الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قَوْله: {بَاب النَّهْي} )
{يُقَابل الْأَمر فِي حَده وصيغته ومسائله وَغير ذَلِك} .
لَا شكّ أَن النَّهْي مُقَابل الْأَمر فَكل مَا قيل فِي حد الْأَمر وَأَن لَهُ صِيغَة، وَمَا فِي مسَائِله من مُخْتَار ومزيف يكون مثله فِي النَّهْي.
وَمن الْعلمَاء من فرق بَين النَّهْي وَالْأَمر، فَحمل النَّهْي على التَّحْرِيم وَالْأَمر على النّدب، وخرجه أَبُو يعلى رِوَايَة ذكره ابْن قَاضِي الْجَبَل.
قَوْله: {وَترد} - أَي صِيغَة النَّهْي - {للتَّحْرِيم} .
ترد صِيغَة النَّهْي لمعان ذكرنَا هُنَا غالبها:
أَحدهَا: التَّحْرِيم، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} [النِّسَاء: 29]، {وَلَا تقربُوا الزِّنَا} [الْإِسْرَاء: 32] ، {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} [النِّسَاء: 29] وَنَحْوه، فَهُوَ حَقِيقَة فِيهِ، وَمَا عداهُ مجَاز.
الثَّانِي: ترد {للكراهة} ، كَقَوْلِه صلى الله عليه وسلم َ -:{" لَا يمسكن} أحدكُم {ذكره وَهُوَ يَبُول "} ، مثله الْمحلي وَغَيره، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} [الْبَقَرَة: 267] .
الثَّالِث: {التحقير} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك} إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} [الْحجر: 88] .
الرَّابِع: {بَيَان الْعَاقِبَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ {وَلَا تحسبن الله غافلا} عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} [إِبْرَاهِيم: 42] .
الْخَامِس: {الدُّعَاء} ، كَقَوْلِه:{رَبنَا {لَا تُؤَاخِذنَا} إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا رَبنَا وَلَا تحمل علينا إصرا كَمَا حَملته على الَّذين من قبلنَا} [الْبَقَرَة: 286]، {رَبنَا لَا تزغ قُلُوبنَا بعد إِذْ هديتنا} [آل عمرَان: 8] .
السَّادِس: {الْيَأْس} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ {لَا تعتذروا} قد كَفرْتُمْ بعد إيمَانكُمْ} [التَّوْبَة: 66] ، وَقد يُقَال إِنَّه رَاجع إِلَى الاحتقار فَلهَذَا مثله بَعضهم بِهِ.
السَّابِع: {الْإِرْشَاد} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء} إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101] وَالْمرَاد أَن الدّلَالَة على الْأَحْوَط ترك ذَلِك.
قيل: وَفِيه نظر، بل هِيَ للتَّحْرِيم، وَالْأَظْهَر الأول؛ لِأَن الْأَشْيَاء الَّذِي يسْأَل عَنْهَا السَّائِل لَا يعرف حِين السُّؤَال، هَل تُؤدِّي إِلَى مَحْذُور أم لَا؟ وَلَا تَحْرِيم إِلَّا بالتحقق.
الثَّامِن: الْأَدَب، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَا تنسوا الْفضل بَيْنكُم} [الْبَقَرَة: 237]، وَلَكِن هَذَا رَاجع للكراهة؛ إِذْ المُرَاد: لَا تتعاطوا أَسبَاب النسْيَان، فَإِن نفس النسْيَان لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة حَتَّى ينْهَى عَنهُ.
وَبَعْضهمْ يعد من ذَلِك الْخَبَر، وَلَيْسَ للْخَبَر مِثَال صَحِيح، وَمثله بَعضهم بقوله تَعَالَى:{لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، وَهَذَا الْمِثَال إِنَّمَا هُوَ للْخَبَر بِمَعْنى النَّهْي لَا للنَّهْي بِمَعْنى الْخَبَر، وَهُوَ المُرَاد هُنَا فَليعلم.
التَّاسِع: {التهديد} ، كَقَوْلِك لمن تهدده: أَنْت {لَا تمتثل أَمْرِي} .
الْعَاشِر: {إِبَاحَة التّرْك، كالنهي بعد الْإِيجَاب} على قَول تقدم فِي أَن النَّهْي بعد الْأَمر للْإِبَاحَة، وَالصَّحِيح خِلَافه.
