الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي عمرة القضاء: نزل قوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ
…
} الآية في شأن الحطيم البكري (1).
وفي ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى مكة في عمرة القضاء: تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية بسرف، ودخل بها بسرف أيضا في رجوعه، وماتت بسرف أيضا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم (2).
قال الحافظ العامري: (وأشد الأقوال أنه تزوجها وهو محرم، وكان ذلك من خصائصه) اهـ (3)
وكان رحمه الله اعتمد رواية ابن عباس، وأكثر المحدثين اعتمد رواية ميمونة وأبي رافع: أنه تزوجها صلى الله عليه وسلم وهو حلال، والله أعلم (4).
***
السنة الثامنة
: فيها: قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم (5)، وكانوا أربعة عشر راكبا، وقيل: أربعين، ولعل الأربعة عشر كبراؤهم، والباقون أتباع، ورئيسهم
= كما قال الحافظ في «الفتح» (7/ 505).وإنما قال زيد: (بنت أخي)؛ لما كان بينه وبين أبيها حمزة من المؤاخاة.
(1)
وقيل: يقال له: الحطم بن هند البكري؛ نسبة إلى بكر بن وائل، وقيل: اسمه شريح بن ضبيعة، وكان من أمره ما أخرجه الطبري من غير وجه في «تفسيره» (6/ 38) وغيره:(أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وخلف خيله خارج المدينة، فدعاه، فقال: إلام تدعو؟ فأخبره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان»، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم .. قال: انظر ولعلّي أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر»، فمر بسرح من سرح المدينة، فساقه فانطلق به وهو يرتجز: قد لفّها الليل بسوّاق حطم ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياما وابن هند لم ينم ثم أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد وأهدى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية)، وقيل: قتله العلاء بن الحضرمي في اليمامة، والله أعلم. ثم حكى الطبري: أن الآية منسوخة؛ لإجماع الجميع على أن المشرك لو قلّد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم .. لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان.
(2)
انظر «البخاري» (4258)، (4259)، (5114).
(3)
«بهجة المحافل» (1/ 380).
(4)
وبناء على الخلاف في هذا الحديث: اختلفت المذاهب في صحة نكاح المحرم بنسك، وانظر كلام الحافظ في «الفتح» (9/ 165).
(5)
وخبر قدومهم في الصحيح عند البخاري (53)، ومسلم (17) وغيرهما.
المنذر بن عائذ الملقب بالأشج العصري-وإنما سمي الأشجّ؛ لأثر في وجهه-الذي فيه قال صلى الله عليه وسلم: «إن فيك لخصلتين يحبّهما الله؛ الحلم والأناة» ، فقال:
يا رسول الله؛ كانتا فيّ أم حدثتا؟ قال: «بل قديم» ، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبّهما الله (1).
فلما دنوا من المدينة .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجلسائه: «أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق» (2)، فلما دخلوا عليه صلى الله عليه وسلم .. قال:«مرحبا بالقوم-أو بالوفد-غير خزايا ولا ندامى» (3)، وعبد القيس أول من دان بالدين وأقام شرائعه من الآفاقيين، وأول جمعة أقيمت بعد جمعة المدينة بمسجد عبد القيس بجواثى من البحرين (4)، وثبتوا على إسلامهم لمّا ارتدت العرب عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لم يكن مسجد لله تعالى إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس، فقال في ذلك شاعرهم يفتخر فيه:[من البسيط]
فالمسجد الثالث الشرقيّ كان لنا
…
والمنبران وفصل القول في الخطب
أيّام لا منبر للناس تعرفه
…
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وفي هذه السنة: توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة أبي العاصي بن الربيع، وهي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاة زينب تزوج صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحاك، ولما نزلت آية التخيير .. اختارت الدنيا، ففارقها صلى الله عليه وسلم، فكانت بعد ذلك تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية؛ اخترت الدنيا (5).
وفيها: وقع غلاء بالمدينة فقالوا: يا رسول الله؛ سعّر لنا، فقال:«إن الله هو المسعّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال» (6).
(1) أخرجه ابن حبان (7203)، وأبو داود (5183)، وبنحوه مسلم (17)، والترمذي (2011)، والعصري: نسبة إلى عصر؛ بطن من عبد القيس. انظر «الأنساب» (4/ 201).
(2)
أخرجه أبو يعلى (6850) والطبراني في «الكبير» (20/ 345).
(3)
أخرجه البخاري (53)، ومسلم (17)، وغيرهما.
(4)
أخرجه البخاري (892).
(5)
تقدم الكلام عليه في ملخص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، عند ذكر زوجاته وما ذكره العلامة الأشخر في «شرح البهجة» (1/ 386) من بطلانه.
(6)
سبق تخريجه في ملخص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 131).
وفيها: صنع المنبر للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك يخطب إلى جذع يقوم إليه، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله، ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه؛ فإن لي غلاما نجارا إن شئت، فتوانت في عمل ذلك؛ وكأنها لم تفهم منه الرضا، فاستنجزها صلى الله عليه وسلم الوعد، فأمرت غلامها ميناء-وقيل: باقوم أو باقول (1) -فعمل المنبر من طرفاء الغابة (2)، وكان عدد درجاته ثلاث بالمقعد، وسمكه ذراعان وثلاث أصابع، وعرضه ذراع في ذراع، وتربيعه سواء، وطول رمانيته اللتين كان يمسكهما النبي صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين إذا جلس: شبر وأصبعان، ولما قعد صلى الله عليه وسلم .. حنّ الجذع الذي كان يقوم عليه أولا، حتى سمع صوت كأصوات العشار، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم وضمه حتى سكت أو سكن (3).
ولم يزل المنبر المذكور على حالته تلك إلى زمن معاوية رضي الله عنه، فيقال: إنه همّ بنقله إلى الشام فرجفت المدينة، فتركه وزاد من أسفله ست درجات، وكساه قطيفة، وهمّ المهدي بن المنصور العباسي أن يردّه إلى حاله الأول، فقال الإمام مالك: إنما هو من طرفاء، وقد شدّ إلى هذه العيدان وسمّر، فمتى نزعته خفت أن يتهافت، فتركه، ثم تهافت لطول الزمان، فجدّده بعض خلفاء بني العباس، واتخذ من بقايا منبر النبي صلى الله عليه وسلم أمشاطا للتبرك بها.
