الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للصلاة، فتآمروا أن يتخذوا ناقوسا أو قرنا أو بوقا أو نارا فكرهوا ذلك؛ لما فيه من موافقة اليهود والنصارى والمجوس، فقال عمر رضي الله عنه: أولا تبعثون رجلا ينادي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا بلال؛ قم فناد بالصلاة» (1).
وظاهر هذا أنه مجرد إعلام ليس على صفة الأذان المشروع، ثم رأى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في منامه واحدا معه ناقوسا، فقال له: ألا تبيع هذا، فقال: وما تريد به؟ ! قال:
الإعلام بالصلاة، فقال: أولا أدلّك على خير من ذلك؟ إذا أردت الإعلام بدخول وقت الصلاة .. فقل: الله أكبر، الله أكبر
…
إلى آخر الأذان المعروف، ثم قال له: وإذا أردت القيام .. فقل: الله أكبر، الله أكبر
…
الإقامة إلى آخرها.
فأخبر عبد الله بن زيد النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقيه على بلال؛ لأنه أندى منه صوتا-أي: أرفع، وقيل: أحسن-فلما سمع عمر رضي الله عنه أذان بلال .. خرج يجر ثوبه، قال: والذي بعثك بالحق نبيا؛ لقد رأيت مثل الذي رأى، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنها لرؤيا حق» (2).
قال النووي رحمه الله تعالى: (ولا خلاف أن هذا ليس عملا بمجرد المنام، بل شرعه النبي صلى الله عليه وسلم إما بوحي وإما باجتهاده على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم (3).
وفيها: أسلم عبد الله بن سلام الإسرائيلي وسلمان الفارسي، ومات من رؤساء الأنصار: أسعد بن زرارة والبراء بن معرور نقيبان، وكلثوم بن الهدم، ومن صناديد المشركين: العاصي بن وائل، والوليد بن المغيرة.
***
وفي السنة الثانية من الهجرة
: في شعبان، وقيل: رجب على رأس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر: حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم زار امرأة من بني سلمة، يقال لها: أم بشر، فصنعت لهم طعاما، فحانت صلاة الظهر، فصلى بهم صلى الله عليه وسلم، فأنزل عليه وهو راكع في الثانية قوله تعالى:{قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها} الآية، فاستدار صلى الله عليه وسلم واستدارت الصفوف
(1) أخرجه البخاري (604)، ومسلم (377).
(2)
أخرجه ابن خزيمة (371)، وابن حبان (1679)، وأبو داود (500)، والترمذي (189)، وأحمد (4/ 43).
(3)
«شرح مسلم» (4/ 76).
خلفه، ثم صلّى ما بقي من صلاته إلى الكعبة، ولم يستأنف، فسمّي ذلك المسجد: مسجد القبلتين، وأخبر أهل قباء في صلاة الصبح، فاستداروا كما هم إلى الكعبة (1)، وهو أول منسوخ من أمور الشرع.
وفي شعبان أيضا: فرض صيام رمضان، وفرضت صدقة الفطر.
وفي شوال منها: دخل صلى الله عليه وسلم بعائشة وهي بنت تسع سنين، وكان قد عقد بها قبل ذلك بمكة وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع سنين.
وفي صفر منها: تزوج علي بفاطمة رضي الله عنهما ولها يومئذ خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وقيل: ثماني عشرة، ولعلي يومئذ إحدى وعشرون سنة، ودخل بها في ذي الحجة بعد وقعة أحد.
وفيها: أسلم العباس رضي الله عنه بعد أن فادى نفسه وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان قد أسر الثلاثة.
وفي صفر منها-كما قال ابن إسحاق: غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ودّان يريد قريش (2) وبني ضمرة من كنانة، فوادعه مخشي بن عمرو الضّمري ورجع، وهي أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وتسمى أيضا:
غزوة الأبواء (3).
