المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي لَيْلَى-، قَالَ: لَقِيَنِي كعْبُ - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ٢

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الأذان

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب استقبال القبلة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الصفوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الإمامة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود

- ‌باب القراءة في الصلاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب ترك الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

- ‌باب سجود السهو

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب المرور بين يدي المصلي

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب جامع لأحكام متفرقة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌باب التشهد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

الفصل: ‌ ‌الحديث الثاني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي لَيْلَى-، قَالَ: لَقِيَنِي كعْبُ

‌الحديث الثاني

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبي لَيْلَى-، قَالَ: لَقِيَنِي كعْبُ بنُ عُجْرَةَ، فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمْنَا كيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"(1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (3190)، كتاب: الأنبياء، باب:{يَزِفُّونَ} [الصافات: 94]، و (4519)، كتاب: التفسير، باب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ

} [الأحزاب: 56]، و (5996)، كتاب: الدعوات، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (406/ 66 - 68)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وأبو داود (976 - 978)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، والنسائي (1287 - 1289)، كتاب: السهو، باب: نوع آخر، والترمذي (483)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (904)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"عارضة الأحوذي" لابن العربي (2/ 268)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 302)، و"المفهم" للقرطبي (2/ 40)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 123)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 72)، =

ص: 590

(عن عبد الرحمن)، يكنى: بأبي عيسى (بن أبي ليلى)، واسمه: سيار، وقيل: بلال، وقيل: داود الأنصاريُّ الأوسيُّ الكوفيُّ.

وأبو ليلى صحابي، شهد أحدًا وما بعدها، وشهد مع علي مشاهده، وقُتل بصفين.

وأما عبد الرحمن ولده: فتابعي جليل كبير، روى عن خلق، وروى عنه خلق، واتفقوا على توثيقه وجلالته، أخرج له الجماعة.

قال عبد الرحمن: أدركت مئة وعشرين من الصحابة، كلهم من الأنصار.

ولد لست بقين من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفقد سنة ثلاث وثمانين بالجماجم (1)، وغلطوا من قال: إنها كانت سنة إحدى وسبعين، ولما كانت وفاته لم تتحقق في سنة الجماجم، وإنما فقد فيها؛ فنزل منزلة الميت، عَبَّر بفقد (2).

= و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (2/ 604)، و"فتح الباري" لابن حجر (8/ 533، 11/ 153)، و"عمدة القاري" للعيني (19/ 126).

(1)

الجماجم: جمع جمجمة، وهو قدح من خشب، وبالجمع سمي دير الجماجم، وهو الذي كانت به وقعة ابن الأشعث مع الحجاج بالعراق؛ لأنه كان يُعمل به أقداح من خشب. وقيل: سمي به؛ لأنه بني من جماجم القتلى؛ لكثرة من قتل به. انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 299)، وانظر:"النهاية في غريب الحديث" لابن الجوزي (1/ 174)، و"معجم البلدان" لياقوت (2/ 159)، و"معجم ما استعجم" لأبي عبيد البكري (2/ 573).

(2)

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (6/ 109)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (4/ 350)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (10/ 199)، و"تهذيب الكمال" للمزي (17/ 372)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 262)، و"تذكرة الحفاظ" له أيضًا (1/ 58)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (6/ 234).

ص: 591

(قال) عبد الرحمن بن أبي ليلى: (لقيني كعب)، ويكنى: أبا محمد، وقيل: أبا اسحق (بنُ عُجرة) -بضم العين المهملة، وسكون الجيم، وبالراء- بنِ أمية بن عديِّ بن عبيد بنِ الحارث البَلَويِّ، من بَلِيٍّ -بفتح الموحدة، وكسر اللام، وتشديد الياء آخر الحروف- بنِ عمرو بن الحاف بن قضاعة، حليف بني سالم بن عوف، وقيل: بني عمرو بن عوف، وقال الواقدي: ليس حليفًا للأنصار، وإنما هو من أنفسهم.

