الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ، كفِّي بَيْنَ كفَّيْهِ، كمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ:"التَّحِيَّاتُ للَّهِ، والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ، السَّلامُ عَليْكَ أيهَا النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُولُهُ"(1). وفي لفظ: "إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ للَّهِ"، وذكره (2). وفيه:"فَإنَكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ للَّهِ صَالحٍ في السَّمَاءِ والأَرْضِ"(3). وفيه: "فَلْيتخَيَّر مِنَ المَسأَلَةِ مَا شَاءَ"(4).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (5910)، كتاب: الاستئذان، باب: الأخذ باليدين، ومسلم (402/ 59)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، والنسائي (1171)، كتاب: التطبيق، باب: كيف التشهد، من طريق مجاهد، عن عبد اللَّه بن سَخْبرة، عن ابن مسعود، به.
(2)
رواه البخاري (5969)، كتاب: الدعوات، باب: الدعاء في الصلاة، ومسلم (402/ 55)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، من طريق جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به.
(3)
رواه البخاري (1144)، كتاب: العمل في الصلاة، باب: من سمَّى قومًا، أو سلم في الصلاة على غيره مواجهة وهو لا يعلم، وابن ماجه (1/ 290)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد، من طريق حصين بن عبد الرحمن، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به.
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري (5969)، ومسلم (402/ 55)، واللفظ له، إلا أن =
(عن) أبي عبد الرحمن (عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، قال: علمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد، كفي بين كفيه)؛ وهذا يفيد تمام الاعتناء والاهتمام به، وأكده بقوله:(كما يعلمني السورة من القرآن) العظيم، فلا مزيد على هذا الاعتناء:(التحيات)، وفي بعض طرق البخاري، ورواه
= عنده: "ثم يتخير" بدل: "فليتخير". والحديث رواه أيضًا: البخاري (797)، كتاب: صفة الصلاة، باب: التشهد في الآخرة، و (800)، باب: ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، و (5876)، كتاب: الاستئذان، باب: السلام اسم من أسماء اللَّه تعالى، و (6946)، كتاب: التوحيد، باب: قول اللَّه تعالى: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23]، ومسلم (402/ 56، 57، 58)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، وأبو داود (968 - 970)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد، والنسائي (1162 - 1170)، كتاب: التطبيق، باب: التشهد في الصلاة، و (1277)، كتاب: السهو، باب: إيجاب التشهد، و (1279)، باب: كيف التشهد، و (1298)، باب: تخير الدعاء بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والترمذي (289)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد، و (1105)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في خطبة النكاح، وابن ماجه (899)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد، و (1892)، كتاب: النكاح، باب: خطبة النكاح، بطرق وألفاظ مختلفة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (1/ 226)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 484)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 83)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 293)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 34)، و "شرح مسلم" للنووي (4/ 115)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 68)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 597)، و"فتح الباري" لابن رجب (5/ 172)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 311)، و"عمدة القاري" للعيني (6/ 109)، و"سبل السلام للصنعاني"(1/ 190)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 312).
الدارقطني وغيره: "قولوا: التحيات"(1)، وهي جمع تحية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: التحية: العظمة، وقال أبو عمرو: الملك، وقال ابن الأنباري: التحيات: السلام، وقال بعض أهل اللغة: البقاء، وحكى الأربعةَ موفقُ الدين في "المغني"(2)، وحكاها في "المطلع"، وزاد: وقيل: السلامة من الآفات، قال أبو السعادات: وإنما جمع التحية؛ لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة؛ فيقال لبعضهم: أبيت اللعن، ولبعضهم: أنعمْ صباحًا، ولبعضهم: اسلمْ كثيرًا، ولبعضهم: ألف سنة، فقيل للمسلمين: قولوا: التحيات؛ أي: الألفاظ التي تدل على السلام والملك والبقاء هي (للَّه) عز وجل (3).
وقال ابن القيم في كتابه "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"، بعد ذكره بنحو ما تقدم؛ من كون من تقدم كان يحيي بعضهم بعضًا بأنواع من التحيات، مما يحييه المحيي من الأقوال والأفعال. قال: والمشركون كانوا يحيون أصنامهم، قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم، ويقولون: لك الحياة الدائمة، فلما جاء الإسلام، أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحابا وأزكاها وأفضلها للَّه تعالى.
