الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقتلك .. لضربت عنقك، قال: والله؛ إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة (1)) (2).
وفيها: مات عثمان بن مظعون.
وفيها: ولد عبد الله بن الزبير، والنعمان بن بشير.
***
وفي السنة الثالثة
: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر رضي الله عنها.
وفيها: تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أمّ المساكين-رضي الله عنها-في رمضان على ما ذكره اليافعي في «تاريخه» (3).
قلت: وذكر ذلك مغلطاي أيضا في «مختصره» (4)، والله أعلم.
فلبثت معه شهرين أو ثلاثة وماتت.
وفيها: تزوج عثمان أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أختها رقيّة.
وفي منتصف رمضان: ولد الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وفيها: بعد أحد حرّمت الخمر.
وفيها: كانت وقعة أحد التي خصّ الله فيها المؤمنين، وختم لسبعين منهم بالشهادة.
وكان من حديث أحد: أن أبا سفيان بن حرب وأولاد من قتل ببدر تحاشدوا بينهم، وأنفقوا الأموال في طلب الثأر بمن أصيب منهم ببدر، وخرجوا لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم بظعنهم ومن أطاعهم من الأحابيش وكنانة، حتى نزلوا بأحد شاميّ (5) المدينة إلى جهة المشرق قليلا، على ثلاثة أميال أو نحوها من المدينة، وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس، وكان على خيلهم خالد بن الوليد، فلما علم بهم صلى الله عليه وسلم .. استشار أصحابه في الخروج إليهم أو الإقامة، وقال لهم:«إني رأيت في منامي أن في سيفي ثلمة، وأن بقرا لي تذبح، وأني أدخلت يدي في درع حصينة» ، وتأولها أن نفرا من أصحابه
(1) أخرجه أبو داود (2995)، والطبراني في «الكبير» (20/ 311)، والطبري في «تاريخه» (2/ 490).
(2)
«بهجة المحافل» (191/ 1 - 194)، وانظر «سيرة ابن هشام» (51/ 3، 58، 273).
(3)
انظر «مرآة الجنان» (1/ 7).
(4)
انظر «الإشارة إلى سيرة المصطفى» (228).
(5)
أي: من جهة الشام بالنسبة للمدينة.
يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة، ثم قال: «فإن رأيتم أن تقيموا بها وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا .. أقاموا بشر مقام، وإن دخلوها ..
قاتلناهم فيها» (1)، فاختلفت آراؤهم في ذلك، فرأى جماعة-منهم: عبد الله بن أبي وكان قد أظهر الإسلام-الإقامة بالمدينة، ورأى جماعة-منهم: من قضى الله لهم بالشهادة، وغيرهم-الخروج إليهم، حتى غلب رأي من أحب الخروج، فدخل صلى الله عليه وسلم، فلبس لأمته وخرج عليهم، فوجدهم قد رجّحوا رأي القعود، فأبى عليهم وقال:«ما ينبغي للنبي إذا ليس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» (2)، فسار بهم وذلك بعد أن صلّى بهم الجمعة، وصلّى على مالك بن عمرو أخي بني النجار وكان توفي ذلك اليوم، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فخرج من المدينة في نحو ألف، فلما بلغوا الشّوط (3) .. انخزل عبد الله بن أبي المنافق بثلث الناس أنفة أن خولف رأيه في القعود، فهمّ بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالرجوع والفشل، فتولاهم الله وثبتهم كما قال الله تعالى:{إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما، } قال جابر رضي الله عنه: وفينا نزلت وما أحب أنها لم تنزل؛ لقوله تعالى: {وَاللهُ وَلِيُّهُما} (4)، ونزل صلى الله عليه وسلم بالشعب من أحد على شفير وادي قناة، وجعل ظهره إلى أحد، ورتب أصحابه وبوأهم مقاعد للقتال، وكانوا مشاة فجعل عبد الله بن جبير أخا خوّات بن جبير على الرماة، وهم خمسون رجلا، وأقعدهم على جبل عينين (5)، وقال لهم:«لا تبرحوا مكانكم إن غلبنا أو غلبنا» (6)، وظاهر صلى الله عليه وسلم بين درعين (7)، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وتعبأت قريش، وجعلوا على ميمنتهم وخيلهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، وقال أبو سفيان لبني عبد الدار-وكان إليهم لواء قريش-: إنكم وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم،
(1) حديث الرؤيا أخرجه الحاكم (2/ 128)، والنسائي في «الكبرى» (7600)، والبيهقي (7/ 41)، وأحمد (3/ 351)، وأصله في «الصحيحين» عند البخاري (3622)، ومسلم (2272).