ولما احترق المسجد الشريف وما فيه سنة أربع وخمسين وست مائة، واشتغل الناس باستيلاء التتار على بلاد الإسلام، وقتلهم الخليفة المستعصم بالله العباسي في سنة ست وخمسين وست مائة .. أرسل إليه الملك المظفر يوسف بن عمر الرسولي اليمني (4) منبرا رمانتاه من الصندل، فنصب مكان المنبر النبوي، وبقي إلى سنة ست وستين وست مائة، إلى أن حوّله الملك الظاهر بيبرس (5)، ولم يزل منبر الظاهر مستمرا إلى أن وقع بالحرم
(1) وقد قيل في اسمه غير ذلك؛ فقيل: إبراهيم، وقيل: صباح، وقيل: قبيصة، وقيل كلاب، وقيل: تميم الداري، انظر «الإصابة» (2/ 398).
(2)
أخرجه البخاري (2094، 2095)، ومسلم (544)، والطرفاء: شجر، وهي أربعة أنواع: أحدها: الأثل، والغابة: موضع من عوالي المدينة جهة الشام.
(3)
سبق تخريجه، في ملخص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 131).
(4)
ستأتي ترجمته في وفيات سنة (694 هـ)، انظر (5/ 451).
(5)
ستأتي ترجمته في وفيات سنة (676 هـ)، انظر (5/ 349).
الشريف في سنة خمس أو ست وثمانين وثمان مائة حريق (1)، فاحترق المنبر، فجدد الملك الأشرف قايتباي في الحرم الشريف، وعمل المنبر الذي هو اليوم منصوب.
وفي جمادى الأول من سنة ثمان: كانت غزوة مؤتة، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة على ثلاثة آلاف من المسلمين، وقال: إن قتل زيد .. فجعفر، وإن قتل جعفر .. فعبد الله بن رواحة (2)، فساروا حتى بلغوا معان، فبلغهم أن هرقل نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، ومائة ألف من العرب المتنصرة؛ لخم وجذام والقين وبهراء وبليّ، وكان المسلمون في ثلاثة آلاف، فتشاوروا أن يراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمرهم بأمر، فشجّع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: إنما هي إحدى الحسنيين: نصر أو شهادة، فوافقوا على ذلك، ومضوا حتى التقوا بمؤتة، فقاتل زيد بالراية حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقاتل قتالا شديدا، ثم نزل عن فرسه فعقرها (3)، فكان أول من عقر في الإسلام، وجعل يقول:[من الرجز]
يا حبذا الجنة واقترابها
…
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
…
كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها (4)
…
ثم قاتل حتى قطعت يده، فأخذ الراية بشماله فقطعت أيضا، فاحتضنها بعضديه، فعوضه الله بذلك جناحين يطير بهما في الجنة (5).
ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وجعل يقول:[من الرجز]
يا نفس إلا تقتلي تموتي
…
هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّيت فقد أوتيت
…
إن تفعلي فعليهما هديت
ثم قاتل حتى قتل (6)، فاصطلح الناس بعده على خالد بن الوليد، فأخذ الراية وقاتل قتالا
(1) حكى الصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (3/ 498): (أن احتراق المسجد كان في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، سنة ست وثمانين وثمان مائة).
(2)
أخرجه البخاري (4261)، وأحمد (1/ 204) وغيرهما.
(3)
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 209)، وأبو داود (2566)، والبيهقي (9/ 87).
(4)
أخرجه البيهقي في «السنن» (9/ 154)، و «الدلائل» (4/ 363)، وانظر «سيرة ابن هشام» (3/ 378).
(5)
سبق تخريجه في ترجمة سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه (1/ 97).
(6)
أخرجه البيهقي في «السنن» (9/ 154)، و «الدلائل» (4/ 363)، والطبري في «تاريخه» (3/ 39).
شديدا، ودافع عن المسلمين حتى انحازوا، وقفلوا راجعين إلى المدينة، فلما قدموا المدينة .. تلقّاهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فعيّرهم المسلمون بالفرّار، فقال صلى الله عليه وسلم:«ليسوا بالفرّار، ولكنهم الكرّار إن شاء الله تعالى» (1).
وقد كان صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وأصحابه بالمدينة يوم أصيبوا، فقال صلى الله عليه وسلم:«أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب-وإن عينيه تذرفان-حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم» (2).
وفي هذه السنة قبل الفتح: بعث صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة راكب وأمّر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح يرصد عير قريش، فأقاموا بالساحل نصف شهر، وجاعوا جوعا شديدا حتى أكلوا الخبط (3)، يسمى ذلك الجيش: جيش الخبط، وتعرف الغزوة بغزوة سيف البحر، ونحر قيس بن عبادة ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه، فألقى البحر لهم دابّة يقال لها: العنبر، فأكلوا منها نصف شهر، وادّهنوا من ودكها حتى ثابت أجسامهم (4)، وأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه، فنصبه ومرّ تحته رجل راكب بعيرا (5).
وفي رمضان من هذه السنة: كان فتح مكة، ويسمى: فتح الفتوح؛ لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش، ويقولون: هم أهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فإن غلبهم محمد صلى الله عليه وسلم .. فلا طاقة لأحد به، فلما فتحت مكة ..
دخلوا في دين الله أفواجا، وكانوا قبل ذلك يدخلون أفرادا، ولم تقم للشرك قائمة بعده.
وسبب الفتح: أنه كان بين خزاعة وبين بكر عداوة وترات، وكانت خزاعة دخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، ودخلت بنو بكر في عهد قريش كما قدمناه، فمكثوا على ذلك سنة ونصفا، ثم بيّتت بنو بكر خزاعة على ماء لهم تسمّى:
الوتير؛ ناحية عرنة، وأعانتهم قريش بالسلاح والرجال مختفين في سواد الليل، فقتلوا
(1) أخرجه الطبري في «تاريخه» (3/ 42)، وانظر «ابن هشام» (3/ 382).
(2)
سبق تخريجه في ترجمة سيدنا جعفر رضي الله عنه (1/ 97).
(3)
الخبط-محركة-: ورق ينفض بالمخابط ويجفف ويطحن ويخلط بدقيق ويبل بالماء، ثم تعلف منه الإبل.
(4)
العنبر: الحوت، كما في رواية البخاري، والودك: الشحم، وثابت أجسامهم: رجعت وصلحت وامتلأت.
(5)
أخرجه البخاري (4360)، ومسلم (1935).
