الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقد يُقَال: الحَدِيث إِنَّمَا ذكر فِيهِ بَيَان وجوب مَا يتَوَضَّأ مِنْهُ بِدَلِيل أَنه لما سُئِلَ عَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم، قَالَ:" إِن شِئْت فَتَوَضَّأ وَإِن شِئْت فَلَا تتوضأ " مَعَ أَن الْوضُوء من لُحُوم الْغنم مُبَاح، فَلَمَّا خير فِي لحم الْغنم، وَأمر بِالْوضُوءِ من لحم الْإِبِل، دلّ على أَن الْأَمر لَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الْإِذْن، بل للطلب الْجَازِم. انْتهى.
قلت: وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمد فِي الْمَذْهَب، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَمثله الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم} .
وَفِي " الْقَوَاعِد الْأُصُولِيَّة ": الْأَمر بماهية مَخْصُوصَة بعد سُؤال تَعْلِيم كالأمر بعد الاسْتِئْذَان فِي الْأَحْكَام وَالْمعْنَى، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَسْتَقِيم اسْتِدْلَال الْأَصْحَاب على وجوب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم َ -
فِي التَّشَهُّد الْأَخير بِمَا ثَبت عَن النَّبِي
صلى الله عليه وسلم َ - أَنه قيل لَهُ: يَا رَسُول الله، قد علمنَا كَيفَ نسلم عَلَيْك فَكيف نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد
…
" الحَدِيث.
نعم إِن ثَبت الْوُجُوب من خَارج فَيكون هَذَا الْأَمر للْوُجُوب؛ لِأَنَّهُ بَيَان لكيفية وَاجِبَة، وَالله أعلم.
قَوْله: {وَالْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كالأمر، قَالَه الشَّيْخ} تَقِيّ الدّين، {وَغَيره} .
هَذِه الْمَسْأَلَة وَقعت بَين الشَّيْخ تَقِيّ الدّين، وَبَين الشَّيْخ ابْن الزملكاني، وَهِي: أَن صِيغَة الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر وَالنَّهْي، هَل يجْرِي فيهمَا الْخلاف الَّذِي فِي الْأَمر وَالنَّهْي فِي كَونهمَا حَقِيقَة فِي الْوُجُوب، وَالتَّحْرِيم وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِمَا أَحْكَام الْأَمر، وَالنَّهْي الصريحين، أم لَا؟
ذكر ابْن دَقِيق الْعِيد فِيهَا احْتِمَالَيْنِ من عِنْده، وَلم يرجح شَيْئا.
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يجْرِي الْخلاف فِي ذَلِك.
قَالَ ابْن الزملكاني: لَا يجْرِي فِيهِ شَيْء من ذَلِك، إِنَّمَا ذَلِك فِي الصِّيغَة الْأَصْلِيَّة، قَالَ: فدعوى خلاف ذَلِك مُكَابَرَة.
وَقَالَ: ويغلط فِي ذَلِك كثير من الْفُقَهَاء، ويغترون بِإِطْلَاق الْأُصُولِيِّينَ، فَيدْخلُونَ فِيهِ كلما أَفَادَ أمرا، أَو نهيا، وَإِن لم يكن فِيهِ الْأَمر، أَو النَّهْي من الْمُحَقق.
وأيد بعض الْعلمَاء قَول الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بقول الْقفال.
وَمن الدَّلِيل على أَن ذَلِك مَعْنَاهُ، وَأَن ذَلِك كُله كالأمر وَالنَّهْي: دُخُول النّسخ فِيهِ إِذْ الْأَخْبَار الْمَحْضَة لَا يدخلهَا النّسخ؛ وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ خَبرا لم يُوجد خِلَافه.
قَالَ: وَمن هَذَا عِنْد أَصْحَابنَا قَوْله تَعَالَى: {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79] ، واستند بَعضهم فِي ذَلِك لقَوْل البيانيين، وَغَيرهم إِن ذَلِك أبلغ من صَرِيح الْأَمر وَالنَّهْي، فَيَنْبَغِي أَن يكون للْوُجُوب قطعا.
وَأجِيب عَن ذَلِك
…
، قَالَ ابْن مُفْلِح فِي " أُصُوله " لما تكلم على الْأَمر: وَظَاهر الْمَسْأَلَة أَن الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر كَذَلِك ك {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يحْتَمل النّدب؛ لِأَنَّهُ إِذن، إِنَّه كالمحقق المستمر. انْتهى.
