في بَعض الروايات ركوبه للصَّيد فيدل دلالة خاصة على ركوبه في طلب المعيشة، لكن يعارضه رواية المُصَنف:"لا يَركب البَحر إلا حَاجًا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل الله .. " الحديث (7)، ولك (8) أن تأخذ من هذا الحَديث مُطلق الركوب
(1)"سنن ابن ماجة"(387).
(2)
في (ص، ل، م): البحر.
(3)
"تهذيب اللغة": بحر.
(4)
في (ص): أنهارًا.
(5)
"تهذيب اللغة": بحر.
(6)
في (م، س): وقد.
(7)
سيأتي تخريجه إن شاء الله.
(8)
في (ص، س، ل، م): وذلك.
من حيث هو ركوب من غير تعرض إلى الأحوال العَارضة التي تحرم أو توجب كراهيةً أو غير ذلك، كما هو عَادَة الفقهاء في إطلاق الحكم بالنظر إلى الحقيقة مِنْ غَير التفات إلى الأحَوال العَارضة كما تقول: الصَّيد جَائز، وقد يعرض ما يُوجبُ تحريمه. والنكاح مُستَحب، وقد يعرض ما يُوجب وجوبه (1) ولك (2) أن تُفَصِّل.
ونقل (3) أبو القاسم بن الجَلاب عن مَالك كان (4) يكره ركوب البَحر لما يدخل على الإنسَان من نقص في صلاته، وذكر ركوب البحْر ثلاثة أقسَام وجعل ما ذكره (5) مالك من الكراهة منزلًا على أحدها فقال: رُكوب البحر على ثلاثة أوجُه: جَائز: وهو إذا كانَ من شأنه أنهُ (6) يقدر على صَلاته قائمًا، ولا يميد، ومكروه: وهو ما (7) إذا لم يتقدم لهُ عَادَة بِرُكوبه ولا يَعلم إذا ركبَهُ هَل يميد وتتعطل صَلَاته أم لا؟ وممنوع: وهو ما إذا كانَ يَعلم من شأنه أنه يميد ولا يقدر على أداء الصَّلاة لكثرة الرَّاكب، ولا يقدر على السُّجُود (8).
وتقرير النَّبي صلى الله عليه وسلم السَّائل عمَّا ذكر (9) لهُ في ركوبهم البَحر، ولم
(1) في (ص، س، ل، م): تحريمه.
(2)
في (ص، س، ل، م): وذلك.
(3)
من (د).
(4)
من (م).
(5)
في (ص): وجعلها ذكره. وفي (م): جعلها بكر.
(6)
في (د): أن.
(7)
سقط من (د).
(8)
انظر: "مواهب الجليل" 3/ 481.
(9)
في (م): ذكره.
يستفصل عن أحْوَال راكبه، دليل على الجوَاز مُطلقًا على القاعدة التي ذكرها الشافعي أن ترك الاستفصَال في حكاية الحَال مع قيام الاحتمال مُنَزل (1) مَنزلة العُموم في المقَال (2). فَعَلى هذِه القاعدة (3) إذا وَجَدَ اللفظ جَوَابًا عن السُّؤال، فيُنزل التقرير بعد السُّؤال مَنزلة اللفظ حَتَّى يعمَّ أحْوال السؤال في الجَواز؛ لإقامة الإقرار على الحكم مَقام الحكم، إذ لا يجُوز تقريرُهُ عليه السلام على أمر بَاطل فنزل (4) إقراره مَنزلة الحكم المبين (5).
لكن يرد هَاهنا ما قاله الغزالي: إن المفهوم ليسَت دلالته لفظية، والعموم من عوَارض الألفاظ. وهذا المعَنى موجُود في دلالة التقرير، إذ ليسَت لفظية، ويُجاب عن هذا بأنا قلنا أنَّه منزل منزلة العُموم بمعنى شمول الحكم للأحوَال، ولا يجعلهُ حقيقة في العُموم.
(وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ المَاءِ) يستدل به على أن إعدَاد الماء الكافي للطهَارة مع القدرة عليه غير واجب على ما تقدم، وهو ترك الاستفسار والإقرار على السؤال؛ لأنهم أخبروه (6) أنهم يحملون القليل من الماء وهو كالعَام (7) في حَالات حَملهم، فيمُكن أن يكونَ مع القدرة على
(1) في (م): بترك.
(2)
"التبحير شرح التحرير" 5/ 2387، "البرهان في أصول الفقه"(248).
(3)
سقط من (م).
(4)
في (ص، د، ل): فنزله.
(5)
في (م): البين.
(6)
في (ص، م، ل): أخبروا.
(7)
في (م): كالعدم.
حَمله، ويمكن أن يكون بسَبَب العَجز عن حَمله بسَبَب ضيق مراكبهم عن حَمل البَاقي، فإذا جَعلناهُ كالعَام فيتناول حَال القُدرة، ولم ينكر عليهم، فدلَّ ذلك على جَواز هذِه الحالة.
(فإن (1) تَوَضأنا بِهِ عَطِشْنَا) بكسر الطَّاء، يُقالُ: عَطش عَطَشًا فهو عَطشان وامرأةٌ عَطِشَةٌ وعَطْشَى.
