الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ، سَكَتَ هُنَيْهَةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ! بأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَكبِيرِ، والقِرَاءَةِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ:"أَقُولُ: الَّلهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي، وبَيْنَ خَطَايَايَ؛ كمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بالمَاءِ، والثَّلْجِ، والبَرَدِ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (711)، كتاب: صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، ومسلم (598)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، واللفظ له، وأبو داود (781)، كتاب: الصلاة، باب: السكتة عند الافتتاح، والنسائي (60)، كتاب الطهارة، باب: الوضوء بالثلج، و (895)، كتاب الافتتاح، باب: الدعاء بين التكبيرة والقراءة، وابن ماجه (805)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 550)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 216)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 96)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 443)، و"فتح الباري" لابن رجب (4/ 342)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 91)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 229)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 292)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 165)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 206).
(عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم).
تقدم: أن "كان" تشعر بكثرة وقوع مدخولها، والمداومة عليه، وقد تستعمل في مجرد وقوعه (1).
(إذا كبر في الصلاة) هذا يدل مع ما يأتي من الأحاديث على افتتاح الصلاة بالتكبير، فلا تنعقد الصلاة إلا بقوله قائماً في فرضٍ: الله أكبر، مرتَّباً، وفاقاً لمالك، لا إن قال: الله الأكبر، خلافاً للشافعي، أو الله جليل، ونحوه، خلافاً لأبي حنيفة، ولو زاد: أكبر، خلافاً للشافعي، ولا إن قال: الله أقبر -بالقاف-.
وقالت الحنفية: تنعقد، قالوا: لأن العرب تُبْدِل الكاف بها.
ولا تنعقد إن مد همزة أكبر، أو قال: أكبار، اتفاقاً. وأما لو خلل الألف بين اللام والهاء، لم يضر؛ لأنه إشباع؛ وحذفها أولى؛ لكراهة التمطيط (2).
وترجم البخاري في "صحيحه"، باب: إيجاب التكبير (3)، أطلق الإيجاب، والمراد: الوجوب تجوزاً؛ لأن الإيجاب خطاب الشرع، والوجوب ما يتعلق بالمكلف، وهو المقصود هنا (4).
فائدة: تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة عند الجمهور. وقيل: شرطٌ، وهو عند الحنفية، ووجهٌ عند الشافعية.
قال في "الفروع" عن تكبيرة الإحرم: إنها ليست بشرطٍ، بل من
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 359).
(3)
انظر: "صحيح البخاري"(1/ 257).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 216).
الصلاة، نص عليه -يعني: الإمام أحمد-، ولهذا تعتبر لها شروطها.
وعند الحنفية شرطٌ، فيجوز عندهم بناء النفل على تحريمة الفرض، حتى لو صلى الظهر، صح إلى النفل بلا إحرامٍ جديدٍ (1).
وقيل: إن تكبيرة الإحرام سنةٌ.
قال ابن المنذر: لم يقل به أحدٌ غير الزهري، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب، والأوزاعي، ومالك.
قال في "الفتح": ولم يثبت عن أحد منهم تصريحاً، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعاً: يجزئه تكبيرة الركوع. نعم، نقله الكرخي من الحنفية عن إسماعيل بن عُلَيّه، وأبي بكرٍ الأصم (2).
(سكت هنيهة)؛ كذا وقع في رواية الكشميهني، وغيره بقلب الياء هاء.
وفي أكثر الروايات: هنيئة -بضم الهاء وفتح النون بلفظ التصغير-، وهو عند الأكثر: بتشديد الياء.
وذكر القاضي عياض: أن أكثر رواة مسلم قالوه بالهمز (3)، وأما النووي، فقال: الهمز خطأٌ، قال: وأصله: هنيوةٌ، فاجتمعت واوٌ وياء سبقت إحداهما السكون، فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت (4).
قال غيره: لا يمنع ذلك إجازة الهمز، فقد تقلب الياء همزةً (5).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 408).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 217).
(3)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 550).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 96).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 229).
وفي "النهاية": أقام هنيئةً؛ أي: قليلاً من الزمان، وهو تصغير هنة، ويقال،: هنيهة أيضاً.
(قبل أن يقرأ) صلى الله عليه وسلم، (فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل، والتقدير: أنت مفدي، أو أفديك.
واستدل به على جواز قول ذلك. وزعم بعضهم أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
(أرأيت سكوتك) هكذا في رواية مسلم (1).
وفي البخاري: إسكاتك -بكسر أوله-، وهو بالرفع على الابتداء.
قال [المظهري](2) شارح "المصابيح": هو بالنصب على أنه مفعولٌ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي: أسألك إسكاتك، أو على نزع الخافض، انتهى (3).
وفي رواية الحميدي: ما تقول في سكتتك (4)(بين التكبيرة والقراءة)؛ أي: بعد تكبيرة الإحرام، وقبل الشروع في قراءة الفاتحة.
(ما تقول) كأن أبا هريرة رضي الله عنه فهم أن هناك قولاً؛ فإن السؤال وقع بقوله: ما تقول؟ لا بقوله: هل تقول؟ والسؤال بهل مقدمٌ على السؤال، بما هاهنا.
ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم، كما ورد في استدلالهم على القراءة باضطراب لحيته صلى الله عليه وسلم (5).
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 278).
(2)
في الأصل: "الضميري"، وهو خطأ، والتصويب من "الفتح"(2/ 229).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 229).
(4)
رواه أبو عوانة في "مسنده"(1599)، من طريق الحميدي. ورواه أبو يعلى في "مسنده"(6097)، من طريق العباس بن الوليد النَّرسي.
(5)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 212).
