الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأَعظم صلى الله عليه وسلم الذي يدرك ما لا يدركون - في تجنب القيام بأَي عمل يكون من شأْنه زيادة حدة التوتر والإِسراع إلى إِراقة الدماءِ.
وهكذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم إزاء كل ما أَقدمت عليه قريش من حماقات تمثَّلت في استفزازتها للمسلمين والإصرار على اللجوءِ إلى السلاح لمنعهم من دخول الحرم، التزم ضبط النفس وكظم الغيظ، ولم يتسرَّع في الإِقدام على أَية خطوة من شأْنها قدح شرارة الحرب إلى أَعلن - على لسان مبعوثيه الخاصين إلى قريش وأَمام رسالها ووسطائها الذين زاروه في معسكره بالحديبية - كرهه لها ورغبته الأَكيدة الصادقة في تجنبها، وأَنها آخر ما يفكر فيه من الوسائل لإِقناع قريش بالتسليم بحق النبي وأَصحابه في الطواف بالبيت وتركهم يباشرون هذا الحق.
بيعة الرضوان نقطة التحول في حل الأزمة:
ك ان النبي صلى الله عليه وسلم يعني كل كلمة يقولها عندما أَعلن في اليوم الأَول الذي نزل فيه بأَصحابه الحديبية، بأَنه قد استبعد نهائيًا فكرة محاربة قومه عن طريق البدءِ بالهجوم، وأَنه مستعد لفتح الحوار معهم، وعلى استعداد لقبول أَية خطة سلام يعرضونها يكون فيها للحفاظ على صلة الرحم وصون حرمة الحرم عن سفك الدماء حين قال:"لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسأَلوني فيها صلة الرحم إلَّا أَعطيتهم إياها"(1) وفي رواية: "أَما والله لا يسأَلوني اليوم خطة في تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها"(2). ثم أَمر أَصحابه بالعودة حيث عسكروا في الحديبية
(1) تاريخ الطبري ج 2 ص 624.
(2)
مغازي الواقدي ج 2 ص 587.
وكان قد ترك الحديبية وأخذ في الاتجاه لاجتياز حدود الحرم، وكان ساعتها - وقبل أن يُدْلي بهذا التصريح السلمي الهام - قد رسخ في أذهان أصحابه الألف والأربع مائة أنه سيستخدم السلاح لمقاتلة قريش (في اليوم الأول من وصوله) إن هي حاولت التعرُّض له ومنعه من دخول مكة بالقوة. ولذلك استعدّ أصحابه للحرب تحسبًا لأي طارئ، إلَّا أن تصريحه الهام هذا، وابتعاده بأصحابه عن حدود الحرم قد جعل نشوب الحرب بينه وبين قومه أمرًا بعيد الإحتمال.
وقد ظلت فكرة السلم والبعد عن الحرب والحرص على صون دماء الفريقين من أن تراق في حرم الله، هي السائدة لدى النبي القائد صلى الله عليه وسلم ولهذا فإنه صلى الله عليه وسلم كنبيّ جاء رحمة للعالمين أولًا، وكقائد حكيم يحرص على هداية قومه وصلة أرحامهم وأن يبرَّهم وإن عقّوه ثانيًا) ابتعد وأمر أصحابه بالابتعاد عن أية مزايدات كلامية أو تصريحات عنترية يكون من شأنها إلهاب الموقف والاقتراب بالفريقين إلى حافة حرب لم يأتِ لها ولا رغبة له فيها، ولهذا ظل صلى الله عليه وسلم شعاره الرئيسي دعوة قومه - وعشيرته إلى السلام في كل حديث أو حوار يدور بينه وبينهم طيلة إقامته محصورًا في الحديبية.
فعل ذلك بالرغم من أن قومه من أهله وعشيرته لم يتركوا وسيلة من وسائل الاستفزاز والتحدِّي له ولأصحابه إلا واتبعوها، فملأوا الدنيا بالمزايدات الكلامية والتصريحات العنترية، واستنفروا حلفاءهم للحرب سفهًا وبطرًا ورئاء الناس، وأخذوا فوق ذلك (في استفزاز ملهبًا للأعصاب) يستعرضون - أمام النبي وأصحابه - عضلاتهم العسكرية بإقامة استعراضات حربية لمختلف كتائب جيوشهم من خيالة ومشاة على