وفيها: سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وهي أول راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم (4)، قيل: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة، وكان عددهم ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، وليس فيهم أنصاري، فلقوا جمعا من قريش بالحجاز، فلم يكن منهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله، ثم انصرفوا وللمسلمين حامية، وفر إلى المسلمين يومئذ المقداد بن عمرو البهراني، وعتبة بن غزوان وكان من المستضعفين بمكة،
(1) أخرجه البخاري (399)، ومسلم (525).
(2)
كذا في الأصول، وعند ابن هشام وغيره:(قريشا)، والصواب ما أثبته المصنف، قال الجوهري في «الصحاح» (3/ 853):(فإن أردت بقريش الحيّ .. صرفته، وإن أردت به القبيلة .. لم تصرفه) والمراد هنا-كما هو ظاهر-: قبيلة قريش، والله أعلم.
(3)
انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 591).
(4)
تقدم في ترجمة (عبيدة بن الحارث) الخلاف في كون سريته أول لواء عقده، فانظره (1/ 45).
وكان يومئذ على المشركين عكرمة بن أبي جهل، وقيل: مكرز بن حفص.
قلت: وقد تقدم في ترجمة عبيدة المذكور: كان على المشركين يومئذ أبو سفيان بن حرب (1)، كما هو مقرر في «سيرة مغلطاي» وغيرها (2)، والله سبحانه أعلم.
وفيها: سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين، فلقي أبا جهل في ذلك الساحل في ثلاث مائة راكب، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا للفريقين، وقيل: إن سرية حمزة كانت في السنة الأولى من الهجرة.
وفي ربيع الأول منها: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواط من ناحية رضوى، واستعمل على المدينة السائب بن مظعون (3).
قال البكري: (وإليها انتهى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا)(4).
ولما رجع منها .. أقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى، ثم غزا العشيرة في خمسين ومائة (5) -وقيل: في مائتين-من المهاجرين على ثلاثين بعيرا يعتقبونها-وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان اللواء أبيض، واستخلف أبا سلمة المخزومي على المدينة-يطلب عيرا لقريش صادرة إلى الشام، وهي التي كانت وقعة بدر بسببها حين رجعت من الشام، فبلغ ذا العشيرة من بطن ينبع-وبين المدينة وينبع تسعة برد-فوجد العير قد مضت إلى الشام قبل ذلك بأيام، فوادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع ولم يلق كيدا.
وما في «صحيح البخاري» عن زيد بن أرقم: أن غزاة ذي العشيرة أول الغزوات (6) ..
هو خلاف المشهور عن أهل النقل (7).
(1) انظر (1/ 45).
(2)
انظر: «الإشارة إلى سيرة المصطفى» (ص 188).
(3)
كذا ذكره السهيلي في «الروض الأنف» (5/ 47)، وفرّق بينه وبين السائب بن عثمان، والذي ذكره ابن هشام في «السيرة» (2/ 598) هو السائب بن عثمان بن مظعون، وذكر ابن سعد في «الطبقات» (2/ 8) والصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (4/ 27): أن الذي استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم هو سعد بن معاذ، وذكر الصالحي قول السهيلي وقال:(فيه نظر؛ لأن الموجود في نسخة «السيرة»: السائب بن عثمان بن مظعون) اهـ، والله أعلم.
(4)
«معجم ما استعجم» (1/ 283).
(5)
العشيرة: قال مغلطاي في «السيرة» (192): (موضع لبني مدلج بناحية ينبع).
(6)
«صحيح البخاري» (3949).
(7)
قال الحافظ في «الفتح» (7/ 280): (ففات زيد بن أرقم ذكر ثنتين منها، ولعلهما الأبواء وبواط، وكأن ذلك خفي-
ثم أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة (1)، فخرج صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى انتهى إلى واد يقال له: سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، وتسمى: بدرا الأولى.