نزل كعب بن عجرة رضي الله عنه الكوفة، ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وقيل اثنتين، وقيل: ثلاث، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: سبع وسبعين.

تأخر إسلام كعب، وكان له صنم في بيته يكرمه، وكان عبادة بن الصامت صديقًا له، فرصده يومًا، فلما خرج من بيته، دخل عبادة بن الصامت رضي الله عنه بالقدوم، فلما جاءه كعب، ورآه، خرج مغضبًا، يريد أن يشاتم عبادة، ثم فكر في نفسه؛ فقال: لو كان في هذا الصنم طائل؛ لامتنع، فأسلم، حينئذٍ.

روي له سبعة وأربعون حديثًا؛ اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم باثنين (1).

(1) وانظر ترجمته في: "الثقات" لابن حبان (3/ 351)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 545)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1321)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (50/ 139)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (4/ 454)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 377)، و"تهذيب الكمال" للمزي (24/ 179)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 52)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 599)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (8/ 390).

ص: 592

(فقال) كعب بن عجرة رضي الله عنه لعبد الرحمن بن أبي ليلى -رحمه اللَّه تعالى-: (ألا) -بفتح الهمزة، والتخفيف-: أداة استفتاح، ومعناه: العرض والتحضيض، ومعناهما: الطلب، لكن العرض: طلب بلين؛ وهو المراد هنا؛ كقوله تعالى-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (1)[النور: 22].

(أهدي لك هدية) -كَغَنِيَّة-: هي ما أُتْحِفَ به، والجمع: هدايا، وهَدَاوى، وتكسر الواو (2).

وفي "المطلع": الهبة، والهدية، وصدقة التطوع: أنواع من البر متقاربة، يجمعها تمليك عين بلا عوض، فإن تمحض فيها طلب التقرب إلى اللَّه تعالى، بإعطاء محتاج، فهي صدقة، وإن حملت إلى مكان المهدي إليه إعظامًا له وإكرامًا وتوددًا؛ فهي هدية، وإلا فهبة، وأما العطية، فقال الجوهري: الشيء المعطى، والجمع: العطايا (3).

وفي "الإقناع": إن قصد بإعطائه ثواب الآخرة فقط، فصدقة، وإن قصد إكرامًا وتوددًا أو مكافأة، فهدية، وإلا، فهبة وعطية ونِحْلة (4).

والمراد بها هنا: التحفة والشيء المستظرف.

وفسر كعب تلك الهدية بقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا) يعني: من نحو بيته، (فقلنا: يا رسول اللَّه! قد عَلِمنا كيف نسلم عليك) يعني: في التشهد،

(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1738).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1734).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2430)، (مادة: عطا). وانظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 291).

(4)

انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 101).

ص: 593

وهو: السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، وفي لفظ: يا رسول اللَّه! أما السلام عليك، فقد عرفناه (1).

قال في "الفتح": المراد بالسلام: ما علمهم إياه في التشهد (2).

(فكيف نصلي عليك؟) وقد وقع السؤال عن ذلك أيضًا، لبشـ[ـيـ]ـر بن سعد؛ كما في مسلم، بلفظ: أتانا رسول ال صلى الله عليه وسلم في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشـ[ـيـ]ـر بن سعد: أمرنا اللَّه أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ (3).

وعند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، من حديث أبي مسعود: فكيف نصلي عليك، إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا (4)؟

(قال: قولوا: اللهم صل) تقدم الكلام على معنى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

(على محمد، وعلى آل محمد) تقدم في خطبة شرح الكتاب بعض الكلام على هذا المقام، وأن المقصود بالـ "آلِ" في مقام الدعاء: أَتباع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه إلى يوم القيامة، أو أهل بيته ممن حرمت عليهم الصدقة.

(1) تقدم تخريجه عند البخاري برقم (4519).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 533).