قال سُليمان بن خلف الباجي في كلامه على هذا الحَديث: فيه دليل على أن العَطَش له تأثير في ترك استعمال الماء المعدّ (2) للشرب، ولذلك أقرهُ النبي صلى الله عليه وسلم على التعَلق به. (3)
وقال الحافظ يوسُف بن عَبد الله بن عَبد البرِّ في هذا الحَديث: إن المُسافر إذا لم يكُن معهُ من الماء إلا ما يكفيه لشربه وما لا غنى به عنهُ ولا فضل فيه؛ يعني: عن سقيه، أنه لا يتوضأ به، وأنَّه جائز (4) له التَّيمم. انتهى (5).
وينبني هذا على تقرير مسألة، وهي أنه إذا خاف العَطش فما الخَوف المعتبر في إباحة التَّيمم وظاهِر اللفظ في الحَديث تعليقه بُمطلق العَطش، والشافعية (6) يعتبرُون هذِه الحَالة بحالة المرض المُبيح للتيمم فينظر هل
(1) في (ص، س، ل): فإذا.
(2)
في (م): العذب.
(3)
"المنتقى شرح الموطأ" 1/ 41.
(4)
في (ص، م، ل): جعل.
(5)
"التمهيد" 16/ 223.
(6)
انظر: "المجموع" للنووي 2/ 245.
يكون الخَوف من التلف لنفس أو عضو أو منفعة أو زيادة المرض أو تأخير البُرء أو شَيْنٍ فاحشٍ على عضوٍ ظاهر، فإذا قسناهُ بذلك اقتضى ذلك تقييدًا في العَطش واحتاج إلى دَليل، ولعلّه القياس وينبني على القاعدتين أن التوقعَ مِن خوف العَطش كالوَاقع، والمظنونَ كالمعلوم؛ لأن قوله: عَطشنا يَحتملُ العَطش حَالًا أو مآلًا (1) والحكم يحتمل العِلم والظن، فإذا فرَّعنا على وُجُوب الاستفصَال عند اختلاف الحكم، وأنَّ تركَ الاستفصَال يدُل على عُمُوم الحكم، جُرِيَ على ذلك.
(أَفَنَتَوَضأُ بِمَاءِ البَحْرِ؟ ) فيه حَذف الصِّفةِ مع بقاء الموصوف تقديرهُ: أفنتوضأ بماء البحر المِلحِ (2)؟ فحذف الصفة كقوله تعالى: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} (3) أي: الوَاضِح، وإنما يصح الحَذف إذا فهم المعنى طلبًا للاختصار مَع حُصُول المقصُود.
(فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم) قال ابن العربي: لو قال لهم (4) النبي صلى الله عليه وسلم: نَعم، لما جَاز الوضوء به إلا لضَرورة، وعليه وقع سُؤالهم؛ فبها كان يرتبط جَوابهم لو قاله؛ فاستأنف بيان الحكم بجواز الطهَارة به (5).
قال ابن دقيق العيد: وفيه وجه آخر: لو قال نعم لم يستفد منه من حيث اللفظ إلا جواز الوضوء به الذي وقع عنهُ السُّؤال ولما أجَاب بأنه الطهُور أفاد جَوَاز رَفع الأحداث أصغرها وأكبرها (6) وإزالة
(1) في (ص، م، ل): ومآلًا.
(2)
في جميع النسخ: العذب. وفي هامش (د): لعله الملح.
(3)
البقرة: 71.
(4)
من (د).
(5)
"عارضة الأحوذي" لابن العربي 1/ 88 - 89.
(6)
في (م): أصغرهما وأكبرهما.
الأنجاس به لفظًا، فكانَ أعم فائدة. وفيه وجه آخر (هُو) هذا هو (1) ضَمير الشأن، وهو من محاسن كلامهم، والسَّبب فيه أنهُ يشعر بالجملة الآتية بعده إشعَارًا كليًّا وتتشرف (2) النفس إلى تفسير الآتي عند سَماع الإبهام، فإذا أتى به قبلته النَّفس قبُول الطالب لمطلوبه وكونه يحتمل أن يكون ضَميرًا يعُودُ على البَحر لا يمنع أن يكون ضَمير الشأن كما أن قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) ضَمير الشأن، وإن كان يَحتمل أن يَعوُد على الربِّ الذي قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك مما هو. فأنزل اللهُ تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
(الطهور) بفتح الطاء اسم للماء الذي يتطهر به، واستدل به على أن الطهور هو ما يتَطهر به، ووجه الاستدلال أن الطاهرية أعَم من الطهورية فكل طَهُورٍ طاهرٌ ولا ينعكِسُ، والحكم على الشيء بالمعنى الأعم لا يستلزم الحكم عليه بالوصف الأخص، فلا يفيد الجواب عن السُّؤال عن الأخص.
وحكى (4) القاضي طاهر بن عبد الله الطبَري الشافعي عن أبي بكر الأصم وأبي بكر بن داود وبعض متأخري أصحَاب أبي حنيفة وطائفة من أهل اللغة أن معنى طَهُور وطاهر سواء (5)، واحتجوا بأن ما كانَ
(1) سقط من (س، م).