قَوْله: {وَالنَّهْي بعد الْأَمر للتَّحْرِيم، قَالَه القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، والحلواني، والموفق، والطوفي} ، وَالْأَكْثَر، وَقَالَهُ الْغَزالِيّ فِي " المنخول "، والأستاذ أَبُو إِسْحَاق، والباقلاني، وحكياه إِجْمَاعًا، لَكِن قَالَ أَبُو الْمَعَالِي: مَا أرى الْمُخَالفين فِي الْأَمر بعد الْحَظْر يسلمُونَ ذَلِك. انْتهى.
{وَقَالَ أَبُو الْفرج} الْمَقْدِسِي: {للكراهة} ، فَقَالَ: وَتقدم الْوُجُوب قرينَة فِي أَن النَّهْي بعده للكراهة، وَقطع بِهِ.
وَقَالَهُ القَاضِي، وَأَبُو الْخطاب، ثمَّ سلما أَنه للتَّحْرِيم؛ لِأَنَّهُ آكِد.
وَقَالَ فِي " الرَّوْضَة ": هُوَ لإباحة التّرْك كَقَوْلِه عليه الصلاة والسلام: " وَلَا تتوضأوا من لُحُوم الْغنم "، ثمَّ سلم أَنه للتَّحْرِيم.
وَكَذَا اخْتَار ابْن عقيل: يَقْتَضِي إِسْقَاط مَا أوجبه الْأَمر، وَأَنه وزان الْإِبَاحَة بعد الْحَظْر؛ لإخراجهما عَن جَمِيع أقسامهما.
وَغلط مَا حَكَاهُ قَول أَصْحَابنَا للتنزيه فضلا عَن التَّحْرِيم، وَقَالَ: تأكده لَا يزِيد على مُقْتَضى الْأَمر، وَقد جعلُوا تقدم الْحَظْر قرينَة.
{وَقيل: للْإِبَاحَة} ، كالقول فِي مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى:{إِن سَأَلتك عَن شَيْء بعْدهَا فَلَا تُصَاحِبنِي} [الْكَهْف: 76] .
ووقف أَبُو الْمَعَالِي لتعارض الْأَدِلَّة، كَمَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر، فعلى الأول - وَهُوَ الصَّحِيح - وَقَول الْجُمْهُور، وَفرق بَينه وَبَين الْأَمر بأوجه:
أَحدهَا: أَن مُقْتَضى النَّهْي وَهُوَ التّرْك مُوَافق للْأَصْل بِخِلَاف مُقْتَضى الْأَمر وَهُوَ الْفِعْل.
الثَّانِي: أَن النَّهْي لدفع مفْسدَة الْمنْهِي عَنهُ، وَالْأَمر لتَحْصِيل مصلحَة الْمَأْمُور بِهِ، واعتناء الشَّارِع بِدفع الْمَفَاسِد أَشد من جلب الْمصَالح.
الثَّالِث: أَن القَوْل بِالْإِبَاحَةِ فِي الْأَمر بعد التَّحْرِيم سَببه وُرُوده فِي الْقُرْآن وَالسّنة كثيرا للْإِبَاحَة، وَهَذَا غير مَوْجُود فِي النَّهْي بعد الْوُجُوب. انْتهى.
وَترْجم الْبرمَاوِيّ الْمَسْأَلَة بِأَن صِيغَة النَّهْي إِذا وَردت فِي شَيْء قد كَانَ وَاجِبا إِلَى حِين وُرُودهَا، هَل يكون سبق الْوُجُوب قرينَة تبين أَن النَّهْي خرج عَن حَقِيقَته - وَهُوَ التَّحْرِيم - أَو لَا؟
وَهِي مَبْنِيَّة على مَسْأَلَة الْأَمر بعد الْحَظْر.
إِن قُلْنَا: يسْتَمر على الْوُجُوب فَهُنَا يسْتَمر على التَّحْرِيم من بَاب أولى، وَإِن قُلْنَا هُنَاكَ قرينَة فَهُنَا طَرِيقَانِ:
أَحدهمَا: الْقطع بِعَدَمِ كَون الْوُجُوب السَّابِق قرينَة صارفة عَن التَّحْرِيم.
وَالثَّانِي: طرد مَا يُمكن طرده من خلاف الْأَمر كالقول بِأَنَّهُ للْإِبَاحَة. وَمِنْهُم من قَالَ هُنَا: إِنَّه للكراهة، وَمِنْهُم من قَالَ: لدفع الْوُجُوب فَيكون نسخا، وَيعود الْأَمر إِلَى مَا كَانَ قبله. انْتهى.