(3)

رواه مسلم (405)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(4)

رواه أبو داود (980)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، والنسائي (1285)، كتاب: السهو، باب: الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والترمذي (3220)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: حسن صحيح، وابن خزيمة في "صحيحه"(711)، وابن حبان في "صحيحه"(1958)، وغيرهم.

ص: 594

وفي "صحيح مسلم"، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، قال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا بيننا بماء يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه، وذكَّر، ووعظ، ثم قال:"أما بعد: ألا أيها الناس! إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل، [فأجيب]، وإني تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللَّه عز وجل، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه، واستمسكوا به"، فحث على كتاب اللَّه، ورغب فيه، وقال:"وأهل بيتي، أذكركم اللَّهَ في أهل بيتي"، فقال سَبْرَة بن عجرة: ومنَ أهلُ بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من الصدقهَ بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: أكل هؤلاء حرم عليهم الصدقة؟ قال: نعم (1).

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد"(2)؛ فكل من لم تحل له الزكاة، فهو من آله صلى الله عليه وسلم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المراد باله هنا: أهل بيته. قال: هو نص الإمام أحمد، واختاره الشريف أبو جعفر، وغيره. قال شيخ الإسلام: وأفضل أهل بيته: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين؛ الذين أدار عليهم الكساء، وخصهم بالدعاء (3).

(كما صليت على آل إبراهيم)؛ أي: قد تقدمت الصلاة على إبراهيم

(1) رواه مسلم (2408)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (1072)، كتاب: الزكاة، باب: ترك استعمال آل النبي على الصدقة، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.

(3)

انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 420).

ص: 595

وآله؛ فنسأل منك الصلاة على محمد، وعلى آل محمد بطريق الأولى؛ لأن ما ثبت للفاضل، يثبت للأفضل من باب أولى، وبهذا يحصل الانفصال عن الإيراد المشهور؛ من كون شرط التشبيه: أن يكون المشبه به أقوى من المشبه (1).

وقد ذكر الإمام ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام" عن ذلك أجوبة كثيرة، لعلماء شهيرة، ولم يرض غالبها، بل زيف أكثرها، وحاصل ما ارتضاه من ذلك: قول طائفة من العلماء: آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء، حصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يليق بهم؛ فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم، لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له بذلك من المزيَّة، ما لم يحصل لغيره.

وتقرير ذلك: أن تجعل الصلاة الحاصلة لإبراهيم وآله، وفيهم الأنبياء، جملة مقسومة على محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ولا ريب أنه لا يحصل لآل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل لآل إبراهيم وفيهم الأنبياء، بل يحصل لهم ما يليق بهم، فيبقى فسم النبي صلى الله عليه وسلم والزيادة المتوفرة التي لم يستحقها آله مختصة به صلى الله عليه وسلم، فيصير الحاصل له من مجموع ذلك أفضل وأعظم من الحاصل لإبراهيم. واستحسن هذا الجواب على غيره.

قال: وأحسن منه أن يقال: محمد صلى الله عليه وسلم هو من آل إبراهيم، بل هو خير آل إبراهيم؛ كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، قال:

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 534).

ص: 596

محمد من آل إبراهيم (1). وهذا نص، فإنه إذا دخل غيره من الأنبياء الذين من ذرية إبراهيم في آله، فدخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أولى، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم، متناولًا للصلاة عليه، وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم.

ثم قد أمرنا اللَّه سبحانه أن نصلي عليه وعلى آله خصوصًا، بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عمومًا، وهو فيهم، ويتحصل لآله من ذلك ما يليق بهم، ويبقى الباقي كله له صلى الله عليه وسلم.

وتقرير هذا: أنه يكون قد صلى عليه خصوصًا، وطلب له من الصلاة ما لإبراهيم، وهو داخل معهم.

