الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَيْضًا: فَإِن النَّهْي يدل على التَّحْرِيم فورود الْأَمر بعده يكون لرفع التَّحْرِيم وَهُوَ الْمُتَبَادر، فالوجوب أَو النّدب زِيَادَة لَا بُد لَهَا من دَلِيل.
فَمن اسْتِعْمَاله بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حللتم فاصطادوا} [الْمَائِدَة: 2]، {فَإِذا قضيت الصَّلَاة فَانْتَشرُوا فِي الأَرْض} [الْجُمُعَة: 10] ، {فَإِذا تطهرن فأتوهن} [الْبَقَرَة: 222] .
وَأَيْضًا عرف الشَّرْع، كَقَوْلِه تَعَالَى:{فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه} [النِّسَاء: 4]، {فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم} [الْمَائِدَة: 4] .
وَقَوله عليه الصلاة والسلام: " كنت نَهَيْتُكُمْ عَن ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي فادخروها "، وَالْأَصْل عدم دَلِيل سوى الْحَظْر، وَالْإِجْمَاع حَادث بعده صلى الله عليه وسلم َ -.
وَكَقَوْلِه لعَبْدِهِ: لَا تَأْكُل هَذَا، ثمَّ يَقُول: كُله.
وَاعْترض بقوله: لَا تقتل هَذَا، ثمَّ يَقُول: اقتله، للْإِيجَاب
.
رد: بِالْمَنْعِ فِي قَوْلنَا وَهُوَ ظَاهر قَول غَيرنَا ثمَّ الْخلاف فِي حظر أَفَادَهُ النَّهْي، اعْتمد عَلَيْهِ فِي " الْعدة "، و " التَّمْهِيد "، و " الْوَاضِح " مَعَ قَول القَاضِي وَأبي الْفرج الْمَقْدِسِي لما قيل لَهما: يلْزم أَن جَمِيع الْأَوَامِر للْإِبَاحَة على قَوْلكُم - أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْحَظْر - بِأَنَّهَا مَسْأَلَة خلاف، وَكَذَا فِي " التَّمْهِيد "، وَفِيه: هِيَ مُبَاحَة فِي وَجه فَالْأَمْر بعد الْحَظْر يرفعهُ وَيعود إِلَى أصل الْإِبَاحَة.
وَكَذَا احْتج ابْن عقيل على من جعلهَا للْإِبَاحَة بِأَن الْأَمر يرفع الْحَظْر فَيَعُود إِلَى الأَصْل فَقَالَ: عندنَا لَيْسَ بِأَمْر بل إِبَاحَة، وَمن لقب الْمَسْأَلَة بِالْأَمر فلصيغته.
وَقَالَ: إِن جعلناها للْإِبَاحَة فَالْأَمْر يعد إِبَاحَة، وَإِن جعلناها للحظر فَلَيْسَ بحظر نطقي، وَفرق بَينهمَا بِدَلِيل النّسخ لحكم ثَبت نطقا.
قَالُوا: لَو منع الْحَظْر الْوُجُوب منع التَّصْرِيح بِهِ، وَلم يخْتَص الْأَمر بِصِيغَة (افْعَل) .
رد: الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر.
وَقَالَهُ فِي " الرَّوْضَة "، ثمَّ اخْتصَّ؛ لِأَن الْعرف فِيهَا.
قَالَ الْمجد: عِنْدِي أَنه الْمَذْهَب، وَقَالَهُ قوم.
{وَذهب القَاضِي} أَبُو يعلى، {وَأَبُو الطّيب} الطَّبَرِيّ، {و} أَبُو إِسْحَاق {الشِّيرَازِيّ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، و} الْفَخر {الرَّازِيّ} ، وَأَتْبَاعه، وَصدر الشَّرِيعَة من الْحَنَفِيَّة إِلَى أَنه {كالأمر ابْتِدَاء} .
وَاسْتدلَّ للْوُجُوب بقوله تَعَالَى: {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} [التَّوْبَة: 5] .
وَالْجَوَاب عِنْد ذَلِك عَن الْقَائِل بِالْإِبَاحَةِ: أَن الْمُتَبَادر غير ذَلِك، وَفِي الْآيَة إِنَّمَا علم بِدَلِيل خارجي.
{و} ذهب {أَبُو الْمَعَالِي وَالْغَزالِيّ} فِي " المنخول "، وَابْن الْقشيرِي {والآمدي} ، وَغَيرهم إِلَى {الْوَقْف} فِي الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب لتعارض الْأَدِلَّة.
وَذهب القَاضِي الْحُسَيْن من الشَّافِعِيَّة إِلَى الِاسْتِحْبَاب، وَمثله بقوله تَعَالَى:{فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا} [النُّور: 33] .
قَالَ الشَّافِعِي: هُوَ للاستحباب، وَإِنَّمَا ذَلِك من الْأَمر بعد الْحَظْر؛ لِأَن بيع الْإِنْسَان مَاله من مَاله مُمْتَنع بِلَا شكّ.