(2)
أخرجه البخاري معلقا في (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة) باب: قول الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وعبد الرزاق (9735) من حديث طويل.
(3)
الشّوط: بستان عند جبل أحد بالمدينة.
(4)
أخرجه البخاري (4051)، ومسلم (2505).
(5)
عينين-بفتح المهملة وكسرها، تثنية عين-: جبل صغير بأحد.
(6)
أخرجه البخاري (3039)، وابن حبان (4738) وغيرهما.
(7)
أخرجه أبو داود (2583)، والنسائي في «الكبرى» (8529)، وابن ماجه (2806)، وأحمد (3/ 449)، وظاهر بين درعين؛ أي: لبس إحداهما فوق الأخرى.
وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم؛ إذا زالت .. زالوا، وكانت قريش قد سرحت رواعيها في زرع الأنصار بقناة (1)، فحميت الأنصار لذلك، فحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين، فهزموهم حتى قال البراء بن عازب رضي الله عنهما: رأيت النساء- يعني: هندا وصواحبها-يشددن في الجبل هربا رفعن عن سوقهن حتى بدت خلاخلهن، فقال الرماة-أصحاب عبد الله بن جبير-: الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون (2)؟ فأقبلوا على الغنيمة، وثبت عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة، فلما رأى خالد بن الوليد ذلك ورأى ظهور المسلمين خالية من الرماة .. صاح في خيله، فحملوا على بقية الرماة، ثم أتى المسلمين من خلفهم، وجالت الريح فصارت دبورا بعد أن كانت صبا (3)، وصرخ إبليس- لعنه الله-ألا إن محمدا قد قتل فانفضت صفوف المسلمين، وتزاحفت قريش بعد هزيمتها، وذلك بعد أن قتل على لوائها أحد عشر رجلا من بني عبد الدار، وبقي لواؤهم صريعا حتى رفعته لهم عمرة بنت علقمة الكنانية، فلاثوا به (4)، وخلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه، وكسر رباعيته (5) عتبة بن أبي وقاص-أخو سعد بن أبي وقاص-اليمنى السّفلى، وجرح شفته، وجرح ابن قميئة الليثي-واسمه عبد الله -وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنتيه الكريمتين (6)، وشجّه أيضا عبد الله بن شهاب الزهري جد الإمام محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، وهشّم البيضة على رأسه (7)، وكان هؤلاء معهم أبيّ بن خلف الجمحي، تعاقدوا على قتله صلى الله عليه وسلم، أو ليقتلنّ دونه، فمنعه الله منهم.
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه كأشد القتال، عليهما ثياب بيض، ما رأيتهما قبل ولا بعد، وهما جبريل وميكائيل (8).
(1) قناة: واد بالمدينة.
(2)
أخرجه البخاري (3039)، وابن حبان (4738)، وأبو داود (2655)، والنسائي في «الكبرى» (11013).
(3)
الدّبور: الريح الغربية، والصبا: الريح الشرقية، والمقصود هنا: أن الحال قد انقلبت من الحسن إلى السيء.
(4)
لاثوا به؛ أي: اجتمعوا حوله.
(5)
الرباعية-على وزن ثمانية-الناب من الإنسان.
(6)
المغفر: ما يلبس تحت البيضة، شبيه بحلق الدرع، يجعل في الرأس.
(7)
أخرجه البخاري (2911)، ومسلم (1790)، ومن ثم أسلم عبد الله بن شهاب هذا ومات بمكة، انظر «الإصابة» (2/ 317).
