الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221]، وكاستدلال الصَّحَابَة على فَسَاد عُقُود الرِّبَا بقوله صلى الله عليه وسلم َ -: "
لَا تَبِيعُوا الذَّهَب إِلَّا مثلا بِمثل " الحَدِيث، ولنكاح الْمحرم بِالنَّهْي عَنهُ، وكبيع الطَّعَام قبل قَبضه وشاع وذاع من غير نَكِير.
فَإِن قلت احتجاجهم إِنَّمَا هُوَ على التَّحْرِيم لَا على الْفساد، قلت: بل على كليهمَا، أَلا ترى إِلَى حَدِيث بيع الصاعين بالصاع، وَقَوله
صلى الله عليه وسلم َ -: " أوه عين الرِّبَا " وَذَلِكَ بعد الْقَبْض فَأمر برده.
وَأما الثَّانِي فَفِي " صَحِيح مُسلم ": أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
قَالَ: " من عمل عملا لَيْسَ عَلَيْهِ أمرنَا فَهُوَ رد "، وَالرَّدّ إِذا أضيف إِلَى الْعِبَادَات اقْتضى عدم الِاعْتِدَاد، وَإِن أضيف إِلَى الْعُقُود اقْتضى الْفساد.
فَإِن قيل: وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ بمقبول، وَلَا طَاعَة
.
قُلْنَا: الحَدِيث يَقْتَضِي رد ذَاته، فَإِذا لم يُمكن اقْتضى رد مُتَعَلّقه.
فَإِن قيل: هُوَ من أَخْبَار الْآحَاد وَالْمَسْأَلَة من الْأُصُول.
قيل: تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، وَالْمَسْأَلَة من بَاب الْفُرُوع، فَيكون وجوده كَعَدَمِهِ.
وَاحْتج الشَّافِعِي رضي الله عنه بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -: " لَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور "، و " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "، و " لَا صِيَام لمن لم يبيت الصّيام من اللَّيْل "، وَنَحْو ذَلِك.
قَالَ: وَمَعْلُوم إِنَّه لم يرد بذلك نفي نفس الْفِعْل؛ لِأَن الْفِعْل مَوْجُود من حَيْثُ الْمُشَاهدَة، وَإِنَّمَا يُرَاد نفي حكمه، فَإِذا وجد الْفِعْل على الصّفة الْمنْهِي عَنْهَا لم يكن لَهُ حكم فوجوده كَعَدَمِهِ، وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يُؤثر إيجاده وَكَانَ الْفَرْض الأول على عَادَته.
وَأما الثَّالِث - وَهُوَ الِاعْتِبَار - فَلِأَن النَّهْي يدل على تعلق مفْسدَة بالمنهي عَنهُ، أَو بِمَا يلازمه؛ لِأَن الشَّارِع حَكِيم لَا ينْهَى عَن الْمصَالح، وَفِي الْقَضَاء
بإفسادها إعدام لَهَا بأبلغ الطّرق؛ وَلِأَن النَّهْي عَنْهَا مَعَ ربط الحكم بهَا مفض إِلَى التَّنَاقُض فِي الْحِكْمَة؛ لِأَن نصبها سَببا يُمكن من التوسل، وَالنَّهْي منع من التوسل؛ وَلِأَن حكمهَا مَقْصُود الْآدَمِيّ ومتعلق غَرَضه، فتمكينه مِنْهُ حث على تعاطيه، وَالنَّهْي منع من التعاطي؛ لِأَنَّهُ لَو لم يفْسد الْمنْهِي عَنهُ لزم من نَفْيه، لكَونه مَطْلُوب التّرْك بِالنَّهْي حكمه للنَّهْي، وَمن ثُبُوته لكَون الْغَرَض جَوَاز التَّصَرُّف وَصِحَّته، حكم الصِّحَّة، وَذَلِكَ بَاطِل.
أما الْمُلَازمَة فلاستحالة خلو الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة عَن الْحِكْمَة.
وَأما بطلَان الثَّانِي فَلِأَن اجْتِمَاعهمَا يُؤَدِّي إِلَى خلو الحكم عَن الْحِكْمَة وَهُوَ خرق للْإِجْمَاع؛ لِأَن حِكْمَة النَّهْي إِمَّا أَن تكون راجحة على الصِّحَّة، أَو مرجوحة، أَو مُسَاوِيَة، لَا جَائِز أَن تكون مرجوحة، وَلَا مُسَاوِيَة؛ إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لامتنع النَّهْي فَلم يبْق إِلَّا أَن تكون راجحة على حكم الصِّحَّة، وَفِي رُجْحَان النَّهْي يمْتَنع الصِّحَّة.
