الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد المؤلف
- 1 -
اللهم صلِّ على منقذ البشرية، ومحرِّر الإنسانية، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. وارزقنا اللهم السداد في القول والتوفيق في العمل إنك على كل شيء قدير.
وبعد، فهذا هو كتابنا الخامس (صلح الحديبية) نقدِّمه إلى قراء التاريخ الإسلامي ضمن سلسلة (معارك الإسلام الفاصلة) التي عقدنا العزم (بعون الله تعالى) على إصدارها، في محاولة متواضعة لتبصير أجيالنا بالتاريخ الإسلامي المشرق الحافل بالبطولات والأمجاد والذي تحالفت لطمسه أو تشويه جهات كلها عدو للإسلام والمسلمين .. وظاهرها - ولا يزال يظاهرها مع الأسف - نفرٌ من المفكرين، هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون لغتنا، بل ويحملون هويات تجعلهم محسوبين على ديننا.
هؤلاء ساهموا إلى حدٍّ مؤسف جدًّا في تحريف التاريخ الإسلامي، وحاولوا طبع ما في هذا التاريخ من محاسن وفضائل بطابع مبادئ ومذاهب سياسية دخيلة على الوطن الإسلامي، بل هي والإسلام
على طرفي نقيض .. وهو أمر خطير يجب على المربيِّن والمسؤولين عن التربية والتعليم في أي بلد يدين بالإسلام أن يقاوموه بكل الوسائل، ويعملوا على إزالة الأتربة والسوافي التي ألقى بها الأعداءُ على جوهر هذا التاريخ لطمس معالمه الوضاعة المشرقة التي يمكن أن يستضئ بها الشباب المسلم على دروب الفضيلة والاستقامة التي (إن سار عليها) ستنتهي به إلى سلَّم العزة والكرامة والمجد ليرقاه رافع الرأس وضاح الجبين.
- 2 -
إن ما حدث قبل وحتى عقد هذا الصلح التاريخي الخالد لم يكن معركة حربية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه في القاموس العسكري.
فلم تنشب هناك معارك دامية في بطاح، الحديبية بين المسلمين وقريش، كما نشبت في بطاح بدر وشعاب أُحد ومشارف الخندق ووديان خيبر ومرتفعاتها، والتي نتجت عنها تلك الانتصارات لصالح الإسلام والمسلمين.
ولكن نتائج (صلح الحديبية) الإيجابية لم تكن أقل من نتائج أية معركة من تلك المعارك الظافرة الدامية الفاصلة.
بل إن نجاح الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في عقد صلح الحديبية مع قريش حقق للدعوة الإسلامية من المكاسب (على كل المستويات السياسية والروحية والمعنوية والعسكرية) ما لم تحققه له أية معركة خاضها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابة الكرام بالسيف والرمح والنبل.
يشهد بذلك كبار الصحابة الذين كانوا قد عارضوا النبي صلى الله عليه وسلم، أشد المعارضة في عقد هذا الصلح كما سيراه القارئ مفصلًا في صُلْب
هذا الكتاب عند التعرض بالتحليل الدروس ومكاسب هذا الصلح التاريخي.
بل لقد شهد القرآن الكريم بعظيم هذه المكاسب وخلَّد ذكراها في آيات تتلى إلى يوم القيامة، حيث وصف صلح الحديبية بأنه (الفتح المبين)(1).
وهو أمر لم يعطه القرآن الكريم وصفًا لنتائج أية معركة أو حادثة في العهد النبوي سوى (لصلح الحديبية).
إذن، من هنا يمكن القول: أن صلح الحديبية هو حصيلة كسب لأعظم معركة دارت بين الإسلام والوثنية في العهد النبوي من حيث النتائج الإيجابية التي بها توطدت دعائم الإسلام وبفضلها تصدّعت قواعد الوثنية، ثم انهارت واضمحلت من الوجود. كما هو مفصل في فصول هذا الكتاب.
