الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ الْبَلْخِي: حجَّة إِن خص بِمُتَّصِل، وَإِن خص بمنفصل فمجمل فِي الْبَاقِي.
وَقَالَ أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ: إِن كَانَ الْعُمُوم منبئا عَنهُ قبل التَّخْصِيص ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} منبئ عَن الذِّمِّيّ، وَإِلَّا فَلَا، ك (السَّارِق) لَا يُنبئ عَن النّصاب والحرز فيفتقر إِلَى بَيَان كَحكم مُجمل.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: ك {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] فَهُوَ حجَّة فَإِنَّهُ يُنبئ عَن الْحَرْبِيّ كَمَا يُنبئ عَن الْمُسْتَأْمن، وَإِن يكن منبئا فَلَيْسَ بِحجَّة، ك {وَالسَّارِق والسارقة} [الْمَائِدَة: 38] فَإِنَّهُ لَا يُنبئ عَن النّصاب والحرز، فَإِذا انْتَفَى الْعَمَل بِهِ عِنْد عدم النّصاب والحرز، لم يعْمل بِهِ عِنْد وجودهما. انْتهى.
قَالَ عبد الْجَبَّار: إِن كَانَ قبله غير مفتقر إِلَى بَيَان ك (الْمُشْركين) فَهُوَ حجَّة، وَإِلَّا فَلَا، ك (أقِيمُوا الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر قبل إِخْرَاج الْحَائِض.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: هُوَ حجَّة عندنَا إِن كَانَ لَا يتَوَقَّف على الْبَيَان، ك (الْمُشْركين) فَإِنَّهُ بَين فِي الذِّمِّيّ قبل إِخْرَاجه بِخِلَاف نَحْو:(أقِيمُوا الصَّلَاة) فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى الْبَيَان قبل إِخْرَاج الْحَائِض من عُمُوم اللَّفْظ؛ وَلذَلِك بَينه صلى الله عليه وسلم َ -،
وَقَالَ: " صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". انْتهى
.
قَالَ ابْن مُفْلِح: رد؛ إِذْ لَا فرق، ثمَّ فرق ابْن عقيل بِأَنَّهُ إِذا خرج من (أقِيمُوا الصَّلَاة) من لم يرد، وَلم يُمكن الْحمل على المُرَاد بِالْآيَةِ. انْتهى.
وَقَالَ أَبُو ثَوْر، وَبَعض أَصْحَابنَا، وَعِيسَى بن أبان، والكرخي، وَحَكَاهُ الْقفال الشَّاشِي عَن أهل الْعرَاق، وَحَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن الْقَدَرِيَّة، وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن الْقشيرِي، عَن كثير من الشَّافِعِيَّة، والمالكية، وَالْحَنَفِيَّة، وَعَن الجبائي وَابْنه: إِنَّه لَيْسَ بِحجَّة.
قَالُوا: لِأَن اللَّفْظ مَوْضُوع للاستغراق وَإِنَّمَا يخرج عَنهُ بِقَرِينَة، وَمِقْدَار تَأْثِير الْقَرِينَة فِي اللَّفْظ مَجْهُول فَيصير مُجملا.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَمُرَاد من قَالَ من أَصْحَابنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاء بِمَعْلُوم فَإِنَّهُ بالِاتِّفَاقِ.
ذكره القَاضِي وَالْمجد من أَصْحَابنَا وَغَيرهمَا، وَاحْتَجُّوا بِهِ وَفهم الْآمِدِيّ، وَغَيره الْإِطْلَاق فَلم يستثنوا ذَلِك.
قَوْله: {وَقيل بِالْوَقْفِ} ، أَي فِي الْمَسْأَلَة، فَلَا يحكم بِأَنَّهُ خَاص أَو عَام أَلا بِدَلِيل، حَكَاهُ ابْن الْقطَّان، وَجعله مغايرا لقَوْل ابْن أبان وَغَيره.
