الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابهِ فِي صَلَاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَلَمَّا رَجَعُوا، ذَكرُوا ذَلِكَ لِرَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"سَلُوهُ: لِأَيِّ شَيْءٍ، يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ "، فَسَألوهُ، فَقَالَ: لأنَّها صِفَةُ الرَّحْمَنِ عز وجل؛ فَأنا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّهُ"(1).
* * *
(عن) أم المؤمنين (عائشة) الصديقة (رضي الله عنها: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث رجلًا) قال ابن بشكوال: اسم هذا الرجل: قتادة بن
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (6940)، كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد اللَّه تبارك وتعالى، ومسلم (813)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والنسائي (993)، كتاب: الافتتاح، باب: الفضل في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (3/ 180)، و"شرح مسلم" للنووي (6/ 95)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 18)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 516)، و"فتح الباري" لابن حجر (13/ 356)، "عمدة القاري" للعيني (25/ 83).
النعمان الظَّفَري -بفتح الفاء- (1). يعني بهذا: أبا عمرو الأنصاري، الذي أعيبت عينه يوم أحد، وردها له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكانت أحسن عينيه إلى أن مات سنة ثلاث وعشرين، أو أربع وعشرين، وعمره: خمسون سنة (2).
ونقل عن الإمام الحافظ ابن منده في كتاب "التوحيد" له: أن هذا الرجل: كلثوم بن زهدم (3)؛ وكذلك فسره ابن طاهر.
واعترضه البرماوي: بأنه لم ير في السرايا من السير المشهورة من المتقدمين والمتأخرين؛ كابن إسحاق، وابن هشام، وابن عبد البر، والحافظ الدمياطي، وابن سيد الناس، والحافظ مغلطاي، وغيرهم، ولا في الكتب الستة، ونحوها من المشهور، سرية لكلثوم بن زهدم.
والسرايا، وإن قال بعض العلماء: إنها لا تنحصر، فيبعد أن يفسر مبعوث في سرية، ويسمى، ولا تُعرف تلك السرية؛ لأنه إنما يستعان على التسمية بالواقعة، بذكر حديث أو طريق يدل عليها. بل، ولا ذكر ابن عبد البر في "استيعابه"، وأبو نعيم، وغيرهما؛ ممن جمع في الصحابة، حتى الذهبي في "تجريده"، الذي جمع فيه فأوعى، أحدًا من الصحابة، يسمى بهذا الاسم، إنما الذي ذكروه: كلثوم بن الهدم، وكلثوم بن الحصين، وكلثوم بن علقمة، وكلثوم بن المصطلق.
قال الذهبي: ولعله الأول، يعني: أن كلثوم بن المطلق؛ هو كلثوم بن علقمة (4).
(1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 84).
(2)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1274)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 417).
(3)
انظر: "التوحيد" لابن منده (1/ 66).
(4)
انظر: "تجريد أسماء الصحابة" للذهبي (2/ 34).
وقال بعض شراح العمدة: هو كلثوم بن الهدم؛ وكأنه يقول: إن القائل: كلثوم بن زهدم تصحيف والتباس، وأن صوابه: كلثوم بن الهدم.
قال البرماوي: وهذا لا يصح -أيضًا-؛ لأن كلثوم هذا، كان شيخًا كبيرًا من الأنصار، نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين قدومه في هجرته إلى المدينة، وأقام عنده أربعة أيام، ثم خرج إلى أبي أيوب الأنصاري، أو سعيد بن خيثمة -على الخلاف المشهور فيه في السير-، وما كان يؤمر -يومئذ- على سراياه أحدًا من الأنصار، بل لم يخرج أحدٌ من الأنصار في شيء من السرايا الواقعة قبل بدر.
وأيضًا، فقد نقل ابن عبد البر، عن الطبري: أن كلثوم بن الهدم أول من مات من الأنصار، بعد مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة؛ مات بعد قدومه بأيام، في حين ابتدأ بنيان مسجده وبيوته، وكان موته قبل موت أبي أمامة أسعد بن زرارة بأيام (1).
