الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاسْتدلَّ لأبي حنيفَة أَن الْقِرَاءَة على الشَّيْخ أبعد من الْخَطَأ والسهو، وَإِنَّمَا كَانَ أَكثر التَّحَمُّل عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
بتحديثه؛ لِأَنَّهُ لَا يعلم إِلَّا مِنْهُ وَهُوَ لَا يحدث إِلَّا من حفظه، وَغَيره لَيْسَ كَذَلِك.
وَأجَاب الْأَكْثَرُونَ: أَن تَجْوِيز الْخَطَأ وَالنِّسْيَان فِي صُورَة الْقِرَاءَة على الشَّيْخ وَهُوَ يسمع أقرب.
قَوْله: {ثمَّ قصد} - أَي الشَّيْخ - {إسماعه وَحده، أَو} قصد إسماعه {مَعَ غَيره} سَاغَ
لَهُ أَن يَقُول: حَدثنَا، أَو أخبرنَا، وَقَالَ، وَسمعت، وَكَذَا يَقُول: أَنبأَنَا، ونبأنا، وَلكنه قَلِيل عِنْدهم؛ لِأَنَّهُ أشهر اسْتِعْمَالهَا فِي الْإِجَازَة فَيجوز فِي التحديث إِذا قَرَأَ الشَّيْخ أَن يَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، وأنبأنا، وَسمعت فلَانا يَقُول، وَقَالَ: لنا فلَان، وَذكر لنا فلَان.
وَقد نقل القَاضِي عِيَاض الْإِجْمَاع فِي هَذَا كُله؛ فَلِذَا تعقب بَعضهم على ابْن الصّلاح فِي قَوْله بعد أَن حكى ذَلِك: أَن فِيهِ نظرا، أَو أَنه يَنْبَغِي فِيمَا شاع اسْتِعْمَاله من هَذِه الْأَلْفَاظ أَن يكون مَخْصُوصًا بِمَا سمع من غير لفظ الشَّيْخ.
وَجه التعقيب عَلَيْهِ معارضته للْإِجْمَاع، وَأَنه لَا يجب على السَّامع أَن
يبين: هَل كَانَ السماع من لفظ الشَّيْخ أَو عرضا.
قَوْله: {وَإِن لم يقْصد} ، أَي: الشَّيْخ، الإسماع {قَالَ: حدث، وَأخْبر، وَقَالَ، وسمعته، وأنبأ، ونبأ} .
قطع بِهِ ابْن مُفْلِح وَغَيره.
قَوْله: {ثمَّ سَمَاعه} ، هَذِه الْمرتبَة الثَّالِثَة، فَإِن الأولى قِرَاءَة الشَّيْخ، وَالثَّانيَِة: قِرَاءَته على الشَّيْخ، وَهَذِه الثَّالِثَة وَهِي: سَمَاعه.
وَهُوَ: أَن يقْرَأ أحد على الشَّيْخ وَغير القاريء يسمع، وَيُسمى هَذَا عرضا كَالَّذي قبله، وَإِن كَانَ أنزل.
وَفِي الرِّوَايَة بِهِ خلاف، وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة، وجماهير الْعلمَاء: أَنه صَحِيح وَعَلِيهِ الْعَمَل.
قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر: وَوَقع الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي هَذِه الْأَزْمِنَة وَقبلهَا.
وَحكى الرامَهُرْمُزِي عَن أبي عَاصِم النَّبِيل: الْمَنْع.
وَحَكَاهُ الْخَطِيب عَن وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد بن سَلام، وَكَذَا عبد الرَّحْمَن بن سَلام الجُمَحِي.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": خلافًا لبَعض الْعِرَاقِيّين، كعرض الْحَاكِم
وَالشَّاهِد على الْمقر وَكَرِهَهُ ابْن عُيَيْنَة وَغَيره.
شَرط بعض الْعلمَاء فِي الْعرض أَن يكون الشَّيْخ ممسكا لأصله إِن لم يكن حَافِظًا مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، أَو يمسك غير الشَّيْخ من الثِّقَات على خلاف فِي هَذَا لبَعض الْأُصُولِيِّينَ.