(2)
في (س، م): تتشوق.
(3)
الإخلاص: 1.
(4)
في (ص، ل): حكم.
(5)
"المجموع" 1/ 84.
فاعله لازمًا ففعوله مثله كنَائم ونؤوم، وصَابر وصَبُور وشاكر وشكور، وما كانَ فاعله متعديًا ففعُوله مثله في التعدي كقابل وقبول (1) وضارب وضَرُوب وشاتم وشتوم، وأصل هذا أن صيغة فعول لا تنبني (2) إلا من فعل ثلاثي مجرد عن الزيادة والفعل في مسألتنا طهر وهو قاصرٌ وطهوُر مثله، وأجَابَ عنه القاضي بأنه لابد أن يكون لفعول صفة (3) زائدة على فاعله، ألا ترى أنك تقول: نائم لمن وُجِدَ منه النوم، ونؤومٌ لمن كَثُر منه النَوم وكذلك صَابر لمن صَبر مرة. وصَبور لمن تكرر منه الصَّبر. ولما كانت المياه طَاهرة لم يكن بد أن يجعَل في الطهور مزية على طاهر، وليست تلك المزية إلا تعديها للتَّطهير وأيضًا فلا يقالُ:"نائم" إلا لمن وجد منه النوم، وكذلك قاتل وشاتم ولا يوصف صَاحبه بذلك إلا بعد وجوده منه، وأمَّا الماء فيقال فيه: طَهور قبل أن يوجد منه التطهير، فكان بمنزلة قولنا: سُحور وفطُور لما يُتَسَحَّر به ويفطر عليه، فكذلك طهور لما يتطهر به.
وقد أورد هذا بَعض المتأخرين فقال: لا شك أن مجرد بنائه على فعول لا يُوجب تعديه كما قال السَّائل لكنَّا نقول: استقر لفظ طهُور في عُرف اللغة إنما يُطلق على ما يتطهر به فهو اسم للآلة التي يفعَل بها كالبخور والغسُول لما يتبخر بهِ ويغتسل به، فصَار كاللقب على ذلك لا أصل بنائه (4) فقط، كقوله عليه الصلاة والسلام: "جُعلت لي الأرض
(1) في (م): كقاتل وقتول.
(2)
في (ص): يثني. وفي (د، س): تبنى.
(3)
في (ص، ل): لمفعول نعم.
(4)
في (د): بيانه.
مَسْجدًا وطهورًا" (1).
(مَاؤهُ) في إعراب قوله: "هو الطهوُر ماؤه" أنهاه بعضهم إلى قريب من عشرين وجهًا في كثير منها تكلف وإضمار لا يظهر الدلالة عليها، فتركنا أكثرها واقتصرنا (2) على أربعة أوجهٍ:
الأول: أن يكون (هو) مُبتدأ والطهور مبتدأ (3) ثانيًا خبره (ماؤه) والجملة من هذا المبتدأ الثاني وخبرهُ خَبر للمبتدأ الأول.
الثاني: أن يكون (هو) مُبتدأ والطَّهور خبرهُ و (ماؤه) من بدل الاشتمال، وفي هذا بحث دقيق.
الثالث: أن يكون (هو) ضَميرُ الشأن كما تقدمَ (4) وفي محله تفصيل، و "الطَّهور ماؤه" مبتدأ وخبر، ولا يمنع من هذا تقدم ذكر البحر في السُّؤال كما تقدم؛ لأنَّهُ إذا قصد الإنشاء وعدم إعادَة الضَّمير في قوله هو على البحْر، صح هذا الوجه كما قالوا في {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أنه ضَمير شأن مع ما روي من تقدم ذكر الله تعالى في سُؤال المشركين، حَيث قالوا: انسب لنا ربَّك.
الرابع: أن يكون (هو) مُبتدأ و (الطهورُ) خبر و (ماؤه) فاعل؛ لأنه قد اعتمد عَامِله بكَونه خَبرًا.
واستدل المالكية بلفظ الطهور على مسألة الماء المُستعمل من حَيث
(1) رواه البخاري (335)، ومسلم (521)، والنسائي 1/ 209، وأحمد 3/ 304، وغيرهم من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
في (ص): واختصرنا.
(3)
من (د، س، ل، م).
(4)
سقط من (م).
أن صفة (1) فعُول تقتضي التكرار كالقطوع للسَّيف والضروب للرجُل فيقتضي ذلك تكرار التطهر به، فيدخل فيه الماء المستعمل (2)، وقيل في الآية أنه جعَل الماء مُطهرًا، ولم يفرق بيَن أن يُستعمل وبين أن لا يُستعمل، فوجب أن تثبت له الصفة ما دَام ماء، وهذا يجيء مثله في لفظ الحَديث.
وأجَاب القاضي أبو الطيب طاهر الطبَري بأنه أراد أنه معد للطهَارة كما نقول: فطُور وسُحور؛ لأنه معدٌّ لذلك، والدليل على ذلك أنه سَماهُ طهورًا قبل أن يتطهر به.
