الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادى عشر
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه جَاءَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! مَا كِدْتُ أُصَلِّي العَصْرَ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فقالَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم:"واللهِ! مَا صَلَّيْتُها"، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ للصَّلَاةِ، وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى العَصْرَ بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَها المَغْرِبَ (1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (571)، كتاب: مواقيت الصلاة، من صلّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، واللفظ له، و (573)، باب الصلوات، الأولى فالأولى، و (615)، كتاب: الأذان، باب: قول الرجل: ما صلينا، و (903)، كتاب: صلاة الخوف، باب: الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو، و (3886)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم (631)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، والنسائي (1366)، كتاب: السهو، باب: إذا قيل للرجل: هل صليت؟ هل يقول: لا؟، والترمذي (180)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل تفوته الصلوات، بأيتهنَّ يبدأ؟.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"عارضة الأحوذىِ" لابن العربي (1/ 293)، وإكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 596)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 259)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 132)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 154)، =
(عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنَّ) أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب رضي الله عنه) قد اتفق الرواة على أن هذا الحديث من رواية جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا حجَّاجَ بنَ نُصير، فإنه رواه بسنده عن جابر، عن عمر، فجعله من مسند عمر، تفرد بذلك حجاج، وهو ضعيف (1).
(جاء) يعني: عمرَ رضي الله عنه (يوم الخندق)، وكان في الخامسة على المعتمد (بعدما غربت الشمس).
وفي رواية عند البخاري: وذلك -يعني: مجيء عمرَ رضي الله عنه بعدما أفطر الصائم (2)، والمعنى واحد، (فجعل) سيدنا عمر رضي الله عنه (يسب كفار قريش).
فيه دليل: على جواز سب المشركين؛ لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر- رضي الله عنه على ذلك، ولم يعين في الحديث لفظَ السبِّ، فينبغي مع إطلاقه أن يُحمل على ما ليس بفحش (3)، وإنما خص كفار قريش بالسب؛ لأنهم كانوا السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها (4).
(وقال) يعني: عمرَ رضي الله عنه: (والله)(5).
فيه دليل: على جواز الحلف بالله وإن لم يُستحلف.
= و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 336)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 343)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 70)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 68)، و"عمدة القاري" للعيني (5/ 89).
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 68).
(2)
تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (615) عنده.
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 154).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69).
(5)
كذا في الأصل، والذي في روايات الحديث:"يا رسول الله! " بدل: "والله".
(ما كدت).
قال اليعمري: لفظة كاد من أفعال المقاربة، فإذا قلت: كاد زيد يقومُ، فُهم منه أنه قارب القيامَ، ولم يقم، قال: والراجح فيها أَلَّا تقرن بأن، بخلاف عسى؛ فإن الراجح فيها أن تُقرن.
قال: وقد جاء في "مسلم" في هذا الحديث: حتى كادت الشمسُ أن تغربَ (1).
قال ابن حجر: وفي "البخاري" في باب: غزوة الخندق أيضاً، قال: وهو من تصرف الرواة.
وهل تسوغ الرواية بالمعنى في مثل هذا أولا؟
الظاهر: الجواز؛ كما في "الفتح"؛ لأن المقصود الإخبارُ عن صلاته العصرَ كيف وقعت، لا الإخبارُ عن عمر هل تكلم بالراجح أو المرجوح.
وإذا تقرر أن معنى كاد المقاربة، فقول عمر: ما كدت (أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب).
معناه: أنه صلى العصر قرب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها، وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فيحصل من ذلك لعمر ثبوتُ الصلاة، ولم يثبت الغروب.
قال الكرماني: لا يلزم من هذا السياق وقوعُ الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أَلَّا تقع الصلاة فيه؛ لأنه يقتضي أن كيدودته كان عند كيدودتها. قال: وحاصله عرفًا: ما صليت حتى غربت الشمس، انتهى (2).
(1) وانظر: "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك"(1/ 324).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69).
قال في "الفتح": ولا يخفى ما بين التقريرين من الفرق -يعني: تقرير اليعمري، وتقرير الكرماني-، ورجح كلام اليعمري من الإثبات والنفي؛ لأن كاد إذا أثبتت، نفت، وإذا نفت، أثبتت، كما قال فيها المعري ملغزًا. [من الطويل]
إِذَا مَا نَفَتْ وَاللهُ أَعْلَمُ أَثْبَتَتْ
…
وَإِنْ أَثْبَتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ (1)
وكان عمر رضي الله عنه لما وقع الاشتغال بالمشركين إلى قرب غروب الشمس، كان متوضئًا حينئذ، فلما فرغ، بادر، فأوقع الصلاة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلمه بذلك في الحال التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها وقد شرع يتهيأ للصلاة (2).