وَفِي معنى إمْسَاك الثِّقَة أصل الشَّيْخ حفظه مَا يعرض على الشَّيْخ والثقة مستمع، أَو يكون القاريء نَفسه هُوَ الْحَافِظ فَيقْرَأ من حفظه وَالشَّيْخ يسمع.
قَوْله: {وأرفعها: سَمِعت، فحدثنا، وحَدثني، فَأخْبرنَا، فأنبأنا، ونبأنا} ، إِذا قَالَ: سَمِعت أَو حَدثنَا، كَانَ أرفع من غَيرهمَا؛ إِذْ فِيهِ احْتِرَاز من الْإِجَازَة.
قَالَ الْخَطِيب: أرفع الْعبارَات " سَمِعت "، ثمَّ " حَدثنَا "، و " حَدثنِي "، ثمَّ " أخبرنَا " وَهُوَ كثير فِي الِاسْتِعْمَال، ثمَّ " أَنبأَنَا " و " نبأنا "، وَهُوَ قَلِيل فِي الِاسْتِعْمَال. انْتهى.
وَقَالَ أَحْمد بن صَالح: " أخبرنَا "، و " أَنبأَنَا " دون " حَدثنَا ".
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: " أخبرنَا " أسهل من " حَدثنَا "؛ فَإِن " حَدثنَا " شَدِيد.
وَبسط الْخلاف وتوجيهه مَحَله فِي كتب الحَدِيث.
قَوْله: {وَله إِذا سمع مَعَ غَيره قَول: حَدثنِي} . هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَغَيره من الْعلمَاء.
وَعَن الإِمَام أَحْمد: أَنه أحب إِلَيّ أَن يَقُول فِي ذَلِك: حَدثنَا، إِذا سمع مَعَ النَّاس. نَقله عَنهُ الْفضل بن زِيَاد.
وَأما قَول " حَدثنَا " فمتفق عَلَيْهِ عِنْد الْعلمَاء؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، وَكَذَا إِذا سمع وَحده لَهُ قَول:" حَدثنَا "، وَلم أر فِيهِ خلافًا.
قَوْله: {وسكوته عِنْد الْقِرَاءَة بِلَا مُوجب من غَفلَة أَو غَيرهَا، وَقَوله: " نعم " كإقراره عِنْد أَصْحَابنَا، وَالْأَكْثَر} من الْعلمَاء.
قَالَ ابْن مُفْلِح: عَلَيْهِ جُمْهُور الْفُقَهَاء والمحدثين. انْتهى.
قَالَ: والأحوط أَن يستنطقه بِالْإِقْرَارِ بِهِ.
وَشرط بعض الظَّاهِرِيَّة إِقْرَار الشَّيْخ بِصِحَّة مَا قريء عَلَيْهِ نطقا.
وَالصَّحِيح أَن عدم إِنْكَاره، وَلَا حَامِل لَهُ على ذَلِك من إِكْرَاه، أَو نوم، أَو غَفلَة، أَو نَحْو ذَلِك كَاف؛ لِأَن الْعرف قَاض بِأَن السُّكُوت تَقْرِير فِي مثل
هَذَا، وَإِلَّا لَكَانَ سُكُوته - لَو كَانَ غير صَحِيح - قادحا فِيهِ.
قَوْله: {وَيَقُول: حَدثنَا وَأخْبرنَا قِرَاءَة عَلَيْهِ} ، بِلَا نزاع؛ لِأَنَّهُ الأَصْل، {وَيجوز الْإِطْلَاق} فَيَقُول: حَدثنَا، وَأخْبرنَا، من غير ذكر " قِرَاءَة عَلَيْهِ "{عِنْد الإِمَام أَحْمد، وَأبي حنيفَة، وَمَالك، والخلال، وَصَاحبه} أبي بكر عبد الْعَزِيز، {وَالْقَاضِي} أبي يعلى، {وَغَيرهم} .
وَحَكَاهُ القَاضِي عَن الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ قَول عُلَمَاء الْحجاز، والكوفة، وَالْبُخَارِيّ، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ مَعْنَاهُ.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَانِيَة: لَا يُطلق، بل يَقُول: قِرَاءَة عَلَيْهِ.