(قال) صلى الله عليه وسلم: (أقول: اللهم)؛ أي: يا ألله! حذف حرف النداء تخفيفاً، وعوض عنه حرف الميم، ولهذا لا يجمع بينهما في اختيار الكلام.
(باعِدْ) المراد بالمباعدة: بمحو ما حصل منها، والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز؛ لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان (1).
(بيني وبين خطاياي): جمع خطيئة، وهي الذنوب، أو العمد منها، والمراد: مجرد الذنوب.
وكرر لفظة "بين"؛ لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، يعني: مجازاً عن زوال الذنوب ومحو أثرها.
(كما باعدت بين المشرق) من الأفق الذي تشرق الشمس منه (والمغرب) الذي تغيب فيه، وأفرد كل واحدٍ منهما باعتبار الجهة.
وموقع التشبيه من ذلك: أن التقاء المشرق والمغرب مستحيلٌ، فكأنه أراد ألا يبقى لذنوبه منه صلى الله عليه وسلم اقترابٌ بالكلية (2).
(اللهم نقني): من التنقية، وهو غسله وتنظيفه
(من خطاياي)؛ أي: ذنوبي.
(كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)؛ أي: الوسخ. يعني بـ"نقني": أَزِلْ عني الذنوب بمحو أثرها.
ولما كان الدنس في الثوب الأبيض أظهرَ من غيره من الألوان، وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد (3).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 213).
(اللهم اغسلني من خطاياي) بأن تمحوها، وتمحو أثرها عني.
(بالماء والثلج والبرد) قال ابن دقيق العيد: يحتمل إرادة المحو بالمجموع، فإن الثوب الذي تكرر عليه التنقية بثلاثة أشياء منقيةٍ يكون في غاية النقاء، ويحتمل أن يكون كل واحدٍ من هذه الأشياء مجازاً عن صفة يقع بها التكفير والمحو، ولعل ذلك كقوله تعالى:{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة: 286]، فكل واحدةٍ من هذه الصفات -أعني: العفو والمغفرة والرحمة- لها أثرٌ في محو الذنوب. فعلى هذا ينظر إلى الأفراد، ويجعل كل فردٍ من أفراد الحقيقة دالاً على معنىً فرد مجازي، انتهى (1).
وقال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيداً، ولأنهما ماءان لا تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال.
قال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها منزلةٌ من السماء.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاثة إشارةٌ إلى الأزمنة الثلاثة؛ فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي، انتهى (2).
وبدأ بتقديم المستقبل؛ للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل.
واستدل بالحديث على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة، خلافاً للمشهور عن مالك، والله أعلم (3).
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
تنبيهان:
الأول: حديث أبي هريرة هذا أحد استفتاحات الصلاة، والذي اختاره الإمام أحمد وفاقاً للإمام أبي حنيفة: ما في السنن الأربعة، عن عائشة، وأبي سعيد، وغيرهما رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة، قال:"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك"(1)، وهو في "صحيح مسلم"، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً عليه (2).
نص على استحباب الاستفتاح بهذا الإمامُ أحمد، وصحح قول عمر رضي الله عنه بمحضرٍ من الصحابة، وقال عن غيره من الأخبار: إنما هي عندي في التطوع.
واحتج له القاضي بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]؛ يعني: إلى الصلاة، فمنع غيره من الأذكار. ومعنى الواو: وبحمدك سبحتك (3).
(1) رواه أبو داود (775)، كتاب: الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والنسائي (899، 900)، كتاب: الافتتاح، باب: نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة، وبين القراءة، والترمذي (242)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (804)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
ورواه أبو داود (776)، كتاب: الصلاة، باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، والترمذي (243)، كسَاب: الصلاة، باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة، وابن ماجه (806)، كتاب: الصلاة، باب: افتتاح الصلاة، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه مسلم (399)، كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال: لا يجهر بالبسملة.
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 362).
واختار الإمام الشافعي ما في "صحيح مسلم"، عن علي- رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، قال:"وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين"(1).
لكن قيده مسلم بصلاة الليل، وبذلك رجَّح الإمام أحمد عليه استفتاحَ عمر، وأخرجه الشافعي، وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ: إذا صلى المكتوبة (2). واعتمده الشافعي في "الأم"(3).
واختار عون الدين بن هبيرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية: جمعَ التسبيح والتوجُّه.
وقال شيخ الإسلام -أيضاً-: الأفضل أن يأتي بكل نوع من أنواع الاستفتاحات أحياناً (4).
ونقل الساجي عن الشافعي: استحبابَ الجمع بين التوجه والتسبيح، وهو اختيار ابن خزيمة، وجماعةٍ من الشافعية.
وحديث أبي هريرة المشروح أصح ما ورد في ذلك (5).
(1) رواه مسلم (771)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
(2)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 35)، وابن خزيمة في "صحيحه"(462)، بلفظ: كان إذا افتتح الصلاة
…
، ثم ذكره. وما ذكره الشارح رحمه الله، نقله عن الحافظ ابن حجر في "الفتح"(2/ 230).
(3)
انظر: "الأم" للإمام الشافعي (1/ 106).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 362).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230).
الثاني: صدر هذا الدعاء -في حديث أبي هريرة- من النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، والاعتناء بمقتضياتها.
وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض: بأنه لو أراد ذلك، لجهر به.
وأجيب: بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار (1).
وفي هذا الحديث: ما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- من المحافظة على تتبع أحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته، وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين (2)، والله الفتاح المعين.
* * *
(1) رواه البزار في "مسنده"(2/ 106 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، بلفظ: "إذا صلى أحدكم، فليقل: اللهم باعد بيني وبين خطاياي
…
" الحديث.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 230).