الْحَادِي عشر: {للالتماس، كَقَوْلِك لنظيرك: لَا تفعل} ، عِنْد من يَقُول إِن صِيغَة الْأَمر لَهَا ثَلَاث صِفَات: أَعلَى، وَنَظِير، وأدون، وَكَذَلِكَ النَّهْي.
الثَّانِي عشر: {التصبر} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ {لَا تحزن} إِن الله مَعنا} [التَّوْبَة: 40] .
الثَّالِث عشر: {إِيقَاع الْأَمْن} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ {لَا تخف} إِنَّك من الْآمنينَ} ، [الْقَصَص: 31] ، {لَا تخف نجوت من الْقَوْم الظَّالِمين} [الْقَصَص: 25] ، وَلَكِن قيل: إِنَّه رَاجع إِلَى الْخَبَر كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت لَا تخَاف.
الرَّابِع عشر: التحذير، كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} [آل عمرَان: 102] .
الْخَامِس عشر: {التَّسْوِيَة} ، كَقَوْلِه تَعَالَى:{ {فَاصْبِرُوا أَو لَا تصبروا} } [الطّور: 16] ، وَهَذَا أَنا قلته وَلم أر من ذكره، لكِنهمْ لما ذكرُوا أَن صِيغَة
الْأَمر ترد للتسوية ومثلوا بِهَذِهِ الْآيَة، وَالْآيَة قد تَضَمَّنت الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ وَاضح، ثمَّ رَأَيْت الْبرمَاوِيّ ذكره وَقَالَ: لم أر من ذكره، وَهُوَ أولى بِالذكر من كثير مِمَّا ذَكرُوهُ، فحمدت الله تَعَالَى على ذَلِك.
قَوْله: {فَإِن تجردت} صِيغَة النَّهْي عَن الْمعَانِي الْمَذْكُورَة والقرائن، اقْتَضَت التَّحْرِيم على الصَّحِيح عِنْد الْعلمَاء من الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم.
وَقيل: تَقْتَضِي صيغته الْكَرَاهَة، وَبَالغ الإِمَام الشَّافِعِي فِي إِنْكَار ذَلِك، ذكره الْجُوَيْنِيّ.
{وَقيل: بَينهمَا} - أَي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة - فَيكون مُجملا، قَالَه بَعضهم.
{وَقيل:} يكون {للقدر الْمُشْتَرك} بَينهمَا، أَعنِي بَين التَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة، وَهُوَ مُطلق التّرْك.
{وَقيل: لأَحَدهمَا لَا بِعَيْنِه} ، قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة " عَن هَذَا القَوْل: وَالْقَوْل الثَّالِث: قَالَ بَعضهم يكون مُجملا على هذَيْن الْقَوْلَيْنِ، وَقد يُقَال عَن هذَيْن الْقَوْلَيْنِ: يرجع إِلَى القَوْل بِالتَّحْرِيمِ؛ لِأَن ترك الْحَرَام وَاجِب وَهَذَا اللَّفْظ مُشْتَرك بَين الْحَرَام وَغَيره فَيجب الْكَفّ، فَإِنَّهُ من بَاب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، وَالله أعلم.
{وَقيل: للْإِبَاحَة} ، ذكره الْقَرَافِيّ، وَهُوَ بعيد جدا.
{وَقيل: بِالْوَقْفِ} فِي هَذِه الْمعَانِي لتعارض الْأَدِلَّة والاحتمالات، وَكثير من الْعلمَاء يجْعَلُونَ الْأَقْوَال الَّتِي فِي الْأَمر الْمُجَرّد فِي النَّهْي الَّذِي يُمكن تصَوره فِيهِ.
قَالَ أَبُو زيد فِي " التَّقْوِيم ": لم أَقف على الْخلاف فِي حكم النَّهْي كَمَا فِي الْأَمر، فَيحْتَمل أَنه على الْخلاف فِيهِ.
وَقَالَ الْبَزْدَوِيّ: قَالَ الْمُعْتَزلَة بالندب فِي الْأَمر وبالتحريم فِي النَّهْي؛ لِأَن الْأَمر يَقْتَضِي حسن الْمَأْمُور بِهِ وَالْوَاجِب وَالْمَنْدُوب داخلان فِي اقْتِضَاء الْحسن بِخِلَاف النَّهْي، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي قبح الْمنْهِي عَنهُ، والانتهاء عَن الْقَبِيح وَاجِب.