(8)
أخرجه البخاري (4054)، ومسلم (2306).
وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أشيع قتله .. كعب بن مالك، قال: رأيت عيناه تزهران تحت المغفر، فقلت: يا معشر المسلمين؛ أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى: أن اسكت (1)، فعطف عليه نفر من المسلمين، ونهضوا إلى الشعب.
وقد كان أبي بن خلف يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي فرس أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها (2)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أنا أقتلك عليها إن شاء الله تعالى» ، فلما كان يوم أحد .. شدّ أبيّ بن خلف على فرسه قاصدا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشّعب وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فاعترضه رجال من المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هكذا؛ أي: خلوا طريقه، وتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصّمّة، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشّعراء عن ظهر البعير إذا انتفض (3)، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا (4)، ورجع إلى أصحابه وهو يقول: قتلني محمد، وهم يقولون: لا بأس عليك، فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم، أليس قد قال:«أنا أقتلك» ؟ ! والله؛ لو بصق علي .. لقتلني، فمات بسرف (5).
وطفق نساء المشركين يمثلن بالقتلى من المسلمين بتبقير البطون، وقطع المذاكير، وجدع الآذان والأنوف، لم يحترموا أحدا منهم غير حنظلة الغسيل؛ فإن أباه أبا عامر الراهب -الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق بدل الراهب-كان مع المشركين، فتركوه لذلك.
ولما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك من عمه حمزة .. لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، وترحم عليه وأثنى وقال:«أما والله؛ لئن ظفّرني الله بهم .. لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» ؛ فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ}
(1) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1108)، وابن أبي عاصم في «الجهاد» (253)، وابن سعد (2/ 46)، وغيرهم.
(2)
الفرق-بفتح الفاء والراء، ويجوز إسكان الراء-: مكيال يسع ستة عشر رطلا.
(3)
الشّعراء-بسكون العين المهملة-: ذباب صغير له لذع، يقع على ظهر البعير.
(4)
تدأدأ: تدحرج وسقط.
(5)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (3/ 237)، وأبو نعيم في «الدلائل» (2/ 620)، والطبري في «التاريخ» (2/ 518).
{لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ} (1)، فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ينهى عن المثلة (2)، ويوصي من يبعث من السرايا ألاّ يمثلوا.
ولما انصرفت قريش وعلم الله سبحانه ما في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تراكم الغموم والهموم مما أصابهم وخوف كرة العدو عليهم .. تفضل عليهم بالنعاس؛ أمنة منه سبحانه وتعالى للمؤمنين منهم وهم أهل اليقين، ولم يغش أحدا من المنافقين، كما قال الله تعالى:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} الآية.
قال أبو طلحة رضي الله عنه: غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه (3).
وقال رضي الله عنه: رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحدا .. إلا وهو يميل تحت حجفته (4).
وقال الزبير رضي الله عنه: والله؛ إني لأسمع قول معتّب بن قشير والنعاس يتغشّاني ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء .. ما قتلنا ههنا (5).
وكان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله فيه من أكرم بالشهادة، وممن أبلى يومئذ وعظم نفعه: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال، وقيل: السابع منه.
وفي هذه السنة: غزا صلى الله عليه وسلم حمراء الأسد، وذلك: أن قريشا لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء .. هموا بالرجوع؛ لاستئصال من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمهم، فلما علم بهم النبي صلى الله عليه وسلم .. ندب أصحابه للخروج موريا من نفسه القوة، وقال: «لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا
(1) أخرجه الحاكم (3/ 197)، والطبراني في «الكبير» (3/ 143)، والبيهقي في «الشعب» (9703)، وغيرهم.
(2)
أخرجه البخاري (2474)، وابن حبان (5616)، والترمذي (1408)، وغيرهم.
(3)
أخرجه البخاري (4562)، وابن حبان (7180)، والترمذي (3008)، وأحمد (4/ 29).
(4)
أخرجه الحاكم (2/ 297)، والترمذي (3007)، والنسائي في «الكبرى» (11134)، وأبو يعلى (1422)، وغيرهم، والحجفة: الترس من الجلد.