وَقَالَهُ جمَاعَة من الْمُحدثين، مِنْهُم: ابْن مَنْدَه من أَصْحَابنَا وَغَيره، وَابْن الْمُبَارك، وَيحيى بن يحيى، وَابْن عُيَيْنَة، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، والنيسابوري، وَغَيرهم؛ لِأَنَّهُ كذب، كَمَا لَا يجوز قَوْله:" سَمِعت " عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة: يجوز قَوْله: " أخبرنَا "، وَيُطلق لَا " حَدثنَا "، وَقَالَهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وعلماء الْمشرق وَغَيرهم.
وَعَن الإِمَام أَحْمد رِوَايَة رَابِعَة: جوازهما فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا.
وَعنهُ رِوَايَة خَامِسَة: جَوَاز " أخبرنَا " فَقَط فِيمَا أقرّ بِهِ لفظا لَا حَالا.
فهاتان الرِّوَايَتَانِ يشْتَرط فيهمَا ذَلِك، وَإِلَّا كَانَت الرِّوَايَة الرَّابِعَة تَكْرَارا؛ لأَنا قد قدمنَا أَنه لَا يجوز الْإِطْلَاق.
{وَقيل: يَقُول قَرَأت عَلَيْهِ، أَو قرئَ عَلَيْهِ وَهُوَ يسمع فَقَط إِن لم يقر نطقا} .
ذهب سليم الرَّازِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن الصّباغ،
وَابْن السَّمْعَانِيّ: إِلَى أَنه لَا يَقُول شَيْئا من ذَلِك إِن لم يقر الشَّيْخ نطقا، وَإِنَّمَا يَقُول: قَرَأت عَلَيْهِ أَو قرئَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يسمع، كَمَا إِذا قَرَأَ على إِنْسَان كتابا فِيهِ أَنه أقرّ بدين، أَو بيع، أَو نَحْو ذَلِك فَلم يقر بِهِ لم يجز أَن يشْهد عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا، وَقد يفرق من اطراد الْعرف فِي نَحْو ذَلِك بِخِلَاف بَاب الشَّهَادَة، فَإِنَّهُ أضيق.
قَوْله: {وَيحرم إِبْدَال} قَول الشَّيْخ: {" حَدثنَا " بأخبرنا، وَعَكسه} لاحْتِمَال أَن يكون الشَّيْخ لَا يرى التَّسْوِيَة فَيكون كذبا عَلَيْهِ.
وَعنهُ: لَا يحرم، اخْتَارَهُ الْخلال وبناه على الرِّوَايَة بِالْمَعْنَى، وبناؤه ظَاهر.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: أَخذهَا القَاضِي من قَوْله فِي رِوَايَة أَحْمد بن
عبد الْجَبَّار " حَدثنَا وَأخْبرنَا " وَاحِد، وَنَقله عَنهُ سَلمَة بن شبيب أَيْضا.
قَوْله: {وَظَاهر مَا سبق، وَقَالَهُ جمع: إِن منع الشَّيْخ الرَّاوِي من رِوَايَته عَنهُ} بِلَا قَادِح لَا يُؤثر، وَأَنه لَا يروي إِلَّا مَا سمع من الشَّيْخ فَلَا يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن سَمعه مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَخَالف هُنَا قوم.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " بعد أَن تكلم على مَا تقدم: وَظَاهر مَا سبق أَن منع الشَّيْخ للراوي من رِوَايَته وَلم يسند ذَلِك إِلَى خطاء أَو شكّ لَا يُؤثر، وَقَالَهُ بَعضهم، ثمَّ قَالَ: وَظَاهر مَا سبق أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يروي إِلَّا مَا سَمعه من الشَّيْخ فَلَا يَسْتَفْهِمهُ مِمَّن مَعَه ثمَّ يرويهِ، وَقَالَهُ جمَاعَة خلافًا لآخرين.
قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": قَالَ صَالح: قلت لأبي: الشَّيْخ
يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا وَلَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يروي ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ أَحْمد: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا.
وَقَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن: نرى فِيمَا سقط عَنهُ من الْحَرْف الْوَاحِد وَالِاسْم مِمَّا يسمعهُ من سُفْيَان وَالْأَعْمَش، واستفهم من أَصْحَابه، أَن يرويهِ عَن أَصْحَابه، لَا نرى [غير] ذَلِك وَاسِعًا.