فالتحيات: هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت، وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه، فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام،
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (800، 1144، 6946)، وعند النسائي برقم (1167، 1168، 1169، 1277). ورواه الدارقطني في "سننه"(1/ 350).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 319).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 183)، وانظر:"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 79).
ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي الدائم الذي لا يموت، ولا يزول ملكه.
(والصلوات) كذلك لا تكون ولا تسوغ إلا له سبحانه، وأما الصلاة لغيره، فمن أعظم الكفر، والشرك به (1).
(والطيبات)؛ أي: الأعمال الصالحة.
قال في "الفتح": وقد فسرت بالأقوال، قال: ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى؛ فيشمل الأفعال والأقوال والأوطان، وطيبها: كونها كاملة خالصة عن الشوائب (2).
وقال ابن القيم: الطيبات: صفة لموصوف محذوف، أي: الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء للَّه وحده؛ فهو طيب، وكلامه طيب، وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، فاسمه: الطيب، ولا يصدر عنه إلا طيب، ولا يصعد إليه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له، ومضافة إليه، وصادرة عنه، ومنتهية إليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه طيب، لا يقبل إلا طيِّبًا"(3)، وقد حكم سبحانه بشرعه وقدره أن الطيبات للطيبين، فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق؛ فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات، كلها له سبحانه وتعالى، لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبه، وطيب كل ما سواه
(1) انظر: "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" لابن القيم (ص: 213 - 214).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 313).
(3)
رواه مسلم (1015)، كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
من آثار طيبه، ولا تصح هذه التحية الطيبة إلا له، انتهى (1).
وقال القرطبي: في قوله: "للَّه"، تنبيه على الإخلاص في العبادة؛ أي: ذلك لا يفعل إلا للَّه (2).
(السلام) بإثبات الألف واللام، في جميع روايات "الصحيحين"؛ من حديث ابن مسعود، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وهو من أفراد مسلم (3)؛ قاله في "الفتح"(4).
قال في "المطلع": قال الأزهري: فيه قولان:
أحدهما: اسمه السلام، ومعناه: اسم [اللَّه](5)(عليك)؛ ومنه قول لبيد رضي الله عنه: [من الطويل]
إلى الحَوْل ثمَّ اسمُ السَّلامِ عَلَيْكُما
…
ومَنْ يَبْكِ حولًا كاملًا فقد اعْتَذَرْ (6)
والثاني: أن معناه: سلم اللَّه عليك تسليمًا، وسلامًا، ومن سلم اللَّه عليه، سلم من الآفات كلها (7).
وفي "الفتح": تعريف السلام: إما للعهد التقريري؛ أي: ذلك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك.
(1) انظر: "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" لابن القيم (ص: 214 - 215).
(2)
انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 34 - 35).
(3)
رواه مسلم (403)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة.
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 313).
(5)
في الأصل: "السلام"، والتصويب من "الزاهر"، و"المطلع".
(6)
انظر: "ديوانه"(ص: 214)، (ق: 28/ 7).
(7)
انظر: "الزاهر في غريب الشافعي" للأزهري (ص: 92). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 80).
(أيها النبي)؛ وكذلك السلام الذي وجه إلى الأمم السالفة: علينا وعلى إخواننا، وإما للجنس بمعنى: أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد، وعمَّن يصدر، وعلى من ينزل: عليك وعلينا.
فإن قيل: لم شرع هذا اللفظ؛ وهو خطاب بشر، مع كونه منهيًا عنه في الصلاة؟!
فالجواب: ذلك من خصائصه الشريفة، واختصاصاته المنيفة على سائر البشر عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة للخطاب في قوله: "عليك أيها النبي"، مع أن لفظة الغيبة هو الذي يقتضيه السياق؛ كأن يقول: السلام على النبي؛ فينتقل من تحية اللَّه سبحانه إلى تحية نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم تحية نفسه، ثم الصالحين؟
قلت: أجاب عن هذا الطيبي بما حاصله: إنا نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه للصحابة رضي الله عنهم، وقال: ويحتمل أن يقال على طريق أهل العرفان: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات؛ أذن لهم في الدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فتنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة، وبركة متابعته، فالتفتوا، فإذا الحبيب حاضر، وأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي (1)، (ورحمة اللَّه وبركاته)، جمع بركة، وهي النماء والزيادة.