(5)
أخرجه الضياء المقدسي في «المختارة» (864).
بالأمس» (1)، فانتدب منهم سبعون رجلا الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، فلما بلغوا حمراء الأسد-وهي على ثمانية أميال من المدينة- .. مر بهم معبد الخزاعي، وكانت خزاعة نصحاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، فعزّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أصيب من أصحابه، ثم جاوزهم، فلما انتهى إلى قريش .. أخبرهم بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهوّل جيوشه، وقال: والله، لقد حملني ما رأيت على أن قلت:[من البسيط]
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي
…
إذ مالت الأرض بالجرد الأبابيل (2)
في أبيات أنشدها، فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه عن الرجوع، ومر عليهم ركب من عبد القيس، فجعل لهم أبو سفيان جعلا على أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه بأنهم يريدون الكرة عليهم، فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه وأصحابه بمقالة أبي سفيان .. قالوا-كما حكى الله عنهم-:{حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، } وأقام صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ثلاثا، ثم رجع.
وفي هذه الغزوة أخذ صلى الله عليه وسلم معاوية بن المغيرة الأموي جدّ عبد الملك بن مروان أبا أمه، وأبا عزة الجمحي الشاعر، فأما معاوية .. فشفع فيه عثمان رضي الله عنه، فشفّع فيه على أنه إن وجد بعد ثلاث .. قتل، فوجد بعدها فقتل، وأما أبو عزة .. فكان النبي صلى الله عليه وسلم أسره ببدر، فشكا حاجة وعيالا، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مجانا، وأخذ عليه ألاّ يعين عليه، فنكث، فلما وقع الثانية .. شكا مثلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا والله؛ لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين؛ إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين» (3)، وأمر بضرب عنقه.
وفي هذه السنة: غزوة بني النّضير بعد أحد، وقال الزهري عن عروة: وكانت قبل أحد على رأس ستة أشهر من بدر (4)، وكانوا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم حين قدموا المدينة على ألاّ يقاتلوا معه ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين
(1) انظر «طبقات ابن سعد» (2/ 45).
(2)
تهدّ: تسقط، الجرد: الخيل العتاق، الأبابيل: الجماعات.
(3)
أخرجه البيهقي (9/ 65) بلفظه، وحديث: «لا يلدغ المؤمن
…
» أخرجه البخاري (6133)، ومسلم (2998).
(4)
كذا أخرجه البخاري معلقا في (كتاب المغازي) باب: حديث بني النضير، وانظر حديث غزوة بني النضير بطوله عند أبي داود (2997)، وعبد الرزاق (9732) وما بعده.
راكبا إلى قريش، فحالفهم بعد بدر، وقيل: بعد أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قصدهم يستعينهم في دية الرجلين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في غزوة بئر معونة، ولم يعلم ما بين قومهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم من العقد، فهمّوا بطرح حجر عليه من فوق الحصن، فأخبره جبريل بذلك، فانصرف راجعا عنهم، وأمر بقتل كعب بن الأشرف كما تقدم، وأصبح غاديا عليهم بالكتائب، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة، فوجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد، واعية على إثر واعية (1)، ثم حشدوا للحرب، ودس إليهم إخوانهم من المنافقين ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم:
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة، وقطع نخلهم وحرّقها؛ وهي البويرة.
وفيها يقول حسان بن ثابت يوبّخ قريشا ويعيّرهم بذلك: [من الوافر]
وهان على سراة بني لؤيّ
…
حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث:
أدام الله ذلك من صنيع
…
وحرّق في نواحيها السّعير
ستعلم أيّنا منها بنزه
…
وتعلم أيّ أرضينا تضير (2)
وكان بعض الصحابة مترددا في قطع النخل، ورأوا أن ذلك من الفساد، وعيّرهم اليهود بذلك أيضا، فأنزل الله تعالى:{ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ.}
ولما اشتد على أعداء الله الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين .. طلبوا الصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصالحهم على الجلاء، وأن لهم ما أقلّت الإبل إلا السلاح، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم؛ لينقلوا أبوابها وأخشابها، فخرج ناس منهم إلى أذرعات وأريحا من الشام، وبعضهم إلى الحيرة (3)، ولحق آل
(1) الواعية: الباكية.