وَجَاء ذَلِك - أَيْضا - عَن زَائِدَة بن قدامَة قَالَ خلف بن تَمِيم:
سَمِعت من الثَّوْريّ عشرَة آلَاف حَدِيث أَو نَحْوهَا، فَكنت أستفهم جليسي، فَقلت لزائدة، فَقَالَ: لَا تحدث بهَا إِلَّا مَا تحفظ بقلبك وَسمع أُذُنك! قَالَ: فألقيتها.
قَوْله: {وَمن شكّ فِي سَماع حَدِيث حرم رِوَايَته} مَعَ الشَّك، ذكره الْآمِدِيّ إِجْمَاعًا؛ لِأَن الأَصْل عدم السماع؛ وَلِأَن ذَلِك شَهَادَته على شَيْخه، وَلَو اشْتبهَ بِغَيْرِهِ، لم يرو شَيْئا مِمَّا اشْتبهَ بِهِ؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهَا يحْتَمل أَن يكون غير المسموع، وَإِن ظن أَنه وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه، أَو أَن هَذَا مسموعه عمل بِهِ عِنْد أَحْمد، وَأَصْحَابه، وَالْأَكْثَر عملا بِالظَّنِّ.
قيل للْإِمَام أَحْمد: الشَّيْخ يدغم الْحَرْف يعرف أَنه كَذَا وَكَذَا لَا يفهم عَنهُ، ترى أَن يرْوى ذَلِك عَنهُ؟ قَالَ: أَرْجُو أَن لَا يضيق هَذَا.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ لِإِمْكَان اعْتِبَار الْعلم بِمَا يرويهِ.
وَحكى الباقلاني، والباجي، وَغَيرهمَا من الْأُصُولِيِّينَ: الِاتِّفَاق عَلَيْهِ.
وَاحْتج ابْن الصّلاح لَهَا بِأَنَّهُ إِذا جَازَ أَن يروي عَنهُ مروياته فقد أخبرهُ بهَا جملَة، فَهُوَ كَمَا لَو أخبرهُ بِهِ تَفْصِيلًا، وإخباره بهَا غير مُتَوَقف على التَّصْرِيح نطقا، كَمَا فِي الْقِرَاءَة على الشَّيْخ. انْتهى.
وَيجب الْعَمَل بهَا على هَذَا كالحديث الْمُرْسل، قَالَه ابْن مُفْلِح، وَغَيره.
ومنعها شُعْبَة، وَأَبُو زرْعَة الرَّازِيّ، وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد، وَجمع كثير، مِنْهُم جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة، وَجَمَاعَة من الشَّافِعِيَّة، وَبَعض الظَّاهِرِيَّة، وَنَقله الرّبيع عَن الشَّافِعِي.
قَالَ شُعْبَة: لَو صحت الْإِجَازَة لبطلت الرحلة.
وَكَذَا قَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ: لَو صحت لبطل الْعلم.
وَاخْتَارَهُ القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة، وَالْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ، ونقلوه عَن نَص الشَّافِعِي، وَنقل ابْن وهب عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا أرى هَذَا يجوز، وَلَا يُعجبنِي.
وَقَالَ أَبُو طَاهِر الدباس الْحَنَفِيّ: من قَالَ لغيره: أجزت لَك أَن تروي عني، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أجزت لَك أَن تكذب عَليّ.
وَكَذَا قَالَ غَيره: إِنَّه بِمَنْزِلَة أبحت لَك مَا لَا يجوز فِي الشَّرْع؛ لِأَن الشَّرْع لَا يُبِيح رِوَايَة مَا لَا يسمع.
{وَعند أبي حنيفَة، وَمُحَمّد: إِن علم الْمُجِيز مَا فِي الْكتاب وَالْمجَاز لَهُ ضَابِط جَازَ، وَإِلَّا فَلَا} ؛ لما فِيهِ من صِيَانة السّنة وحفظها.
وأجازها أَبُو يُوسُف، وَذَلِكَ تَخْرِيج من كتاب القَاضِي إِلَى مثله، فَإِن علم مَا فِيهِ شَرط عِنْدهمَا دونه.
وَحكى السَّرخسِيّ عَن أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف: الْمَنْع.