نعم، من يَقُول: أَنه مُجمل اخْتلفُوا: هَل هُوَ مُجمل من حَيْثُ اللَّفْظ وَالْمعْنَى؛ فَإِنَّهُ لَا يعقل المُرَاد من ظَاهره إِلَّا بِقَرِينَة، أَو مُجمل من حَيْثُ الْمَعْنى فَقَط؟ وَجْهَان للشَّافِعِيَّة: الْأَكْثَرُونَ على الثَّانِي لافتقار الْعَام الْمَخْصُوص لقَرِينَة تبين مَا هُوَ مُرَاد بِهِ، وافتقار الْعَام المُرَاد بِهِ خَاص إِلَى قرينَة تبين مَا لَيْسَ مرَادا بِهِ فتزيد الْمذَاهب.
وَاسْتدلَّ للصحيح بِمَا سبق فِي إِثْبَات الْعُمُوم بِأَن الصَّحَابَة لم تزل تستدل بالعمومات مَعَ وجود التَّخْصِيص فِيهَا، وَلَو قَالَ: أكْرم بني تَمِيم وَلَا تكرم فلَانا فَترك عصي قطعا، وَلِأَنَّهُ كَانَ حجَّة، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ؛ وَلِأَن دلَالَته على بعض لَا تتَوَقَّف على بعض آخر للدور.
وَاسْتدلَّ: لَو لم يكن حجَّة بعد التَّخْصِيص كَانَت دلَالَته عَلَيْهِ قبله مَوْقُوفَة على دلَالَته على الآخر وَاللَّازِم بَاطِل؛ لِأَنَّهُ إِن عكس فدور، وَإِلَّا فتحكم.
فَأُجِيب بِالْعَكْسِ، وَلَا دور؛ لِأَنَّهُ توقف معية كتوقف كل من معلولي عِلّة على الآخر، لَا توقف تقدم كتوقف مَعْلُول على عِلّة.
قَالُوا: صَار مجَازًا.
رد بِالْمَنْعِ، ثمَّ هِيَ حجَّة.
وَأجَاب أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد " بِأَنَّهُ مجَاز لُغَة، حَقِيقَة شرعا.
قَالُوا: صَار مُجملا؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه مجَاز فِي الْبَاقِي، وَفِي كل فَرد مِنْهُ، وَلَا تَرْجِيح.
رد: بِالْمَنْعِ؛ لِأَن الْبَاقِي كَانَ مرَادا، وَالْأَصْل بَقَاؤُهُ.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ، وَغَيره فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على القَوْل بِأَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، فَأَما إِن قُلْنَا إِنَّه حَقِيقَة فَهُوَ حجَّة قطعا، وَكَانَ يَنْبَغِي الإفصاح فِي ذَلِك؛ لدفع الْإِيهَام. انْتهى.
قلت: وَهُوَ ظَاهر صَنِيع ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، فَإِنَّهُ فِي الْمَسْأَلَة الأولى نصر أَن الْعَام بعد التَّخْصِيص مجَاز، وَنصر بعد ذَلِك أَنه حجَّة.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ: قد ذكرنَا أَن الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مُفَرع على الَّتِي
قبلهَا، نعم، من جوز التَّعَلُّق بِهِ مَعَ كَونه مجَازًا كَالْقَاضِي يبْقى الْخلاف على قَوْله لفظيا، كَمَا قَالَه أَبُو حَامِد وَغَيره؛ لِأَنَّهُ هَل يحْتَج بِهِ، وَيُسمى مجَازًا أم لَا يُسمى مجَازًا؟
وَقَالَ صَاحب " الْمِيزَان " من الْحَنَفِيَّة: إِن الْمَسْأَلَة مفرعة على أَن دلَالَة الْعَام على أَفْرَاده قَطْعِيَّة، أَو ظنية، فَمن قَالَ قَطْعِيَّة جعل الَّذِي خص كَالَّذي لم يخص.
قيل: وَفِيه نظر.