(فقال النبي صلى الله عليه وسلم) مجيبًا لعمر: (واللهِ ما صلَّيتها)؛ يعني: العصر.
وقد اختلف في سبب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ ذلكَ اليومَ، فقيل: كان ذلك نسيانًا. واستُبعد أن يقع ذلك من الجميع.
ويمكن أن يُستدل له بما رواه الإمام أحمد، من حديث أبي جمعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغربَ يوم الأحزاب، فلما سلم، قال:"هل علمَ رجلٌ منكم أَنِّي صليتُ العصر؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فصلَّى العصرَ، ثم صلى المغرب (3).
(1) انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 868)، ووقع عنده قول المعري:[من الطويل]
أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ
…
جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إِذَا اسْتُعْمِلَتْ في صُورَةِ الْجَحْدِ أَثْبَتَتْ
…
وَإِنْ أَثْبتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 106)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 220).
فيه ابنُ لهيعة، وهو ضعيف لا يُحتج به إذا انفرد، وأبو جمعة اسمه: حبيب بن سباع (1)، وهو مخالف لهذا الحديث، وقد يجمع بينهما بتكلف.
وقيل: كان التأخير عمدًا، لكنهم شغلوه، فلم يمكِّنوه من ذلك، وهو أقرب؛ ولاسيما وقد وقع عند الإمام أحمد، والنسائي، من حديث أبي سعيد: أن ذلك كان قبل أن يُنزل اللهُ صلاةَ الخوف (2).
وقيل: وفي قَسَمِه صلى الله عليه وسلم إشفاقٌ منه على مَنْ تركها.
وتحقيق هذا: أن القسمَ تأكيدٌ للمقسَم عليه، وفي هذا القسم إشعارٌ ببعد وقوع هذا المقسَم عليه، حتى كأنه لا يعتقد وقوعه، فأقسم على وقوعه، وذلك يقتضي: تعظيمَ هذا الترك، وهو مقتضٍ الإشفاق منه، أو ما يقارب هذا المعنى، قاله ابن دقيق العيد (3).
(قال)، أي: جابر رضي الله عنه: (فقمنا إلى بطحان) -بضم الموحدة وسكون الطاء المهملة- (4): وادٍ بالمدينة.
وقيل: هو -بفتح أوله وكسر ثانيه فحاء مهملة فنون بعد الألف-، حكاه أبو عبيد البكري (5).
(فتوضأ) صلى الله عليه وسلم (لـ) أجل (الصلاة، وتوضأنا) معشرَ أصحابه (لها)، قد
(1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 43 - 44).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 67)، والنسائي (661)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للفائت من الصلوات. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 155).
(4)
وهو قول المحدثين، كما ذكر الزركشي في "النكت" (ص: 71).
(5)
انظر: "معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (1/ 258)، وانظر:"معجم البلدان" لياقوت (1/ 446)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 115)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 135).
يشعر هذا بصلاتهم معه صلى الله عليه وسلم جماعة، فيستدل به على صلاة الفوائت جماعة؛ ولذا بوب له البخاري في "صحيحه" باب: من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت (1)، يؤيده ما وقع في رواية الإسماعيلي بلفظ: فصلى بنا العصر (2).
(فصلى) عليه الصلاة والسلام (العصر).
فيه دليل على: تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء (3)؛ للتصريح بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر (بعدما غربت الشمس، ثم صلى) عليه الصلاة والسلام (بعدها)؛ أي: العصرِ (المغربَ).
وهذا الذي أخذ به الإمام أحمد، فقال: يقضي الفوائت مرتبًا فورًا ما لم يضعف بدنه، أو يشغله عن معيشة من يقوم بكفايته، وهذا معتمد المذهب، قلَّت الفوائت أو كثرت، نصَّ عليه، واختاره الشيخ؛ لأن القضاء يحكي الأداء، والأداء مرتب، فالقضاء مثله.
قال في "الفروع": يجب قضاء الفوائت اتفاقًا على الفور في المنصوص؛ خلافًا للشافعي.
ويجب ترتيبها؛ خلافًا للشافعي.
وعنه -يعني الإمام أحمد-: لا يجب ترتيب.