قَوْله: {وَهِي خَاص لخاص} ، الْإِجَازَة أَقسَام:
أَحدهَا: إجَازَة خَاص لخاص، كَقَوْلِه: أجزت هَذَا الْكتاب لفُلَان، وَهِي أَصَحهَا، حَتَّى ذهب بَعضهم أَنه لَا خلاف فِيهَا، وَالصَّحِيح أَن الْخلاف الْمَذْكُور يشملها.
الثَّانِي: {عَام لخاص} ، كَقَوْلِه: أجزت لفُلَان جَمِيع مروياتي.
وَالْخلاف فِي هَذَا النَّوْع أقوى من الَّذِي قبله، وَذهب أَبُو الْمَعَالِي إِلَى الْمَنْع؛ إِذْ قَالَ: يبعد أَن يحصل الْعلم إِلَّا بالتعويل على خطوطهم مُشْتَمِلَة على سَماع الشَّيْخ؛ فَإِن تحقق ظُهُور سَماع لموثوق بِهِ فَذَلِك وهيهات. انْتهى.
وَالْجُمْهُور على الْجَوَاز، وَغَايَة مَا قَالَه استبعاد.
الثَّالِث: {عَكسه} ، وَهِي خَاص لعام، كَقَوْلِه: أجزت للْمُسلمين أَو لمن أدْرك حَياتِي، أَو لكل أحد كتابي الْفُلَانِيّ.
الرَّابِع: عكس الأول {و} وَهِي {عَام لعام} ، كَقَوْلِه: أجزت جَمِيع مروياتي لكل أحد.
ذكر هذَيْن الْقسمَيْنِ القَاضِي أَبُو يعلى، وَغَيره، وَقَالَهُ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا فِي جَمِيع مَا يرويهِ لمن أَرَادَهُ.
وَهَذَا الرَّابِع دون الَّذِي قبله، وَقد مَنعه جمَاعَة، وَجوزهُ الْخَطِيب وَغَيره، وَفعله ابْن مَنْدَه وَغَيره، قَالَ: أجزت لمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله.
وَكَانَ ابْن الْقطَّان وَغَيره يمِيل إِلَى الْجَوَاز، وَجوز أَبُو الطّيب الْإِجَازَة لجَمِيع الْمُسلمين من كَانَ مِنْهُم مَوْجُودا عِنْد الْإِجَازَة.
وَقَالَ ابْن الصّلاح: لم نرو، وَلم نسْمع عَن أحد مِمَّن يقْتَدى بِهِ اسْتعْمل هَذِه الْإِجَازَة إِلَّا عَن الشرذمة المجوزة، وَالْإِجَازَة فِي أَصْلهَا ضعف، وتزداد بِهَذَا التَّوَسُّع ضعفا كثيرا لَا يَنْبَغِي احْتِمَاله.
وَقَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": مِمَّن أجازها: أَبُو الْفضل بن خيرون الْبَغْدَادِيّ، وَابْن
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
رشد الْمَالِكِي، والسلفي، وَغَيرهم، وَرجحه ابْن الْحَاجِب، وَصَححهُ النَّوَوِيّ من زِيَادَة " الرَّوْضَة "، وَغَيره.
قَوْله: {وَلَا يجوز لمعدوم تبعا لموجود} : كأجزت لفُلَان وَلمن يُولد لَهُ، أَو أجزت لَك ولولدك، أَو لعقبك مَا تَنَاسَلُوا، فِي ظَاهر كَلَام جمَاعَة من أَصْحَابنَا، وَقَالَهُ غَيرهم؛ لِأَنَّهَا محادثة أَو إِذن فِي الرِّوَايَة بِخِلَاف الْوَقْف.
وأجازها أَبُو بكر بن أبي دَاوُد من أَصْحَابنَا، وَجَمَاعَة، كَمَا تجوز الْإِجَازَة لطفل لَا سَماع [لَهُ] ، ولمجنون فِي أصح قولي الْعلمَاء؛ لِأَنَّهَا إِبَاحَة للرواية كَمَا تجوز للْغَائِب.
قَالَ ابْن أبي دَاوُد لما سُئِلَ الْإِجَازَة: وَقد أجزت لَك ولأولادك ولحبل الحبلة، يَعْنِي لمن يُولد بعد.