قال ابن دَقيق العيد: والاستدلال بالآية أقرب من لفظ الحديث؛ لأن لفظ الحَديث اسم جنس مُضاف يقع على قليله اسم كثيره، وبالعَكس فيقتضي أن يضاف الحكم بالطَّهورية إلى كل ما يُسمى ماء البحر، وألفاظ العموم كلية، أي: يثبت الحكم في كل فَرد مِن أفراد ألفاظ العموم، فيقتضي ذلك أن يكون كل جُزء مما يُطلق عليه اسم ماء البحر يحكم (3) له بالطهُورية، فإذا سلم الخصم اقتضاء الصِّيغة للتكرار لزم ذلك في كل جُزء.
فإن قيل: يمكن أن يُجاب عن التكرار بأن الماء يتردَّد على العضو، فملاقاته لأول جُزء طهره ثم ينتقل إلى الجزء الثاني مِنَ البَدَن فيطَهرُه، فيحصُل تكرار التطهير بالجُزء المُعَين مِنَ الماء بخلاف الوجه الذي
(1) في (م): أنه صيغة.
(2)
"أحكام القرآن" لابن العربي 3/ 438.
(3)
في (م): فحكم.
ذكرهُ القاضي، فإنَّه لا يقتضي حصول التكرار بالنسبة إلى جزء معَين فإنَّما يقتضيه بالنسبة إلى الجنس.
قال: وفيه بحث؛ (لأنَّ لقائلٍ)(1) أن يقول أحَد الأمرين لازم، وهو إمَّا عدم التكرار المدَّعي أو ثبوت حكم (2) الاستعمال قبل انفصال الماء عن العضو، والثَّاني منتفٍ فيلزم الأول.
واستدل الحنفية بكون الماء مُطهرًا وطَهورًا على أنه لا تشترط النيَّة في الوضوء، وحملوا على ذلك من الاستدلال قوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (3) نص على كون الماء مُطهرًا، ولو توقفت الطهَارة على النيَّة لم يكن مجرد الماء مُطهرًا (4)، ويستدل به على جَواز التطهر بماء البَحر، وهو المقصُود بالذات مَنَ الحَديث (5) وعنه وقع السُّؤال وذلك مَذهب الجمهور من الأئمة.
قال ابن المنذر: وممن روينا عنهُ أن ماء البحْر طهور أبو بكر الصديق (6)، وعمر بن الخَطاب (7)، وابن عَبَّاس (8)، وعقبة بن عَامر (9).
(1) في (م): لأنه قائل.
(2)
في (ص، م، ل): حكمه.
(3)
الأنفال: 11.
(4)
"شرح فتح القدير" 1/ 131.
(5)
في (د): الحدث.
(6)
رواه ابن المنذر في "الأوسط" 1/ 353، وأبو عبيد في "الطهور"(238)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 1/ 154، وصحَّحه الألباني في "الإرواء"(9).
(7)
"مصنف عبد الرزاق"(325، 326).
(8)
رواه أحمد 1/ 279، والدراقطني في "سننه" 1/ 35.
(9)
رواه أبو عبيد في "الطهور"(240).
وبه قال عطاء (1)، وطاوس (2)، والحسَن البَصري (3)، ومالك (4) وأهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الشَّام والشَّافعيّ (5) وأحمد (6)، وبه نقول (7). قال: وروينا عن ابن عُمر أنه قال في الوضُوء بماء البَحر: التَّيمم أحَب إلي منهُ (8)، وعن عَبد الله بن عمرو: لا يجزئ من الوضُوء ولا مِنَ الغسْل والتيمم أحَب إلي منهُ (9)، وعن ابن المُسَيِّب: إذا ألجئت إليه فتوضأ منه (10).
قال ابن عَبد البر: جاء عن ابن عمرو ابن عمرو كراهية الوضوء بماء البحر، ولا يصح عنهما والذي ذكر في علة قولهما أنه نار وأسندوا فيه (11) حَديثًا (12)، وأجيب عنه بوجهين: أحدهما: أنه أرَادَ بقوله نارًا في نار أن البحَار تَصير يوم القيامة نارًا لقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (13){وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (14) فوصفه بما يؤول إليه حَالُه.
(1)"مصنف عبد الرزاق"(325، 326).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(328).
(3)
"الطهور"(245).
(4)
"الموطأ" 1/ 22.
(5)
"الأم" 1/ 41.
(6)
"مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج"(49).
(7)
"الأوسط" لابن المنذر 1/ 354 - 355.
(8)
رواه أبو عبيد في "الطهور"(ص 248)، وابن المنذر في "الأوسط" 1/ 355.
(9)
رواه أبو عبيد في "الطهور"(ص 247)، وابن المنذر في "الأوسط" 1/ 355.
(10)
في (ص، ل، د): به. والأثر أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" 1/ 356.
(11)
في (س): استدلوا به.
(12)
"التمهيد" 16/ 221.
(13)
التكوير: 6.
(14)
الطور: 6.