وَقيل: مفرعة على أَن اللَّفْظ الْعَام هَل يتَنَاوَل الْجِنْس، وتندرج الْآحَاد تَحْتَهُ ضَرُورَة اشتماله عَلَيْهَا، أَو يتَنَاوَل الْآحَاد وَاحِدًا وَاحِدًا؛ حَتَّى يسْتَغْرق الْجِنْس؟
فالمعتزلة قَالُوا بِالْأولِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاق يظْهر عُمُومه، فَإِذا خص تبين أَنه لم يرد الْعُمُوم، وَعند إِرَادَة عدم الْعُمُوم لَيْسَ بعض أولى من بعض فَيكون مُجملا. انْتهى.
تَنْبِيه: وَقد علمنَا أَن هَذَا الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَام الْمَخْصُوص، أما الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص فمجاز قطعا.
قَوْله: {وَلَو خص بِمَجْهُول لم يكن حجَّة كاقتلوا الْمُشْركين إِلَّا بَعضهم اتِّفَاقًا} . قَالَه جمع مِنْهُم: الباقلاني، والآمدي، والأصفهاني فِي " شرح الْمَحْصُول "، وَهُوَ ظَاهر تَقْيِيد ابْن الْحَاجِب، والبيضاوي، وَغَيرهمَا.
مَحل الْخلاف الْمُخَصّص بِمعين، وَقطع بِهِ أَبُو الْخطاب فِي " التَّمْهِيد "، وَابْن عقيل فِي " الْوَاضِح "، وَغَيرهمَا، فَلَا يسْتَدلّ بِالْآيَةِ على الْأَمر بقتل فَرد من الْأَفْرَاد، إِذْ مَا من فَرد إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ الْمخْرج، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى:{أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 1] .
وَقَالَ الرَّازِيّ وَغَيره: حجَّة.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَاخْتَارَهُ صَاحب " الْمَحْصُول "، وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " التَّمْهِيد "، فَإِنَّهُ قَالَ: أَلا ترى أَنه لَو أقرّ بِعشْرَة إِلَّا درهما لزمَه تِسْعَة، وَلَو قَالَ: إِلَّا شَيْئا إِلَّا عددا جهلنا الْبَاقِي فَلم يُمكن الحكم بِهِ، فعلى هَذَا يقف على الْبَيَان. انْتهى.
وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع "، وَعَزاهُ إِلَى الْأَكْثَر، وَتبع فِي ذَلِك ابْن برهَان، وَالصَّوَاب مَا تقدم، وَالَّذِي حَكَاهُ الْبرمَاوِيّ عَن الرَّازِيّ أَنه لَيْسَ بِحجَّة، فَليعلم ذَلِك، قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَلَيْسَ حِكَايَة الِاتِّفَاق بصحيحة.
فَفِي " الْوَجِيز " لِابْنِ برهَان حِكَايَة الْخلاف فِي هَذِه الْحَالة، بل صحّح الْعَمَل بِهِ مَعَ الْإِبْهَام قَالَ: لأَنا إِذا نَظرنَا إِلَى فَرد شككنا فِيهِ: هَل هُوَ من الْمخْرج، أَو لَا؟ وَالْأَصْل عَدمه فَيبقى على الأَصْل، وَيعْمل بِهِ إِلَى أَن يعلم بِالْقَرِينَةِ، أَن الدَّلِيل الْمُخَصّص معَارض للفظ الْعَام، وَإِنَّمَا يكون مُعَارضا عِنْد الْعلم بِهِ. انْتهى.
وَهُوَ صَرِيح فِي الإضراب عَن الْمُخَصّص، وَالْعَمَل بِالْعَام فِي جَمِيع أَفْرَاده وَهُوَ بعيد، وَإِن قَالَ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة، وَحكي عَن بعض الشَّافِعِيَّة.
وَبِالْجُمْلَةِ فالراجح الْمَنْع؛ لِأَن إِخْرَاج الْمَجْهُول من الْمَعْلُوم، يصير الْمَعْلُوم مَجْهُولا.