رجلا من خزاعة، فركب عمرو بن سالم الخزاعي ثم الكعبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشده في المسجد بين ظهراني الناس:[من الرجز]
يا ربّ إنّي ناشد محمدا
…
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنّا والدا
…
ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
…
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجرّدا
…
إن سيم خسفا وجهه تربّدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
…
إنّ قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
…
وجعلوا لي في كداء رصّدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا
…
وهم أذلّ وأقلّ عددا
هم بيّتونا بالوتير هجّدا
…
وقتلونا ركّعا وسجّدا (1)
قلت: قال ابن هشام في «سيرته» : (ويروى:
نحن ولدناك فكنت الولدا
…
فانصر هداك الله نصرا أيّدا) (2)
قال السهيلي في «الروض الأنف» في قوله: (قد كنتم ولدا وكنّا والدا): (يريد: أنّ بني عبد مناف أمّهم من خزاعة، وكذلك قصي أمّه فاطمة بنت سعد الخزاعية، وقوله:
«ثمّت أسلمنا» هو من السّلم، لا من الإسلام؛ لأنهم لم يكونوا آمنوا بعد، غير أنه قال:
«ركعا وسجدا» ؛ فدلّ على أنه كان فيهم من صلّى لله تعالى فقتل) اهـ (3)، والله أعلم.
فقال صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم» ، وعرضت سحابة في السماء فقال صلى الله عليه وسلم:«إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب» (4).
وجاء أبو سفيان يريد تأكيد العقد والمزايدة في المدة، فأبى عليه رسول الله صلّى الله عليه
(1) أخرجه البيهقي في «السنن» (9/ 233)، و «الدلائل» (5/ 5)، والطبراني في «الكبير» (23/ 433)، والطبري في «تاريخه» (3/ 44)، وانظر «سيرة ابن هشام» (3/ 394). الأتلد: القديم، أعتدا: حاضرا، سيم خسفا: أريد به نقيصة، تربّد وجهه: تغيّر، الفيلق: الجيش، كداء: موضع بأعلى مكة عند المحصب.
(2)
«سيرة ابن هشام» (3/ 395).
(3)
«الروض الأنف» (7/ 198).
(4)
انظر تخريج الحديث السابق.
وسلم، ولم يجبه بشيء، ورجع خائبا، وقال:«اللهم؛ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها» (1).
ثم إن حاطب بن أبي بلتعة كتب كتابا إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي:(وكان في كتابه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نفر بجيش يسير كالسيل، فإما إليكم وإما إلى غيركم، فخذوا حذركم، وأقسم بالله؛ لو جاءكم وحده .. لنصره الله عليكم؛ فإنه منجز وعده)(2)، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وأبا مرثد الغنوي، وكلّهم فوارس، فقال لهم:«انطلقوا إلى روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين» ، فأدركوها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذوا الكتاب منها وانطلقوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لحاطب:«ما حملك على ما صنعت؟ ! » فقال: والله؛ ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله، أردت أن يكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فصدقه صلى الله عليه وسلم، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنه من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم .. فقد غفرت لكم» (3) أي:
إنه سبق في علم الله سبحانه أنه لا يصدر من بدري زلة أو هفوة إلا وتلافاها بالتوبة الموجبة للمغفرة.
ثم خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة في عشرة آلاف من المسلمين، واستعمل على المدينة كلثوم بن حصين الغفاري، فلما بلغ الجحفة .. لقيه عمه العباس مهاجرا ببنيه، وكان بعد إسلامه مقيما بمكة على سقايته، وعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقيه أيضا ببعض الطريق ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وابن عمته عبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة لأبيها، فكلمته أم سلمة فيهما، فقال: «لا حاجة لي بهما؛ أما ابن عمي .. فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري .. فإنه قال لي بمكة
(1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (23/ 434)، والطبري في «التاريخ» (3/ 47).
(2)
«الروض الأنف» (7/ 203).
(3)
أخرجه البخاري (3983)، ومسلم (2494)، وروضة خاخ: موضع بين الحرمين، بقرب حمراء الأسد من المدينة، وفي رواية عند البخاري:«اعملوا ما شئتم .. فقد وجبت الجنة» .
ما قال»، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى ما قاله له عبد الله بن أبي أمية بمكة: لا والله؛ لا آمنت بك حتى تتخذ سلّما إلى السماء، فتعرج فيه وأنا انظر، ثم تأتي بصكّ وأربعة من الملائكة فيشهدون معك بأن الله أرسلك (1).
قال أبو سفيان بن الحارث: والله؛ لتأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فرقّ لهما صلى الله عليه وسلم، فدخلا عليه وأسلما (2).
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد (3) .. أفطر وأفطر الناس معه (4)، ثم مضى حتى نزل مرّ الظّهران (5)، فرقّ العباس على قومه، فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رجاء أن يصادف أحدا فيبعثه إليهم فيستأمنوا، فلقي أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء، وكانوا قد خرجوا يتحسّسون الأخبار، فأخبرهم العباس الخبر، فقال للعباس: فما الحيلة؟ فقال: اركب خلفي حتى آتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأستأمنه لك، فردفه ورجع صاحباه، فلما مر به العباس على منزل عمر .. لحقه عمر محرشا عليه، ومذكرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم سالف إساءته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اذهب به إلى رحلك، فإذا أصبح .. فأت به» ، فعرض عليه صلى الله عليه وسلم الإسلام، فتلكأ قليلا ثم أسلم، فقال العباس: يا رسول الله؛ إن أبا سفيان يحب الفخر، فاجعل له شيئا، فقال:«نعم، من دخل دار أبي سفيان .. فهو آمن، ومن أغلق بابه .. فهو آمن، ومن دخل المسجد .. فهو آمن» (6).
وكانت الراية مع سعد بن عبادة، ثم سلمها صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، وأمره أن يركزها بالحجون (7)، ودخل صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة، ولم يعرض له قتال، وأمّر
(1)«سيرة ابن هشام» (1/ 298)، وعبد الله بن أبي أمية، هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب.
(2)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 9)، والطبري في «تاريخه» (3/ 50)، وابنه هو: جعفر بن أبي سفيان، انظر «مستدرك الحاكم» (3/ 254).
(3)
الكديد-بفتح الأول وكسر الثاني، وقيل: بالتصغير؛ بضم الأول وفتح الثاني-: موضع على اثنين وأربعين ميلا من مكة، وهو ماء بين عسفان وقديد.
(4)
أخرجه البخاري (1944)، ومسلم (1113).
(5)
مر الظهران: موضع على مرحلة من مكة.
(6)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 8 و 9)، والطبري في «تاريخه» (3/ 52)، وأصله عند البخاري (4280)، ومسلم (1780)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 402).
(7)
أخرجه البخاري (4280)، قال الحافظ في «الفتح» (8/ 8): (قوله: «عليهم سعد بن عبادة معه الراية» أي: راية-
خالد بن الوليد في عدد من المسلمين، فدخلوا من أسفلها، فعرض لهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة (1)، فهزمهم وقتل منهم اثني عشر أو ثلاثة عشر رجلا، ولم يقتل من خيل خالد إلا سلمة بن الميلاء الجهني، وكان كرز بن جابر الفهري وخنيس بن الأشعر قد شذا عن خالد وسلكا طريقا غير طريقه فقتلا (2)، وقد كان صلى الله عليه وسلم عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه أمر بقتل جماعة سماهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، فقتل بعضهم (3) واستؤمن لبعض (4).