فَإِن قلت: التَّرْجِيح غَايَته أَن يُنَاسب نفي الصِّحَّة وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الْحِكْمَة إِلَّا بإيراد شَاهد بِالِاعْتِبَارِ، وَلَو ظهر كَانَ الْفساد لَازِما من الْقيَاس.
قُلْنَا: الْقَضَاء بِالْفَسَادِ لعدم الصِّحَّة، فَلَا يفْتَقر إِلَى شَاهد الِاعْتِبَار؛ وَلِأَن فِي الشرعيات منهيات بَاطِلَة وَلَا مُسْتَند لَهَا إِلَّا أَن النَّهْي للْأَصْل.
وَأما المناقضة - وَهُوَ الرَّابِع - فلأنهم أبطلوا النِّكَاح فِي الْعدة، وَنِكَاح الْمحرم، والمحاقلة، والمزابنة، وَالْمُلَامَسَة، وَالْعقد على مَنْكُوحَة الْأَب؛ لقَوْله تَعَالَى:{وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} الْآيَة [النِّسَاء: 22]، {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] ، وَالصَّلَاة فِي الْمَكَان النَّجس وَالثَّوْب النَّجس، وَحَالَة كشف الْعَوْرَة، إِلَى غير ذَلِك، وَلَا مُسْتَند إِلَّا النَّهْي.
قَالَ: لَو دلّ الْفساد لناقض التَّصْرِيح بِالصِّحَّةِ فِي قَوْله: نهيتك عَن فعل كَذَا، فَإِن فعلت صَحَّ.
قُلْنَا: الْجَواب عَنهُ من أوجه:
أَحدهَا: أَن ذَلِك لَهُ نقل.
الثَّانِي: الْمَنْع من جَوَاز التَّصْرِيح بِالصِّحَّةِ لما ذكرنَا من حِكْمَة الْفساد ورجحانها.
الثَّالِث: لَو سلم فالتصريح بِخِلَاف الظَّاهِر لَا يُنَاقض، نَحْو: رَأَيْت أسدا يَرْمِي، قَالَ ذَلِك ابْن قَاضِي الْجَبَل وَغَيره.
قَوْله: {وَكَذَا الْمنْهِي عَنهُ لوصفه عندنَا وَعند الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم} .
الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام:
أَحدهَا: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لعَينه كَمَا تقدم تمثيله.
الثَّانِي: أَن يكون النَّهْي عَنهُ لخارج، لكنه لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَهُوَ المُرَاد هُنَا، كالنهي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد، وَأَيَّام التَّشْرِيق، وَعَن الرِّبَا لوصف الزِّيَادَة الْمُقَارن للْعقد اللَّازِم، وَلكَون الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام ضِيَافَة الله، وَهَذَا معنى لَازم لَهَا.
لَكِن منع صَاحب " الْمُحَرر " أَن النَّهْي لم يعد إِلَى عين الْمنْهِي عَنهُ؛ لِأَن النَّص أَضَافَهُ إِلَى صَوْم هَذَا الْيَوْم كإضافة النَّهْي إِلَى صَلَاة حَائِض، ومحدث، انْتهى.
قَالَ الطوفي فِي " شَرحه ": كالنهي عَن نِكَاح الْكَافِر للمسلمة، وَعَن بيع العَبْد الْمُسلم من كَافِر، فَإِن ذَلِك يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الْقيام والاستيلاء، والسبيل للْكَافِرِ على الْمُسلم، فَيبْطل لهَذَا الْوَصْف اللَّازِم لَهُ، انْتهى.
{وَعند الْحَنَفِيَّة، وَأبي الْخطاب، يَقْتَضِي صِحَة الشَّيْء وَفَسَاد وَصفه} ، فَيدل على فَسَاد الْوَصْف لَا الْمَوْصُوف الْمنْهِي عَنهُ لكَونه مَشْرُوعا بِدُونِ الْوَصْف، وبنوا على ذَلِك لَو بَاعَ درهما بِدِرْهَمَيْنِ، ثمَّ طرحا الزِّيَادَة، فَإِنَّهُ يَصح العقد.
