الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنة التاسعة
: وتسمى سنة الوفود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة .. أيقنت العرب بظهوره، فبعثت كل قبيلة جماعة من رؤسائها بإسلامهم، وقد تقدم وفد عبد القيس ووفد بني تميم (1).
وفيها: غزوة تبوك، ولم يكن في هذه السنة غيرها من الغزوات، ولم يغز صلى الله عليه وسلم بعدها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من جهاد العرب .. أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وحثّ المياسير على إعانة المعاسير، فأنفق عثمان رضي الله عنه فيها ألف دينار، وحمل على تسع مائة وخمسين بعيرا وخمسين فرسا (2)؛ فلذلك قيل له: مجهز جيش العسرة، وقال صلى الله عليه وسلم:«اللهم؛ ارض عن عثمان؛ فإني عنه راض» (3)، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم» (4).
وضرب صلى الله عليه وسلم معسكره على ثنية الوداع، وأوعب معه المسلمون، وكانوا سبعين ألفا، وقيل: ثلاثين ألفا، وتخلف عبد الله بن أبي في جملة عنه من المنافقين، وتخلف آخرون ممن عذر الله في قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ.}
وفيهم قال صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة أقواما ما قطعنا واديا ولا شعبا إلا وهم معنا، حبسهم العذر» (5)، ولما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر ديار ثمود .. قال:«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين» ، ثم قنّع رأسه وأسرع السير (6).
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وهي أدنى مملكة الروم من الشام .. أتاه
(1) وخبر الوفدين في الصحيح، وتقدم أن وفد عبد القيس في السنة الثامنة (1/ 131)، ووفد بني تميم في التاسعة، والله أعلم، ومن الوفود: وفد بني حنيفة، ووفد أهل نجران، ووفد طيء، ووفد كندة، ووفد جرش.
(2)
الذي عند الترمذي (3700): أنه جهزهم بثلاث مائة بعير، وقال الحافظ في «الفتح» (5/ 408):(وأخرج أسد بن موسى في «فضائل الصحابة» من مرسل قتادة: حمل عثمان على ألف بعير وسبعين فرسا في العسرة وعند النسائي [46/ 6]: فجهزتهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما).
(3)
الحديث عند ابن هشام في «السيرة» (4/ 518)، ولم نجده بهذا اللفظ، والذي يشهد له في الصحاح كثير.
(4)
أخرجه الحاكم (3/ 102)، والترمذي (3701)، وأحمد (5/ 63).
(5)
أخرجه البخاري (2839)، ومسلم (1911).
(6)
أخرجه البخاري (3380)، ومسلم (2980).
يحنّة بن رؤبة وأهل جرباء وأذرح، فصالحهم على الجزية، وكتب ليحنة كتاب أمان (1).
ثم بعث صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل (2)، وقال: «إنك تجده يصيد البقر، فمضى خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة .. أقام، وجاءت بقر الوحش حتى حكّت قرونها بباب القصر، فخرج إليهم أكيدر في جماعة من خاصته، فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا أكيدر وقتلوا أخاه حسان، فحقن صلى الله عليه وسلم دم أكيدر، وصالحه على الجزية وكان نصرانيا (3).
وأقام بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ثم قفل راجعا إلى المدينة، فلما كان ببعض الطريق .. مات ذو البجادين المزني (4).
ولما نزل صلى الله عليه وسلم بذي أوان قريبا من المدينة .. أتاه جبريل بخبر أهل مسجد الضرار وكانوا اثني عشر رجلا (5)، فدعا صلى الله عليه وسلم مالك بن الدّخشم ومعن بن عدي وأخاه عاصما وعامر بن السّكن ووحشي بن حرب قاتل حمزة، وقال لهم:«انطلقوا إلى هذا الظالم أهله، فاهدموه وحرّقوه» ، فخرجوا سراعا حتى أتوه وفيه أهله، فحرّقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله، واتخذ موضعه كناسة تلقى فيها الجيف (6).
وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر رمضان، فلما قدمها .. بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين كعادته، ثم جلس للناس، فجاءه المخلفون يعتذرون إليه بالباطل ويحلفون له،
(1) أخرجه البخاري (1482)، ومسلم (2281)، ويحنة: هو صاحب أيلة؛ بلدة على ساحل البحر الأحمر مما يلي الشام، تسمى اليوم: العقبة، وجرباء: بلدة في الأردن تبعد (22) كم عن معان، جهة الشمال الغربي، وأذرح: بلدة بينها وبين معان (25) كم.
(2)
دومة الجندل: بلد بين الشام والحجاز، قرب جبل طيّئ، وهي جوف السّرحان، شمال مدينة تيماء على مسافة (450) كم.