وكان فتح مكة لعشرين بقين من رمضان، ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيت .. طاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن بيده (5)، وهو منكّس رأسه تواضعا لله تعالى، ثم دعا بمفتاح الكعبة-وكان بيد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الحجبي العبدري (6)، وبيد ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة-فأتي به، ففتح الكعبة وركع فيها ركعتين، وكسر ما كان فيها من الأوثان، وطمس الصور، فأخرج مقام إبراهيم (7)، فسأله العباس أن يجمع له السدانة مع السقاية، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، } فدعا عثمان وشيبة فأعطاهما المفتاح وقال: «خذاها خالدة تالدة لا ينزعها
= الأنصار، وكانت راية المهاجرين مع الزبير).والحجون: جبل بأعلى مكة، عنده مدافن أهلها.
(1)
الخندمة: جبل بمكة.
(2)
هذه رواية ابن إسحاق عند ابن هشام في «السيرة» (4/ 407)، وعند البخاري (4280): أنه قتل من خيل خالد: حبيش بن الأشعر، وكرز بن جابر الفهري، وانظر ما جاء في ترجمة خنيس بن الأشعر عن الخلاف في ضبط اسمه.
(3)
كعبد العزى بن خطل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حين أخبر أنه متعلق بأستار الكعبة، كما في «البخاري» (4286)، والحويرث بن نقيدر، ومقيس بن صبابة، والحويرث بن الطلاطل.
(4)
كعكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعفا صلى الله عليه وسلم عن بعض، كهبّار بن الأسود، وكعب بن زهير، وهند بنت عتبة.
(5)
أخرجه ابن خزيمة (2781)، وابن حبان (3828)، وأبو داود (1873)، والمحجن: عصا محنية الرأس يتناول بها الراكب ما يسقط له، ويحرك بطرفها بعيره للمشي.
(6)
الحجبي: نسبة إلى حجابة الكعبة، وهي ولايتها وفتحها وإغلاقها وخدمتها، والعبدري: نسبة إلى عبد الدار.
(7)
وقد كان في الكعبة، كما أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي، انظر «تفسير ابن كثير» (1/ 516)، و «الدر المنثور» (2/ 570)، والكلبي فيه ما فيه، وعند البيهقي في «الدلائل» (5/ 45):(فكان المقام-زعموا-لاصقا بالكعبة، فأخّره رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه هذا).ويدفع ذلك-والله أعلم-ما أخرجه أبو الوليد الأزرقي في «أخبار مكة» (2/ 25) بأسانيد صحيحة-كما قال الحافظ في «الفتح» (1/ 499) -: (أن موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهلية وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فاستثبت في أمره حتى تحقق موضعه الأول، فأعاده إليه وبنى حوله، فاستقر ثمّ إلى الآن).
منكم إلا ظالم» (1)، وكان حول البيت ثلاث مائة وستون صنما مثبتة بالرصاص، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول:{جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، } {وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ} (2)، وكلما طعن منها واحدا بالعود .. سقط (3)، ثم قال صلى الله عليه وسلم:«يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل بكم؟ » قالوا: خيرا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، قال:«اذهبوا فأنتم الطلقاء» ؛ فلذلك سمي مسلمة الفتح: الطلقاء.
وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة خمسة عشر أو ثمانية عشر أو تسعة عشر يقصر الصلاة (4).
ولما فرغ من الفتح .. بلغه صلى الله عليه وسلم أن عوف بن مالك النّصري جمع نحو أربعة آلاف من هوازن وثقيف لحربه، فاستعار صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية-وهو يومئذ مشرك-مائة درع بما يكفيها من السلاح (5)، ثم خرج صلى الله عليه وسلم بجيش الفتح وألفين من الطلقاء، واستخلف بمكة عتّاب بن أسيد الأموي.
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى حنين-وهو واد بين مكة والطائف وراء عرفة، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا-كان المشركون قد سبقوا إليه، وكمنوا في أحنائه (6) وشعابه، فلما تصوب المسلمون فيه في عماية الصبح (7) .. شدوا عليهم شدة رجل واحد، فانشمر المسلمون مدبرين لا يلوي أحد على أحد (8).
وقد كان قال رجل من المسلمين حين رأى تكاثر الجيش: لن نغلب اليوم عن قلّة، فلم يرض الله قوله، ووكلوا إلى كلمته وولّوا مدبرين، ولم يفر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 98)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 137)، وانظر «فتح الباري» (8/ 18)، و «سبل الهدى والرشاد» (5/ 366).
(2)
أخرجه البخاري (4287)، ومسلم (1781)، إلا قوله:(مثبتة بالرصاص) .. فهو بمعناه عند الطبراني في «الكبير» (10/ 279)، وأبي نعيم في «الحلية» (3/ 211).
(3)
وعند ابن حبان (6522)، وأبي نعيم في «الدلائل» (2/ 776)، والبيهقي في «الدلائل» (5/ 72): أنها كانت تسقط من غير أن يمسها صلى الله عليه وسلم.
(4)
أخرجه البيهقي (9/ 118)، والطبري في «تاريخه» (3/ 60)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 412).والذي في «البخاري» (4298):(أنه صلى الله عليه وسلم أقام تسعة عشر يوما).
(5)
الحديث عند الحاكم (2/ 47)، وأبي داود (3558)، والدارقطني (3/ 38)، والبيهقي (6/ 89)، وأحمد (3/ 401) وغيرهم، ووقع في بعض الروايات-كما في «ابن هشام» (4/ 440) -: أن عددها مائة درع، وفي أخرى: أن عددها ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا.
(6)
الأحناء-جمع حنو-: وهي منعطفات الوادي.
(7)
عماية الصبح: الجزء الأول منه، وهو بقية ظلمة الليل.
(8)
أخرجه ابن حبان (4774)، وأحمد (3/ 376).
قلت: القائل ذلك سلمة بن سلامة الأنصاري، ذكر ذلك ابن الصارم في تفسيره الكبير «الإبريز» ، والله أعلم.