والثَّاني: أن البحر في إهلاكه لراكبه كالنار في الصفة، ولهذا يقال: السُّلطان نار، أي: فعله يهلك كما تهلك النار، واستدلوا (1) بهذا الحَديث على أن الماء المتغير بقذارة طهور بناء على أن الأصل في ماء البحر العذوبة وتغيره بسبب مروره على أجزاء من الأرض سَبخة مَالحة. وهذا الاستدلال يتوقف على إثبات هذِه المقدمَة، أي (2) أن الأصل فيه العذُوبة، وتغيره باعتبار المرور، وقد ذكر ذلك عن غير واحد من الفضلاء، ولكنه أمر لابد من إثباته بدليل يدل عليه إذا نوزع فيه، فإن الله تعالى سمَّاهُ ملحًا بقوله تعالى:{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (3) وأصل التّسمية به تدل على أن هذا الوصف لازم له لا عارض (4).
وهذا الحَديث مذكور (5) في علم الأصول في مسألة العَام الوارد على سَبَب خاص، حيث قالوا: إن الجَواب إذا كان مُستقلًا عن السؤال عَامًّا في لفظه لا يتقيد بسببه من حيث أن العموم إنما خَصصهُ ما يناقض عُمومه، وليس في ورود العَام على سَبَب خاص ما يناقض عمومه، وذكروا خلاف الشافعي في هذِه المسألة، وإنما ننبه فيها على شيء يغلط فيه بعضهم بسببه، وذلك أن السؤال والجَواب قد يكون اتساقهما وسياقهما مقتضيًا للتخصيص وقد لا يكون، فإن كان الأول اقتضى ذلك التخصيص؛ لأن السِّياق مُبين للمجملات مرجح لبَعْض المحتملات مُؤكد
(1) في (د): استدل.
(2)
في (د): أعني.
(3)
فاطر: 12.
(4)
سقط من (ص).
(5)
في (م): المذكور.
للواضحات، وإن كان الثاني فهي المسألة الخلافية، فقد يرجح بعض الضعَفة فيرى السُّؤال والجَواب حَيث يقتضي السيَاق التخصيص فيحملهُ على المسألة الخلافية ويُرجح (1) ما رجحه الجمهُور من القول بالعموم.
قال ابن دَقيق العيد: وهو عندنا غلط في مثل هذا المحل فلينتبه (2) له وقد أشارَ بعض فقهاء المالكية المتأخرين إلى تَصحيح قول سَعيد بن المُسَيّب المتقدم أنهُ إنما يتوضأ به إذا ألجئ إليه من هذا الحديث؛ لأنَّهُ ورد جوابًا عن قوله: إن توضأنا به عَطشنا وأجَاب بأن حَمله على المسألة الأصُولية المُرَجح عند الأكثرين من القول بالعموم.
وقال: إنما يلزم ذلك الشافعي الذي اختار تخصيص العَام بسببه، وهاهُنا قاعِدَة ينبغي عليها ما لا يحصَى منَ المبَاحث المتَعلقة بهذا الحَديث (3) ونحوه، لا بأسَ بذكرها هَاهنا لينتفع (4) بها في غَيره مِنَ الأحَاديث ولا يحتَاج إلى إعَادتها، وهي أنَّ اللفظ العَام مُطلق باعتبار الأزمَان والبقاع والأحَوال والمتعَلقات، وإن كان عَامًّا في الأشخاص.
وقد يُستعمل ذلك في دفع (5) كثير من الاستدلالات بالألفاظ من الكتاب والسُّنة فيؤتى إلى بعض الأحَوال التي يتفق عليها (6) من الخصمين، فيقال: إن اللفظ مُطلق في الأحوَال، وقد عملنا في
(1) في (م): ورجح.
(2)
في (ص): فيشبه. وفي (م): فينتبه.
(3)
من هنا تغير خطأ الناسخ في (م).
(4)
في (م): يشفع.
(5)
في (ص): وقع.
(6)
في (م): ينفق علينا.
الصُّورة الفُلانية، والمطلق يكفي في العَمل به مَرة واحِدَة، فلا يلزم العَمل به في صُورة النزاع.
قال ابن دقيق العيد: أمَّا كون اللفظ العَام في الأشخاص مُطلقًا في الأحوال وغَيرها، كما ذكر فصَحيح، وأما الطريقة المذكورة في الاستدلال فإذا لزم من العمل بالمطلق في صُورة دُون غيرهَا عود التخصيص إلى صيغَة (1) العمُوم وجبَ القول في العمُوم في تلك الأحْوَال لا من حَيثُ أن المُطلق عَام باعتبار الاستغراق بل من حَيث أن المحافظة على صيغة العُموم في الأشخاص واجب، فإذا وجدت صُورة وانطلق عليها (2) الاسم من غير أن يثبت فيها الحكم، فإن ذلك مُنَاقض للعُموم في الأشخاصِ.