ولا ريب: أن الصلاة الحاصلة لآل إبراهيم، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معهم، أكمل من الصلاة الحاصلة له دونهم، فيطلب له من الصلاة هذا الأمر العظيم، الذي هو أفضل مما لإبراهيم قطعًا، وتظهر حينئذ فائدة التشبيه، وجريه على أصله، وأن المطلوب له من الصلاة -بهذا اللفظ- أعظم من المطلوب له بغيره؛ فإنه إذا كان المطلوب بالدعاء، إنما هو مثل المشبه به، وله أوفر نصيب منه، صار له من المشبه به، من الحصة التي لم تحصل لغيره، فظهر بهذا من فضله وشرفه على إبراهيم وعلى كل من آله، وفيهم النبيون، ما هو اللائق به، وصارت هذه الصلاة دالة على هذا التفضيل، وتابعة له، وهي من موجباته ومقتضياته، فصلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا (2).

(إنك حميد) فعيل من الحمد، بمعنى محمود، وحميد أبلغ من

(1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(3/ 234).

(2)

انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 289 - 291).

ص: 597

محمود؛ فإن فعيلًا إذا عُدل به عن مفعول، دل على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجية والغريزة والخلق اللازم؛ كقولك: فلان ظريف، وشَرُيف، وكريم؛ ولهذا يكون هذا البناء غالبًا من فعل بوزن شَرُف، وهو من أبنية الغرائز، والسجايا اللازمة؛ ككَبُر، وصَغُر، وحَسُن، ولَطُف، ونحو ذلك، ولهذا كان حبيب أبلغ من محبوب؛ لأن الحبيب هو الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يحب لأجلها؛ فهو حبيب في نفسه، وإن قدر أن غيره لا يحبه؛ لعدم شعوره به، أو لمانع منعه من حبه، وأما المحبوب، فهو الذي تعلق به حب المحب؛ فصار محبوبًا بحب الغير له (1).

(مجيد) فعيل من المجد، وهو مستلزم للعظمة والجلال والحمد، يدل على صفات الإكرام والإفضال، واللَّه سبحانه ذو الجلال والإكرام؛ فلهذه المناسبة، ختمت الصلاة بهذين الاسمين الشريفين، وفي التنزيل:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73]؛ لكونهما يتضمنان الإفضال والإجلال.

وفي "المسند"، و"صحيح أبي حاتم"، وغيره، من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام"(2)؛ يعني: الزموها، وتعلقوا بها، فالجلال والإكرام هو الحمد والمجد، فذكر هذين الاسمين عقب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله،

(1) المرجع السابق، (ص: 315 - 316).

(2)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 177)، لكن من حديث ربيعة بن عامر رضي الله عنه. ورواه الترمذي (3524)، كتاب الدعوات، باب:(92)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 598

مطابق لقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].

ولما كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي ثناء اللَّه عليه، وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه، وتقريبه، كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من اللَّه أن يزيد في حمده ومجده، وهذا مناسب لقول ابن القيم، وغيره إن الداعي يشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى، يكون مناسبًا لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به (1).

(وبارك على محمد، وعلى آل محمد) أصل البركة، وحقيقتها: الثبوت، واللزوم، والاستقرار، ومنه: برك البعير: إذا استقر على الأرض (2).

قال في "الصحاح": كل شيء ثبت وأقام: فقد برك، والبِرْكة بكسر الموحدة كالحوض، سميت بذلك؛ لإقامة الماء فيها، والبَرَكة: النماء والزيادة، والتَّبريك: الدعاء بذلك، يقال: باركه اللَّه، وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له (3).

وجاء في التوراة: ذكر البركة لإسماعيل دون إسحاق، وحكاية ذلك: هذا إسماعيل ها باركته، وهذا يؤذن بما حصل لبنيه من الخير والبركة، ولا سيما خاتمة بركتهم وأعظمها وأجلها برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنبههم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك صلى الله عليه وسلم.