قَوْله: {فَائِدَتَانِ:
الأولى: الْعَام الْخُصُوص عُمُومه مُرَاد تناولا لَا حكما، وقرينته لفظية قد تنفك عَنهُ، وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَيْسَ مرَادا، بل كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَمن ثمَّ كَانَ مجَازًا قطعا، وقرينته عقلية، لَا تنفك عَنهُ، وَالْأول أَعم مِنْهُ} .
لم يتَعَرَّض كثير من الْعلمَاء، بل أَكْثَرهم للْفرق بَين الْعَام الْمَخْصُوص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، وَهُوَ من مهمات هَذَا الْبَاب، وَهُوَ عَزِيز الْوُجُود.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَقد أَشَارَ الشَّافِعِي إِلَى تغايرهما فِي ترديده فِي آيَة البيع وَنَحْوه، وَكَثُرت مقالات أَصْحَابه فِي تَقْرِير ذَلِك، وَفرق بَينهمَا أَبُو حَامِد أَن الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص كَانَ المُرَاد بِهِ أقل، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَكْثَر.
قَالَ ابْن أبي هُرَيْرَة: وَلَيْسَ كَذَلِك الْعَام الْمَخْصُوص؛ لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْأَكْثَر، وَمَا لَيْسَ بِمُرَاد هُوَ الْأَقَل.
قَالَ: ويفترقان فِي الحكم من جِهَة أَن الأول لَا يَصح الِاحْتِجَاج بِظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُمكن التَّعَلُّق بِظَاهِرِهِ اعْتِبَارا بِالْأَكْثَرِ.
وَفرق الْمَاوَرْدِيّ بِوَجْهَيْنِ، أَحدهمَا هَذَا.
وَالثَّانِي: أَن إِرَادَة مَا أُرِيد بِهِ الْعُمُوم، ثمَّ خص مُتَأَخّر أَو تقارن.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يجب أَن ينتبه للْفرق بَينهمَا، فالعام الْمَخْصُوص أَعم من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص، أَلا ترى أَن الْمُتَكَلّم إِذا أَرَادَ بِاللَّفْظِ أَولا مَا دلّ عَلَيْهِ ظَاهره من الْعُمُوم، ثمَّ أخرج بعد ذَلِك بعض مَا دلّ عَلَيْهِ اللَّفْظ كَانَ عَاما مَخْصُوصًا، وَلم يكن عَاما أُرِيد بِهِ الْخُصُوص.
وَيُقَال: إِنَّه مَنْسُوخ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض الَّذِي أخرج، وَهَذَا مُتَوَجّه إِذا قصد الْعُمُوم، وَفرق بَينه وَبَين أَن لَا يقْصد الْخُصُوص بِخِلَاف مَا إِذا نطق بِاللَّفْظِ الْعَام مرِيدا بِهِ بعض مَا تنَاوله فِي هَذَا. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَحَاصِل مَا قَرَّرَهُ أَن الْعَام إِذا قصر على بعضه، لَهُ ثَلَاث حالات:
الأولى: أَن يُرَاد بِهِ فِي الِابْتِدَاء خَاص، فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهِ خَاص.
الثَّانِيَة: أَن يُرَاد بِهِ عَام ثمَّ يخرج مِنْهُ بعضه فَهُوَ نسخ.
وَالثَّالِثَة: أَن لَا يقْصد بِهِ خَاص وَلَا عَام فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ يخرج مِنْهُ أَمر، ويتبين بذلك أَنه لم يرد بِهِ فِي الِابْتِدَاء عُمُومه، فَهَذَا هُوَ الْعَام الْمَخْصُوص؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّخْصِيص عندنَا بَيَانا لَا نسخا، إِلَّا إِن أخرج بعد دُخُول وَقت الْعَمَل بِالْعَام فَيكون نسخا؛ لِأَنَّهُ قد تبين أَن الْعُمُوم أُرِيد فِي الِابْتِدَاء. انْتهى.