وَأما الْكَافِر فقد صححوا تحمله إِذا أَدَّاهُ بعد الْإِسْلَام كَمَا تقدم، فَالْقِيَاس جَوَاز الْإِجَازَة لَهُ، ثمَّ إِذا أسلم يرويهِ بِالْإِجَازَةِ.
وَقد وَقعت هَذِه الْمَسْأَلَة فِي زمن الْحَافِظ أبي الْحجَّاج الْمزي بِدِمَشْق، وَكَانَ طَبِيب يُسمى مُحَمَّد بن عبد السَّيِّد يسمع الحَدِيث - وَهُوَ يَهُودِيّ - على أبي عبد الله بن عبد الْمُؤمن الصُّورِي، وَكتب اسْمه فِي طَبَقَات السماع مَعَ النَّاس.
وَأَجَازَ ابْن عبد الْمُؤمن لمن سَمعه وَهُوَ من جُمْلَتهمْ، وَكَانَ السماع وَالْإِجَازَة بِحَضْرَة الْمزي الْحَافِظ وَبَعض السماع بقرَاءَته وَلم يُنكره، ثمَّ هدى
الله الْيَهُودِيّ لِلْإِسْلَامِ وَحدث بِمَا أُجِيز وَتحمل الطلاب عَنهُ.
قَالَ الْحَافِظ عبد الرَّحِيم الْعِرَاقِيّ: ورأيته وَلم أسمع مِنْهُ.
قَوْله: {وَلَا تجوز لمعدوم أصلا عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ، نَحْو: أجزت لمن يُولد لفُلَان؛ وَلِأَن الْإِجَازَة فِي حكم الْإِخْبَار جملَة بالمجاز كَمَا تقدم، فَكَمَا لَا يَصح الْإِخْبَار للمعدوم لَا تصح إِجَازَته.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَقَالَهُ الشَّافِعِيَّة كالوقف عندنَا.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالصَّحِيح الَّذِي اسْتَقر عَلَيْهِ رَأْي القَاضِي أبي الطّيب وَابْن الصّباغ أَنه لَا يَصح.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي لَا يَنْبَغِي غَيره، وَنَظِيره فِي الْوَقْف لَا يجوز عندنَا، وَأَجَازَهُ أَصْحَاب مَالك وَأبي حنيفَة فجوزوا الْوَقْف على من سيولد أَو يُوجد من نسل فلَان. انْتهى.
وَأَجَازَ هَذِه الْإِجَازَة بِهَذِهِ الصّفة القَاضِي أَبُو يعلى من أَصْحَابنَا، وَابْن عمروس من الْمَالِكِيَّة، والخطيب من الشَّافِعِيَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح: وَاخْتَارَ صَاحب " الْمُغنِي " جَوَاز الْوَقْف فقد يتَوَجَّه
احْتِمَال تَخْرِيج، يَعْنِي بِصِحَّة الْإِجَازَة على هَذِه الصّفة من اخْتِيَار صَاحب " الْمُغنِي " فِي الْوَقْف.
تَنْبِيه: مَحل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم تكن الْإِجَازَة للمعدوم على الْعُمُوم: كأجزت لمن يُوجد بعد ذَلِك فَلَا يَصح بِالْإِجْمَاع، وَكَأَنَّهَا إجَازَة من مَعْدُوم لمعدوم، قَالَه الْبرمَاوِيّ.
قَوْله: {وَلَا لمجهول وَلَا بِمَجْهُول} . لَا تجوز الْإِجَازَة لمجهول: كأجزت لرجل من النَّاس، أَو لفُلَان ويشترك فِي ذَلِك الِاسْم جمع.
وَلَا تجوز الْإِجَازَة أَيْضا بِمَجْهُول من مروياته: كأجزت لَك أَن تروي عني شَيْئا، أَو بعض مروياتي، أَو كتاب السّنَن مثلا. {وَجوز القَاضِي أَبُو يعلى وَابْن عمروس الْمَالِكِي " أجزت لمن يَشَاء فلَان "} ، وَالصَّحِيح خلاف ذَلِك، وَهُوَ عدم الصِّحَّة لما فِيهِ من الْجَهَالَة وَالتَّعْلِيق.