قلت: على الصَّحِيح من مَذْهَبنَا اسْتِحْبَاب الْكِتَابَة باجتماع الشَّرْط فِيهَا، وَعنهُ أَنَّهَا وَاجِبَة إِذا ابتاعها من سَيّده أجبر عَلَيْهَا
بِقِيمَتِه، اخْتَارَهُ أَبُو بكر من أَصْحَابنَا.
قَالَ الكوراني فِي " شَرحه ": لم يذكر فِي " جمع الْجَوَامِع " القَوْل بالندب، وَذكره صَاحب " التَّلْوِيح "، وَأسْندَ إِلَى سعيد بن جُبَير أَن الْإِنْسَان إِذا انْصَرف من الْجُمُعَة ندب لَهُ أَن يساوم شَيْئا وَلَو لم يشتره. انْتهى.
{وَذهب الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، وَجمع - وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْقفال الشَّاشِي - والبلقيني {أَنه كَمَا قبل الْحَظْر} فَهُوَ لدفع الْحَظْر السَّابِق وإعادة حَال الْفِعْل إِلَى مَا كَانَ قبل الْحَظْر، فَإِن كَانَ مُبَاحا كَانَت للْإِبَاحَة نَحْو:{وَإِذا حللتم فاصطادوا} ، أَو وَاجِبا كَانَت للْوُجُوب، نَحْو:{فأتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} ، إِذا قُلْنَا بِوُجُوب الْوَطْء، وَنسب إِلَى الْمُزنِيّ، {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} .
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَعَلِيهِ يخرج {فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} الْآيَة. {وَقَالَ: هُوَ الْمَعْرُوف عَن السّلف وَالْأَئِمَّة} . انْتهى.
قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله ": الصَّرِيح لَا يحْتَمل تغيره بِقَرِينَة، وَلَا يخْتَص فِي ظَاهر كَلَام الْأَكْثَر، كَمَا تقدم فِي الْبَحْث.
تَنْبِيه: قَالَ الكوراني: هَذَا الْخلاف إِنَّمَا هُوَ عِنْد انْتِفَاء الْقَرِينَة، وَأما عِنْد وجودهَا فَيحمل على مَا يُنَاسب الْمقَام بِلَا خلاف. انْتهى.
قَوْله: {وَالْأَمر بعد الاسْتِئْذَان للْإِبَاحَة، قَالَه القَاضِي وَابْن عقيل} ، وَحَكَاهُ ابْن قَاضِي الْجَبَل عَن الْأَصْحَاب، قَالَ: لَا فرق بَين الْأَمر بعد الْحَظْر، وَبَين الْأَمر بعد الاسْتِئْذَان.
قَالَ فِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": إِذا فرعنا على أَن الْأَمر الْمُجَرّد للْوُجُوب فَوجدَ أَمر بعد اسْتِئْذَان فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوب بل الْإِبَاحَة، ذكره القَاضِي مَحل وفَاق، قلت: وَكَذَا ابْن عقيل.
ثمَّ قَالَ: وَإِطْلَاق جمَاعَة: ظَاهره يَقْتَضِي الْوُجُوب، مِنْهُم: الرَّازِيّ فِي " الْمَحْصُول " فَإِنَّهُ جعل الْأَمر بعد الْحَظْر والاستئذان، الحكم فيهمَا وَاحِد، وَاخْتَارَ أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْوُجُوب، فَكَذَا بعد الاسْتِئْذَان عِنْده. انْتهى.
فَإِذا علم ذَلِك لَا يَسْتَقِيم قَول القَاضِي وَابْن عقيل لما استدلا على نقض الْوضُوء بِلَحْم الْإِبِل بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي مُسلم، لما سُئِلَ عَن التَّوَضُّؤ من لُحُوم الْإِبِل، فَقَالَ: نعم تَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل.
وَمِمَّا يُقَوي الْإِشْكَال أَن فِي الحَدِيث الْأَمر بِالصَّلَاةِ فِي مرابض الْغنم، وَهُوَ بعد سُؤال، وَلَا يجب بِلَا خلاف، بل وَلَا يسْتَحبّ.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم يستحبون الْوضُوء مِنْهُ؟ والاستحباب حكم شَرْعِي يفْتَقر إِلَى دَلِيل وَعِنْدهم هَذَا الْأَمر يَقْتَضِي الْإِبَاحَة.
قلت: إِذا قيل باستحبابه فلدليل غير هَذَا الْأَمر، وَهُوَ أَن الْأكل من لُحُوم الْإِبِل يُورث قُوَّة نارية فيناسب أَن تطفأ بِالْمَاءِ كَالْوضُوءِ عِنْد الْغَضَب، وَلَو كَانَ الْوضُوء من أكل لحم الْإِبِل وَاجِبا على الْأمة، وَكلهمْ كَانُوا يَأْكُلُون لحم الْإِبِل لم يُؤَخر بَيَان وُجُوبه، حَتَّى يسْأَله سَائل فَيُجِيبهُ، فَعلم أَن مَقْصُوده أَن الْوضُوء من لحومها مَشْرُوع، وَهُوَ حق، وَالله أعلم.