الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها حتى نعطى أمانا أو نموت كراما، فأبى ابن الأشعث إلا الالتجاء إلى رتبيل، وأقام الخمس مائة حتى قدم من قبل الحجاج عمارة بن تميم، فقاتلوه حتى أمنهم ووفى لهم، ثم تتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في طلب ابن الأشعث، فأرسل إليه ووعده أن يترك عنه حمل الخراج سبعة أعوام، فقيل: إن رتبيل غدر بابن الأشعث، فأرسل به إلى الحجاج في ثلاثين من أهل بيته مقيدين، فيقال: إن ابن الأشعث ألقى نفسه من قصر خراب أنزلوه فيه، فهلك قبل أن يصل إلى الحجاج.
وقيل: إن رتبيل لم يسمح به، وإنما أصاب ابن الأشعث السل، فمات فقطع رأسه، ونفذ به إلى الحجاج، وكان موته سنة أربع وثمانين.
441 - [ابن القرّيّة]
(1)
أيوب بن يزيد بن قيس بن زرارة النمري الهلالي، المعروف بابن القرّية-بكسر القاف والراء والمثناة التحتانية مشددة-اسم أمه كما في «الذهبي» (2)، أو جدته كما في «اليافعي» (3).
أعرابي أمي فصيح مفوه، يضرب ببلاغته المثل.
وكان عامل الحجاج يغدي كل يوم ويعشي، فرأى ابن القرية الناس يدخلون بيت العامل، فقال: أين يدخل هؤلاء؟ قالوا: إلى طعام الأمير، فدخل فتغدى، فقال: كل يوم يصنع الأمير ما أرى؟ قيل: نعم، فكان كل يوم يأتي الغداء والعشاء، فورد كتاب من الحجاج إلى العامل وهو عربي غريب لم يدر العامل ما فيه، فاهتم وأخر لذلك طعامه، فجاء ابن القرية فقال: ما بال الأمير لا يأكل ولا يطعم؟ فقالوا: ورد عليه كتاب عربي غريب من الحجاج لم يدر ما هو، فقال: ليقرئني الأمير الكتاب وأنا أفسره إن شاء الله تعالى، وكان خطيبا لسنا فصيحا بليغا، فقرئ عليه، ففسره بأوضح خطاب، وأمره الوالي أن يكتب له الجواب، قال: لست أقرأ ولا أكتب، ولكن أقعد عندي كاتبا يكتب ما أمليه
(1)«تاريخ الطبري» (6/ 385)، و «المنتظم» (4/ 393)، و «الكامل في التاريخ» (3/ 516)، و «وفيات الأعيان» (1/ 250)، و «سير أعلام النبلاء» (4/ 197)، و «تاريخ الإسلام» (6/ 43)، و «مرآة الجنان» (1/ 171)، و «البداية والنهاية» (9/ 67)، و «النجوم الزاهرة» (1/ 207)، و «شذرات الذهب» (1/ 342).
(2)
انظر «تاريخ الإسلام» (6/ 43).
(3)
انظر «مرآة الجنان» (1/ 171).
عليه، ففعل العامل، وأرسل الجواب إلى الحجاج، فلما وقف على غريبه وفصاحته ..
علم أنه ليس من كلام كتّاب الخراج، فدعا برسائل عامل عين التمر؛ فإذا هي ليست ككتاب ابن القرية، فكتب الحجاج إلى العامل:
أما بعد: فقد أتاني كتاب بعيد من جوابك، وأظنه من غيرك، فإذا وصلك كتابي .. فلا تضعه في يدك حتى توجه إليّ بالرجل الذي سطر الكتاب، والسلام.
فلما وقف العامل على كتاب الحجاج .. قال لابن القرية: تتوجه نحوه ولا بأس عليك، وأمر له بكسوة ونفقة، وحمله إلى الحجاج، فلما دخل عليه .. قال: ما اسمك؟ قال:
أيوب، قال: اسم نبي، وأظنك أميا تحاول الفصاحة ولا يستصعب عليك المقال، وأنزله بنزل ومنزل ولم يزل يزداد عجبا حتى أوفده على عبد الملك بن مروان.
فلما خلع ابن الأشعث الطاعة بسجستان .. بعث الحجاج ابن القرية إليه رسولا، فلما دخل عليه .. قال له ابن الأشعث: لتقومن خطيبا، ولتخلعن عبد الملك وتشتم الحجاج أو لأضربن عنقك.
قال أيها الأمير: إنما أنا رسول، قال: هو ما أقول لك، فقام وخطب، وخلع عبد الملك، وشتم الحجاج، وأقام عند ابن الأشعث إلى أن انهزم ابن الأشعث في وقعة دير الجماجم، فكتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليها: ألاّ يمر بهم أحد من أصحاب ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرا إليه، فأخذ ابن القرية فيمن أخذ، فلما أدخل على الحجاج .. قال: أخبرني عما أسألك عنه، قال: سل عما بدا لك.
قال: أخبرني عن أهل العراق، قال: أعلم الناس بحق وباطل.
قال: فأهل الحجاز، قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم عنها.
قال: فأهل الشام، قال: أطوع الناس لخلفائهم.
قال: فأهل مصر، قال: عبيد من خلب؛ أي: خدع.
قال: فأهل الموصل، قال: أشجع الفرسان، وأقتل للأقران.
قال: فأهل اليمن، قال: أهل سمع وطاعة، ولزوم الجماعة.
ثم سأله عن قبائل العرب وعن البلدان وهو يجيب بأفصح عبارة، ثم قال: إن العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العرب أصلح الله الأمير.
قال: فما آفة الحلم؟ قال: الغضب.
قال: فما آفة العقل؟ قال: العجب.
قال: فما آفة العلم؟ قال: النسيان.
قال: فما آفة السخاء؟ قال: المن عند البلاء.
قال: فما آفة الكرام؟ قال: مجاورة اللئام.
قال: فما آفة الشجاعة؟ قال: البغي.
قال: فما آفة العبادة؟ قال: الفترة.
قال: فما آفة الذهن؟ قال: حديث النفس.
قال: فما آفة الحديث؟ قال: الكذب.
قال: فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال: أصلح الله الأمير، لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكى فرعه.
قال: امتلأت شقاقا، وأظهرت نفاقا، وأمر بضرب عنقه بعد أن عيب عليه بمتابعته أهل العراق، فقال: ثلاث كلمات، أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقوف يكن مثلا بعدي، قال: هات، قال: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل حليم هفوة.
قال الحجاج: ليس هذا وقت المزاح، يا غلام أوجب جرحه، فضرب عنقه، فلما رآه الحجاج قتيلا .. ندم حيث لا ينفعه الندم، وذلك في سنة أربع وثمانين.
قلت: المؤرخ رحمه الله تعالى لم يستوف كلام ابن القرية المذكور في جواب ما سأله به الحجاج بن يوسف، فينبغي إيراد بعض ما وقفت عليه في «تاريخ ابن خلكان» لتتم الفائدة:(قال: فأهل البحرين، قال: نبيط استعربوا، قال: فأهل عمان، قال: عرب استنبطوا، قال: فأهل اليمامة، قال: أهل جفاء، واختلاف أهواء، وأصبر على اللقاء، قال: فأهل فارس، قال: أهل بأس شديد، وشر عتيد، وزيف كثير، وقرى يسير) اهـ (1) والله سبحانه أعلم.
(1)«وفيات الأعيان» (1/ 252).