(3)
أخرجه الحاكم (4/ 519) والبيهقي في «الدلائل» (5/ 250)، وأصله عند البخاري (2616)، ومسلم (2469).
(4)
وهو عبد الله بن عبد نهم، عمّ عبد الله بن مغفل المزني، وانظر ما مر في ترجمته (1/ 109).
(5)
وقد ذكرت أسماؤهم عند ابن هشام في «السيرة» (4/ 530)، وأخرج مسلم (2779) عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«في أصحابي اثنا عشر منافقا؛ فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط» .
(6)
عند البيهقي في «الدلائل» (5/ 259): أنه أمر مالك بن الدخشم ومعن بن عدي، وعند الواقدي في «المغازي» (3/ 1046): أنه أمر مالك بن الدخشم وعاصم بن عدي، وعند الطبري في «التفسير» (11/ 18)، وابن هشام في «السيرة» (4/ 530): أنه أمر مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصما، وزاد البغوي في «تفسيره» (2/ 327) الأخيرين: عامر بن السكن، ووحشي بن حرب.
وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
وكان تخلف عن تبوك: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية من غير عذر ولا نفاق، وإنما عوّقهم القدر، فأرجأ صلى الله عليه وسلم أمرهم حتى أنزل الله تعالى فيهم بعد أكثر من خمسين:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (1) الآية.
وعلى مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم عليه وفد همدان بإسلامهم (2)، وكتاب ملوك حمير بإسلامهم (3)، وبعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري كلاّ منهما على مخلاف من اليمن، واليمن مخلافان، وقال:«يسرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا» (4).
وقدم عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه مرجعه من تبوك وفد ثقيف بإسلام قومهم، وكتب بتحريم عضاه وجّ وصيده (5)، وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاصي الثقفي لكثرة سؤاله عن معالم الدين، وكان أحدثهم سنا، وبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمان اللات، فهدمها المغيرة بن شعبة.
وفي غيبته صلى الله عليه وسلم بتبوك توفي معاوية بن معاوية المزني بالمدينة.
وفي هذه السنة-وقيل: فيما قبل الحجاب-: اعتزل صلى الله عليه وسلم نساءه، وآلى منهن شهرا؛ وذلك بسبب تظاهر عائشة وحفصة رضي الله عنهما غيرة عليه أن شرب عسلا
(1) أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
(2)
أخرجه ابن سعد (1/ 293)، والقزويني في «التدوين» (2/ 273)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 596)، وقد أخرج البخاري (4349) من حديث البراء: أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالدا ثم عليا إلى اليمن، قال الحافظ في «الفتح» (8/ 66):(أورد البخاري هذا الحديث مختصرا، وقد أورده الإسماعيلي من طريق أبي عبيدة بن أبي السفر، سمعت إبراهيم بن يوسف-وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه-فزاد فيه: قال البراء: فكنت ممن عقّب معه، فلما دنونا من القوم .. خرجوا إلينا، فصلى بنا علي، وصففنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ الكتاب .. خرّ ساجدا، ثم رفع رأسه وقال: «السلام على همدان»)، وبتمامه أخرجه البيهقي (2/ 369).
(3)
أخرجه ابن سعد (1/ 306)، والطبري في «تاريخه» (3/ 120)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 588).
(4)
أخرجه البخاري (4341)، ومسلم (1733)، والمخلاف-بلغة اليمن-: الإقليم.
(5)
هذا عند ابن هشام في «السيرة» (4/ 543)، والذي عند أبي داود (2025)، وأحمد (1/ 165) وغيرهما:(أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ صيد وجّ وعضاهه حرم محرّم لله» وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف)، ووجّ: واد بين مكة والطائف، سمي بوج بن عبد الحق من العمالقة، والعضاه: كل شجر له شوك.
عند زينب بنت جحش (1)، وقيل: سببه حكمهن عليه في سؤال النفقة (2)، وأنزل الله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ} قيل: هو تحريمه للعسل، وقيل: تحريمه لمستولدته مارية حين وطئها في بيت حفصة، فأرضاها بأن حرمها (3)، وأما الحديث الذي أسره إلى بعض أزواجه، قيل: قوله: «بل شربت عسلا» ، وقيل: تحريمه مارية على نفسه، وإخباره أن أباها (4) وأبا بكر يليان الأمر من بعده (5).
وفيها: لاعن صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان عويمر العجلاني وزوجته (6)، وبين هلال بن أمية الواقفي وزوجته (7)، والأكثرون على أن نزول آية اللعان كان بسبب هلال بن أمية (8).
قال الشيخ أبو زكريا العامري: ([نقل القاضي عياض عن ابن جرير الطبري: أن قصة اللعان في شعبان] ولا وجه له، فقد ذكر أهل السير: أنه صلى الله عليه وسلم خرج لغزوة
(1) أخرجه البخاري (5267)، ومسلم (1474).