فالقول بالعمُوم في مثل هذا من حيث وجُوب الوفاء بمقتضى الصِّيغة العَامة، لا مِنْ حيث أن المُطلق عَام عُمومًا استغراقيًا، وأما قولهم إن المطلق يكفي في العمل به مَرة، فنقول: يكتفي فيه بالمرة (3) فعلًا أو حملًا، الأول مُسلم والثاني ممنوع، وبيان ذلك أن المطلق إذا فعل بمقتضاه مرة ووجدت الصورة الجزئية التي يَدخل تحتها الكلي المُطلق كفى ذلك في العَمل به، كما إذا قيل: أعتق رقبة ففَعَل ذلك مَرة لا يلزمهُ إعتاق رقبة أخرى لحصُول الوفاء بمقتضى الأمر من غَير اقتضاء اللفظ العموم، وكذا إذا قال: إن دخلت الدَّار فأنت طالق فدَخلت مرَّة
(1) في (م): الصيغة.
(2)
في (م): صوت وانطق عليه.
(3)
في (م): بأن.
حَنث ولا يحنث بدُخولها ثانيًا لوُجُود مُقتضى اللفظ فعلًا من غير اقتضاء العموم.
أمَّا إذا عمل به مَرة حملًا، أي: في صُورة مِن صُوَر المطلق لا يلزم التّقييد بها فلا يكون وفاء بالإطلاق؛ لأن مقتضى تقييد الإطلاق، بالصُّورة (1) المعينة حملا أن لا يجعَل الاكتفاء بغَيرها، وذلك يناقض الإطلاق، مثاله: إذا قال (2): أعتق رقبَة، فإن مُقتضى الإطلاق أن يحصُل الإجزاء بكلِّ ما يسمى رقبة (3) لوجود المطلق في كل معتق من الرقاب، وذلك يقتضي الإجزاء به، فإذا خصَّصنا (4) الحكم بالرقبة المؤمنة منعنا إجزاء الكافرة، ومقتضى الإطلاق إجزاؤها إن وقع العتق لها، فالذي نقلناه (5) خلاف مقتضاهُ فتنبه (6) لهذِه الموَاضع التي ترد من ألفاظ الكتاب والسُّنة إذا كانَ الإطلاق في الأحوَال أو غيرها مما يقتضي الحمل على البَعْض، فيه عود التخصيص إلى محَل العموم، وهي الأشخاص أو مخالفة لمقتضى (7) الإطلاق عند الحَمل، فالحكم لا يكون بالتخصيص مع وجُود الوفاء أو التّقييد بُمقتضى العُموم أو الإطلاق إلا لدليل منفصِل.
(1) في (ص، س، ل، م): فالصورة.
(2)
في (د): قيل.
(3)
في (ص، س): وفيه، وفي (م): رقبة وفيه.
(4)
في (م): خصص.
(5)
من (ص).
(6)
من (د).
(7)
في (د): بمقتضى.
(الْحِلُّ) بكسْر الحَاء، بمعنى: الحَلال كالحرم بمعنى: الحَرام (مَيتَتُهُ)(1) بفتح الميم؛ لأن المراد العَين الميتة، وأمَا الميتة بكسر الميم فهي هيئة الموت، ولا مَعنى لهَا هنَا إلا بتكلف، والميتة بالتشديد والتخفيف بمعنى واحد في موارد الاستعمال، وفصل بَعضُهم بينهما، ويجوز أن تأتي الوُجوه الأربعة المتقدمة هنا، فيجوز أن يكُون: الحل خَبَر مُبتدأ محذوف تقديره هُو الحل ميتته، و (ميتته) بدَل اشتمال كما تقدم، وقد اسْتدل بهذا على الزيادة في الجَواب عن السُّؤال.
قال ابن العَربي: "الحِل ميتته": زيَادة على الجَواب، وذلك من محاسن الفتوى، بأن يأتي بأكثر مما سُئل عنه، تتميمًا للفائدة وإفادة لعلم آخر غير المسئول عنه (2) وقد يؤكد (3) هذا بظهُور الحَاجة إلى هذا الحكم؛ لأن من توقف في طهورية مَاء البحْر فهو عَن العِلم بحل (4) ميتته مع (5) ما تقدم من تحريم الميتة، أشد توقفًا (6).
وهذا الحَديث مذكور في الأصُول في مسألة الخطاب الوارد جوابا لسُؤال سَائل، وقيل: لا خلافَ في العُموم في حل مَيتته؛ لأنه عام
(1) الحديث رواه الترمذي (69)، والنسائي في "الصغرى" 1/ 50، وابن ماجة (386)، والدارمي (729)، ومالك في "الموطأ" 1/ 22، وأحمد 2/ 361، وصححه ابن حبان (1243). وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه البخاري كما في "علل الترمذي"(33).
(2)
"عارضة الأحوذي" 1/ 89.
(3)
في (ص، س، ل، م): يؤيد.
(4)
في (ص، ل، م): محل. وفي (س): بمحل.
(5)
سقط من (م).
(6)
سقط من (ص، س، ل، م).