وَفرق السُّبْكِيّ فَقَالَ: الْعَام الْمَخْصُوص أُرِيد عُمُومه وشموله لجَمِيع الْأَفْرَاد من جِهَة تنَاول اللَّفْظ لَهَا، لَا من جِهَة الحكم، وَالَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لم يرد شُمُوله لجَمِيع الْأَفْرَاد لَا من جِهَة التَّنَاوُل وَلَا من جِهَة الحكم، بل هُوَ كلي اسْتعْمل فِي جزئي، وَلِهَذَا كَانَ مجَازًا قطعا لنقل اللَّفْظ عَن مَوْضِعه الْأَصْلِيّ بِخِلَاف الْعَام الْمَخْصُوص فَإِن فِيهِ خلافًا يَأْتِي.
وَقَالَ شيخ الْإِسْلَام البُلْقِينِيّ: الْفرق بَينهمَا من أوجه:
أَحدهَا: أَن قرينَة الْعَام الْمَخْصُوص لفظية، وقرينة الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص عقلية.
الثَّانِي: أَن قرينَة الْمَخْصُوص قد تنفك عَنهُ، وقرينة الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص لَا تنفك عَنهُ.
قَالَ الْبرمَاوِيّ بعد أَن حكى الفروق فِي ذَلِك: وَيعلم من ذَلِك أَن قَول بعض متأخري الْحَنَابِلَة فِي الْفرق بِأَن الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ [الْخُصُوص أَن يُطلق الْمُتَكَلّم اللَّفْظ الْعَام وَيُرِيد بِهِ بَعْضًا معينا وَالْعَام الْمَخْصُوص هُوَ الَّذِي أُرِيد بِهِ] سلب الحكم عَن بعض مِنْهُ، وَأَيْضًا فَالَّذِي أُرِيد بِهِ خُصُوص يحْتَاج لدَلِيل معنوي يمْنَع إِرَادَة الْجَمِيع فَتعين لَهُ الْبَعْض، والمخصوص يحْتَاج لدَلِيل لَفْظِي غَالِبا، كالشرط وَالِاسْتِثْنَاء والغاية والمنفصل. انْتهى.
وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَيحْتَمل إِرَادَة غَيره، وَلم نطلع على قَائِله. وَقد قَالَ ابْن قَاضِي الْجَبَل: يجوز وُرُود الْعَام وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص خَبرا كَانَ أَو أمرا.
قَالَ أَبُو الْخطاب: وَقد ذكره الإِمَام أَحْمد فِي قَوْله تَعَالَى: {تدمر كل شَيْء بِأَمْر رَبهَا} [الْأَحْقَاف: 25] قَالَ: وَأَتَتْ على أَشْيَاء لم تدمرها كمساكنهم وَالْجِبَال. وَبِه قَالَ الْجُمْهُور. انْتهى.
فَهَذَا عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فِيمَا يظْهر.
قَوْله: {الثَّانِيَة، قيل: لَيْسَ فِي الْقُرْآن عَام لم يخص إِلَّا قَوْله تَعَالَى:} {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} [هود: 6]، وَقَوله تَعَالَى:{وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] .
قَالَ الْمُوفق فِي " الرَّوْضَة ": مَا من عُمُوم إِلَّا وَقد تطرق إِلَيْهِ التَّخْصِيص إِلَّا الْيَسِير، كَقَوْلِه تَعَالَى
…
وَذكر الْآيَتَيْنِ.