وقال الإمام ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد"، في حكمة كون السلام عليه وقع بصيغة الخطاب، والصلاة بصيغة الغيبة ما حاصله: أنَّ الصلاة
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 313 - 314).
عليه، طلب وسؤال من اللَّه أن يصلي عليه، فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة؛ إذ لا يقال: اللهم صل عليك.
وأما السلام عليه، فأتى بلفظ الحاضر المخاطب، تنزيلًا له منزلة المواجه؛ لحكمة بديعة جدًا، وهي: أنه صلى الله عليه وسلم لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية، ومثاله العلمي موجودًا في الذهن؛ بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه؛ كما قيل (1):[من الطويل]
خَيالُكَ في عيني وذِكْرُك في فَمي
…
ومثواكَ في قلبي فأينَ تَغيبُ؟!
ومن كان بهذه الحال، فهو الحاضر حقًا، وغيره، وإن كان حاضرًا للعيان، فهو غائب عن الجنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة؛ تنزيلًا له منزلة المواجه المعاين؛ لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه، بحيث لا يبقى في القلب جزء، إلا ومحبته وذكره فيه، ولا ينكر استيلاء المحبوب على قلب المحب، وغلبته عليه، حتى كأنه يراه.
ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم، إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة، مع غاية البعد العياني؛ لكمال القلب الروحي، فلم يمنعهم بُعْد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، وأما من كثفت طباعه، فهو هذا كله بمعزل.
وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها، كما قيل:[من الخفيف]
يا مُقيمًا مَدَى الزمانِ بقلبي
…
وبعيدًا عن ناظِري وعِياني
(1) منسوب إلى أبي بكر الشبلي، كما في "ديوانه" (ص: 159)، قال جامع الديوان ومحققه الدكتور كامل الشيبي: وهو مما تمثّل به الشبلي، وليس له.
أنتَ رُوحي إنْ كنتُ لستُ أراها
…
فهي أدنى إليَّ من كل دِاني
قال ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-: ومن هنا نشأت الشطحات الصوفية، التي مصدرها عن قوة الوارد، وضعف التمييز، حتى حكَّموا الحال على العلم.
وأما المحفوظون، فحكموا العلم على سلطان الحال، وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكمًا عليه؛ فإنه لا ينبغي أن يغتر به، ولا يسكن إليه، إلا كما يساكن المغلوب المقهور، لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه.
وهذه حال الكُمَّل من القوم، الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال المعالمة، فلم تُطْفِ عواصفُ أحوالهم نورَ علمهم؛ فالكامل من يحكم العلم على الحال؛ فيتصرف في حاله بعلمه، والناقصُ من يحكم الحال على العلم، فيتصرف في علمه بحاله.
ولهذا أوصى المشايخ الكبار والعارفون، ألا يركنوا إلى الكشف والحال، حيث خالف الشريعة الغراء، واللَّه تعالى الموفق (1).
تنبيه:
ورد في حديث ابن مسعود هذا ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم، فيقال: بلفظ الخطاب، وبين ما بعد وفاته فيقال: بلفظ الغيبة.
ففي "البخاري"، عن ابن مسعود رضي الله عنه، بعد أن ساق حديث التشهد، قال: وهو بين أظهرنا، فلما قبض، قلنا: السلام -يعني: على النبي-، كذا وقع في البخاري (2).
(1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 418 - 419).
(2)
تقدم تخريجه برقم (5910) عنده.
وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والسراج، [و] الجوزقي، وأبو نعيم الأصفهاني، والبيهقي، من طرق متعددة، بلفظ: فلما قبض، قلنا: السلام على النبي، بحذف لفظة يعني (1).
قال السبكي في "شرح المنهاج": إن صح هذا عن الصحابة، دل على أن الخطاب في السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير واجب؛ فيقال: السلام على النبي، انتهى (2).
وهذا خلاف ظاهر كلام علمائنا، واللَّه الموفق.
فإن قلت: ما الحكمة في ورود الثناء على اللَّه تعالى في التشهد بلفظ الغيبة، مع كونه سبحانه، هو [المخاطب] الذي يناجيه العبد، والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب مع كونه غائبًا؟
فالجواب: إن الثناء على اللَّه عامة ما يجيء مضافًا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير، إلا أن يتقدم ذكر الاسم الظاهر؛ فيجيء بعده المضمر، وهذا نحو قول المصلي:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، إلى قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 1 - 5]، وقوله في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وكذا في السجود، ونحوه.