وفي مرجعه من ذلك: بعث ابن عمته عبد الله بن جحش الأسدي في ثمانية رهط من المهاجرين، وكتب لهم كتابا أمره فيه: أن ينزل بطن نخلة بين مكة والطائف، فيرصد بها عير قريش، ولا يستكره أحدا من الصحابة، وقال له:«لا تفتح الكتاب حتى تسير يومين» ، فمضى عبد الله ومعه أصحابه لم يتخلّف منهم أحد إلا سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، تخلّفا فوق الفرع (2) -بالمهملة-في طلب بعير لهما أضلاه (3).
ولمّا نزلوا نخلة .. مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه، فقتلوا ابن الحضرمي، وأسروا اثنين، وفر واحد، وذلك في آخر جمادى، وكانوا يظنون أنه من جمادى وهو من رجب، وكان ذلك أول قتل وأسر في المشركين، وأول غنيمة في الإسلام، فقال المشركون: قد استحل محمد الشهر الحرام، وعيّروا المسلمين بذلك، فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف العير والأسيرين حتى نزل قوله تعالى:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة، ووقف الأسيرين حتى قدم سعد وصاحبه، وفاداهم.
وفي رمضان منها: كانت الملحمة العظمى التي أعز الله بها الإسلام، وأذل أهل الأصنام، وهي غزوة بدر الكبرى، وتلخيص ذلك على ما ذكر ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم لمّا سمع بأبي سفيان صخر بن حرب خرج في تجارة إلى الشام معه ثلاثون أو أربعون رجلا .. خرج في طلبها، فلما فاتته في ذهابها .. طمع بها في إيابها، وجعل العيون
= عليه لصغره)، وقد فات المصنف هنا ذكر سرية سيدنا سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار، وقد ذكرها في ملخص السيرة النبوية، وأنها في هذه السنة، وذكرنا هناك ما في تاريخ حدوثها من خلاف، فانظره (1/ 128).
(1)
السّرح: الإبل والمواشي التي تسرح للرعي.
(2)
الفرع: من أضخم أعراض المدينة على طريق مكة، بينها وبين المدينة ثمانية برد، أي: ما يقرب من (150 كم)، وهي بضم الفاء وسكون الراء وبالعين المهملة، كما ذكر ياقوت الحموي في «معجم البلدان» (4/ 252)، والصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (6/ 34)، وضبطها الحافظ في «الفتح» (4/ 33) وغيره بضم الأول والثاني.
(3)
أخرجه البيهقي (9/ 58).
عليها، فجاءه عينه بسبسة (1) بن عمرو الجهني بخبرها، فخرج صلى الله عليه وسلم بمن خف معه من المسلمين في ثلاث مائة وثلاث أو أربع عشرة رجلا-عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن-المهاجرون منهم ثلاثة وثمانون رجلا، وبقيتهم من الأنصار؛ من الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مائة وسبعون-وعدّ منهم من ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه وأجره ولم يحضرها كعثمان بن عفان-ومعهم ثمانون بعيرا يعتقبونها، وفرس واحد للمقداد ابن الأسود، قيل: وفرسان آخران للزبير ومرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنهم (2)، واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة، وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، ودفع لواءه-وكان أبيض-إلى مصعب بن عمير العبدري، وكان له رايتان سوداوان: إحداهما بيد علي، والأخرى بيد رجل من الأنصار رضي الله عنهم.
ولما قارب أبو سفيان الحجاز .. اشتد خوفه، وجعل يتحسس الأخبار، فلما أخبر بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم .. بعث إلى قريش يستنفرهم، فأوعبت قريش في الخروج (3)، فلم يتخلف من بطونها أحد إلا بنو عدي، ولا من أشرافها إلا أن أبا لهب استأجر مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة.
