الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الْعِرَاقِيّ فِي " شرح منظومته ": الْمُكَاتبَة أَن يكْتب الشَّيْخ شَيْئا من حَدِيثه بِخَطِّهِ، أَو يَأْمر غَيره فَيكْتب عَنهُ بِإِذْنِهِ سَوَاء كتبه، أَو كتب عَنهُ إِلَى غَائِب عَنهُ، أَو حَاضر عِنْده.
فهذان نَوْعَانِ:
أَحدهمَا: أَن يُجِيزهُ مَعَ ذَلِك فَتجوز الرِّوَايَة بِهِ على الصَّحِيح، كالمناولة.
وَعَلِيهِ أَكثر الْعلمَاء حَتَّى قَالَ بَعضهم: إِنَّه كالسماع؛ لِأَن الْكِتَابَة أحد اللسانين، وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
يبلغ الْغَائِب بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِ، وَكَانَ
صلى الله عليه وسلم َ - يكْتب إِلَى عماله تَارَة وَيُرْسل أُخْرَى.
وَمنع قوم من الرِّوَايَة بِالْكِتَابَةِ مُطلقًا، مِنْهُم: الْمَاوَرْدِيّ، وَالرُّويَانِيّ وأجابا عَن كتب النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
بِأَن الِاعْتِمَاد على إِخْبَار الْمُرْسلَة على يَده، وَنقل إِنْكَار ذَلِك عَن الدَّارَقُطْنِيّ
.
قَوْله: {وبدونها} ، أَي: بِدُونِ الْإِجَازَة بل كتبه إِلَيْهِ يُخبرهُ بذلك فَقَط، وَهُوَ النَّوْع الثَّانِي.
{وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَحْمد، والخلال الْجَوَاز} ، فَإِن أَبَا مسْهر وَأَبا تَوْبَة كتبا إِلَيْهِ بِأَحَادِيث وَحدث بهَا، وَهُوَ الْأَشْهر للمحدثين، وَاخْتَارَهُ كثير من الْمُتَقَدِّمين حَتَّى قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: إِنَّهَا أقوى من الْإِجَازَة.
وَجزم بِهِ الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول ". وَفِي " البُخَارِيّ " فِي كتاب الْأَيْمَان
وَالنُّذُور: كتب إِلَى مُحَمَّد بن بشار. وَفِي " مُسلم ": عَن عَامر بن سعد بن أبي وَقاص كتب إِلَى جَابر بن سَمُرَة.
وللشافعية خلاف عملا بِالْقَرِينَةِ، وَأَنَّهَا تَضَمَّنت الْإِجَازَة، وَقد تقدم مَا فِيهَا مَعَ الْإِجَازَة فَمَعَ عدمهَا الْخلاف أقوى.
قَالَ الْآمِدِيّ: لَا يرويهِ إِلَّا بتسليط الشَّيْخ كَقَوْلِه: فاروه عني، أَو أجزت لَك رِوَايَته.
قَوْله: {وَيَكْفِي معرفَة خطه عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} .
تقدم أَنه يَكْفِي معرفَة خطه بطرق، مِنْهَا: أَن يعرف خطه. وَمِنْهَا: أَن يَظُنّهُ، وَيَكْفِي الظَّن فِي ذَلِك بِإِخْبَار عدل. وَمِنْهَا: أَن يُشَاهِدهُ يكْتب ذَلِك، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح.
وَقد حكى أَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان عَن بَعضهم أَن لَا يَكْفِي فِي ذَلِك إِلَّا شَاهِدَانِ على الْكَاتِب بِأَنَّهُ كتبه على حد شَرط كتاب القَاضِي إِلَى القَاضِي، وَتقدم ذَلِك قَرِيبا.
قَوْله: {وَلَا يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " " وَأخْبرنَا " فِيهَا خلافًا لقوم} .
الأول هُوَ الْمُخْتَار الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَر، بل يَقُول: كتب إِلَيّ، أَو أَخْبرنِي كِتَابه.
وَجوز الْفَخر الرَّازِيّ أَن يُطلق " أَخْبرنِي " وَإِن لم يقل كِتَابه، وَجرى عَلَيْهِ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي " شرح العنوان " فَجعل قَول الرَّاوِي " كِتَابَة " أدبا، لَا شرطا، وَنقل نَحْو ذَلِك عَن اللَّيْث بن سعد أَنه يجوز إِطْلَاق " حَدثنَا " و " أخبرنَا ".
قَوْله: {وَمُجَرَّد قَول الشَّيْخ: هَذَا سَمَاعي أَو روايتي، لَا تجوز رِوَايَته عَنهُ بذلك عندنَا، وَعند الْأَكْثَر} من الْمُحدثين، والآمدي، وَغَيرهم، وَبِه قطع أَبُو حَامِد الطوسي من الشَّافِعِيَّة، كَمَا قَالَه ابْن الصّلاح.