(2)
أخرجه البخاري (2468)، ومسلم (1479).
(3)
أخرجه الدارقطني (4/ 41)، والبيهقي (7/ 353)، والطبراني في «الكبير» (12/ 91)، و «الأوسط» (8759)، وأصله عند النسائي (7/ 71).
(4)
أي: إخباره حفصة أن أباها
(5)
أخرجه الطبراني في «الأوسط» (2337)، وفيه ضعف كما قال الحافظ في «الفتح» (9/ 289).
(6)
أخرجه البخاري (4745).
(7)
أخرجه البخاري (2671)، ومسلم (1496)، قال الحافظ في «الفتح» (9/ 447): (قال سهل بن سعد: شهدت المتلاعنين وأنا ابن خمس عشرة سنة، ووقع عن سهل بن سعد قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة، فهذا يدل على أن قصة اللعان كانت في السنة الأخيرة من زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن جزم الطبري وأبو حاتم وابن حبان بأن اللعان كان في شعبان سنة تسع، وجزم به غير واحد من المتأخرين
…
ووقع عند أبي داود وأحمد: «حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فوجد عند أهله رجلا» ، فهذا يدل على أن قصة اللعان تأخرت عن قصة تبوك، والذي يظهر أن القصة كانت متأخرة، ولعلها كانت في شعبان سنة عشر لا تسع، وكانت الوفاة النبوية في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة باتفاق، فيلتئم حينئذ مع حديث سهل بن سعد).
(8)
جاء في حديث عويمر عند البخاري (4745) بعد أن سأل له عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك» ، وجاء في حديث هلال عند البخاري (4747): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «البينة أو حدّ في ظهرك» ، فقال هلال: والذي بعثك بالحق؛ إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرّئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه. قال الحافظ في «الفتح» (9/ 450) في الجمع بينهما:(وظهر لي احتمال أن يكون عاصم سأل قبل النزول، ثم جاء هلال بعده، فنزلت عند سؤاله، فجاء عويمر في المرة الثانية-التي قال فيها: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به-فوجد الآية نزلت في شأن هلال، فأعلمه صلى الله عليه وسلم بأنها نزلت فيه؛ يعني: أنها نزلت في كل من وقع له ذلك؛ لأن ذلك لا يختص بهلال).
تبوك في شهر رجب، ولم يرجع إلا في رمضان) (1).
وفيها: رجم صلى الله عليه وسلم ماعز بن مالك (2) والغامدية (3).
وفيها: ماتت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الثانية من زوجتي عثمان رضي الله عنه.
وفي شهر رجب منها: توفي النجاشي، واسمه: أصحمة؛ أي: عطية، فنعاه صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم وفاته، وصلّى عليه هو وأصحابه (4).
وفيها: مات رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:{وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} (5)، ووضعه صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه؛ جبرا لخاطر ابنه الصالح عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول حيث سأله ذلك (6) -وما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا (7) -أو مكافأة لإلباسه العباس يوم بدر قميصا (8).
وفي ذي القعدة: أراد صلى الله عليه وسلم الحج، فذكر مخالطة المشركين وما اعتادوه من الجهالات في حجهم، وأن الأشهر الحرم والعهود التي لهم تمنع من منعهم، فثناه ذلك.
وأمّر أبا بكر على الحجاج، وبعث معه ب (سورة براءة)(9)، حاصلها: التّبرّؤ من عهود المشركين، والتأجيل لهم أربعة أشهر ذهابا في الأرض أينما شاءوا، وكان في عرف العرب ألاّ يتولى عقد العهود ونقضها إلا سيدهم أو رجل من رهطه، فبعث صلى الله عليه وسلم عليا على ناقته العضباء، وأمره أن يتولى نبذ العهود، ويقرأ على الناس صدر (سورة براءة)؛ لئلا يقولوا إذا حصل النبذ من الصديق: هذا خلاف ما نعرفه، فلما أدرك علي أبا بكر
(1)«بهجة المحافل» (2/ 50).
(2)
أخرجه البخاري (6824)، ومسلم (1692).
(3)
أخرجه مسلم (1695)، وأبو داود (4439)، وأحمد (5/ 348).
(4)
سبق تخريجه في ترجمة النجاشي رضي الله عنه (1/ 111).
(5)
أخرجه البخاري (1366)، وابن حبان (3176)، والترمذي (3097)، والنسائي (4/ 67)، وأحمد (1/ 16).
(6)
أخرجه البخاري (1270)، ومسلم (2773).
(7)
أخرجه البخاري (6034)، ومسلم (2311).
(8)
أخرجه البخاري (3008)، والحاكم (3/ 331).
(9)
أخرجه البخاري (4363).