فلما كان صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق وصحّ له نفير قريش .. استشار أصحابه في طلب العير وحرب النفير، وكانت العير أحب إليهم كما قال الله تعالى:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ، } فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم عمر كذلك، ثم المقداد فأحسن القول وقال: لا نقول يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، بل إنا معك مقاتلون، وهو في كل ذلك يقول:«أشيروا علي» ، وإنما يريد الأنصار؛ لأنهم العدد الكثير، وكان يتخوّف منهم أنهم لا يرون نصرته إلا على من دهمه بالمدينة كما هو في أصل بيعتهم ليلة العقبة، فقام سعد بن عبادة (4) فقال: إيانا
(1) بسبسة: بموحدتين مفتوحتين بينهما سين مهملة ساكنة ثم أخرى آخره مفتوحة، قال النووي في «شرح مسلم» (13/ 44):(هو في جميع النسخ: بسيسة، بباء موحدة مضمومة فسين مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فسين أخرى كذلك، والمعروف في كتب السير بموحدتين بينهما سين ساكنة) والله أعلم. انظر «سبل الهدى والرشاد» (4/ 139).
(2)
واسم أبي مرثد: كنّاز بن حصين.
(3)
أوعبت؛ أي: خرجت بأجمعها إلى العدو.
(4)
كذا في الأصول، وهو موافق لما في «صحيح مسلم» (1779)، و «صحيح ابن حبان» (4722)، وغيرهما، وفي «سيرة ابن هشام» (2/ 615)، و «طبقات ابن سعد» (2/ 13)، و «عيون الأثر» (1/ 298)، و «سبل الهدى-
تريد يا رسول الله؛ والذي نفسي بيده؛ لو أمرتنا أن نخيضها البحر .. لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب بأكبادها إلى برك الغماد (1) .. لفعلنا، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ونشّطه، ثم قال:«سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا؛ فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله؛ لكأني انظر الآن إلى مصارع القوم» (2).
ولما نزل صلى الله عليه وسلم ببدر .. كان بالعدوة الدنيا؛ وهي: شفير الوادي الأدنى إلى المدينة، وكان المشركون بالعدوة القصوى؛ وهي: شفير الوادي الأقصى من المدينة، وكان الركب-وهو عير أبي سفيان حينئذ-أسفل منهم إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر، ولا علم عند أحد منهم بالآخر، وقد حجب الوادي بينهم، فوردت عليه روايا قريش (3) وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن أبي سفيان وأصحابه، فقال: لا علم لي بأبي سفيان، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأميّة بن خلف في الناس، فإذا قال ذلك .. ضربوه، فإذا أوجعه الضرب ..
قال: أنا أخبركم: هذا أبو سفيان، فإذا تركوه وسألوه .. قال: مالي بأبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك .. انصرف وقال:«والذي نفسي بيده؛ لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم» (4)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» (5).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل بدرا .. نزل على أدنى ماء إلى العدو، وترك المياه كلها خلفه بمشورة الحباب بن المنذر، وبني له عريش يستظل فيه بمشورة
= والرشاد» (4/ 42) وغيرهم: (سعد بن معاذ)، قال الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 82) في سياق حديث غزوة بدر:(فقام سعد بن عبادة-كذا قال-والمعروف سعد بن معاذ) اهـ، كما أن سعد بن عبادة ممن اختلف في حضوره بدرا وإن رجّح البخاري حضوره، قال العلامة الأشخر في «شرح البهجة» (1/ 181):(وجمع بينهما بأنهما قالا ذلك يومئذ) فلينظر، والله أعلم.
(1)
برك الغماد: موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر، وقيل: بلد باليمن، وقيل: موضع في أقاصي أرض هجر، وقيل: برك الغماد وسعفات هجر كناية، يقال فيما تباعد، وهو الأرجح، والله أعلم. انظر «معجم البلدان» (1/ 399)، و «شرح مسلم» للإمام النووي (12/ 125).
(2)
أخرجه مسلم (1779)، وابن حبان (4722)، وغيرهما.