وعن البراء بن عازب: كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم .. انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول:
أنا النبيّ لا كذب
…
أنا ابن عبد المطّلب
قال: فما رئي في الناس يومئذ أشدّ منه، فلما فرّ المسلمون .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس وكان صيّتا:«أي عباس؛ ناد أصحاب السّمرة» (1) فقلت بأعلى صوتي، قال: فو الله؛ لكأنّ عطفتهم عليّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، يقولون: يا لبيك يا لبيك، فجعل الرجل منهم يثني بعيره فلا يقدر عليه، فيقتحم عنه ويؤم الصوت، حتى اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة، وقيل: ألف، فاستعرضوا الناس، وساروا قدما حتى فتح الله عليهم، فنظر صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال:«هذا حين حمي الوطيس» ، ثم أخذ صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهنّ وجوه الكفار، ثم قال:«انهزموا وربّ محمد» ، قال: فو الله؛ ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى أحدهم كليلا وأمرهم مدبرا (2).
فلما انهزمت هوازن .. استحرّ القتل في ثقيف في بني مالك، فقتل منهم تحت رايتهم سبعون رجلا، وتفرّق المشركون في الهزيمة، فلحق عوف بن مالك في آخرين بالطائف، وتركوا أموالهم وأولادهم، واحتبس كثير منهم بأوطاس على أموالهم، وتوجه بعضهم نحو نخلة، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك نحو نخلة، ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع السّلمي دريد بن الصمة وهو في شجار له (3)، فأناخ به ثم ضربه، فلم يغن شيئا، فقال له دريد: بئس ما سلّحتك [أمّك]، خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل واضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ؛ فإني كنت كذلك أضرب
(1) السمرة: الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان يوم الحديبية، وأراد أن يذكرهم ما بايعوا عليه يومئذ.
(2)
حديث البراء أخرجه البخاري مختصرا (2864)، وهو عند مسلم (1775)، وابن حبان (7049)، وأحمد (1/ 207) وغيرهم بطوله، غير قوله: (فجعل الرجل منهم يثني
…
) إلى قوله: (حتى فتح الله عليهم) .. فهو عند الطبري في «تاريخه» (3/ 75)، وانظر «ابن هشام» (4/ 444).
(3)
الشجار: مركب مكشوف دون الهودج.
الرجال، فقتل وهو ابن مائة وستين سنة أو مائة وعشرين (1)، وكان دريد أشار بتمنيع الذراري والأموال، ولقاء الرجال بالرجال، وقال: إن المنهزم لا يرده شيء، فأبى عوف بن مالك النّصري إلا المسير بهم، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني، وقال حين تحققت الهزيمة:[من الطويل]
أمرتهم أمري بمنعرج اللّوى
…
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وما أنا إلا من غزيّة إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
ثم أمّر صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري على جيش من المسلمين، وبعثه إلى أوطاس في آثار من توجه قبل أوطاس، فأدرك بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فقتل أبو عامر، وأخذ الراية بعده ابن أخيه أبو موسى الأشعري، فقتل قاتل أبي عامر، وهزمهم وغنم أموالهم وفتح الله عليه (2).
وقتل يوم حنين وأوطاس أيمن ابن أم أيمن، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وسراقة بن الحارث الأنصاري، وأبو عامر الأشعري رضي الله عنهم.
وكان سبايا هوازن ستة آلاف رأس، ومن الإبل والشاء ما لا يعد، فأمر صلى الله عليه وسلم بسبايا هوازن وأموالها فحبست له بالجعرانة (3)، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري، وقيل: أبا سفيان بن حرب الأموي، وقيل: أبا جهم بن حذيفة العدوي.
ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من حنين وأوطاس .. توجّه إلى الطائف لحصار من تحصّن فيه من سواد حنين، وفي ذلك يقول كعب بن مالك من قصيدة له:[من الوافر]
قضينا من تهامة كلّ ريب
…
وخيبر ثم أحممنا السيوفا
نخيّرها ولو نطقت لقالت
…
قواطعهنّ دوسا أو ثقيفا
فسلك صلى الله عليه وسلم على قرن؛ مهلّ أهل نجد (4)، ثم على وادي ليّة (5) وابتنى
(1) أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 153)، والطبري في «تاريخه» (3/ 78)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 453).
(2)
أخرجه البخاري (4323)، ومسلم (2498).
(3)
الجعرانة: موضع بين مكة والطائف على سبعة أميال من مكة، وهي بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء، وقيل: بكسر العين وتشديد الراء.
(4)
قرن: هو قرن المنازل، جبل بينه وبين مكة من جهة المشرق مرحلتان.
(5)
ليّة: موضع من نواحي الطائف.
بها مسجدا، وقتل هناك رجلا من بني ليث بقتيل قتله من هذيل، وهو أول دم أقيد في الإسلام، وهدم حصن مالك بن عوف النّصري، ثم سلك من ليّة على نخب (1)، ونزل تحت شجرة تسمى: الصادرة، وخرب حائط رجل من ثقيف، ثم ارتحل فنزل على حصن الطائف، فقتل جماعة من أصحابه بالنّبل، فانتقل بعيدا منه، وضرب هناك قبة لعائشة وقبة لأم سلمة وصلّى بينهما، وهو موضع مسجده الذي بالطائف اليوم، وفي ركنه الأيمن القبلي قبر حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2).
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع أعنابهم ورماهم بالمنجنيق، ودخل ناس من الصحابة تحت دبابة، ثم زحفوا تحتها إلى جدار الحصن، فرمتهم ثقيف بالنار فاحترقت الدبابة، فخرجوا من تحتها فرموهم بالنبل، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة، ويقال: سبع عشرة ليلة، وانصرف عنهم حين هلّ شهر ذي القعدة؛ لأنه شهر حرام، وتدلى أبو بكرة نفيع بن الحارث من حصن الطائف على بكرة (3)، ونزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من عبيد الطائف (4).
وروي: أن أهل الطائف لما أسلموا .. كلموا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فقال:
«هؤلاء عتقاء الله عز وجل» (5) وجعل ولاءهم لهم.
واستشهد في حصار الطائف اثنا عشر أو ثلاثة عشر رجلا (6)، سبعة من قريش، وأربعة من الأنصار، وواحد من بني ليث، وأصاب عبد الله بن أبي بكر الصديق سهم-فمات منه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم-وعبد الله بن أبي أمية المخزومي.
وروي: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف: ادع عليهم، فقال:«اللهمّ؛ اهد ثقيفا وأت بهم» (7).
(1) نخب: واد من الطائف على ساعة.
(2)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 158)، والطبري في «تاريخه» (3/ 83)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 482)، وعند الواقدي في «المغازي» (3/ 926)، وابن سعد (2/ 146):(أن معه أم سلمة وزينب).
(3)
أخرجه الحاكم (4/ 278)، والواقدي (3/ 931)، وأصله في «البخاري» (4326).
(4)
أخرجه البخاري (4327).
(5)
أخرجه الواقدي في «المغازي» (3/ 932).