وفي هذا من السر: أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى، هو لما تضمنت معانيها من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فأتي بالاسم الظاهر الدال
(1) رواه أبو عوانة في "مسنده"(2026)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 138)، وكذا الإمام أحمد في "المسند"(1/ 414)، وغيرهم.
(2)
لم أقف على كلام السبكي هذا، واللَّه أعلم. وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (2/ 314).
على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى، ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك.
ولهذا، إذا كان لا بد من الثناء عليه بخطاب المواجهة، أتي بالاسم الظاهر مقرونًا بميم الجمع الدالة على جميع الأسماء والصفات؛ نحو قول المصلي في رفعه من الركوع: اللهم ربنا لك الحمد، وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى؛ لدلالة لفظه على هذا المعنى، فتأمله، فإنه لطيف المنزع جدًا.
وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة: اللهم؛ كما في سيد الاستغفار: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت خلقتني"، إلى آخره (1).
وجاء الدعاء المجرد مصدرًا بلفظ: الرب؛ نحو قول المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} [الحشر: 10]، وقول آدم:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين:"رب اغفر لي"(2).
وسر ذلك: أن اللَّه تعالى يُسأل بربوبيته المتضمنة قدرته، وإحسانه، وتربيته عبده، وإصلاح أمره، ويثني عليه بإلهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات، والأسماء الحسنى، وأما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب؛ فتقدم سره. ملخص من "بدائع الفوائد"(3)، واللَّه أعلم.
(1) رواه البخاري (5947)، كتاب: التطبيق، باب: أفضل الاستغفار، عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
(2)
رواه النسائي (1069)، كتاب: التطبيق، باب: ما يقول في قيامه ذلك، وابن ماجه (897)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول بين السجدتين، وغيرهما، من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 419 - 420).
(السلام علينا) استدل به على استحباب البداءة بالنفس في الدعاء.
وفي "الترمذي"، مصححًا، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا، فدعا له، بدأ بنفسه، وأصله في "مسلم"(1)، وكما في قول نوح وإبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، كما في التنزيل.
قال الحكيم الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام، الذي يسلمه الخلق في صلاتهم؛ فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم (2). ألا ترى كيف قيد المدعو لهم بقوله:(وعلى عباد اللَّه الصالحين)! فالعباد: جمع عبد، وله أحد عشر جمعًا، جمعها ابن مالك في هذين البيتين؛ كما في "المطلع"، وهما:[من الطويل]
عِبادٌ عَبيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ وأَعْبُدٌ
…
أَعَابِدُ مَعْبُودَا ومَعْبَدَةٌ عُبُدْ
كَذَلِك عُبدانٌ وعِبْدانُ أُثْبِتَا
…
كذاكَ العِبِدَّى وامدُدِ انْ شِئْتَ أَنْ تَمُدْ (3)
قال أبو علي الدقاق: ليس شيء أشرف، ولا أتم للمؤمن من الوصف بها -كما تقدم في خطبة الكتاب-.
والصالحين: جمع صالح، قال صاحب "المشارق"، وغيره: الصالح هو القائم، بما عليه من حقوق اللَّه، وحقوق العباد (4).
(1) رواه مسلم (2380)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام، والترمذي (3385)، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه، واللفظ له.
(2)
ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(2/ 314).
(3)
أي: عِبدَّاء. وانظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 378)، (مادة: عبد).
(4)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 44). وانظر: "المطلع على أبواب =
وقال الفاكهاني: للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني: ليوافق لفظه مع قصده (1).
(أشهد)؛ أي: أقر بلساني، وأعتقد بجناني (أن لا إله) معبود بحق في الوجود (إلا اللَّه).