(3)
الروايا-جمع راوية-وهي: الإبل التي يستقى عليها الماء.
(4)
سبق تخريجه، انظر تخريج الحديث السابق.
(5)
أخرجه الطبري في «تاريخه» (2/ 437).
سعد بن معاذ، فلما أصبحت قريش .. ارتحلت، فلما رآها صلى الله عليه وسلم تصوّب من العقنقل-وهو الكثيب الذي هبطوا منه إلى الوادي- .. قال:«اللهم؛ هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخارها تحادّك وتكذّب رسلك، اللهم؛ فنصرك الذي وعدتني، اللهم؛ أحنهم الغداة (1)، اللهم؛ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام .. لا تعبد في الأرض» ، وما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال:
حسبك يا رسول الله؛ فقد ألححت على ربك، وهو في الدرع، فخرج وهو يقول:
وفي «صحيح مسلم» أنه صلى الله عليه وسلم قال: «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض ههنا وههنا، فما ماط أحد من موضع يده صلى الله عليه وسلم (3)، ثم عدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف وقال لأصحابه:«لا تحملوا حتى آمركم» ، وقال:«إذا كثبوكم-أي: قاربوكم- .. فعليكم بالنبل، واستبقوا نبلكم» (4)، ثم رجع العريش ومعه أبو بكر، فخفق خفقة (5)، ثم انتبه فقال:«يا أبا بكر؛ أتاك نصر الله؛ هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النّقع» (6).
وكان عدد المشركين ما بين التسع مائة والألف، ومعهم ثمانون فرسا، فلما تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض .. قال أبو جهل-لعنه الله-: اللهم؛ أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه (7).
فبرز من الصف شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وولده الوليد بن عتبة يطلبون البراز، وهم في الحديد لا يرى إلا أعينهم، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار كذلك أيضا لا يرى إلا أعينهم.
فقال القرشيون لهم: من أنتم؟ فسموا أنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، لكنا لا نريد إلا
(1) أحنهم؛ أي: أهلكهم، والحين: الهلاك.
(2)
أخرجه البخاري (2915)، والنسائي في «الكبرى» (11493)، والبيهقي (9/ 46)، وأحمد (1/ 329) كلهم مختصرا، وهو عند ابن هشام في «سيرته» (2/ 621) عن ابن إسحاق، والله أعلم.
(3)
«صحيح مسلم» (1779).
(4)
أخرجه البخاري (2900)، والحاكم (2/ 96)، وأبو داود (2656)، وأحمد (3/ 498) وغيرهم.
(5)
خفق: نام نوما يسيرا.
(6)
ذكره ابن هشام في «السيرة» (2/ 627)، والنقع: الغبار.
(7)
لكون الوصف الذي دعا على صاحبه به إنما هو وصفه لا غير.
من قومنا، فبرز إليهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فأما حمزة وعلي فما أمهلا صاحبيهما، واختلف الوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، فكرّ حمزة وعلي على عتبة فذفّفاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، وآخر ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى ورماهم بها، وقال لأصحابه:«شدوا» ، فكانت الهزيمة (1)، فقتلوا من الكفار سبعين، وأسروا سبعين، وقتل من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من أمرهم أسرا وقتلا .. أمر بأربعة وعشرين رجلا منهم فقذفوا بالقليب قليب بدر؛ وهي: بئر غير مطوية، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أغار على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث .. أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، واتبعه أصحابه وقالوا:
ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الرّكيّ (2)، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ويقول:«أيسرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ » ، فقال عمر: ما تكلم يا رسول الله من أجساد لا أرواح فيها؟ ! فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده؛ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (3).
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله؛ توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندامة.
وروي: أنه صلى الله عليه وسلم قيل له بعد الهزيمة: هذه العير ليس دونها شيء، فانهض في طلبها، فناداه عمه العباس وهو أسير: لا يصلح لك ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ولم ذلك؟ » قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدقت» (4).
وبعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة؛ يبشران أهل المدينة، قال أسامة بن زيد: أتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقيّة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما كان بمضيق
(1) أخرجه الطبري بسنده في «التاريخ» (2/ 449).
(2)
الشفير: الحرف والطرف، والرّكي: البئر قبل أن تطوى، أي: قبل أن تبنى بالحجارة.
(3)
أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2873).
(4)
أخرجه الحاكم (2/ 3027)، والترمذي (3080)، وأحمد (1/ 228)، وأبو يعلى (2373)، وغيرهم.
الصّفراء (1) .. قسّم النّفل-أي: الغنيمة-وأمر بقتل النضر بن الحارث بالصفراء، وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط بعرق الظّبية (2)، فلما كان صلى الله عليه وسلم بالروحاء .. لقيه المسلمون يهنّئونه، ودخل المدينة قبل الأسرى بيوم، ولما قدم بالأسارى .. فرّقهم بين أصحابه وقال:«استوصوا بهم خيرا» (3)، واستمر فداؤهم على أربعة آلاف درهم، ومنهم من نقص عنه، ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعضهم بغير فداء.
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة سابع عشر شهر رمضان، على رأس سنة وثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة من الهجرة، وسمي يوم بدر باسم المكان الذي جرت فيه الوقعة؛ وهو ماء معروف وقرية عامرة على نحو أربع مراحل من المدينة.
قال ابن قتيبة: (وهي بئر لرجل يسمى: بدرا، سميت باسمه)(4).
ومن أسمائه في كتاب الله العزيز: يوم الفرقان؛ وهو يوم التقى الجمعان، ويوم اللزام، ويوم البطشة الكبرى.
وفي هذه السنة بعد بدر: غزوة بني قينقاع يهود المدينة (5)، رهط عبد الله بن سلام، وكانوا أول ناقض للعهد من اليهود، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فوهبهم في أنفسهم لحليفهم عبد الله بن أبي، وأخذ أموالهم، وكان لعبادة بن الصامت منهم من الحلف مثل ما لعبد الله بن أبي، فتبرأ منهم، قيل: نزل فيه وفي عبد الله بن أبي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} الآية.
وبعد بدر غزوة السّويق (6)، وسببها: أن أبا سفيان بن حرب بعد بدر حلف ألاّ يمسّ رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا، فخرج في مائتي راكب، فلما كان على بريد من المدينة .. خرج في الليل حتى أتى حييّ بن أخطب، فضرب بابه، فخافه وأبى أن يخرج
(1) الصفراء: واد بناحية المدينة.
(2)
الظّبية: هي من الروحاء على ثمانية أميال مما يلي المدينة.
(3)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (22/ 393)، والطبري في «التاريخ» (2/ 460).
(4)
«المعارف» (ص 152).
(5)
كذا في «طبقات ابن سعد» (2/ 26)، و «تاريخ الطبري» (2/ 479)، و «المنتظم» (2/ 240)، وغيرهم، ورجح الذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 145): أنها في الثالثة، وتبعه في ذلك ابن كثير في «البداية والنهاية» (4/ 376)، والله أعلم.
(6)
كذا في «طبقات ابن سعد» (2/ 27)، و «تاريخ الطبري» (2/ 283)، وغيرهما، وخالف ابن الجوزي في «المنتظم» (2/ 259) فجعلها في الثالثة.
إليه، فانصرف إلى سلاّم بن مشكم اليهودي، فأطعمه وسقاه وحادثه بالأخبار، ثم خرج عنه، فأتى أصحابه، فبعث رجالا منهم، فوجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما، فقتلوهما، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، واستعمل على المدينة أبا لبابة الأنصاري، وانتهى صلى الله عليه وسلم إلى قرقرة الكدر (1)، وفاته أبو سفيان، وقد كان صلى الله عليه وسلم أصاب أزوادا كثيرة طرحها أبو سفيان وأصحابه يتخففون عنها، أكثرها السويق، ولذلك سميت غزوة السّويق.
