الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بقُباءَ، في صَلَاةِ الصُّبْح، إذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَدْ أُنْزِلَ علَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرآن، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ؛ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتدارُوا إِلَى الكَعْبَةِ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (395)، كتاب: القبلة، باب: ما جاء في القبلة، و (4218)، كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ
…
} [البقرة: 143]، و (4220)، باب: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ
…
} [البقرة: 145]، و (4221)، باب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
…
} [البقرة: 146]، و (4224)، باب: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
…
} [البقرة: 150]، و (6824)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام، ومسلم (526)، (1/ 375)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، والنسائي (493)، كتاب: الصلاة، باب: استبانة الخطأ بعد الاجتهاد، و (745)، كتاب: القبلة، باب: استبانة الخطأ بعد الاجتهاد، والترمذي (341)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في ابتداء القبلة، مختصرًا.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 451)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 138)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض =
(عن) أبي عبدِ الرحمن (عبدِ الله بنِ) أمير المؤمنين (عمرَ) بنِ الخطاب (رضي الله عنهما قال: بينما الناس بقباءً)؛ هو -بالمد والصرف على الأشهر-، ويجوز فيه القصرُ وعدمُ الصرف، وهو يذكر ويؤنث: موضع معروف ظاهرَ المدينة المشرفة، كما في "الفتح"(1).
وفي "القاموس": قُباء -بالضم، ويُذَكَّرُ ويُقْصَر-: موضع قربَ المدينة (2).
(في صلاة الصبح)
وقد ذكرنا في أول الباب من حديث البراء: أنهم كانوا في صلاة العصر، ولا منافاة بين الحديثين؛ لأن خبر التحول وصل وقتَ العصر إلى مَنْ هو داخلَ المدينة، وهم بنو حارثة، والآتي إليهم بذلك عبادُ بنُ بشر كما تقدم، أو ابنُ نهيك، وأما أهل قُباء فلم يسمَّ الآتي بذلك إليهم، وإن كان ابنُ طاهر وغيرُه زعموا أنه عباد بن بشر، فقد نظر فيه الحافظ ابن حجر في "الفتح"؛ لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، وعلى تقدير صحة نقلهم لذلك، فلعل عبادًا أتى بني حارثة أولًا في وقت العصر، ثم توجه إلى قُباء، فأعلمهم بذلك في الصبح.
= (2/ 448)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 127)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 10)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 189)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 395)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 320)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 78)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 506) و"عمدة القاري" للعيني (4/ 147)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 176).
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506). قال النووي في "شرح مسلم"(5/ 9): أفصحها بالمد.
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1705)، (مادة: قَبَو).
ومما يدل على تعدُّدهما: أن مسلمًا روى من حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلًا من بني سلمة مَرَّ وهم ركوعٌ في صلاة الفجر (1)، فهذا موافق لرواية ابن عمر رضي الله عنهما (2)، حيث قال:(إذ جاءهم)؛ أي: الناسَ الذين في صلاة الصبح من أهل قُباءٍ (آتٍ) فاعلُ جاء، مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين.
قال البرماوي: الآتي هو عباد بن بشر الأشهليُّ، قاله الفاكهي في "أخبار مكة" (3). وقيل: عباد بن نُهَيك -بضم النون وفتح الهاء-.
وفي "الفتح": أنه -بفتح النون وكسر الهاء (4)، الخطميُّ الأنصاريُّ، قاله ابن عبد البر (5)، وكذا قاله ابن سِيْدَه: هو عباد بن لهيب بن إساف الخزرجي الشاعر، عُقَر في الجاهلية زمانًا، وأسلم وهو شيخ كبير، فوضع عنه صلى الله عليه وسلم الغزوَ.
وهو الذي صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة يوم صرف القبلة -يعني: من صلاة الظهر-، ثم أتى قومه بني حارثة وهم ركوع من صلاة العصر، فأخبرهم بتحويل القبلة، فاستداروا إلى الكعبة.
(1) رواه مسلم (527)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506).
(3)
ولم أره فيما طبع من كتابه هذا، والله أعلم. وقد حكى هذا القولَ ابنُ بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة"(1/ 225).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 97).
(5)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 806).
وقيل: إن الذي أتى أهلَ قباء عَبَّادُ بن وهب من بني حازم (1).
والحاصل: أن النبي صلى الله عليه وسلم تحول إلى الكعبة المشرفة عن استقبال بيت المقدس في صلاة الظهر، ثم ذهب مَنْ أخبر بني حارثة بالتحويل، فصادفهم في صلاة العصر، ثم ذهب مَنْ أخبر أهل قباء، فوافقهم في صلاة الصبح، فيكون بنو حارثة صلوا جميع الظهر بعد التحويل إلى جهة الصخرة، وصلى أهل قُباء الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ إليها كذلك؛ لأنه لم يبلغهم النسخُ، ولم يؤمروا بالإعادة؛ لعدم علمِهم بورود الناسخ؛ لأنهم صلَّوا إلى قبلة كانوا مأمورين بالتوجه إليها، وجهلوا التحويلَ الطارىء، فلم تلزم إعادة، وهذا على قاعدة اشتراط العلم لصحة التكليف.