(2)
أخرجه البخاري (4032)، والبيهقي (9/ 83)، ومستطير: منتشر متفرق، والسعير: النار الملتهبة، النزه: البعد، تضير: تتضرر، والسراة: الأشراف، والبويرة: موضع من بلد بني النضير، وقيل: نخل قرب المدينة.
(3)
أذرعات: بلد في أطراف الشام مجاور لأرض البلقاء، ويقال لها اليوم: درعا، وأريحا: مدينة قديمة في غور الأردن، والحيرة: مدينة معروفة عند الكوفة.
أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب بخيبر، فكانوا أول من أجلي من اليهود، كما قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2]، والحشر الثاني: من خيبر في أيام عمر رضي الله عنه.
فكانت أموال بني النّضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها بين المهاجرين لفقرهم وحاجتهم، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة:
أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمّة، فطابت بذلك أنفس الأنصار رضي الله عنهم، وأثنى الله عليهم لذلك بقوله تعالى:{وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً} أي: حسدا {مِمّا أُوتُوا} ؛ يعني: المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين.
وفي ذي القعدة منها: كانت غزوة بدر الثالثة، وهي: الصغرى، كما قاله النووي (1)، وذكرها غير واحد في الرابعة، قال الحافظ العامري:(وهو موافق لما ذكر فيها: أنهم تواعدوا لها يوم أحد العام القابل)(2)؛ وذلك: أن أبا سفيان حين انصرف من أحد .. واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم بدر، وكانت سوقا من أسواق الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فلما كان ذلك .. خرج أبو سفيان بمن معه حتى نزل مجنّة من ناحية مرّ الظّهران، وقيل: بلغ عسفان، وبدا له الرجوع، وتعلل بجدب العام وعدم المرعى، قيل: وجعل جعلا لبعض العرب على أن يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويثبّطوه.
وخرج صلى الله عليه وسلم بمن معه للميعاد، واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وجعل كفار العرب يلقونهم ويخبرونهم بجمع أبي سفيان، فيقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل حتى نزلوا بدرا، ووافقوا السوق وأصابوا الدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين كما قال الله تعالى:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الآية.
وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة-وقيل كعب بن مالك-: [من الطويل]
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد
…
لميعاده صدقا وما كان وافيا
(1) انظر «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 20)، وذكرها في الرابعة الواقدي في «المغازي» (1/ 384)، وابن سعد في «الطبقات» (2/ 55)، وابن الجوزي في «المنتظم» (2/ 295)، وغيرهم، وقال الصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (4/ 482):(ووافق موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال: سنة ثلاث، وهذا وهم؛ فإن هذه تواعدوا إليها من أحد، وكانت أحد في شوال سنة ثلاث) اهـ
(2)
«بهجة المحافل» (2/ 216).
فأقسم لو وافيتنا ولقيتنا
…
لأبت ذليلا وافتقدت المواليا
تركنا بها أوصال عتبة وابنه
…
وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أفّ لدينكم
…
وأمركم السّيء الذي كان غاويا
فإنّي وإن عنّفتموني لقائل
…
فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره
…
شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا (1)
وفي هذه السنة: كانت سرية عاصم بن ثابت الأنصاري، قال ابن إسحاق: كانت بعد أحد، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة رهط عينا، فلما كانوا بالرّجيع؛ ماء لهذيل بين عسفان ومكة .. ذكروا لحي من هذيل، فتبعهم منهم نحو من مائة رام، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه .. لجئوا إلى فدفد؛ أي: مرتفع من الأرض، وأحاط بهم القوم، وأعطوهم العهد؛ إن استسلموا وألقوا ما بأيديهم .. لا يقتلون منهم أحدا، فقال عاصم:
أما أنا .. فلا أنزل في ذمة كافر أبدا، اللهم؛ أخبر عنا رسولك، فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة، ونزل إليهم خبيب بن عدي وزيد بن الدّثنة وعبد الله بن طارق بالأمان، فربطوهم بأوتار قسيّهم، فقال عبد الله بن طارق: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم أبدا، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان قد قتل أباهم ببدر فقتلوه به (2)، واشترى زيد بن الدّثنة صفوان بن أمية، فقتله بأبيه (3).