مُبتدأ لا في معرض الجَواب إذ هو غَير مسئول عنهُ وورد مبتَدأ بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عندَ القائلين بالعُموم وهاهنا تنبيه وهو أن وجده اللفظ العَام بالنسبة إلى مواردها المتعددة مُعتبرة فيها لا في غَيرها فإذا ادعى أن المراد بالعموم هَاهُنا جَواز الوضوء وحل الميتة ليس عامًّا بالنسبة إليهما بل هُما لفظان كل واحد منهما منفرد عَن الآخر يعمُّ كل واحد منهما عَام فيما يتناولهُ.
وقال بعَض المتأخرين: إنهُ ليسَ هاهنا لفظ مُنفرد أعم مِنْ ماءِ البحر، فالمجموع من لفظ الماء والميتة أعَم مِنَ السُّؤَال، والجَوَاب أعم مِنَ السُّؤال، وأنت تعلم أنهُ مع تعدُّد اللفظ لا يحْصل العُموم الاصطلاحي، بل حَاصِله أن الأحكام المستفادة مِنَ الجَوَاب المختصّ بما وقع عنهُ السُّؤال، وذلك لا يقتضي لفظًا واحدًا يعم ما وقع فيه وغَيره مِنْ جهة واحدة؛ نعم إن قيل السُّؤال وقع عن الوُضوء، وكون مائه طهورًا يفيد الوُضوء وغَيره فهو أعم مِن السُّؤال، فلذلك وجه، ولفظ الميتة هَاهنا مُضَاف إلى البَحر، ولا يجُوز أن يحمَل على مُطلق ما يجوز إضَافته إليه مما يطلق عليه اسم الميتة، وإن كانَ الإضَافة شائعة في ذلك بحكم اللغة، وإنما هُو محمول على الميتة من دوابه المنسُوبة إليه أو ما يُؤدي هذا المعنى.
وقد ذكر ابن الحَاجب إشارة لطيفة حَيث ذكر صيغ العموم وأسماء الشروط والاستفهام، واسم الجنس المعَرف تَعريف جنس والمضَاف إلى ما يصلحُ للبَعْض والجَميع والنكرة في النفي، فقوله: والمُضَاف لما يَصْلحُ للبَعْض والجميع؛ تقييد يقتضي العموم، وقد بنى على هذا
أن لفظة (1) الميتة في الحديث لا تكون للِعموم؛ لأنه ليسَ مما ينطلق على الكثير والقَليل، فلا يُقالُ لعدة (2) مِنَ الميتات: ميتة.
وهذا يُخالف استدلال الناس بهذا العُموم، وللنظر فيه فَصل.
قاعدة ينبنى (3) عليها غَيرها: اعلم أن الحقائق إمَّا أن لا ينطلق بَعضها على بعض وهي المتباينة كالإنسَان والفَرس. أو ينطلق كل وَاحِد منهما على الآخر وهي المتساوية كالإنسان مع الناطق، أو ينطلق أحدهما على كُل ما (4) ينطلق عليه الآخر من غير عكس من الطرف الآخر، فالأول هو العَام من كل وجه، والثاني الخاص كالحيَوان بالنسبة إلى الإنسَان، فإن الأول ينطلق على كل الثاني، والثاني لا ينطلق على كل الأول، فالأول عَام مُطلقًا، والثاني خاصّ بالنسبة إلى الأول، أو ينطلق كل واحد منهما على بعض ما ينطلق عليه الآخر، فكل واحد منهما عَام بالنسبة إلى الآخر من وجه دُون وجه كالحيوان والأبيض فإن الحيوان ينطلق على بعض الأبيَض والأبيَض ينطلق على بعض الحيَوان. إذا ثبت هذا فنقول: إذا ورد لفظان كل واحد منهما عَام من وجه وخاص من وجه، فالمسألة من مشكلات عِلم الأصُول، واختار قوم فيها الوقف (5) إلا بترجيح يقوم على القول بأحد اللفظين
(1) في (م): لفظ.
(2)
في (ص، س): لهذِه.
(3)
في (ص، س، ل، م): يبنى.
(4)
زاد بعدها في (ص، ل، م): لا.
(5)
في (م): التوقف.
بالنسبة إلى الآخر، وكأنهُ يراد الترجيح العَام الذي لا يخصّ مدلول العموم كالترجيح بكثرة (1) الرواة، وسائر الأمور الخارجَة من مَدلول العُمومين من حَيث هو عمُوم.
قالَ أبوُ الحُسَين (2) في "المعتمد": وليس يخلو مثل هذين العمُومين، إما أن يعلم تقدم أحَدهما على الآخر أو (3) لا يعلم ذلك، فإن لم يعلم ذلك لم يخل إمَّا أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلومًا والآخر مظنُونا؛ لأن الحكم بأحدهما طريقه الاجتهاد، وليس في ترجيح أحدهما ما يقتضي اطراح الآخر فالتخيير (4).
وقال محمد بن يحيى: ليس أحَدهما بأولى من الآخر، فينظر فيهما إنْ دخلَ أحَدهما تخصيص مُجمع عليه فهو أولى بالتخصيص، وكذلك إذا كان أحَدهما مقصودًا بالعمُوم يرجح على ما كانَ عمُومه اتفاقًا (5).
وقد اختلفوا في أكل التمسَاح، فمنعهُ الشافعي (6)، وأباحَهُ مَالك وأصحابه (7)، وهي إحدى المسَائل التي تنبني على هذِه القاعدة.