لذلك أدرجنا (صلح الحديبية التاريخي هذا) ضمن سلسلة (معارك الإسلام الفاصلة)، لأنه من حيث النتائج ينطبق عليه كل الانطباق، اسم المعركة الفاصلة.
- 3 -
إنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يتوصل إلى عقد صلح الحديبية إلا بعد أن خاض سلسلة من الصراعات الشاقة والمعارك المضنية على الصعيدين الداخلي - محيط أصحابه المعارضين للصلح أشد المعارضة - والصعيد الخارجي - محيط قومه وأهله وعشيرته من مشركي قريش الذين
(1) انظر حديث القرآن عن صلح الحديبية في هذا الكتاب.
لم يتركوا وسيلة من وسائل الاستفزاز والتحدي إلا واتبعوها لإثارة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فهي إذن معارك شاقة خاضها النبي - منذ خروجه من المدينة حتى إبرام هذا الصلح - على جبهتين.
في محيط أصحابه خاض معارك طرفاها:
1 -
العقل الراجح، والأُفق الواسع، والنظرة البعيدة، والأَناة والحلم والصبر الذي لا يعرف الحدود.
2 -
العاطفة الفوارة العابرة التي لا يفكر المستجيب لها في العواقب محمد صلى الله عليه وسلم في جانب العقل والصبر والحلم والأَناة، يصرُّ على التزام جانب التروّي والصبر وعدم الإجابة على استفزاز أهله وعشيرته باستفزاز مثله، ويعمل جاهدًا على نبذ فكرة الحرب والسعي لتحقيق السلام بين المسلمين وقريش.
وعامة الأَصحاب في جانب العاطفة الجياشة يعارضون الصلح أشد المعارضة، ويستعجلون الصدام الدامي مع قريش، مفضلين الاحتكام إلى السيف على طول الانتظار في الحديبية، وعلى القبول بصلح يرون قبول بعض شروطه مذلة للمسلمين ومساسًا بكرامتهم.
وفي محيط أَهله وعشيرته المشركين خاض محمد صلى الله عليه وسلم معارك خصماها:
1 -
داعي الرغبة في صلة الرحم والحفاظ عليها وإعطاءها حقها من الرعاية، والحرص على هداية الأهل والعشيرة ليخرجوا من ظلام الشرك إلى نور التوحيد. . والعمل على حقن الدماء وصون الأرواح (أيا كانت) من أن تزهق.
2 -
داعي العنجهية الجاهلية وصلف الكبرياء الوثني المقيت والاستجابة الجانحة لدواعي الشر ونوازع البطر والطغيان.
* محمد صلى الله عليه وسلم قوي جانب الداعي الأول. . يبلِّغ قومه وعشيرته رسميًا أنه يأْت للحرب ولا رغبة له فيها، وأنه إنما جاء معتمرًا يزور الكعبة يعود بأَصحابه من حيث أَتوا.
* وقريش تقسم أغلظ الأَيمان أنها ستصد محمدًا وأصحابه عن البيت حتى وإن لم يأْتوا إلا لزيارته، وتستنفر كافة قواتها وقوات حلفائها (ثمانية آلاف مقاتل) وتعسكر بهم خارج مكة لتبر بقسمها الآثم هذا.
* محمد صلى الله عليه وسلم يبعث بالوسيط تلو الآخر إلى قريش يدعوهم إِلى السلام ويؤكد لهم عدم رغبته في الحرب، ويعرض عليهم إقامة سلم يأْمن فيه المسلمون والقرشيون بعضهم بعضًا.
* وقريش إزاء هذه المساعي النبوية السلمية تشتط في طغيانها وبطرها فتبعث بعدة وحدات من فرسانها لتعترض طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وتسدها عليهم بنضال السيوف لتجرَّهم إلى حرب لم يخرجوا لها ولا رغبة لهم فيها.
