الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال: ما صبوت، وإِنما أَسلمت وتبعت خير دين. . دين محمد، فزاد ذلك من غيظهم، فشددوا من حبسه .. وكان قد أَنذرهم حالفًا بالله بأَنهم لن يروا حبَّة حِنْطة تصل إليهم من اليمامة، حتى يأْذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. . وكانت اليمامة ريفًا لأَهل مكة يعتمدون على محاصيلها لتموينهم بالمواد الغذائية الضرورية.
ولقد حاول كفار مكة قتل ثمامة .. وفعلا قدَّموه لضرب عنقه، إلا أَن أَحد عقلائهم نصحهم بأَن لا يفعلوا (خوفًا من أَن يكون رد فعل قتله لدى قومه بني حنيفة قطع المواد الغذائية عن مكة فيهلك الناس جوعًا) حيث قال: دعوه فإِنكم تحتاجون إِلى اليمامة، فخلّوا سبيله خوفًا من انتقام قومه.
منع بيع محاصيل اليمامة في مكة:
وفعلا لقد بَرَّ هذا الزعيم الحنفي العظيم بقسمه، فأَمر قومه في اليمامة بأَن يمنعوا عن قريش ما كان يأْتي إِليها من اليمامة من حبوب ومنافع، فأَضر ذلك بقريش ضررًا كبيرًا إلى درجة تفشَّت معها المجاعة في مكة. حتى أَكلت قريش العِلهز (1).
ولم تجد قريش وسيلة لرفع ضائقة الجوع إلا التوجه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ليطلب من سيد بني حنيفة رفع الحصار الاقتصادي الذي فرضه عليهم.
(1) العلهز (بكسر العين وسكون اللام وكسر الهاء): الدم يخلط بأوبار الإبل فيشوى على النار.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: وكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عهدنا بك تأْمر بصلة الرَّحِم وتحث عليها، وأَن ثُمَامَةَ قَد قطع عنا ميرتَنا وأَضرَّ بنا، فإِن رأَيت أَن تكتب إِليه أَن يخلِّي بيننا وبين ميرتَنا فافعل.
فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرجاءِ قومه (بالرغم من أَنه في حالة حرب معهم)، وكتب إِلى سيد بني حنيفة (ثمامة): أَن خَلِّي بين قومي وبين ميرَتهم. . فامتثل ثُمَامة أَمر نبيّه وسمح لبني حنيفة باستئناف إِرسال المحاصيل إِلى مكة فارتفع عن أَهلها كابوس المجاعة (1).
- 2 -
حملة الغمر (2) - ربيع الأول سنة خمس للهجرة
ك انت قبائل بني أَسد وهي من أَقوى القبائل النجدية قد اشتركت (بقيادة طليحة بن خويلد) في معركة الخندق إلى جانب الأَحزاب ضد المسلمين. . فأَصبحت بذلك عدَّوًا محاربًا للمسلمين.
فكان من البدهي أَن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتأْديبها وإِرهابها بالإِغارة عليها لإِعطائها درسًا بأَن المسلمين في حالة من القوة العسكرية تمكنّهم من أَن يصلوا بهجماتهم إِلى قلب بني أَسد.
(1) انظر السيرة الحلبية ج 2 ص 298 والاستيعاب لابن عبد البر (ترجمة ثمامة بن أثالة الحنفي).
(2)
ويقال لها الغمار قال ابن بليهد (في صحيح الأخبار): اسم يطلق على موضعين: أحدهما محاذ بلد سميراء من الجهة الجنوبية من حدود بلاد بني أسد، ويقال له اليوم:(الغمار) وهو جبل شاهق أحمر إلى السماء وتصطاد منه الصقور وبه مياه كثيرة.
لذلك جهّز حملة تأْديبية (إلى ديار بني أَسد)، صغيرة في عدد رجالها كبيرة في معناها عظيمة في تأْثيرها.
وقد أَسند النبي صلى الله عليه وسلم قيادة هذه الحملة إلى الصحابي الشهير (عكاشة بن محصن) وهو من بني أَسد أَنفسهم. . وكان عدد رجال هذه الحملة أَربعين فارسًا.
وقد أَمره بأَن يغير على بني أَسد في ديارهم.
فتحرك (عكاشة) برجاله، وما يزال يغذّ السير بهم ليفاجئ الوثنيين من قومه، غير أَن القوم نذروا (1) به قبل وصوله، فهربوا واعتصموا بالمناطق الجبلية من بلادهم، ولما وصل عكاشة (2) إلى ديارهم لم يجد بها أَحدًا منهم.
غير أَن القائد عكاشة لم ييئس، فبعث بشجاع بن وهب (3) طليعة (عينًا عليهم) فعاد وأَخبر القائد أَنه رأَى أَثر نعم قريبًا .. فتحرك بقواته في اتجاه الأَثر فوجد رجلًا نائمًا فسأَله عن بني أَسد، فقال: وأَين بني أَسد؟ ؟ قد لحقوا بعليات بلادهم عندما نذروا بكم.