قال الجوهري: الشهادة: خبر قاطع، والمشاهدة: المعاينة (2)؛ فقول الواحد: أشهد أن لا إله إلا اللَّه: أخبر بأني قاطع بالوحدانية، فالقطع من فعل القلب واللسان، مخبر عن ذلك، و"اللَّه": مرفوع على البدل من موضع "لا إله"؛ لأن موضع لامع اسمها رفع بالابتداء، أو بدل من خبر لا المحذوف المقدر: بمعبود، ونحوه، ولا يجوز نصبه، حملًا على إبداله من اسم لا المنصوب؛ لأن "لا" لا تعمل النصب إلا في نكرة منفية، واللَّه أعرفُ المعارف، وهو مثبت وهذه الكلمة، وإن كان ابتداؤها نفيًا، فالمراد بها: غاية الإثبات، ونهاية التحقيق، فإن قول القائل: لا أخ لي سواك، ولا معين لي غيرك؛ آكد من قولك: أنت أخي، وأنت معيني.
ومن خواصها: أن حروفها كلها مهملة ليس فيها حرف معجم؛ تنبيهًا على التجرد من كل معبود سوى اللَّه.
ومن خواصها -أيضًا-: أن حميع حروفها جوفية، ليس فيها شيء من الشفوية (3)؛ إشارة إلى: أنها يصمم العبد، ويضمر على مضمونها، ويعقد عليه جنانه، ولا يكتفي بمجرد التلفظ بها من فمه، دون العقد بصميم
= المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 80).
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 314 - 315).
(2)
انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 494)، (مادة: شهد).
(3)
انظر: "المطبع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 81).
فؤاده، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أفضل الذكر: لا إله إلا اللَّه"، رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث جابر رضي الله عنه (1).
(وأشهد)؛ أي: أقره بلساني، وأعقد بجناني:(أن محمدًا عبده) الكامل المؤدي حق العبودية، (ورسوله) الفاضل الذي أرسله لعامة الخلق؛ بشيرًا ونذيرًا.
قال الحافظ ابن حجر: لم تختلف الطرق عن ابن مسعود في ذلك؛ وكذا هو في حديث أبي موسى، وابن عمر، وعائشة، وجابر، وابن الزبير (2).
وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم التشهد، إذ قال رجل: وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لقد كنتُ عبدًا قبل أن أكون رسولًا، [قل] (3): عبده ورسوله"، ورجاله ثقات، إلا أنه مرسل (4).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عند مسلم، وأصحاب السنن:"وأشهد: أن محمدًا رسول اللَّه"(5)، ومنهم من حذف "أشهد"،
(1) رواه الترمذي (3383)، كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة، وقال: حسن غريب، والنسائي في "السنن الكبرى"(10667)، وابن ماجه (3800)، كتاب: الأدب، باب: فضل الحامدين، وابن حبان في "صحيحه"(846)، والحاكم في "المستدرك"(1852).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315).
(3)
في الأصل: "قال" بدل "قل".
(4)
رواه عبد الرازق في "المصنف"(3076).
(5)
رواه مسلم (403)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، وأبو داود =
ورواه ابن ماجه، بلفظ ابن مسعود (1).
قال الترمذي: حديث ابن مسعود روي من غير وجه، وهو أصح حديث روي في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم؛ من الصحابة ومن بعدهم.
قال: وذهب الشافعي رحمه الله: إلى حديث ابن عباس في التشهد (2).
وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد، قال: هو عندي حديث ابن مسعود؛ روي من نيف وعشرين طريقًا، وسرد أكثرها، قال: ولا أعلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالًا، انتهى (3).
قال الحافظ المصنف -رحمه اللَّه تعالى-: (وفي لفظ) من حديث ابن مسعود، في "الصحيحين"، وغيرهما:(إذا قعد أحدكم) -معشر الأمة للتشهد- (في الصلاة، فليقل) بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، خلافًا لمن لم يقل بوجوبه؛ كمالك.
وأجاب بعض المالكية: بأن التسبيح في الركوع والسجود مندوب،
= (974)، كتاب: الصلاة، باب: التشهد، والترمذي (290)، كتاب: الصلاة، باب: منه أيضًا.
(1)
رواه ابن ماجه (900)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشهد. وكذا النسائي (1174)، كتاب: التطبيق، باب: نوع آخر من التشهد.
(2)
انظر: "سنن الترمذي"(2/ 82 - 83).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315)، و"التلخيص الحبير" له أيضًا (1/ 264).
ووقع الأمر به في قوله صلى الله عليه وسلم، لما نزل:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]: "اجعلوها في ركوعكم"، الحديث (1)؛ فكذلك التشهد.
قلت: هذا لا يصلح جوابًا؛ لأنا نقول: الكل ملوم في عدم القول بالوجوب؛ حيث ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مقتضاه.