(6)
والصواب: أنهم اثنا عشر رجلا؛ لما مر في ترجمة ثابت بن أقرم رضي الله عنه (1/ 106): أن الصواب استشهاده في حروب الردة، وأن أحدا لم يذكره فيمن استشهد في حصار الطائف، وما نقله المصنف في ترجمته عن ابن الأثير من أنه استشهد فيه، إنما هو سبق ذهن إلى ترجمة ثابت بن الجذع المترجم بعده، والله أعلم.
(7)
أخرجه الترمذي (3942)، وأحمد (3/ 343)، وابن أبي شيبة (8/ 544)، والبيهقي في «الدلائل» (5/ 168).
ولما رجع صلى الله عليه وسلم من الطائف .. نزل الجعرانة، وقسم بها الغنائم، فأعطى الطلقاء ورؤساء العرب ومن ضعف إيمانه يتألّفهم ويتألّف بهم، ووكل آخرين إلى إيمانهم ويقينهم، منهم الأنصار رضي الله عنهم، فأعطى صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس، كلّ إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال:[من المتقارب]
أتجعل نهبي ونهب العبي
…
د بين عيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس
…
يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما
…
ومن تخفض اليوم لا يرفع
فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة (1).
وأعطى صلى الله عليه وسلم من الشاء بغير عدد، وسأله أعرابي فأعطاه غنما بين جبلين، فلما رجع إلى قومه .. قال: أسلموا؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر (2).
ولما لم يصب الأنصار من هذه المغانم لا قليل ولا كثير .. وجدوا وجدا عظيما، ووقع في أنفسهم ما لم يقع قبل ذلك، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ ! وقالوا: إذا كانت الشدة .. فنحن ندعى وتعطى الغنائم غيرنا؟ ! فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبر موجدتهم .. جمعهم وقال: «ما حديث بلغني عنكم؟ » ، فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله .. فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم .. فقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ ! فقال صلى الله عليه وسلم: «إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألّفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فو الله؛ لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» ، قالوا: يا رسول الله؛ قد رضينا (3).
ثم إن وفد هوازن جاءوا مسلمين ومناشدين للنبي صلى الله عليه وسلم برضاعة فيهم، فقال له قائلهم: يا رسول الله؛ لو أنا ملحنا (4) للحارث بن أبي شمر الغسّاني، أو
(1) أخرجه مسلم (1060)، وابن حبان (4827)، والعبيد: اسم فرس عباس، وبدر: في رواية: حصن، وكلاهما صحيح؛ لأن عيينة هو ابن حصن بن حذيفة بن بدر.
(2)
أخرجه مسلم (2312)، وابن حبان (4502)، وأحمد (3/ 175).
(3)
أخرجه البخاري (4331)، ومسلم (1059).
(4)
ملحنا: أرضعنا.
النعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به .. رجونا عطفه وعائده علينا، وأنت خير المكفولين، وأنشده زهير بن صرد الجشمي السعدي وهو أحد سراتهم:[من البسيط]
امنن علينا رسول الله في كرم
…
فإنّك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر
…
مشتّت شملها في دهرها غير
يا خير طفل وموجود ومنتجب
…
في العالمين إذا ما حصّل البشر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها
…
يا أرجح الناس حلما حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها
…
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته
…
واستبق منّا فإنّا معشر زهر
إنّا لنشكر للنعما إذا كفرت
…
وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه
…
من أمّهاتك إنّ العفو مشتهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به
…
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنّا نؤمّل عفوا منك تلبسه
…
هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاغفر عفا الله عمّا أنت راهبه
…
يوم القيامة إذ يهدى لك الظّفر
فلما سمع صلى الله عليه وسلم هذا الشعر .. قال: «ما كان لي ولبني عبد المطلب ..
فهو لكم»، وقالت قريش: ما كان لنا .. فهو لله عز وجل ولرسوله، وقالت الأنصار مثل ذلك (1).
وفي «الصحيحين» : (عن المسور بن مخرمة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه أن يردّ إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم:«معي من ترون، وأحب الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال» ، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام صلى الله عليه وسلم في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك .. فليفعل، ومن أحب أن
(1) أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/ 269)، و «الأوسط» (4627)، و «الصغير» (1/ 395)، والطبري في «تاريخه» (3/ 86)، والخطيب في «تاريخه» (7/ 108)، وأورده ابن حجر في «لسان الميزان» (5/ 324) وحسّنه، والصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (5/ 569)، والبيضة: الأهل والعشيرة، وحصّل: جمع، وتدراكهم: أصلها: تتداركهم، وشالت: تفرقت، والمراد: لا تجعلنا كمن ارتحل عنك وتفرق، وربما يراد بذلك الموت؛ أي: لا تجعلنا كمن مات فلا ينتفع به في الحرب وغيرها، وكمت-جمع كميت-وهو: الخيل الشديد الحمرة، والهياج: القتال، وراهبه: خائفة.
يكون على حظّه حتى نعطيه من أول ما يفيء الله علينا .. فليفعل»، فقال الناس: رضينا ذلك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» ، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد طيبوا وأذنوا) اهـ (1)
وروي: أنه كان في السبي الشيماء بنت الحارث، وهي بنت حليمة السعدية، فتعرفت للنبي صلى الله عليه وسلم بالأخوة، فبسط لها رداءه، ووهبها عبدا وجارية، فزوجت العبد الجارية، فلم يزل من نسلها بقية (2).
وقال أبو الطّفيل-وهو آخر من مات من الصحابة-: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام؛ إذ أقبلت امرأة، فدنت منه، فبسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ فقالوا: أمه التي أرضعته (3).
ولما انصرف وفد هوازن .. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «أخبروا مالك بن عوف أنه إن أتاني مسلما .. رددت عليه ماله وأهله، وأعطيته مائة من الإبل» ، فلما أخبروه .. خرج من الطائف مستخفيا، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فأعطاه ما وعده، وأسلم وحسن إسلامه، وقال حين أسلم:[من الكامل]
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
…
في الناس كلّهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدي
…
ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها
…
بالسّمهريّ وضرب كلّ مهنّد
فكأنّه ليث على أشباله
…
وسط الهباءة خادر في مرصد
فاستعمله صلى الله عليه وسلم على قومه، فحارب بهم ثقيف حتى ضيق عليهم (4).
(1)«صحيح البخاري» (2308).
(2)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 199)، وهذا ما ذكره ابن إسحاق كما في «سيرة ابن هشام» (4/ 458)، وانظر الحديث بعده.