ولما سأَلوه عن النَّعَم قال: أَخذوها معهم. غير أَن أَحد رجال استخبارات الحملة ضربه بالسوط للحصول منه على معلومات. . ولما
(1) نذر (بفتح أوله وكسر ثانيه) به أي علم به.
(2)
انتظر ترجمة عكاشة بن محصن في كتابنا (غزوة الأحزاب).
(3)
هو شجاع بن وهب الأسدي، من السابقين الأولين، شهد بدرًا وممن هاجر إلى الحبشة، قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة، كان شجاع بن وهب، سيدًا من سادات بني أسد، وكان مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملك المنذر بن الحرث بن شمر الغساني، كما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلة بن الأيهم ملك الغساسنة المنتصر .. استشهد شجاع بن وهب في حروب اليمامة، قاله ابن سعد والكلبي.
أَحس بالضرب قال: أَتؤمنوني على دمي وأُطلعكم على نعم لبعض القوم لم يعلموا بمسيركم إِليهم؟ قالوا: نعم.
فانطلقوا معه (بعد أَن أَمنوه) فأَمعن بهم في الطلب، حتى خافوا أَن يكون ذلك منه استدراجًا وغدرًا، فاستوقفه القائد (عكاشة) وقال له: والله لتصدقنا أَو لنضربن عنقك.
وهنا خاف فقال: ارتقوا هذا المكان المرتفع ثم انظروا. . فلما أَشرفوا من ذلك المكان الذي أَشار إِليه وجدوا نعمًا (1) رواتع فأَغاروا عليها فاستاقوها فإِذا هي مائتا بعير، فاكتفوا بذلك حيث فاتهم القوم هربًا، ثم عادوا إِلى المدينة ولم يلقوا كيدًا.
ولقد أَثبتت عمليات هذه الحملة العسكرية أَن الرعب من المسلمين قد شحن نفوس الأَعراب وحتى أَعظمهم شراسة وأَشدهم بأْسًا مثل قبيلة بني أَسد التي ما كان يتوقع أَحد أَنها (وهي القبيلة العظيمة) ستفرّ (وفيها آلاف الفرسان) بمجرد علمها أَن المسلمين ينوون القيام بغزو أَراضيها. . ولا شك أَن هذا مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب" الحديث.
- 3 -
غزوة بني لحيان (2) - سنة خمس من الهجرة
ك انت قبائل بني لحيان هذه (وهي من قبائل الحجاز) قد غدرت باثني عشر من خيرة أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوهم جميعًا بعد أَن
(1) النعم: الإبل.
(2)
لحيان (بكسر أوله وسكون ثانية) بطن من هذيل من العدنانية وقال القلقشندي - =
أَعطوهم الأَمان، وأَخذوهم من المدينة في جوارهم وذلك في السنة الرابعة من الهجرة.
وقد ذكرنا في حينه أَن وفدًا من هذه القبائل جاءُوا إِلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة متظاهرين بالإِسلام وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أَن يُرسل بعثة من أَصحابه تعلِّم بني لحيان شرائع الإِسلام، فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الطلب، فأَوفد معهم بعثة تعليمية من خيرة أَصحابه تتكون من عشرة أَنفار على رأسهم البطل المشهور (عاصم بن ثابت). "انظر ترجمته في كتابنا غزوة أُحد".
غير أَن هذه البعثة لم تكد تصل ديار بني لحيان حتى غدر بها هؤلاءِ الخونة، فاستشهد جميع أَفراد هذه البعثة حيث قتلوا جميعهم غدرًا (1).
وقد تأَلم النبي صلى الله عليه وسلم أَشد الأَلم لفقد أُولئك العشرة البررة الأَعزاء عليه. . وخاصة أنهم قُتلوا بطريقة تمثل أَحطَّ أَنواع الخيانة والغدر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم راغبًا كل الرغبة في تأْديب تلك القبائل الخائنة الغادرة، والاقتصاص منها لأُولئك الشهداءِ من القراءِ الأَبرار المغدور بهم.
إِلا أَن الظروف في تلك السنة (وهي السنة الرابعة من الهجرة) كانت غير مواتية لتحقيق هذه الرغبة. . حيث كان النبي مشغولا بدفع الأَخطار الجسام التي تهدد الإِسلام والمسلمين في عقر دارهم من الداخل والخارج، لا سيما مؤامرات اليهود الخطيرة التي يدبرونها الإِطاحة
= في نهاية الأرب: بطن من جرهم من القحطانية (والأول أصح). . تقع منازلهم بين عسفان ومكة.
(1)
انظر تفاصيل هذه الحادثة المؤلمة في كتابنا (غزوة الأحزاب) ص 42 الفصل الأول.