والعجب من الكرماني؛ حيث قال معارضًا لدعوى بعض المالكية: بأن الأمر حقيقة للوجوب؛ فيحمل عليه، إلا إن دل دليل على خلافه، ولولا الإجماع على عدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود؛ لحملناه على الوجوب، انتهى (2).
فهذا منه قصور زائد؛ فإن الإمام المبجل -سيدنا الإمام أحمد بن حنبل-، يقول بوجوبه، ويقول بوجوب التشهد الأول -أيضًا-.
وفي رواية أبي الأحوص، وغيرها، من حديث عبد اللَّه، عند النسائي، قال: كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين، وإن محمدًا علَّمَ فواتحَ الخير وخواتيمه، فقال:"إذا قعدتم في كل ركعتين، فقولوا"(3)؛ دلالة بينة على وجوبه.
فقد جاء عن ابن مسعود: التصريحُ بفرضية التشهد؛ وذلك فيما رواه
(1) رواه أبو داود (869)، كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، وابن ماجه (887)، كتاب: الصلاة، باب: التسبيح في الركوع والسجود، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 155)، وغيرهم، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 312).
(3)
رواه النسائي (1163)، كتاب: التطبيق، باب: كيف التشهد الأول، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 437)، وابن خزيمة في "صحيحه"(720)، وابن حبان في "صحيحه"(1951)، وغيرهم.
الدارقطني، وغيره، بإسناد صحيح، من طريق علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه: وكنا لا ندري ما نقول، قبل أن يفرض علينا التشهد (1).
(وفيه)؛ أي: في حديث ابن مسعود بذلك اللفظ: (فإنكم) -معشر المصلين من أمة الإجابة- (إذا فعلتم ذلك)؛ أي: وعلى عباد اللَّه الصالحين، وذلك أنهم كانوا يقولون: السلام على جبريل، السلام على فلان، السلام على فلان (2)؛ فكأنه أنكر عليهم عَدَّ الملائكة واحدًا واحدًا، إذ لا يمكن استيعابهم لهم، فعلمهم لفظًا يشمل الجميع، مع غير الملائكة (3) من النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك الإشارة بقول ابن مسعود: وإن محمدًا علم فواتح الخير، وخواتيمه -كما تقدم-.
(فقد سلمتم على كل عبد للَّه) عز وجل (صالح) استدل به على أن الجمع المضاف، والجمع المحلى بأل يعم؛ لقوله أولًا:"عباد اللَّه الصالحين"، ثم قال: "فقد سلمتم
…
إلخ"، وفي لفظ: "فإنكم إذا قلتموها، أصابت كلَّ عبد صالح" (4)، واستدل به على أن هذه الصيغة للعموم (5).
قال ابن دقيق العيد: وهو مقطوع به عندنا في لسان العرب، وتصرفات
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 350)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 138)، لكن من طريق شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، بلفظ: كنا نقول قبل أن يفرض التشهد: السلام على اللَّه، السلام على جبرائيل وميكائيل ....
(2)
كما تقدم قريبًا.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315).
(4)
تقدم تخريجه عند البخاري برقم (797).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315).
ألفاظ الكتاب والسنة، قال: واستدلالنا بهذا الحديث ذكر لفرد من أفراده لا يحصى الجمع لأمثالها، لا للاقتصار عليه. وخص الصالحين؛ لأنه ثناء وتعظيم، وهم المستحقون له دون غيرهم (1).
قال القفال في "فتاويه": ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين؛ لأن المصلي يدعو بالمغفرة للمؤمنين والمؤمنات، ولابد أن يقول في التشهد: السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، فيكون مقصرًا في حق اللَّه، وحق رسول اللَّه، وحق نفسه، وفي حق كافة المسلمين، ولذلك عظمت المعصية بتركها (2)، فإن من تركها [أخلَّ] بحق جميع المؤمنين، من مضى، ومن يجيء إلى يوم القيامة؛ لوجوب قوله فيها:"السلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين"(3).
(في السماء والأرض) في رواية مسدد، عن يحيى:"أو بين السماء والأرض"(4)، والشك فيه من مُسَدَّد، وإلا، فقد رواه غيره، عن يحيى:"من أهل السماء والأرض" أخرجه الإسماعيلي، وغيره (5).