قَالَ الْبرمَاوِيّ: وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بِهِ الْغَزالِيّ، فَإِنَّهُ كَذَلِك فِي
" الْمُسْتَصْفى ". قَالَ: لِأَنَّهُ لم يَأْذَن فِي الرِّوَايَة فَلَعَلَّهُ لَا يجوز الرِّوَايَة؛ لخلل يعرفهُ فِيهِ، وَإِن سَمعه. انْتهى.
وَذهب جمع كثير إِلَى الْجَوَاز، مِنْهُم: ابْن جريج، وَعبد الله الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة - وَأَصْحَابه المدنيون، وَطَائِفَة من الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء، والأصوليين، وَأهل الظَّاهِر، وَابْن الصّباغ، وَنَصره أَيْضا الْوَلِيد بن بكر الغمري - بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَيْضا - فِي كتاب " الوجازة " لَهُ.
وَجوزهُ أَبُو مُحَمَّد بن خَلاد الرامَهُرْمُزِي قَالَ: حَتَّى لَو قَالَ: هَذِه روايتي وَلَكِن لَا تَرَوْهَا وَلَا أجيزه، لم يضرّهُ ذَلِك.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَمَا قَالَه صَحِيح لَا يَقْتَضِي النّظر سواهُ؛ لِأَن مَنعه لَا لعِلَّة، وَلَا لريبة لَا يُؤثر فَهُوَ من الَّذِي لَا يرجع فِيهِ.
ورده ابْن الصّلاح بِأَنَّهُ كالشاهد قد يسمع من يذكر شَيْئا فِي غير مجْلِس الحكم لَيْسَ لَهُ أَن يشْهد على شَهَادَته إِذا لم يَأْذَن لَهُ، قَالَ: وَذَلِكَ مِمَّا تَسَاوَت فِيهِ الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. انْتهى.
وَاعْلَم أَن هَذَا كُله فِي جَوَاز الرِّوَايَة، أما الْعَمَل بِمَا أخبرهُ الشَّيْخ أَنه سَمَاعه، أَو مرويه فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِذا صَحَّ إِسْنَاده، كَمَا جزم بِهِ ابْن الصّلاح، وَحكى عِيَاض عَن محققي أَصْحَاب الْأُصُول أَنهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
قَوْله: {وَلَا تجوز بِالْوَصِيَّةِ} بكتبه فِي الْأَصَح، أَي:
لَا تجوز الرِّوَايَة بِالْوَصِيَّةِ بكتبه، مثل أَن يُوصي قبل مَوته، أَو عِنْد سَفَره بِشَيْء من مروياته لشخص.
فَعَن بعض السّلف أَنه يجوز للْمُوصى لَهُ أَن يرويهِ عَن الْمُوصي.
قَالَ أَيُّوب لمُحَمد بن سِيرِين: إِن فلَانا أوصى إِلَيّ بكتبه أفأحدث بهَا عَنهُ؟ قَالَ: نعم. ثمَّ قَالَ لي بعد ذَلِك: لَا آمُرك وَلَا أَنهَاك.
قَالَ حَمَّاد: وَكَانَ أَبُو قلَابَة قَالَ: ادفعوا كتبي إِلَى أَيُّوب: إِن كَانَ حَيا وَإِلَّا فأحرقوها.
وَعلل ذَلِك القَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ نوع من الْإِذْن.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهَذَا بعيد جدا، وَهُوَ إِمَّا زلَّة عَالم، أَو مؤول على أَنه أَرَادَ أَن يكون ذَلِك على سَبِيل الوجادة.
وَأنكر عَلَيْهِ ابْن أبي الدَّم ذَلِك وَقَالَ: الْوَصِيَّة أرفع رُتْبَة من الوجادة
بِلَا خلاف، وَهِي مَعْمُول بهَا عِنْد الشَّافِعِي وَغَيره. انْتهى.
فعلى القَوْل بِالْعَمَلِ يَنْبَغِي أَن يُصَرح بذلك، فَيَقُول: أوصى إِلَيّ فلَان أَن أروي عَنهُ كَذَا، وَلَا يُطلق " حَدثنَا "، و " أخبرنَا "، وَكَذَا فِي الْإِعْلَام.
قَوْله: {وَلَو وجد شَيْئا بِخَط الشَّيْخ لم تجز رِوَايَته عَنهُ} ، لَكِن يَقُول: وجدت بِخَط فلَان. وَتسَمى الوِجادة - بِكَسْر الْوَاو - مصدر مُؤَكد لوجد.
قَالَ الْمعَافى بن زَكَرِيَّا النهرواني: إِن المولدين ولدوه، وَلَيْسَ عَرَبيا جَعَلُوهُ مباينا لمصادر " وجد " الْمُخْتَلفَة الْمَعْنى، وكما ميزت الْعَرَب بَين مَعَانِيهَا، فرق هَؤُلَاءِ بَين مَا قصدوه من هَذَا النَّوْع وَبَين تِلْكَ، فمادة " وجد " متحدة الْمَاضِي والمضارع مُخْتَلفَة المصادر بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي، فَيُقَال فِي الْغَضَب: موجدة، وَفِي الْمَطْلُوب: وجودا، وَفِي الضَّالة: وجدانا، وَفِي
الْحبّ: وَجدا - بِالْفَتْح - وَفِي المَال: وُجدانا - بِالضَّمِّ -، وَفِي الْغنى: جِدة - بِكَسْر الْجِيم وَتَخْفِيف الدَّال الْمَفْتُوحَة على الْأَشْهر فِي جَمِيع ذَلِك.