* محمد صلى الله عليه وسلم تجنبًا للصدام الدامي مع أهله وعشيرته - يعدل عن سلوك الطريق الرئيسي الذي يسده خالد بن الوليد بفرسانه المشركين، ويسلك طريقًا غير مطروق ليفضي به إلى سهل الحديبية، فيعسكر بأَصحابه هناك خارج الحرم في انتظار فرصة يتحقق فيه سلام بينه وبين أهله وعشيرته. . ولئلا يحدث بين أصحابه وبين مشركي مكة احتكاك يؤدي إلى حرب هي أَكره ما تكون إلى نفسه.
* وقريش إزاءَ كل هذا السمو الإنساني والنبل الأَخلاقي، تبعث بسفهائها ليتسللوا في جنح الظلام إلى معسكرات المسلمين في الحديبية فيغيروا عليهم لاستفزازهم وتحدي مشاعرهم ليفقدوا صوابهم.
* محمد صلى الله عليه وسلم يطلق سراح سبعين من المشركين المتسللين المعتدين بعد أَن أَلقى عليهم الحرس النبوي القبض وهم يتسللون. . فيعفو عنهم تكرمًا وصلة للرحم وتخفيفًا لحدة التوتر.
* وقريش تريد تصعيد الأَزمة وتحاول تفجيرها فتحتجز مبعوث النبي الخاص في مكة (عثمان بن عفان وعشرة من الصحابة) دخلوا مكة بإذن من سادات قريش وفي جوارهم.
فيزداد التوتر في الحديبية بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وترتفع نسبة الغليان في النفوس وتتزايد الأصوات الداعية إلى تأْديب قريش الباغية وجدع أَنف كبريائها الوثني بحدِّ السيف. . والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حيال هذا وذاك يأْمل في أَن يحل السلام ويسود الوئام بين المعسكرين، ويعمل على تلطيف الجو وتخفيف حدة التوتر.
4 -
متاعب مضنية ومشاكل عويصة معقدة واجهها النبي الأَعظم صلى الله عليه وسلم، كان بعضها كاف لتحطيم الأعصاب وحمل من يواجهها على الخروج عن دائرة الحلم والصبر. . لولا أَن الذي واجهها نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صاحب أرجح عقل وأهدإِ نفس بين بني البشر جميعًا.
فقد عالج النبي محمد صلى الله عليه وسلم كل هذه المشاكل المعقدة، وتغلب على كل هذه المصاعب المضنية المرهقة بعميق حكمته وسداد رأْيه
ورجاحة عقله وبعد نظره وسعة حلمه، حتى كانت الثمرة اليانعة لذلك المجهود العظيم الذي بذله سيد البشر ومنقذ البشرية، هي صلح الحديبية التاريخي الخالد الذي (كثمرة من ثمراته العظيمة المباركة) دخل على الدعوة الإسلامية من المكاسب وتحقق لها من الانتصارات خلال سنتين اثنتين ما لم يدخل عليها وما لم يتحقق لها خلال تسعة عشر عامًا، كما سجل ذلك المحدِّثون الثقاة في كتب السنة النبوية.
إن صلح الحديبية هو حدث من أهم أحداث التاريخ، بعقده تحول مجرى الصراع بين الإسلام والوثنية في جزيرة العرب لصالح الإسلام والمسلمين حتى قضى قضاءً تامًّا على الشرك والوثنية وكانت السيادة التامة للتوحيد والتوحيد فقط.
وفي صلح الحديبية عبر ومواعظ. . وحكم ودروس، في الحلم والصبر وضبط النفس والوفاء بالعهد، وتقبل الانتقاد الهادف، وتحمل المعارضة النزيهة، وتحمل الأَذى، لبلوغ الأهداف النبيلة السامية. . عبر، ومواعظ، وحكم، ودروس، جديرة بالاهتمام والبحث والتمعن للاستفادة منها والاستضاءة بنورها، وخاصة لمن هم في مقعد الريادة وكرسي القيادة. . والله نسأَل أَن يوفقنا جميعًا للاهتداء بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر والله الحمد.
محمد أحمد باشميل
جدة - المملكة العربية السعودية
1389 هـ- 1969 م