(وفيه) أيضًا-: (فليتخير من المسألة ما شاء)، وفي لفظ: "ثم ليتخير من
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 71).
(2)
إلى هنا انتهى كلام القفال في "فتاويه" كما نقله الحافظ ابن حجر في "الفتح"(2/ 317)، ثم قال عَقِبَه: واستنبط منه السبكي: أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق اللَّه، وأن من تركها، أخلَّ بحق جميع
…
" إلى آخر كلامه الذي ساقه الشارح رحمه الله هنا.
(3)
في الأصل: "أخذ" بدل "أخلَّ"، والتصويب من "الفتح".
(4)
كما تقدم تخريجه عند البخاري برقم (800).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 315).
الدعاء أعجبه إليه، فيدعو" (1)، وزاد أبو داود: "به" (2) ، ونحوه للنسائي، من وجه آخر (3)، وفي لفظ: "ما أحب" (4).
واستدل به على جواز الدعاء في الصلاة بما اختاره المصلي من أمور الدنيا والآخرة. وخالف في ذلك النخعي، وطاوس، وأبو حنيفة، فقالوا: لا يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، هكذا أطلق ابن بطال ومن تبعه عن أبي حنيفة.
والمعروف في كتب الحنفية: ألا يدعو إلا بما جاء في القرآن، أو ثبت في الحديث، وعبارة بعضهم: ما كان مأثورًا، قال بعضهم: والمأثور أعم من أن يكون مرفوعًا أو غير مرفوع، وظاهر هذا الحديث يرد عليهم (5).
قلت: ومعتمد المذهب: يدعو بما أحب مما ورد، ما لم يخف سهوًا، أو يشق على مأموم؛ وكذا في ركوع وسجود وغيرهما، ويجوز بغير ما ورد من أمور آخرته، ولو لم يُشْبه ما ورد؛ خلافًا لأبي حنيفة، وفسره أصحابه: بما لا يستحيل سؤالُه من العباد؛ نحو أعطني كذا، وزوجني امرأة، وارزقني فلانة؛ فتبطل عندهم به.
كما في "الفروع"، قال: وعنه -يعني: الإمام أحمد-: وحوائج دنياه، وملاذها -يعني: له أن يسأل اللَّه إياها في صلاته-، وفاقًا لمالك، والشافعي (6).
(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (800).
(2)
تقدم تخريجه عند أبي داود برقم (968).
(3)
تقدم تخريجه عند النسائي برقم (1163).
(4)
تقدم تخريجه عند مسلم برقم (402/ 57).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 321).
(6)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 389).
وفي "تنقيح التحقيق": لا يجوز أن يدعو في صلاته بما ليس فيه قربة إلى اللَّه تعالى، ولا ورد به أثر؛ كقوله: ارزقني جارية حسناء، وبستانًا أنيقًا. وقال مالك، والشافعي: يجوز (1).
لنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ إنما هي: التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن" رواه الإمام أحمد، ومسلم، وغيرهما (2).
وأجابوا عما في حديث ابن مسعود: "فليتخير من المسألة ما شاء": أنه يتخير من المأثور.
وقد قال ابن سيرين: لا تدعوا في الصلاة، إلا بأمر الآخرة (3).
واستثنى بعض الشافعية: ما يقبح من أمر الدنيا؛ كما لو قال: اللهم أعطني امرأة صفتها: كذا، وكذا، وأخذ يذكر أوصاف أعضائها؛ قاله ابن دقيق العيد (4).
وقد ورد فيما يقال بعد التشهد أخبار، من أحسنها: ما رواه سعيد بن منصور، وأبو بكر بن أبي شيبة، من طريق عمير بن سعد، قال: كان عبد اللَّه -يعني: ابن مسعود رضي الله عنه، يعلمنا التشهد في الصلاة، ثم يقول: إذا فرغ أحدكم من التشهد، فليقل: اللهم إني أسألك من الخير كله؛ ما علمتُ منه، وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، ما علمتُ منه وما لا أعلم، اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون، وأعوذ بك
(1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 427).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 321).
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 71).
من شر ما استعاذك منه عبادك الصالحون، ربنا آتنا في الدنب حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: ولم يدع نبي، ولا صالح، بشيء؛ إلا دخل تحت هذا الدعاء (1).
[وهذا](2) من المأثور غير مرفوع، وليس هو مما ورد في القرآن، ولكنه ليس من ملاذ الدنيا، بل من أمور الآخرة، واللَّه أعلم.