قَالَ الطوفي فِي " الإشارات ": قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 29] هَذَا عَام لم يخص بِشَيْء أصلا لتَعلق علمه عز وجل بالمواد الثَّلَاث مَادَّة الْوَاجِب والممكن والممتنع، بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى:{إِن الله على كل شَيْء قدير} [الْبَقَرَة: 20] فَإِنَّهُ عَام مَخْصُوص بالمحالات والواجبات الَّتِي لَا تدخل تَحت الْمَقْدُور بِهِ كالجمع بَين الضدين، وكخلق ذَاته وَصِفَاته، وَأَشْبَاه ذَلِك. انْتهى.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: اعْترض ابْن دَاوُد على الشَّافِعِي فِي جعله {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} من الْعَام الَّذِي لم يخص، بِأَن من الدَّوَابّ من أفناه الله تَعَالَى قبل أَن يرزقه.
ورده الصَّيْرَفِي: بِأَن ذَلِك خطأ؛ لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من رزق يقوم بِهِ وَلَو بِنَفس يَأْتِيهِ، وَقد جعل الله تَعَالَى غذَاء طَائِفَة من الطير التنفس إِلَى مُدَّة يصلح فِيهَا للْأَكْل وَالشرب. انْتهى.
وَقَالَ الْبرمَاوِيّ أَيْضا: نعم، هَل يُطلق على الْمَعْدُوم شَيْء؟ إِن كَانَ مستحيلا فَلَا، بِلَا خلاف عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَغلظ الزَّمَخْشَرِيّ على الْمُعْتَزلَة فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا خلافهم فِي الْمَعْدُوم الَّذِي لَيْسَ بمستحيل. نعم، عِنْد النُّحَاة أَن الْمَعْدُوم يُطلق عَلَيْهِ شَيْء مستحيلا كَانَ أَو لَا.
إِذا تقرر أَن المستحيل لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي لَا يُسمى شَيْئا على رَأْي الْمُتَكَلِّمين تبين أَن نَحْو قَوْله: {الله على كل شَيْء قدير} من الْعَام الْمَخْصُوص بِالْعقلِ، أَو من الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص على الْخلاف السَّابِق. انْتهى.
وَقَالَ بعض أهل الْعلم: الْعَام الْبَاقِي على عُمُومه قَلِيل جدا، وَلم يُوجد مِنْهُ إِلَّا قَوْله تَعَالَى:{وَالله بِكُل شَيْء عليم} [الْبَقَرَة: 282]، وَقَوله تَعَالَى:{خَلقكُم من نفس وَاحِدَة} [النِّسَاء: 1] ثمَّ قَالَ: قلت: الظَّاهِر
إِن من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} الْآيَة [النِّسَاء: 23] ، فَإِن من صِيغ الْعُمُوم الْجمع الْمُضَاف، وَلَا تَخْصِيص فِيهَا. انْتهى.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِي فِي " شرح الطوفي ": وَقد ولع النَّاس كثيرا بقَوْلهمْ: إِن كل عَام فِي الْقُرْآن مَخْصُوص إِلَّا قَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم} ، وَقَوله تَعَالَى:{وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا:، وَقد تدبرت ذَلِك فَوجدت فِي الْقُرْآن وَالسّنة مَا لَا تحصى كَثْرَة من العمومات الْبَاقِيَة على عمومها، فَتَأَمّله تَجدهُ كَذَلِك. انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: هُنَا نَوْعَانِ: نوع يمْتَنع لذاته مِمَّا يُنَاقض صِفَاته اللَّازِمَة كالموت، وَالنَّوْم، وَالْجهل، واللغوب، وَنَحْوه، فَهَذَا مُمْتَنع وجوده مُطلقًا، كَمَا يمْتَنع وجود إِلَه آخر مسَاوٍ لَهُ، وكما يمْتَنع عَدمه - سُبْحَانَهُ -، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء فَلَا يدْخل فِي قَوْله تَعَالَى:{إِن الله على كل شَيْء قدير} فَإِنَّهُ يمْتَنع وجوده فِي الْخَارِج؛ إِذْ كَانَ مستلزما للْجمع بَين النقيضين بَين الْوُجُود والعدم، وَكَون الشَّيْء مَوْجُودا مَعْدُوما مُمْتَنع. انْتهى.