وبعد مقتل خبيب وأصحابه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري وجبّار بن صخر الأنصاري ليقتلا أبا سفيان غيلة، فقدما مكة خفية، فشهرا وخرجا هاربين ولم يقعا على ما أرادا، ذكر ذلك ابن هشام من غير رواية ابن إسحاق (4).
وفيها-أو في الرابعة-: كانت سرية بئر معونة، وسببها: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر الكلابي العامري ملاعب الأسنّة، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال:
يا محمد؛ ابعث معي رجالا من أصحابك إلى أهل نجد؛ يدعوهم إلى أمرك وأنا لهم جار،
(1) أبت: رجعت، وثاويا: مقيما، والسّيء: مخفف من السّيّء، وهما بمعنى، كما تقول: هيّن وهين وميّت وميت، وعنفتموني: لمتموني، ونعدله: نساويه مع غيره.
(2)
انظر الخلاف الذي ذكرناه حول شهود خبيب بدرا وقتله للحارث بن عامر في ترجمته (1/ 79).
(3)
سبق تخريج حديث الرجيع في ترجمة (عاصم بن ثابت رضي الله عنه (1/ 77).
(4)
انظر «سيرة ابن هشام» (4/ 633).
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي في سبعين من الأنصار، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فانطلق حرام بن ملحان إلى رئيس المكان عامر بن الطفيل؛ ليبلغه رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم وجعل يحدثهم، فأومئوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه بالرمح، فقال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم أخذ من دمه ونضحه على وجهه ورأسه؛ فرحا بالشهادة (1).
ثم استصرخ عليهم عامر بني عامر، فأبوا عليه، وقالوا: لن نخفر أبا براء في جواره، فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم: عصيّة ورعلا وذكوان، فأجابوه وقتلوا السرية عن آخرهم، إلا كعب بن زيد؛ فإنه بقي به رمق، فعاش حتى استشهد يوم الخندق.
وفي «صحيح البخاري» : قتلوا كلهم غير الأعرج؛ كان في رأس جبل (2).
وكان في سرحهم عمرو بن أمية الضمري وأنصاري (3)، فلما راحا وجدا أصحابهم صرعى، والخيل التي أصابتهم واقفة، فقتلوا الأنصاري، وأطلقوا عمرا حين أخبرهم أنه من ضمرة، فخرج عمرو حتى إذا كان بقناة .. أقبل رجلان، فنزلا معه في ظل هو فيه، فتحدث معهما وأخبراه أنهما من بني عامر، فأمهل حتى ناما فقتلهما، وكان معهما عقد وجوار من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره .. قال:«لقد قتلت قتيلين، لأدينّهما» (4)، وهما اللذان خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في ديتهما كما تقدم.
وهذا يؤيد أن بئر معونة في الثالثة، كما ذكره النووي وغيره (5)؛ لاتفاق أهل التواريخ جميعا: أن سبب غزوة بني النضير خروج النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية هذين الرجلين، والله سبحانه أعلم.
***
(1) أخرجه البخاري (2801)، ومسلم (677).
(2)
«صحيح البخاري» (4091).
(3)
وهو: المنذر بن محمد بن عقبة الأوسي، انظر ترجمته (1/ 82).
(4)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/ 356) من حديث طويل، والطبري في «التاريخ» (2/ 546).
(5)
هذا يوهم أن الإمام النووي حدّد زمن حادثة بئر معونة في السنة الثالثة، وليس كذلك، بل قد ذكرها في الرابعة، كما في «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 20)، وذكر: أن غزوة بني النضير كانت في الثالثة، فليتنبه.