وَقَالُوا أَيْضا فِي الْمَكْتُوب: وجادة، وَهِي مولدة، وَزيد فِي الْغَضَب أَيْضا: جدة، وَفِي الْغنى: اجدانا، ذكره ابْن حجر وَغَيره.
والوجادة فِي الِاصْطِلَاح: أَن يحدث الحَدِيث أَو نَحوه بِخَط من يعرفهُ، ويثق بِأَنَّهُ خطه حَيا كَانَ أَو مَيتا.
فَأَما الرِّوَايَة بِهِ فَيَقُول: {وجدت بِخَط فلَان} كَذَا، وَإِذا لم يَثِق بذلك يَقُول: ذكر أَنه خطّ فلَان، وَلَا يَقُول:" حَدثنَا "، و " أخبرنَا " خلافًا لمن جازف فِي إِطْلَاق ذَلِك.
{وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا تجوز الرِّوَايَة بِرُؤْيَة خطّ الشَّيْخ سَمِعت كَذَا سَوَاء قَالَ: هَذَا خطي، أَو لم يقل} . وَأَن أَبَا الْخطاب قَالَ: نَص
أَحْمد على جَوَازه، كَذَا قَالَ. انْتهى.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: لَا أعلم أحدا مِمَّن يقْتَدى بِهِ أجَاز ذَلِك، وَإِنَّمَا أَن يَقُول: عَن فلَان.
قَالَ ابْن الصّلاح: إِنَّه تَدْلِيس قَبِيح إِذا كَانَ يُوهم سَمَاعه مِنْهُ.
قَوْله: {فَائِدَة:
يجب الْعَمَل بِمَا ظن صِحَّته من ذَلِك عِنْد أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة} وَغَيرهم فَلَا يتَوَقَّف الْعَمَل على رِوَايَتهَا.
قَالَ ابْن مُفْلِح: عِنْد أَصْحَابنَا، وَالشَّافِعِيَّة، وَغَيرهم، وَذَلِكَ لعمل الصَّحَابَة على كتبه - عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام -.
قَالَ ابْن الْعِرَاقِيّ فِي " شرح جمع الْجَوَامِع ": قَالَه الشَّافِعِي ونظار أَصْحَابه، وَنَصره الْجُوَيْنِيّ، وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين.
قَالَ ابْن الصّلاح: وَهُوَ الَّذِي لَا يتَّجه غَيره فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح، وَهَذَا قَول أَصْحَابنَا.
وَقيل: لَا يعْمل بِهِ.
قَالَ القَاضِي عِيَاض: أَكثر الْمُحدثين، وَالْفُقَهَاء من
الْمَالِكِيَّة وَغَيرهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِهِ.
تَنْبِيه: بل الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِذا لم يكن لَهُ بِمَا وجده رِوَايَة، وَصرح بِهِ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله "، وَهُوَ ظَاهر كَلَام غَيره.
وَمِمَّا يدل على كَونهم ذكرُوا ذَلِك عقب الوجادة.
وَأما إِذا كَانَ لَهُ رِوَايَة بِمَا وجده فالاعتماد على الرِّوَايَة، لَا على الوجادة، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمن رأى سَمَاعه وَلم يذكرهُ فَلهُ رِوَايَته وَالْعَمَل بِهِ إِذا عرف الْخط عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَأبي يُوسُف، وَمُحَمّد} ، وَغَيرهم، لما سبق.
وَخَالف أَبُو حنيفَة فَقَالَ: لَا تجوز حَتَّى يذكر سَمَاعه. قلت: نظيرها لَو رأى الشَّاهِد خطه بِشَهَادَة، أَو الْحَاكِم خطه بِحكم وَلم يذكراه، هَل للشَّاهِد أَن يشْهد، وللحاكم أَن ينفذ حكمه أم لَا.
فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد، وَالْمَشْهُور فِي الْمَذْهَب الْمَنْع وَالْمُخْتَار عَدمه.
فعلى الأول قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا، وَغَيرهم: يعْمل بِهِ إِذا ظَنّه خطه، فَيَكْفِي ظَنّه، وَهَذَا الصَّحِيح، ونقلوه عَمَّن أجَاز الرِّوَايَة.
وَقَالَ الْمجد: لَا يعْمل بِهِ إِلَّا إِذا تحَققه، وَقطع بِهِ فِي " المسودة ".
وَنقل الأول ابْن مُفْلِح، ثمَّ قَالَ: وَلِهَذَا قيل لِأَحْمَد: فَإِن أَعَارَهُ من لم يَثِق بِهِ؟ فَقَالَ: كل ذَلِك أَرْجُو. فَإِن الزِّيَادَة فِي الحَدِيث لَا تكَاد تخفي؛ لِأَن الْأَخْبَار مَبْنِيَّة على حسن الظَّن وغلبته.