(فقال) ذلك الآتي لأهل قُباء: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أتى بأداة التأكيد؛ لاقتضاء المقام لذلك؛ لعظم الأمر وفخامته وغرابته (قد أُنزل) -بالبناء للمفعول- (عليه الليلة قرآنٌ) -بالرفع- نائب فاعل؛ أي: أنزل الله عليه الليلة قراَنًا، وإنما حذف الفاعل للعلم به.
وفيه: إطلاقُ الليلة على بعض اليوم الماضي، وما يليه، مجازًا، والتنكير في قوله "قرآن" لإرادة [البعضية](2)، والمراد: قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآيات [البقرة: 144].
(وقد أُمر) صلى الله عليه وسلم؛ أي: أمره الله في القرآن الذي أنزل عليه (أن يستقبل القبلة)؛ أي: الكعبةَ المشرفةَ.
فيه: أن ما يؤمر به النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أُمَّتَه، وأن أفعاله يؤتَسى بها
(1) قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة في تمييز الصحابة"(3/ 620): والمحفوظ في ذلك عباد بن بشر بن قيظي.
(2)
في الأصل: "التعظيم"، والتصويب من "الفتح"(1/ 506).
كأقواله حتى يقوم دليل على الخصوص (1).
(فاستقبَلوها) هو بفتح الباء الموحدة للأكثر (2)؛ أي: فتحولوا إلى جهة الكعبة، وفاعل استقبلوها المخاطبون بذلك، وهم أهل قباء.
(وكانت وجوهُهم إلى) جهة (الشام، فاستداروا إلى) جهة (الكعبة) المشرفة.
فعلى كون الباء مفتوحة، تكون جملة: فكانت وجوههم
…
إلخ: تفسيرًا من الراوي للتحول المذكور، ويحتمل أن يكون فاعل استقبلوها: النبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه، وضمير "وجوههم"، لهم، أو لأهل قباء، على الاحتمالين.
وفي رواية الأصيلي: فاستقبلوها -بكسر الموحدة بصيغة الأمر، ويأتي في ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قُباء أظهر.
ورجَّح هذه الرواية ما في "البخاري" في: التفسير، من حديث سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار، في هذا الحديث، بلفظ: وقد أُمِرَ أن يستقبلَ الكعبةَ، ألا فاستقبِلُوها (3).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506).
(2)
كما قاله ابن عبد البر في "الاستذكار"(2/ 451). قال النووي في "شرح مسلم"(5/ 10): والكسر أصح وأشهر، وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده.
قال القاضي عياض في: "مشارق الأنوار"(2/ 171): رواية عبيد الله، عن يحيى: -بكسر الباء- على الأمر، وكذا رواه الأصيلي في "البخاري"، ورواية ابن وضاح: -بفتحها- على الخبر، وكذا لبقية رواة البخاري، وضبطناه فىِ "مسلم" بالفتح على أبي بحر، وبالكسر على غيره.
(3)
تقدم تخريجه برقم (4220)، وهذه الراوية تؤيد كلام النووي رحمه الله الذي سبق ذكره.
فدخولُ حرف الاستفتاح يُشعر بأن الذي بعده أمرٌ، لا أنه بقية الخبر الذي قبله (1).
فوائد:
الأولى: ذكر في حديث تُويلةَ بنتِ أسلمَ، عند ابن أبي حاتم كيفيةُ التحول. قالت فيه: فتحول النساءُ مكانَ الرجال، والرجالُ مكان النساء، فصلينا السجدتين -يعني: الركعتين الباقيتين- إلى البيت الحرام، يعني: الكعبة (2).
وتصويره: أن الإمام تحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخره؛ لأن من استقبل الكعبة في المدينة، استدبرَ بيتَ المقدس، وهو لو دار كما هو في كل مكانه، لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، ولما تحول الإمام، تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صِرْنَ خلف الرجال، وهذا يستدعي عملًا كثيراً في الصلاة، فيحتمل كونُ ذلك وقعَ قبل تحريم العمل، كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة، أولم تتوال الخُطا عند التحويل، بل وقعت مفرقة (3).
الثانية: كان التحويل المذكور في شهر رجب -كما قدمناه-، بعد الزوال قبلَ غزوة بدر بشهرين.
وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بأصحابه رضي الله عنهم في
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506).
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 37)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(3461)، والطبراني في "المعجم الكبير"(24/ 207).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 506 - 507).
مسجد بني سلمة، فلما صلى ركعتين من الظهر إلى بيت المقدس، تحول في الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء، فسمي: مسجدَ القبلتين (1).
الثالثة: فيه قبول خبر الواحد، ووجوبُ العمل به، ونسخُ ما تقرر بطريق العلم به؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع؛ لمشاهدتهم صلاةَ الشارع صلى الله عليه وسلم إلى جهته، ووقع تحويلهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر الواحد.
لكن إنما عملوا به؛ لما احتف به من القرائن، والمقدمات المفيدة للقطع عندهم بصدق ذلك الخبر، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيده.
وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزًا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقًا دون ما بعده (2)، والله تعالى الموفق.
* * *
(1) انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 242)، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 94 - 95)، و"تفسير ابن كثير"(1/ 191)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 503).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 507)، باختصار عن ابن دقيق العيد في "شرح عمدة الأحكام"(1/ 189 - 190).