تنبيهات:
الأول: تشهدُ ابن مسعود -الذي ذكرناه- أصحُّ وأثبت تشهدٍ ورد عن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا اختاره الإمام أحمد على ما سواه من التشهدات، وفضَّله واستحبه على غيره؛ وفاقًا لأبي حنيفة، وإن كان غيره من التشهدات الواردة جائزًا، إلا أنه مفضول بالنسبة لتشهد ابن مسعود.
فهو أفضل من تشهد ابن عباس، الذي عند مسلم، واختاره الإمام الشافعي، ولفظه:"التحيات المباركات الصلوات الطيبات للَّه"، إلخ، ولفظ مسلم:"وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه"(3).
ومن تشهدِ عمرَ الذي اختاره مالك، ولفظه:"التحيات للَّه، الزاكيات للَّه، الطيبات، الصلوات للَّه، سلام عليك"، إلخ، وفيه:"أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله"(4).
(1) رواه عبد الرازق في "المصنف"(3082)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(3025).
(2)
في الأصل: "وهما" بدل "وهذا"، والصواب ما أثبت.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 90)، ومن طريقه الإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 237)، والحاكم في "المستدرك"(979)، وغيرهم، دون قوله: "وحده =
وقد رجح تشهد ابن مسعود على غيره بأمور:
منها: كونه في "الصحيحين"، وتقدم، وبأن واو العطف تقتضي المغايرة، بين المعطوف، والمعطوف عليه؛ فتكون [كل] جملة ثناء مستقلًا؛ وإذا سقطت واو العطف، كان ماعدا اللفظ الأول صفة؛ فيكون جملة واحدة في الثناء، والأول أبلغ، فكان أولى.
ومنها: كون السلام معرفًا فيه، منكرًا في تشهد ابن عباس، والتعريف أعم.
وفيه -أيضًا-: جمعه بين العبودية، والرسالة، ولا كذلك في تشهد ابن عباس (1).
ويترجح على تشهد عمر: أنه مرفوع، وتشهد عمر موقوف، وذلك في "الصحيحين"، وتشهد عمر في "الموطأ".
وغير ذلك من وجوه الترجيح.
وبأي تشهد تشهد؛ مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاز (2)، واللَّه أعلم.
الثاني: أقل ما يجزىء في التشهد: التحيات للَّه، سلام عليك أيها النبي، ورحمة اللَّه، وسلام علينا، وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه (3).
= لا شريك له". وانظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 69)، و"الإنصاف" للمرداوي (2/ 77)، وغيرهما.
(1)
ذكر هذه الترجيحات الثلاث: ابن دقيق في "شرح عمدة الأحكام"(2/ 69 - 70).
(2)
كما نصَّ عليه الإمام أحمد، كما في "المغني" لابن قدامة (1/ 315).
(3)
انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 464)، و"دليل الطالب" لمرعي بن يوسف (ص: 30).
الثالث: معتمد المذهب: أن التشهد الأول واجب، وقال بوجوبه -أيضًا-: الليث، وإسحاق، والشافعي في قول له، ورواية عن الحنفية.
واحتج الطبري لوجوبه: بأن الصلاة فرضت أولًا ركعتين؛ فكان التشهد فيها واجبًا، فلما زيدت، لم تكن الزيادة مزيلة لذلك الواجب.
وأجاب من لم يقل بالوجوب: بعدم تعيين الزيادة في الأخيرتين؛ لاحتمال كون المزيدة الأولتان بتشهدهما (1). وتقدم ما يشفي ويكفي، واللَّه الموفق.
تتمة:
قال الإمام ابن القيم في كتابه "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم": شرعت هذه التحية في وسط الصلاة إذا زادت على ركعتين؛ تشبيهًا لها بجلسة الفصل بين السجدتين؛ فهي بين الركعتين الأولتين والأخريين؛ كالجلوس بين السجدتين، وفيها مع الفصل راحة للمصلي، لاستقباله للركعتين الأخريين بنشاط وقوة، بخلاف ما إذا والى بين الركعات، ولهذا كان الأفضل في النفل: مثنى مثنى، وإن تطوع بأربع، جلس في وسطهم، انتهى (2).
* * *
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 310).
(2)
انظر: "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" لابن القيم (ص: 215).