قَالَ ابْن مُفْلِح وَغَيره، عِنْد الْحَنَفِيَّة يَقْتَضِي صِحَة الشَّيْء وَفَسَاد وَصفه، فالمحرم عِنْدهم وُقُوع الصَّوْم فِي الْعِيد، لَا الْوَاقِع، [فَهُوَ] حسن؛ لِأَنَّهُ صَوْم، قَبِيح لوُقُوعه فِي الْعِيد، فَهُوَ طَاعَة فَيصح النّذر بِهِ، وَوصف قبحه لَازم للْفِعْل لَا للاسم، وَلَا يلْزم بِالشُّرُوعِ.
وَالْفساد فِي الصَّلَاة وَقت النَّهْي فِي وَصفه للنسبة إِلَى الشَّيْطَان، وَالْوَقْت سَبَب وظرف؛ فأثر نَقصه فِي نَقصهَا، فَلم يتأدبها الْكَامِل، وضمنت بِالشُّرُوعِ.
وَوقت الصَّوْم معيار فَلم يضمن بِهِ عِنْد أبي حنيفَة، وَخَالفهُ صَاحِبَاه.
وَإِذا بَاعَ بِخَمْر صَحَّ بِأَصْلِهِ، لَا وَصفه، وَلَو بَاعَ خمرًا بِعَبْد لم يَصح؛ لِأَن الثّمن تَابع غير مَقْصُود بِخِلَاف الْمُثمن.
قَالَ ابْن مُفْلِح: كَذَا قَالُوا:
وَقيل: لأبي الْخطاب فِي " الِانْتِصَار " فِي نذر صَوْم يَوْم الْعِيد: نَهْيه عليه الصلاة والسلام عَن صَوْم الْعِيد يدل على الْفساد، فَقَالَ: هُوَ حجتنا؛ لِأَن النَّهْي عَمَّا لَا يكون محَال، كنهي [الْأَعْمَى] عَن النّظر، فَلَو لم يَصح لما نهى عَنهُ، انْتهى.
{وَاخْتَارَ الطوفي} فِي " مُخْتَصره " أَن النَّهْي يَقْتَضِي {الصِّحَّة فِي وصف غير لَازم} ، فَقَالَ فِي " مُخْتَصره ": وَالْمُخْتَار أَن النَّهْي عَن الشَّيْء لذاته، أَو وصف لَازم لَهُ مُبْطل، ولخارج عَنهُ غير مُبْطل.
وَفِيه: لوصف غير لَازم تردد وَالْأولَى الصِّحَّة.
فَاخْتَارَ الصِّحَّة فِي شَيْئَيْنِ: فِي وصف خَارج عَنهُ، وَفِي وصف غير لَازم، والبطلان فِي شَيْئَيْنِ: فِي الْمنْهِي عَنهُ لذاته، أَو لوصف لَازم لَهُ، فالشيء الْمنْهِي عَنهُ لذاته تَابع فِيهِ الْمَذْهَب.
والجماهير كَمَا تقدم وَتقدم أمثلتهما، وَمِثَال النَّهْي عَن الْفِعْل لأمر خَارج عَنهُ لَا تعلق لَهُ بِهِ عقلا، كالنهي عَن الصَّلَاة فِي دَار؛ لِأَن فِيهَا صنما مَدْفُونا، أَو كَافِرًا مسجونا، أَو شرعا كالنهي عَن بيع الْجَوْز، وَالْبيض خشيَة أَن يقامر بِهِ، وَنَحْو ذَلِك.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: النَّهْي إِن أوجب حظرا أوجبه مَعَ النَّهْي عَن السَّبَب: كَطَلَاق الْحَائِض، وظهار} الذِّمِّيّ، محرمان موجبان للتَّحْرِيم.
{وَنبهَ عَلَيْهِ أَبُو الْخطاب فِي مَسْأَلَة البيع الْفَاسِد لَا ينْقل الْملك.
وَقَالَ الشَّيْخ الْمُوفق فِي " الْمُغنِي " لمن احْتج بِالنَّهْي عَن الْعُمْرَى والرقبى: النَّهْي إِنَّمَا يمْنَع صِحَّته مَا يُفِيد الْمنْهِي عَنهُ فَائِدَة فَإِن
[كَانَت] صِحَّته ضَرَرا على مرتكبه، لم يمْنَع صِحَّته، كَطَلَاق الْحَائِض، والعمرى؛ لزوَال ملكه بِلَا عوض، انْتهى.
إِذا علم ذَلِك فَوجه الأول مَا سبق، واستدلال الصَّحَابَة بِالنَّهْي عَن صَوْم الْعِيد وَغَيره من غير فرق، وَسلم الخالف الصَّلَاة بِلَا طَهَارَة.
وَقَالَ ابْن مُفْلِح: وَفِي إِلْزَامه بيع الملاقيح، والمضامين وَنَحْوهمَا نظر، وَتقدم منع الْمجد.