وبعد بدر أيضا: غزا صلى الله عليه وسلم بني سليم بالكدر على ثمانية برد من المدينة، فاستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم مع علي رضي الله عنه، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم خمس مائة بعير، قسّم أربع مائة منها على الغانمين، أصاب كل واحد بعيرين، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم مائة بعير، وكانت مدة غيبته عن المدينة خمس عشرة ليلة.
وبعد بدر أيضا: كانت غزوة ذي أمرّ (2)؛ وهي غزوة أنمار بنجد، يريد صلى الله عليه وسلم غطفان، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وأقام صلى الله عليه وسلم بنجد شهرا، ثم رجع من غير قتال، ومنها كانت سرية زيد بن حارثة، وذلك: أن قريشا بعد بدر تجنبوا طريق الشام، وسلكوا طريق العراق، فبعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فلقي أبا سفيان في رفقة يحملون تجارة فيها فضة كثيرة، فغنم زيد ما في العير، وأعجزه الرجال هربا، ففي ذلك قال حسان يعيّر قريشا بأخذهم تلك الطرائق:[من الطويل]
دعوا فلجات الشام قد حال دونها
…
جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدي رجال هاجروا نحو ربّهم
…
وأنصاره حقا وأيدي الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج
…
فقولا لها: ليس الطريق هنالك (3)
(1) القرقرة-على وزن حيدرة-: الأرض المطمئنة اللينة، والكدر: تقدم ضبطها بفتح الكاف وضمها وسكون الدال المعجمة.
(2)
ذكر الطبري في «التاريخ» (2/ 487)، وابن الجوزي في «المنتظم» (2/ 260)، والذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 143)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (4/ 375) وغيرهم: أنها كانت في السنة الثالثة، والله أعلم.
(3)
الفلجات-جميع فلجة-وهي: العين الجارية والوادي، والجلاد: المجالدة في الحرب، والمخاض-جمع ماخض- وهي: الإبل الحوامل، والأوارك: الإبل التي ترعى شجر الأراك، والغور: المنخفض من الأرض، وعالج: اسم موضع رملي في الصحراء.
قال الحافظ أبو زكريا العامري: (وفي هذه السنة: ذكر ابن إسحاق قتل كعب بن الأشرف الطائي وأمه من بني النضير، وذكره غير واحد في الثالثة قبيل غزوة بني النّضير (1)، وكان من حديثه: لما نصر الله نبيه ببدر .. اشتد حسده وبغضه، فقدم مكة فجعل يحرضهم ويرثي من قتل منهم، ثم رجع المدينة فشبّب بنساء المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم:
«من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله» ، فقال محمد بن مسلمة الأنصاري:
أتحب يا رسول الله أن أقتله؟ قال: «نعم» ، قال: فأذن لي أن أقول شيئا، قال:
«قل» ، فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنّانا، وإني آتيك أستسلفك، قال: وأيضا والله؛ لتملّنّه، قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أيّ شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين، قال: نعم، أرهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ ! قال: أرهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسبّ أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ ! هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللّأمة-يعني: السلاح-فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة-وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاعة-وأبو عبس بن جبر والحارث ابن أوس وعبّاد بن بشر، فلما دعوه .. قالت امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ ! وقالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، فقال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة؛ إن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل .. لأجاب، فنزل إليهم متوشّحا ينفح منه ريح الطيب، فقال محمد بن مسلمة: ما رأيت كاليوم ريحا؛ أي: أطيب، قال: عندي أعطر النساء، قال: أتأذن لي أن أشم رأسك، قال: نعم، فشمه، ثم أشمّ أصحابه، ثم قال: أتأذن لي، قال: نعم، فلما استمكن منه .. قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه (2).