ومات أسعد بن زرارة في شوال، على رأس ستة أشهر من الهجرة، والسرايا إنما كانت بعد ذلك.
فأول راية عقدت: لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف، في ربيع الأول، بعد مقدمه باثني عشر شهرًا، وقيل: لواء حمزة إلى سيف البحر، وقيل: أرسلهما معًا.
والذي صححه الحافظ مغلطاي: أن أول سرية سرية حمزة، في شهر رمضان، على رأس سبعة أشهر. وبذلك قال ابن حزم؛ تبعًا لموسى بن عقبة، وابن سعد، وغيرهما.
(1) انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1328).
فتلخص من هذا: أن موت كلثوم بن الهدم قبل السرايا جميعها؛ وكذا قال الحافظ في "الفتح".
وقال: إنه رأى بخط الحافظ رشيد الدين العطار، في "حواشي مبهمات الخطيب"؛ نقلًا عن "صفة التصوف" لابن طاهر، قال: أخبرنا عبد الوهاب بن أبي عبد اللَّه بن منده، عن أبيه؛ فسماه: كرز بن زهدم.
قال في "الفتح": وأما من فسره بأنه قتادة بن النعمان، فأبعد جدًا؛ فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، ليس فيه: أنه أم بها؛ لا في سفر، ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك، ولا بشر، وإنما فيه: أن رجلًا سمع رجلًا، يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها (1).
قال الحافظ القاري: هو قتادة بن النعمان؛ فقد أخرج الإمام أحمد، من طريق [أبي] الهيثم، عن أبي سعيد، قال: بات قتادة بن النعمان، يقرأ من الليل كله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، لا يزيد عليها (2).
والذي سمعه لعله أبو سعيد راوي الحديث؛ لأنه أخوه لأمه، وكانا متجاورين، وبذلك جزم ابن عبد البر (3)؛ وكأنه أبهم نفسه وأخاه.
وقد أخرج الدارقطني بلفظ: إن لي جارًا يقوم بالليل، فما يقرأ إلا بـ:{قُل هُوَ اللَّهُ أَحَد} (4).
وأما الحديث الذي فسر مبهمه بكلثوم بن الهدم؛ فلفظه: كان رجلٌ من
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 258).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 15)، دون قوله: لا يزيد عليها.
(3)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1276).
(4)
رواه الداقطني في "غرائب مالك"، كما ذكر الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(9/ 60).
الأنصار يؤمهم في مسجد قباء (1)، قال ابن منده: هو كلثوم بن الهِدْم، والهدم -بكسر الهاء، وسكون الدال-: من بني عمرو بن عوف.
فتلخص: أن الذي كان يؤم في مسجد قباء: كلثوم بن الهدم، وأما أمير السرية، فلعله: كرز بن زهدم، وأما قتادة بن النعمان: فلا مدخل له في حديث عائشة.
ويدل على التغاير: أن إمام مسجد قباء، كان يبدأ بـ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وأمير السرية: كان يختم بها.
وفي هذا: أنه كان يصنع ذلك في كل ركعة، ولم يصرح بذلك في قصة الآخر.
وفي هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله، وأمير السرية سأل أصحابه أن يسألوه.
وفي هذا: أنه قال: إنه يحبها؛ فبشره بالجنة، وأمير السرية قال: إنها صفة الرحمن؛ فبشره أن اللَّه يحبه، واللَّه تعالى الموفق (2).
قوله: (على سرية)؛ متعلق بمحذوف، أي: بعث أميرًا.
قال ابن الأثير في "النهاية": السرية: الطائفة من الجيش، يبلغ أقصاها أربع مئة، تبعث إلى العدو، وجمعها: سرايا، سموا بذلك: لأنهم يكونون خلاصة العسكر، وخيارهم من الشيء النفيس، وقيل: لكونهم ينفذون سرًا وخفية، وليس بشيء؛ لأن لام السر: راء، وهذه: ياء، انتهى (3).