وَقد أفتى أَبُو الطّيب وَغَيره بِأَنَّهُ لَا يجوز؛ لِأَنَّهُ إجَازَة لمجهول، قَالَ: كَقَوْلِه: أجزت بعض النَّاس.
تَنْبِيه: لَيْسَ من هَذِه الْإِجَازَة لمسميين مُعينين بأنسابهم والمخبر جَاهِل بأعيانهم فَلَا يقْدَح كَمَا لَا يقْدَح عدم مَعْرفَته بِمن هُوَ خَاص يسمع بشخصه، وَكَذَا لَو جَازَ للمسمين فِي الاستجازة وَلم يعرفهُمْ بأعيانهم، وَلَا بِأَسْمَائِهِمْ وَلَا تصفحهم وَاحِدًا وَاحِدًا.
قَوْله: {وَيَقُول: أجَاز لي فلَان} ، حَيْثُ صححنا الْإِجَازَة، اخْتلف فِيمَا يَقُول الرَّاوِي بِالْإِجَازَةِ، فَإِن قَالَ: أجَاز لي، أَو أجَاز لنا فَهُوَ الأجود، {وَيجوز} قَوْله:{" حَدثنَا وَأخْبرنَا إجَازَة "} عِنْد أَصْحَابنَا وَأكْثر الْعلمَاء.
{وَمنع قوم فِي " حَدثنَا "} فَلَا يَقُول فِي الْإِجَازَة: " حَدثنَا، وَلَكِن
يَقُول: أخبرنَا إجَازَة فَقَط.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَجوز أَبُو نعيم، وَأَبُو عبد الله المرزباني أَن يَقُول:" أخبرنَا " دون " حَدثنَا "، وَأَجَازَهُ قوم مُطلقًا، يَعْنِي سَوَاء قَالَ: حَدثنَا، أَو أخبرنَا إجَازَة أَو لم يقل إجَازَة، وَكَانَ يفعل ذَلِك أَبُو نعيم الْأَصْفَهَانِي.
قلت: وَفِيه بعد وإيهام أَن يكون بِالتَّحْدِيثِ على الْحَقِيقَة، وَالْأَصْل الْحَقِيقَة.
قَوْله: {وَتجوز إجَازَة الْمجَاز بِهِ فِي الْأَصَح} : كأجزت لَك مجازاتي، أَو أجزت لَك مَا أُجِيز لي رِوَايَته.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَعَلِيهِ الْعَمَل خلافًا لبَعض الْمُتَأَخِّرين.
وَقد كَانَ الْفَقِيه نصر الْمَقْدِسِي يروي بِالْإِجَازَةِ عَن الْإِجَازَة، وَعَلِيهِ الْعَمَل إِلَى زَمَاننَا هَذَا.
قَوْله: {وَلَا يجوز لما يتحمله} فِي الْمُسْتَقْبل أَن يُجِيزهُ قبل أَن يتحمله {ليرويه عَنهُ إِذا تحمله فِي الْأَصَح} .
قَالَ القَاضِي عِيَاض: لم أرهم تكلمُوا فِيهِ، وَرَأَيْت بعض العصريين يَفْعَله، قَالَ عبد الْملك الطبني: كنت عِنْد القَاضِي أبي الْوَلِيد يُونُس
بقرطبة فَسَأَلَهُ إِنْسَان الْإِجَازَة بِمَا رَوَاهُ وَمَا يرويهِ من بعد، فَلم يجبهُ، فَغَضب، فَقلت: يَا هَذَا {يعطيك مَا لم يَأْخُذ؟} فَقَالَ أَبُو الْوَلِيد: هَذَا جوابي. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ الصَّحِيح، وصححناه تبعا لما صححوه.
قَوْله: {وَمِنْهَا المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن} .
هَذَا الْقسم يُسمى عرض المناولة، كَمَا أَن سَماع الشَّيْخ يُسمى عرض الْقِرَاءَة، وَهِي نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: مَا ذكرنَا وَهِي المناولة مَعَ الْإِجَازَة أَو الْإِذْن، وَالرِّوَايَة بِهَذَا النَّوْع جَائِزَة.
قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي " الإلماع ": جَائِزَة بِالْإِجْمَاع.
وَكَذَا قَالَ الْمَازرِيّ: لَا شكّ فِي وجوب الْعَمَل بِهِ. انْتهى.