(3)
أخرجه ابن حبان (4232)، والحاكم (3/ 618)، وأبو داود (5101)، والبيهقي في «الدلائل» (5/ 199) وغيرهم، وفيه دلالة على أن القادمة هي حليمة، وانظر كلام الصالحي في «سبل الهدى والرشاد» (4/ 466)، فقد أفاد وأجاد.
(4)
أخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 198)، وابن سعد (6/ 207)، والطبري في «تاريخه» (3/ 88)، اجتدي: طلبت منه العطية، ويروى بإهمال الحاء وإعجام الذال (احتذي) أي: سئل منه أن يحذي؛ أي: يعطي، عردت أنيابها: اعوجّت أو قطعت، السمهري: الرماح المنسوبة إلى سمهر؛ قرية بالهند، المهند: السيف، الهباءة: -
ثم خرج صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إلى مكة معتمرا (1)، فلما فرغ من عمرته ..
رجع إلى المدينة، واستعمل على أهل مكة عتّاب بن أسيد، وخلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس ويعلّمهم أمر دينهم، فحج عتّاب بن أسيد ذلك العام بالناس (2)، وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة في آخر ذي القعدة أو في ذي الحجة، وبقي أهل الطائف على شركهم إلى رمضان من سنة تسع، وأوفدوا قوما منهم بإسلامهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفي هذه السنة مدة مقامه: بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة من كنانة، فدعاهم خالد إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، وجعل خالد يقتل ويأسر، قال عبد الله بن عمر: ودفع خالد إلى كل واحد منا أسيره، ثم أمر خالد أن يقتل كلّ منا أسيره، فقلت: لا والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فقال:«اللهم؛ إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (3)، ثم بعث صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب لتلافي خطأ خالد، وبعث معه بمال، فودى لهم الدماء والأموال، حتى ميلغة الكلب (4)، وبقيت معه بقيّة من المال، فأعطاهم ذلك؛ احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا يعلمون، فاستحسن صلى الله عليه وسلم فعله، وعذر خالدا في إسقاط القصاص من حيث إن قولهم:
(صبأنا) ليس بصريح في قبولهم الدين (5).
وبعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أيضا لهدم العزّى، وكانت بنخلة، وكان سدنتها وخدمها بني شيبان من بني سليم، فهدمها خالد، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (6).
وبعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاصي إلى سواع-صنم لهذيل-فهدمه.
= الغبرة، ويروى:(المباءة)؛ منزل القوم في كل موضع، الخادر: الداخل في خدره، الخدر هنا غابة الأسد.
(1)
أخرجه البخاري (1780)، ومسلم (1253).
(2)
أخرجه الحاكم (270/ 3 و 594)، والبيهقي في «السنن» (4/ 341)، و «الدلائل» (5/ 202)، والطبري في «تاريخه» (3/ 94)، وابن سعد (2/ 142)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 500)
(3)
أخرجه البخاري (4339)، وابن حبان (4749)، والنسائي (8/ 236)، وأحمد (2/ 150) وغيرهم.
(4)
ميلغة الكلب: شيء يحفر من خشب ويجعل فيه الماء ليلغ ويشرب فيه.
(5)
أخرجه الطبري في «تاريخه» (3/ 67).
(6)
أخرجه النسائي في «الكبرى» (11483)، وأبو يعلى (902)، وابن أبي شيبة (8/ 363)، والطبري في «تاريخه» (3/ 65).
وفي هذه السنة: أسلم عباس بن مرداس، وكان لأبيه مرداس صنم يعبده يقال له:
ضمار، فقال لابنه عباس عند موته: اعبد ضمارا؛ فإنه ينفعك ويضرك، فبينا هو يوما عند ضمار؛ إذ سمع مناديا من جوفه يقول:[من الكامل]
قل للقبائل من سليم كلّها
…
أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إنّ الذي ورث النبوّة والهدى
…
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
أودى ضمار وكان يعبد مرّة
…
قبل الكتاب إلى النبيّ محمد
فحرّقه عباس، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم (1).
وفي هذه السنة: أسلم كعب بن زهير، وكان قد أسلم أخوه بجير قبله، فكتب كعب إلى بجير أبياته التي يقول فيها:[من الطويل]
شربت مع المأمون كأسا رويّة
…
فأنهلك المأمون منها وعلّكا
وخالفت أسباب الهدى واتّبعته
…
على أيّ شيء-ويب غيرك-دلّكا (2)
على خلق لم تلف أمّا ولا أبا
…
عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
فأخبر بجير النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات كعب، فلما سمع قوله: المأمون قال:
«صدق وإنه لكذوب، أنا المأمون» ، ولما سمع البيت الأخير .. قال:«أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه» ، ثم إن بجيرا كتب إلى كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، فإن كانت لك في نفسك حاجة .. فسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وكتب له أيضا أبياتا يخوفه فيها، فلما بلغ كعبا ذلك .. ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان في حاضره، فقدم المدينة ونزل على صديق له من جهينة، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافقاه في صلاة الصبح، فلما انقضت الصلاة .. قام كعب فجلس بين يديه صلى الله عليه وسلم، ووضع يده في يده، وقال: يا رسول الله؛ إن كعب بن زهير قد جاء مسلما تائبا، فهل أنت قابل منه إن جئتك به؟ قال:«نعم» ، فقال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير،
(1) أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» (1/ 146)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1392)، والخرائطي كما في «البداية والنهاية» (2/ 750)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 427)، وأودى: سرى الداء فيه، وضمار: بكسر المعجمة مصروف، وقيل: بفتح المعجمة والبناء على الكسر كحذام، ومنع هنا لضرورة الشعر.
(2)
الويب: الويل.
فقال رجل من الأنصار: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال:«دعه؛ فإنه قد جاء تائبا نازعا» ، ثم أنشده كعب قصيدته المشهورة:[من البسيط]
(بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)
ويقال: إنه لمّا أتى-حين أنشأها-على قوله:
إنّ الرسول لنور يستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول
.. نظر النبي صلى الله عليه وسلم كالمعجّب لهم من حسن القول وجودة الشعر، وإنه صلى الله عليه وسلم خلع عليه بردته، ولمّا ذكر المهاجرين في آخر قصيدته ولم يذكر الأنصار، بل عرّض يذمهم بقوله:(إذا عرّد السود التنابيل) .. قال له صلى الله عليه وسلم: «ألا ذكرت الأنصار؛ فإنهم أهل لذلك» ، فقال أبياتا يعدد فيها مناقب الأنصار (1).
وفي ذي الحجة مرجعه صلى الله عليه وسلم من الفتح: ولد ابنه إبراهيم، وأمه مارية بنت شمعون القبطية، وكانت قابلته سلمى؛ مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأرضعته أم سيف امرأة أبي سيف القين (2).