(1) رواه البخاري (741)، كتاب: صفة الصلاة، باب: الجمع بين السورتين في الركعة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 258).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 363).
وقال شهاب الدين ابن خطيب الدهشة، في كتابه "المصباح": السرية: قطعة من الجيش، فعيلة بمعنى: فاعلة؛ لأنها تسري في خفية، والجمع: سرايا، وسريات؛ كعطية، وعطايا، وعطيات (1)، انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر: السرية: قطعة من الجيش، تخرج منه، وتعود إليه؛ وهي من مئة إلى خمس مئة، فما زاد على خمس مئة يقال له: منسر -بالنون، والسين المهملة-، فإن زاد على الثمان مئة يسمى: جيشًا، فإن زاد على أربعة آلاف، سمي: جحفلًا، فإن زاد: فجيش جرّار، والخميس: الجيش العظيم (2).
(فكان) ذلك الرجل المبعوث على السرية أميرًا (يقرأ لأصحابه) الذين معه، وتحت لوائه (في صلاتهم) التي يصلي بهم إمامًا فيها، بعد الفاتحة وسورة، (فيختم) الركعة، ويكون فيه دلالة على جمع السورتين، في ركعة واحدة، ويحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة، يقرأ فيها السورة (بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ})؛ أي: بسورة الإخلاص، وخصت بذلك لاختصاصهما بصفات الرب تبارك وتعالى، دون غيرها (3).
(فلما رجعوا) من سفرهم، الذي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجههم إليه؛ لنكاية عدوهم، (ذكروا) يحتمل أن الذي ذكر: بعضُهم، وعبر بالجمع؛
(1) انظر: "المصباح المنير" للفيومي (1/ 275)، ونسبة الشارح رحمه الله "المصباح المنير" لابن خطيب الدهشة وهم، فإن ابن خطيب الدهشة هو ابن الفيومي أحمد بن محمد الذي كان خطيب جامع الدهشة بحماة، وقد نقل عنه ولده محمود الذي صار يعرف بابن خطيب الدهشة غالب "المصباح" في كتابه "تهذيب المطالع". وانظر:"الدرر الكامنة" لابن حجر (1/ 372).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 56).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 19).
لاقتضاء رأيهم السؤال عن ذلك، ويحتمل حضور الجميع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم ذكروا (ذلك)؛ أي: كونه يختم كل ركعة من أولييي صلاتهم، أو يختم صلاتهم؛ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم)؛ متعلق بذكروا، (فقال) لهم:(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سلوه) -بفتح السين المهملة، وضم اللام- (لأي شيء يصنع ذلك؟) في صلاته.
(فسألوه) في الكلام طي؛ أي: فرجعوا إليه، فسألوه، (فقال) مجيبًا لهم عن سؤالهم: إنه إنما صنع ذلك؛ (لأنها)؛ أي: سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، (صفة الرحمن عز وجل)؛ أي: لأن فيها صفة الرحمن، فلكونها صفته تبارك وتعالى، (فأنا أحب أن أقرأ بها) في كل صلاتي؛ تلذذًا ومحبة لذكر صفاته تبارك وتعالى، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال، (فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أخبروه: أن اللَّه تعالى يحبه")؛ لمحبته قراءة هذه السورة، أو لما شهد به كلامه؛ من محبته لذكر صفات الرب عز وجل، وصحة اعتقاده.
وفي هذا دليل على: الرضا بفعله ذلك.
قال ابن المنير: في هذا الحديث: أن المقاصد تغير أحكام الفعل؛ لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها: أنه لا يحفظ غيرها، لم يبشر برتبة المحبة من اللَّه تعالى؛ لكنه اعتل بحبها، فظهر صحة قصده؛ فصوبه.
وفيه دليل على: جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه، والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره، والله أعلم (1).
* * *
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 258).