وذكر لنا في القرآن: بركته على إسحاق، منبهًا لنا على ما حصل في

(1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 317 - 318).

(2)

المرجع السابق، (ص: 302).

(3)

انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1574 - 1575)، (مادة: برك).

ص: 599

أولاده من نبوة موسى، وغيره، وما أوتوه من العلم والكتاب، مستدعيًا من عباده الإيمان بذلك، والتصديق به، وتنبيهًا منه -جل شأنه- على ألا يهمل حق هذا البيت المبارك، وأهل النبوة منهم، فلا يقول القائل: ما لنا ولأنبياء بني إسرائيل؟ بل يجب علينا احترامهم، والإيمان بهم، ومحبتهم، والثناء عليهم -صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين- (1).

(كما باركت على آل إبراهيم) خليلك الأواه، ومعنى إبراهيم بالسريانية: أب رحيم، وهو الأب الثالث للعالم، والأول آدم، والثاني نوح -عليهم الصلاة والسلام-، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الآباء، وعمود العالم، وإمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء؛ الذي اتخذه اللَّه خليلًا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ولم يأمر اللَّه رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة أحد من الأنبياء غيره، وهو الأمة، وهو القدوة المعلم للخير، القانت، المطيع للَّه، اللازم لطاعته، والحنيف المقبل على الحق سبحانه، المعرض عما سواه عليه الصلاة والسلام.

(إنك حميد مجيد) لما كان المطلوب للرسول صلى الله عليه وسلم حمدًا ومجدًا بالبركة عليه، وذلك مستلزم الثناء عليه؛ ختم هذا المطلوب بالثناء على مرسِلِه بالحمد والمجد للرسول صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن ثبوته للرب سبحانه وتعالى (2).

تنبيهان:

الأول: أكثر الأحاديث -الصحاح والحسان-، مصرحة بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وبذكر آله، وأما في حق المشبه به، وهو إبراهيم وآله، فإنما جاءت بذكر آل إبراهيم فقط دون ذكر إبراهيم، أو بذكره فقط دون ذكر آله.

(1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 308 - 309).

(2)

المرجع السابق، (ص: 320).

ص: 600

قال الإمام ابن القيم في "جلاء الأفهام": لم يجىء حديث صحيح فيه لفظ إبراهيم وآل إبراهيم؛ كما تظاهرت على لفظ محمد وآل محمد، وساق الأحاديث الواردة في ذلك في "الصحيحين"، وغيرهما، إلى أن قال: وأما الجمع بين إبراهيم وآل إبراهيم، فرواه البيهقي في "سننه"، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا تشهد أحدكم في الصلاة، فليقل: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد؛ كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"(1)، قال: وهذا إسناد ضعيف.

ورواه الدارقطني، من حديث ابن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي، عن محمد بن عبد اللَّه بن يزيد بن عبد ربه، عن أبي مسعود الأنصاري؛ فذكر الحديث، وفيه:"اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد"، وقال: هذا إسناد حسن [متصل](2)، لكن رواه هكذا، ورواه أيضًا مقتصرًا على ذكر إبراهيم، في الموضعين (3).

وروى ابن ماجه في "السنن"، عن ابن مسعود موقوفًا، وفيه الجمع بين إبراهيم، وآل إبراهيم (4).

(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 379)، والحاكم في "المستدرك"(991).

(2)

رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 354).

(3)

انظر: "السنن" للدارقطني (1/ 354).

(4)

رواه ابن ماجه (906)، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 601

قال ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-: فحيث جاء ذكر إبراهيم وحده في الموضعين؛ فلأنه الأصل في الصلاة المخبر بها، وآله تبع [له] فيها، فدل ذكر المتبوع على ذكر التابع، واندرج فيه، وأغنى عن ذكره.

وحيث جاء ذكر آله فقط؛ فلأنه داخل في آله، فيكون ذكر آل إبراهيم مغنيًا عن ذكره، وذكر آله بلفظين.