وقبل الفتح أو في عامه أو قبله: كانت بعوث وسرايا:
منها: أنه بعث صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية إلى المسجد، ثم أسلم فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر؛ لأن السرية أخذته وهو يريد أن يعتمر (3).
ومنها: سرية غالب بن عبد الله الليثي، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش وأمره أن يشنّ الغارة على بني الملوّح، وهم بالكديد، فبيّتوهم ليلا وقتلوا من قتلوا واستاقوا نعمهم، فلما أصبحوا .. أغاروا خلفهم، فلما أدركوهم .. جاء وادي قديد بسيل عظيم،
(1) هذا سياق ابن هشام في «السيرة» (4/ 501)، وأخرجه متفرقا الحاكم (3/ 579) والبيهقي في «السنن» (10/ 243)، و «الدلائل» (5/ 207)، والطبراني في «الكبير» (19/ 176)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (1657)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (2706).
(2)
سبق تخريجه في ترجمة سيدنا إبراهيم بن المصطفى صلى الله عليه وسلم (1/ 113)، وانظر «سبل الهدى والرشاد» (11/ 447) والقين: الحداد.
(3)
أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764)، وهذا البعث وقصة ثمامة فيه كانت قبل وفد بني حنيفة بزمان؛ أي: قبل فتح مكة، كما قال الحافظ في «الفتح» (8/ 87).
فحال بينهم وبينهم، فانطلقوا على مهلهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم (1).
ومنها: غزوة عبد الله بن رواحة لقتل اليسير بن رزام، وكان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم عبد الله بن أنيس، فلما قدموا عليه .. قربوا له القول، ووعدوه أن يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان بالقرقرة (2) .. ندم، ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به وكان رديفه، ثم ضربه بالسيف فقطع رجله، وضربه اليسير في رأسه فأمّه، ثم مالوا على أصحابه من اليهود فقتلوهم إلا رجلا فرّ على رحله، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. تفل على شجّة عبد الله بن أنيس فلم تقح (3).
ومنها: غزوة عبد الله بن أنيس لقتل خالد بن سفيان الهذلي، وكان بنخلة يجمع الناس لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عبد الله بن أنيس لا يعرفه، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم تعريفه، فقال:«إنك إذا رأيته .. أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته .. وجدت له قشعريرة» ، فلما انتهى إليه .. وجد العلامة، فقال له: جئت لك حين سمعت بجمعك لهذا الرجل، قال: أنا في ذلك، قال عبد الله: فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني .. حملت عليه بالسيف فقتلته، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال:«أفلح الوجه» ، ثم أدخلني بيته، فأعطاني عصا، فقلت له: لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة» ، فأوصى عبد الله أن تدفن معه (4).
ومنها: غزوة عيينة بن حصن بني العنبر ابن تميم، فأصاب منهم ناسا، وسبى منهم نساء، ثم قدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ذلك رجالهم يطلبون مفاداتهم، وجعلوا ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلف الحجر: يا محمد؛ اخرج إلينا، فأنزل الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (5)،
(1) أخرجه الحاكم (2/ 124)، وأبو داود (2671)، وأحمد (3/ 467) وابن سعد (2/ 112)، وقال:(في صفر سنة ثمان).
(2)
أي: قرقرة ثبار: موضع على ستة أميال من خيبر، والقرقرة في الأصل: الضحك إذا استغرب فيه ورجّع، وهدير البعير.
(3)
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» (2/ 662)، والبيهقي في «الدلائل» (4/ 294)، والطبري في «تاريخه» (3/ 155)، وانظر «سيرة ابن هشام» (4/ 618)، وكانت في شوال سنة ست، كما قال ابن سعد (2/ 88).
(4)
أخرجه ابن خزيمة (982)، وابن حبان (7160)، وأبو داود (1243)، وكانت يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة كما قال ابن سعد (2/ 50).
(5)
أخرجه الترمذي (3267)، والنسائي في «الكبرى» (11451)، وأحمد (3/ 488)، والطبراني في «الكبير» (5/ 210)، وابن سعد (2/ 147).
ثم خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ففادى نصفهم، وأعتق نصفهم، وفيهم حصل الاختلاف بين الشيخين رضي الله عنهما، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع [بن معبد] بن زرارة، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال:
ما أردت خلافك، فتماريا وارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} الآيتين (1).
وفيها: سرية زيد بن حارثة إلى نحو مدين، فأصاب سبيا من أهل مينا وهي السواحل وفيها: جمّاع الناس، فبيعوا، ففرّق بينهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال:«ما لهم؟ » فقيل: يا رسول الله؛ فرّق بينهم، فقال:«لا تبيعوهم إلا جميعا» (2)؛ يعني: الأولاد وأمهاتهم.
وفيها: بعثه صلى الله عليه وسلم إلى الحرقات من جهينة، قال أسامة: فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه .. قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري، وطعنته حتى قتلته، فلما قدمنا المدينة .. بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا أسامة؛ أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ ! » قلت:
كان متعوّذا، قال: فما زال يكرّرها حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (3).
وذكر مغلطاي في «سيرته» : (أن هذه السرية كانت في رمضان سنة سبع، قال: وفي «الإكليل»: فعل أسامة ذلك في سرية كان أميرا عليها سنة ثمان)(4).
***
(1) أخرجه البخاري (4367)، والترمذي (3266)، والنسائي (8/ 226)، وأحمد (4/ 6).
(2)
انظر «سيرة ابن هشام» (4/ 635)، وجمّاع الناس: أخلاط وأصناف منهم، ولا ريب أنها قبل مؤتة؛ لكون زيد بن حارثة إنما استشهد فيها.
(3)
أخرجه البخاري (4269)، ومسلم (96).والحرقات: نسبة إلى الحرقة، واسمه: جهيش بن عامر بن ثعلبة بن مودعة بن جهينة، وقد سمّي الحرقة؛ لأنه حرق قوما بالنبل فبالغ في ذلك، وإنما سكت المصنف عن ذكر أمير هذه السرية؛ للخلاف في تعيين أميرها، والذي عند البخاري: أن أميرها أسامة بن زيد، قال الحافظ في «الفتح» (7/ 518):(قوله: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة» ليس في هذا ما يدل على أنه أمير الجيش كما هو ظاهر الترجمة، وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة؛ وهي وراء بطن نخل، وذلك في رمضان سنة سبع، وقالوا: إن أسامة قتل الرجل في هذه السرية، فإن ثبت أن أسامة كان أمير الجيش .. فالذي صنعه البخاري هو الصواب؛ لأنه ما أمّر إلا بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة، وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها .. رجح ما قال أهل المغازي).
(4)
«سيرة مغلطاي» (288).