وقيل: يجبان؛ أي: الفوريةُ والترتيبُ في خمس صلوات؛ وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك في الترتيب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رَتَّبَ، وفعلُه بيانٌ لمجمَل الأعمال
(1) انظر: "صحيح البخاري"(1/ 214).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 70).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 155).
المطلَقة، وهي تشمل الأداء والقضاء، مع عموم قوله صلى الله عليه وسلم:"صَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي"(1).
واستوجه في "الفروع": احتمال وجوب الترتيب؛ ولا يعتبر للصحة، قال: وله نظائر.
قال: قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام-: إن عجز فمات بعدَ التوبة، غُفر له، ولا تسقط بحجٍّ، ولا تضعيفِ صلاةٍ في المساجد الثلاثة، ولا غيرِ ذلك إجماعًا.
ويسقط الترتيبُ بخشية فواتِ الحاضرة؛ لئلا تصيرا فائتتين، ولأن ترك الترتيب أيسرُ من ترك الوقت.
وعنه: مع الكثرة؛ وفاقًا لمالك.
ويسقط الترتيبُ بالنسيان أيضاً، على الأصح فيهما (2)؛ خلافًا لمالك (3).
تنبيهات:
الأول: قولُ صاحب "الفروع": يجبان؛ أي: الفوريةُ والترتيبُ في خمس؛ وفاقًا لمالك وأبي حنيفة: المشهورُ من مذهب مالك: وجوبُ الترتيب في القليل من الفوائت، وهو عنده ما دون الخمس، وفي الخمس خلاف (4).
(1) رواه البخاري (605)، كتاب: الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة، والإقامة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
(2)
أي: مسألة النسيان، ومسألة خشية فوت الحاضرة.
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 267).
(4)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (6/ 403).
الثاني: وقع في "الموطأ" من طريق أخرى: أنَّ الذي فاتَهم الظهرُ والعصرُ (1).
وفي حديث أبي سعيد: الظهرُ والعصرُ والمغربُ، وأنهم صَلَّوا بعد هُوِيٍّ من الليل (2).
وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي، والنسائي: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يومَ الخندق حتى ذهبَ من الليل ما شاء الله (3).
وفي قوله: أربعٌ، تجوُّزٌ؛ لأن العشاء لم تكن فاتت.
قال اليعمري: من الناس من رجَّح ما في "الصحيحين"، وصرح بذلك ابن العربي، فقال: الصحيح أن التي شُغل عنها واحدةٌ، وهي العصر (4).
قال في "الفتح": ويؤيده ما في "مسلم": "شغلونا عن الصَّلاةِ الوسطى، صلاةِ العصرِ"(5).
ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعتُه أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، وهذا أولى.
(1) رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 184)، عن سعيد بن المسيب، مرسلًا.
(2)
تقدم تخريجه عند الإمام أحمد، والنسائي قريبًا.
(3)
رواه النسائي (662)، كتاب: الأذان، باب: الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد، والإقامة لكل واحدة منها، والترمذي (179)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل تفوته الصلوات، بأيتهنَّ يبدأ؟، وقال: ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله.
(4)
انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 291).
(5)
تقدم تخريجه.
قال في "الفتح": ويقويه أن روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرُّضٌ لقصة عمر، بل فيهما أن قضاءه الصلاةَ وقع بعد خروج وقت المغرب (1).
الثالث: في هذا الحديث من الفوائد: اعتبار ترتيب الفوائت، وهذا المقصود منه هنا، والأكثر على وجوبه مع الذكر.
وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه، وما ينبغي الاقتداء به في ذلك (2).
وأن الفوائت تقضى جماعة، وذلك مستحبٌّ كما في "المغني"(3).
وأنه لا يلزم القضاء أكثرَ من مرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض أكثر من مرة، وقال صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرَها"(4)، لم يزد على ذلك.
وقد روى عمرانُ بنُ حُصين في حديثه حين ناموا عن صلاة الفجر، قال: فقلنا: يا رسول الله! ألا نصلِّي هذه الصلاة لوقتها؟ قال: "لا، لا ينهاكم عن الربا ويَقْبَلُه منكم" رواه الإمام أحمد (5)، واحتج به، والله أعلم.
* * *
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 69 - 70).
(2)
المرجع السابق، (2/ 70).
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 356).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 441)، وابن حبان في "صحيحه"(1461)، والدارقطني في "سننه"(1/ 385)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 217).