قَالُوا: وَأجِيب بِمَا سبق أَنه لَا يَقْتَضِي فَسَادًا وَيَقْتَضِي صِحَة غير الْعِبَادَة.
قَالُوا: لَو دلّ لما صَحَّ طَلَاق حَائِض، وَالْحَد بِسَوْط غصب، وَذبح ملك غَيره.
رد: ترك الظَّاهِر لدَلِيل، وَهُوَ خبر ابْن عمر فِي الطَّلَاق.
وَقَالَ القَاضِي: تَغْلِيظًا عَلَيْهِ.
وَفِي الْحَد للْإِجْمَاع، قَالَه فِي " التَّمْهِيد "؛ لِئَلَّا يُزَاد الْحَد.
وَيحل الْمَذْبُوح على الْأَصَح عندنَا للْخَبَر.
وَتقدم كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَصَاحب " الْمُغنِي ".
قَوْله: {وَكَذَا النَّهْي لِمَعْنى فِي الْمنْهِي عَنهُ، كَبيع بعد نِدَاء الْجُمُعَة عِنْد أَحْمد وَأكْثر أَصْحَابه، والمالكية} ، والظاهرية، والجبائية، {وَابْن الْحَاجِب} ، وَغَيرهم.
قَالَ أَبُو الْمَعَالِي - وعزي هَذَا القَوْل إِلَى طوائف من الْفُقَهَاء:
تقدم أَن الْمنْهِي عَنهُ أَقسَام:
تَارَة يكون لذاته كَمَا مثلنَا بِهِ قبل، وَتارَة يكون لوصفه اللَّازِم لَهُ، وَتقدم، وَتارَة يكون لأمر خَارج غير لَازم كَالْبيع بعد نِدَاء الْجُمُعَة، وكالوضوء بِمَاء مَغْصُوب، فَإِن الْمنْهِي عَنهُ لأمر خَارج عَنهُ وَهُوَ الْغَصْب، يَنْفَكّ بِالْإِذْنِ من صَاحبه، أَو الْملك وَنَحْوه، فَهَذَا الصَّحِيح من الْمَذْهَب، إِنَّه كَالَّذي قبله وَعَلِيهِ كثير من الْعلمَاء كَمَا تقدم.
{وَخَالف الطوفي} كَمَا تقدم عَنْهُم، {وَالْأَكْثَر} فِي ذَلِك فَقَالُوا: لَا يَقْتَضِي الْفساد، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَغَيره.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا خلاف أَنه لَا يَقْتَضِي الْفساد، إِلَّا مَا نقل عَن مَالك وَأحمد، وَلَا فرق بَين الْعِبَادَات والمعاملات.
إِذا علم ذَلِك فالدليل والاعتراض وَالْجَوَاب كَمَا سبق.
وألزم القَاضِي الشَّافِعِيَّة بِبُطْلَان البيع بالتفرقة بَين وَالِدَة وَوَلدهَا.
قَوْله: {وَلَو كَانَ النَّهْي عَن غير عقد لحق آدَمِيّ كتلق، ونجش
وسوم وخطبة وتدليس صَحَّ فِي الْأَصَح عندنَا وَعند الْأَكْثَر} .
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": وَحَيْثُ قَالَ أَصْحَابنَا اقْتضى النَّهْي الْفساد، فمرادهم: مَا لم يكن النَّهْي لحق آدَمِيّ يُمكن استدراكه، فَإِن كَانَ وَلَا مَانع كتلقي الركْبَان والنجش، فَإِنَّهُمَا يصحان على الْأَصَح عندنَا، وَعند الْأَكْثَر لإِثْبَات الشَّرْع الْخِيَار فِي التلقي وعللوه بِمَا سبق. انْتهى.
وَلنَا رِوَايَة عَن أَحْمد بِعَدَمِ الصِّحَّة، وَلنَا مسَائِل كَثِيرَة فروعية، كَبيع الْفُضُولِيّ والمجهول، وَغير ذَلِك لَهَا أَدِلَّة خَاصَّة هُنَاكَ.
{تَنْبِيه: النَّهْي يَقْتَضِي الْفَوْر والدوام عِنْد أَصْحَابنَا وَالْأَكْثَر} ،
وَيُؤْخَذ من أَن النَّهْي للدوام أَنه للفور؛ لِأَنَّهُ من لوازمه؛ وَلِأَن من نهى عَن فعل بِلَا قرينَة عد مُخَالفا لُغَة وَعرفا أَي وَقت فعله؛ وَلِهَذَا لم تزل الْعلمَاء تستدل بِهِ من غير نَكِير.