وذكر ابن إسحاق بعده قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق اليهودي تاجر أهل الحجاز (3)، وكان بخيبر، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه، فبعث
(1) ذكره في السنة الثالثة كلّ من ابن سعد في «الطبقات» (2/ 28)، والطبري في «التاريخ» (2/ 487)، وابن الجوزي في «المنتظم» (2/ 261)، وابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (2/ 34)، والذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 157)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (4/ 379)، وغيرهم، وهو الراجح، والله أعلم.
(2)
أخرجه البخاري (4037)، ومسلم (1801).
(3)
ذكر المؤلف هنا قتل ابن أبي الحقيق بعد ذكره قتل ابن الأشرف تبعا لابن إسحاق .. يوهم أن قتله كان في السنة الثانية أيضا، وليس كذلك؛ فقد ذكر ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» (2/ 37): أن قتله كان في الثالثة، وذكر الواقدي في «المغازي» (1/ 391): أن قتله كان في الرابعة، وذكر ابن سعد في «الطبقات» (2/ 87)، وابن الجوزي في-
النبي صلى الله عليه وسلم لقتله رجالا من الأنصار، وأمّر عليهم عبد الله بن عتيك، فدنوا من حصنه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، فدخل عبد الله مع آخر من دخل من أهل الحصن، فكمن داخل الباب، وأبصر المفاتيح حيث وضعت، فلما هدأت الأصوات .. قام وأخذ المفاتيح، وجعل يفتح الأبواب بابا بابا، فكلما فتح بابا .. أغلقه عليه، قال:
قلت: إن القوم نذروا بي .. لم يخلصوا إلى حتى أقتله، قال: فانتهيت إليه وهو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، قلت: أبا رافع؛ قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فضربته ضربة بالسيف وأنا دهش فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ ! فقال: لأمّك الويل؛ إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة وقعت منها على الأرض، فانكسرت رجلي، فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك .. قام الناعي على السور، فانطلقت إلى أصحابي، فقلت:
النجاء؛ فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثته؛ فقال:
«ابسط رجلك» ، فبسطت رجلي، فمسحها، فكأني لم أشتكها قط (1).
قال ابن إسحاق عقيب ذكره لقتل كعب بن الأشرف: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ظفرتم به من رجال يهود .. فاقتلوه» ، فوثب محيصة بن مسعود على رجل من تجار يهود كان يلابسهم فقتله، فجعل حويصة يضربه ويقول: أي عدو الله؛ أقتلته؟ أما والله؛ لربّ شحم في بطنك من ماله، فقال محيصة: والله؛ لقد أمرني بقتله من لو أمرني
= «المنتظم» (2/ 342)، والذهبي في «تاريخ الإسلام» (2/ 341): أنه كان في السادسة، وقد ذكر هذه الأقوال الحافظ في «فتح الباري» (7/ 342) في شرح حديث قتله، لكن لم يذكر أحد أن قتله كان في السنة الثانية، والراجح في ذلك: أنه كان في السادسة، والله أعلم.
(1)
أخرجه البخاري (4039)، والبيهقي (9/ 80). بسرحهم؛ أي: بمواشيهم، وكمن: اختفى، ونذروا: علموا، وأمكث: ذكره بلفظ المضارع مبالغة لاستحضار صورة الحال وإن كان ذلك قد مضى، وضبيب: بضاد معجمة مفتوحة وموحدتين على وزن رغيف، قال الخطابي: هكذا يروى، وما أراه محفوظا، وإنما هو ظبّة السيف، وهو حرف حدّ السيف ويجمع على ظبات، والضبيب لا معنى له هنا؛ لأنه سيلان الدم من الفم، قال عياض: هو في رواية أبي ذر بالصاد المهملة، وكذا ذكره الحربي وقال: أظنه طرفه، وفي غير رواية أبي ذر بالمعجمة، وهو طرف السيف، انظر «فتح الباري» (7/ 344).