وبيَان ذلك قوله: "الحِل ميتتهُ" إذا جَعَلناهُ عَامًّا كما استدل الناس به
(1) في (م): لكثرة.
(2)
أبو الحسين محمد بن علي المعتزلي، أحد أئمة المعتزلة بالبصرة، وتوفي بها سنة 436، من كتبه غير "المعتمد":"غرر الأدلة"، و"شرح الأصول"، و"تصفح الأدلة".
(3)
في (م): و.
(4)
"المعتمد" 1/ 419 - 420. واختصره الشارح هنا اختصارا شديدا.
(5)
نقله الزركشي عن ابن يحيى في "البحر المحيط" 8/ 164.
(6)
انظر: "روضة الطالبين" 3/ 275.
(7)
انظر: "الذخيرة" للقرافي 4/ 96.
على العُموم دَخل فيه التمسَاح، ويَعارضه نهيهُ عليه الصلاة والسلام عن أكل كل ذي ناب مِنَ السبَاع، فهو عَام بالنسبة إلى البري والبحري، فيدخل فيه التمسَاح، فيكون كل واحِد منهما عَامًّا من وجه خاصًّا من وجه، فيدخل تحت القاعدَة، إلا أن تدعي المالكية انصراف لفظة السبَاع إلى البري، لتبَادر اللهم عند الإطلاق إليه، فعَلى هذا لا يُعارض كل واحد منهما الآخر من وجه.
وإذا عُورضوا بوُجُود الحقيقَة في السّبعيَّة، وثبتَ لهم العُرف في الاستعمال؛ كان الاستعمال مُقدمًا على الحقيقة اللغَوية، وإن لم يثبت (1) ذلك فلا بدَّ من ترجيح، فإن طَلبَ الترجيح العَام الخَارج عن مدلول اللَّفظين، فقد ترجح المالكية عُموم هذا الحَديث بموافقة ظاهر قوله تعالى (2):{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (3).
واستدَل بهذا الحَديث على الحكم بطهارة (4) كل مَيتة البحر مع صميم مقدمَة أخرى، وهي أن النجس لا يحَل أكله بدَليل نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يقرب مَائع السمن إذا وقعت فيه الفأرة (5)، واختلفوا في إبَاحَة أكل السَّمك الطافي، والذي ذكرهُ الحنفية كراهته (6).
(1) في (ص): ثبت. وفي (س): يبين.
(2)
في (د): فقال.
(3)
المائدة: 96.
(4)
في (م): حكم بطهارته.
(5)
سيأتي تخريجه عند الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
(6)
"المبسوط" للسرخسي 1/ 274.
ومذهب الشافعي (1) ومالك (2) إباحته، وعمُوم الحَديث يقتضيه، ويستدل به عند القائلين بمفهوم المخالفة على أنه لا يجوز ابتلاع السمكة حَية لتخصيص (3) الحِل بالموت، فيخرجُ منه الحي في الحكم، وبعضهم يَجعَل الموت في السَمك كالذبح في غَيره ليَحصُل الحِل، ويستدل لهذا اللفظ بمفهُوم الموافقة مِن وجه آخر، وذلك أنا لما بَينا (4) أنَّ عُرف الشرع في الميتة ما عدم الحياة من غير ذَكاة، فإذا دل الدليل على إبَاحَة ذلك كان ما ذكي أولى بالإباحة.
وهذا من لطيف ما وقع أن يجتمع في لفظة واحدة مفهُوم المخالفة ومفهوُم الموافقة باعتبارين كما ذكرناهُ، وفي قوله:"والحِلُّ ميتته" إضافة الحِل إلى الميتَة، والأعيان لا تقبل الحِل والحُرمة بنفسها، بل بأمر يتعلق بها، فذهَب بَعض الأصُوليين إلى الإجمال (5) في مِثل هذا؛ لأنهُ لا بد من إضمار مُتعلق، والمتعلقات مُتعدّدة لا ترجيح لبعضها على بعض بغَير دليل فيجيء الإجمال، واختاروا كونها (6) مُقتضية لتحريم ما يراد من العَين عرفًا، فتحريم الميتة تحريم أكلها كما أن تَحريم الخَمر تحريم شربها.
(1)"الحاوي" 15/ 64.
(2)
"الاستذكار" 5/ 286.
(3)
في (س، م): بتخصص.
(4)
في (م): بين.
(5)
في (س): الإضمار.
(6)
في (ص): ولكونها. وفي (س، ل): وأختار ولكونها.
فعلى هذا ينبغي أن يكون التقدير: الحِل أكل ميتته، ولا يكون فيه دَليل على تحليل ما ليس بأكل من الأفعَال المتَعلقة بميتته، وفي مطاوي كلام بَعض المتأخرين ما يُشعر بالقول بالعموم في المتعَلقات، ويمكن أن يُوجه هذا بأن الحقيقة لما زالت تعَيَّن أقرب المجازات (1)، واللهُ تعالى أعلم.
* * *
(1) في (م): المجاوزات.