وحيث جاء في أحدهما ذكره، وفي الآخر ذكر آله فقط؛ كان ذلك جمعًا بين الأمرين، فيكون قد ذكر المتبوع الذي هو الأصل، وذكر أتباعه بلفظ يدخل هو فيهم، انتهى (1).

وحيث ذكر إبراهيم وآل إبراهيم في الموضعين؛ فيكون لتمام الإيضاح، وتصريحًا بما يدخل ضمنًا، واللَّه أعلم.

وأما ذكر محمد وآل محمد بالاقتران، دون الاقتصار على أحدهما في عامة الأحاديث، وجاء الاقتصار على إبراهيم أو آله في عامتها؛ لكون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها؛ ولهذا شرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها؛ فإنها دعاء، واللَّه تعالى يحب الملحين في الدعاء.

والحاصل: أن مقام الطلب والدعاء مقام بسط واستقصاء وتكرار.

وأما قوله: "كما صليت على إبراهيم"، فجملة خبرية عن أمر قد وقع وانقضى، فمقام الإخبار الأولى في الاختصار، ولا سيما والمقام ليس بمقام إيضاح ولا تفهم؛ لأنه سبحانه بكل شيء خبير عليم، واللَّه الموفق (2).

(1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 292 - 297).

(2)

المرجع السابق، (ص: 297، 299).

ص: 602

الثاني: اختلف الناس في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، هل هي ركن من أركان الصلاة التي لا تتم إلا بها، أو واجب من واجباتها فتسقط سهوًا، أو سنة من سننها فلا يؤثر الإخلال بها في الصلاة؟ مذاهب للعلماء -رحمهم اللَّه تعالى-، فمعتمد مذهب الإمام أحمد، والإمام الشافعي: أنها ركن من أركان الصلاة، لا تتم الصلاة إلا بها.

قال الإمام ابن القيم في "جلاء الأفهام": قد أجمع المسلمون على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر التشهد في الصلاة، واختلفوا في وجوبه فيها: فقالت طائفة: ليس ذاك بواجب فيها، ونسبوا من أوجبه إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع، منهم: الحافظ الطحاوي الحنفي، والقاضي عياض المالكي، والخطابي؛ فإنه قال: ليست بواجبة في الصلاة؛ وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي، قال: ولا أعلم له قدوة (1)، وكذلك ابن المنذر، ذكر أن الشافعي تفرد بذلك، واختار عدم الوجوب.

قال عياض: ودليل كون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست من فروض الصلاة: عملُ السلفِ الصالح قبل الشافعي، وإجماعهم عليه، قال: وقد شنع الناس عليه المسألة جدًا، قال: وهذا تشهد ابن مسعود، الذي اختاره الشافعي، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وكذلك كل من روى التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأبي موسى الأشعري، وعبد اللَّه بن الزبير؛ لم يذكروا فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قال ابن عباس، وجابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن، ونحوه عن أبي سعيد، وابن مسعود، وكان عمر بن

(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 227).

ص: 603

الخطاب يعلمه على المنبر (1)، يعني: وليس في شيء من ذلك أمرهم فيه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وذكروا لعدم الوجوب أدلة، وظواهر أحاديث، وأجلبوا بخيلهم ورَجْلِهم، وانتصر الإمام ابن القيم للإمام الشافعي انتصارًا بليغًا، ورد على المشنع، ولا سيما على القاضي عياض ردًا ذريعًا.

فقال: أما نسبة الشافعي ومن قال بقوله في هذه المسألة إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع، فغير صحيح، فقد قال بقوله جماعة من الصحابة ومن بعدهم؛ فمنهم: ابن مسعود، فإنه كان يراها واجبة في الصلاة، ويقول: لا صلاة لمن لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن عبد البر عنه في "التمهيد"(3)، وحكاه غيره عنه -أيضًا-.