وَحَكَاهُ أَبُو حَامِد، وَابْن برهَان، وَأَبُو زيد الدبوسي إِجْمَاعًا.
وَالْفرق بَينه وَبَين الْأَمر أَن الْأَمر لَهُ حد يَنْتَهِي إِلَيْهِ فَيَقَع الِامْتِثَال فِيهِ بالمرة، وَأما الِانْتِهَاء عَن الْمنْهِي فَلَا يتَحَقَّق إِلَّا باستيعابه فِي الْعُمر، فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ تكْرَار، بل اسْتِمْرَار بِهِ يتَحَقَّق الْكَفّ.
وَخَالف القَاضِي أَبُو بكر الباقلاني، وَالْفَخْر الرَّازِيّ، وَنَقله ابْن عقيل عَن الباقلاني، وَنقل الْمَازرِيّ عَنهُ خِلَافه، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ.
قَالَ ابْن مُفْلِح: النَّهْي يَقْتَضِي الْفَوْر والدوام عِنْد أَصْحَابنَا وَعَامة الْعلمَاء خلافًا لِابْنِ الباقلاني، وَصَاحب " الْمَحْصُول "؛ لِأَن النَّهْي
منقسم إِلَى الدَّوَام وَغَيره: كَالزِّنَا وَالْحَائِض عَن الصَّلَاة فَكَانَ الْقدر الْمُشْتَرك دفعا للاشتراك وَالْمجَاز.
رد: عدم الدَّوَام لقَرِينَة هِيَ تَقْيِيد بِالْحيضِ وَكَونه حَقِيقَة للدوام أولى من الْمرة لدليلنا ولإمكان التَّجَوُّز عَن بعضه لاستلزامه لَهُ بِخِلَاف الْعَكْس.
قَوْله: {وَلَا تفعل هَذَا مرّة، يَقْتَضِي تكْرَار التّرْك} ، قدمه ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَعند القَاضِي وَالْأَكْثَر يسْقط بِمرَّة، وَهُوَ الْمَعْرُوف عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَقدمه فِي " جمع الْجَوَامِع " حَتَّى قَالَ شَارِحه ابْن الْعِرَاقِيّ عَن القَوْل بِأَنَّهُ يَقْتَضِي التّكْرَار: غَرِيب لم نره لغير ابْن السُّبْكِيّ.
وَقطع بِهِ الْبرمَاوِيّ فِي " شرح منظومته "، وَالظَّاهِر أَنَّهُمَا لم يطلعا على كَلَام الْحَنَابِلَة فِي ذَلِك.
وَقد تقدم فِي الْأَمر فِي مَسْأَلَة مَا إِذا تجرد الْأَمر عَن الْقَرِينَة هَل يَقْتَضِي التّكْرَار؟ فِي أثْنَاء بحث الْمَسْأَلَة أَنه لَو قَالَ: لَا تفعل هَذَا مرّة، عَم.
قطع بِهِ ابْن مُفْلِح فِي بحث الْمَسْأَلَة، وَعند القَاضِي لَا يعم؛ لقبح الْمنْهِي عَنهُ فِي وَقت وَحسنه فِي آخر.
قَالَ ابْن مُفْلِح: قَالَ بعض أَصْحَابنَا، وَقَالَ غَيره: يعم. يَعْنِي غير القَاضِي.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي " المسودة ": إِذا قَالَ: لَا تفعل هَذَا مرّة.
فَقَالَ القَاضِي: يَقْتَضِي الْكَفّ مرّة، فَإِذا ترك مرّة يسْقط النَّهْي.
وَقَالَ غَيره: يَقْتَضِي التّكْرَار. انْتهى.
فَظَاهره أَن غير القَاضِي يَقُول بتكرار التّرْك.
قَوْله: {فَائِدَة: يكون النَّهْي عَن وَاحِد، ومتعدد جمعا، وفرقا وجميعا} .
قد يكون النَّهْي عَن وَاحِد فَقَط، وَهُوَ كثير وَاضح، وَقد يكون عَن مُتَعَدد: أَي عَن شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَهَذَا ثَلَاثَة أَنْوَاع:
الأول: أَن يكون نهيا عَن الْجَمِيع، أَي: عَن الْهَيْئَة الاجتماعية، فَلهُ فعل أَيهَا شَاءَ على انْفِرَاده، كَمَا تقدم آخر الْوَاجِب أَنه يجوز النَّهْي