ومنهم: أبو مسعود البدري، روى عثمان بن أبي شيبة، وغيره، عن شريك، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبي مسعود رضي الله عنه، قال: ما أرى صلاة لي تمت، حتى أصلي فيها على محمد، وعلى آل محمد (4).

ومنهم: عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما، قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نسيت شيئًا من ذلك، فاسجد سجدتين بعد السلام.

(1) تقدم تخريج أحاديث ابن عباس، وجابر، وأبي سعيد، وابن مسعود، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم في أحاديث الباب.

(2)

انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم" للقاضي عياض (ص: 547 - 549).

(3)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (16/ 194).

(4)

المرجع السابق، (ص: 16/ 195).

ص: 604

ومن التابعين: أبو جعفر محمد بن علي، وهو الباقر، والشعبي، ومقاتل بن حيان.

وأما الإمام أحمد: فاختلفت الرواية عنه، وفي "مسائل أبي زرعة الدمشقي"، قال الإمام أحمد: كنت أتهيَّب ذلك، ثم تثبت، فإذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة (1)، فيكون رجع إلى اعتبار وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي استقر عليه مذهبه؛ أنها ركن في التشهد الأخير، يخل بالصلاة إهمالُها، كمذهب الشافعي.

قال ابن القيم: وأما قول عياض: شنع الناس على الشافعي في المسألة، فيا سبحان اللَّه! أي شناعة عليه في هذه المسألة؟! وهل هي إلا من محاسن مذهبه؟! ثم ألا يستحيي المشنع عليه مثل هذه المسألة، من المسائل التي شنعتها ظاهرة جدًا، يعرفها من عرفها من المسائل؛ التي تخالف النصوص، والإجماع السابق، أو القياس، أو المصلحة الراجحة، ولو تتبعت، لبلغت مئتين، على أنه ليس من عادة أهل العلم تتبع المسائل المستبشعة.

والمنصف خصم نفسه، فأي كتاب خالف الشافعي في هذه المسألة؟! أم أي سنة؟! أم أي إجماع لقول اقتضته الأدلة، وقامت على صحته، وهو من تمام الصلاة بلا خلاف؟! إما تمام وجوب، أو تمام استحباب، فرأى أنه من تمام واجباتها؛ بالأدلة المعلومة المذكورة في الكتب المعتبرة، التي منها:"جلاء الأفهام".

زعم الزاعم، وتحذلق المتحذلق بالتشنيع على مثل هذا الإمام المحقق، مع أنه لم يخرق إجماعًا، ولم يخالف نصًا، فبأي وجه شنع عليه؟! وهل

(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 318).

ص: 605

الشناعة إلا على من شنع ألبق، وبه أحرى وأليق؟!

وأما قول القاضي عياض: وهذا تشهد ابن مسعود الذي اختاره الشافعي، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فهكذا قال، والذي اختاره الإمام الشافعي، إنما هو تشهد ابن عباس، كما مر، وأما تشهد ابن مسعود، فاختاره الإمام أحمد، والإمام أبو حنيفة، ومالك اختار تشهد عمر، وتقدم ذلك، واللَّه أعلم (1).

والحاصل: أن مذهب الإمام أحمد، والإمام الشافعي على ما استقر عليه مذهبه: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر التشهد الأخير، ركن من أركانها، لا يسقط سهوًا، ولا جهلًا، ولا عمدًا.

وقال الإمام إسحاق بن إبراهيم -المعروف بابن راهويه-: هي واجبة، وتسقط بالنسيان.

وقال الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك: هي سنة، لا تبطل الصلاة بتركها ولو عمدًا.

وذكر في "الفتح": أن بعض أصحاب مالك وافق الشافعي وأحمد، واللَّه تعالى أعلم (2).

* * *

(1) انظر: "جلاء الأفهام" لابن القيم (ص: 327 - 334).

(2)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 321).

ص: 606