الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دروس في قضية الحديبية:
وقبل اختتام الحديث عن صلح الحديبية ولما لهذه القضية التاريخية من أَثر مصيري في تاريخ الإسلام، فإِنه يجدر بنا أَن نشير إلى ما يمكن أَن يكون دروسًا يستفيد منها في دينه ودنياه كل من ينظر فيها ويعيها كما يجب.
فقد تلقى الصحابة عن الرسول الأَعظم صلى الله عليه وسلم ضمن تصرفاته في قضية الحديبية المعقدّة - دروسًا في الحكمة والحلم والصبر وضبط النفس والسياسة الصائبة وبُعد النظر، والوفاء بالعهد والحيطة والحزم والحذر والتسامح والشورى وعدم الاستبداد مع احترام المعارضة.
إنها دروس لعمر والله جديرة بأَن يتدبرها ويعيها ويسير على ضوئها الرادة والقادة من أُمّة الإسلام، في معالجة المشاكل ومواجهة الأَزمات وحل المشكلات.
1 -
الحيطة والحذر:
ولعل أَول درس تعلمه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية هو الحيطة والحذر، فبالرغم من أَنه صلى الله عليه وسلم قد خرج معتمرًا لا يريد حربًا، وبالرغم من إعلانه ذلك لئلا تظن قريش أَنه يريد غزوها، وبالرغم من أَنه وعامة أَصحابه قد تجردوا من كل مخيط وارتدوا لباس الإِحرام بالعمرة، فقد قدم بين يديه طلائع من الفرسان بقيادة عبّاد بن بشر حسبانًا للطوارئ وللقيام بأَعمال الاستكشاف؛ كما زود أَصحابه بكافة الأَسلحة اللازمة.
كما أنه بعث له عينًا - رجل استخبارات - إلى مكة ليوافيه أثناء الطريق بمدى تأْثير خروجه بين القرشيين، ورد الفعل بينهم ليتخذ لكل أَمر عدته ويرسم لكل شيء خطته.
وفعلًا لم يكد يصل بأَصحابه منطقة أشطاط بعسفان قرب مكة حتى عرف - عن طريق استخباراته - كل ما يجب أن يعرف عن أهل مكة الذين هو معهم في حالة حرب منذ معركة بدر الكبرى.
وقد استفاد صلى الله عليه وسلم من المعلومات الهامة التي تلقاها من رجل استخباراته، فاستطاع (كما تقدم) تجنب الاصطدام المسلح مع طلائع فرسان قريش بقيادة خالد بن الوليد في كراع الغميم بعد أن غيَّر وجهته ناحية اليمين، وبهذا تفادى إِشعال نار حرب لم يكن راغبًا في إشعالها.
2 -
ضبط النفس ساعة الاستفزاز:
والدرس الثاني الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه عمليًّا فوعوه، والذي يجب أن يعيه كل من هو في مركز المسؤولية ومرتبة القيادة والريادة، هو خلق ضبط النفس والسيطرة على الأعصاب والصبر - والتحمل عند تحدي الجهلاء واستفزاز السفهاء هذا الخلق الذي تحلى به النبي القائد والتزمه في أشد الساعات حرجًا وتجنِّيًا على المسلمين، مع أَنه كان قادرًا على أَن يكيل الصاع صاعين للمستفزين المتهّورين؛ ولكنه لم يفعل لأَن ذلك لم يكن ضروريًّا.
لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة (خروجه ذاك) وهدفه الأول
والأَخير هو زيارة البيت الحرام وهو هدف سلمي محض عَلِمته قريش وتبلغته من المسلمين رسميًّا للإِعذار.
ولكنَّ قريشًا التي كانت كلمة الفصل في كل أمورها (يوم ذاك) للعقلية الوثنية الحمقى، أَبت إلا أن تصدّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن زيارة البيت.
فبمجرد علمها بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة نفخ الشيطان في مناخر زعمائها المشركين، فأَعلنوا التعبئة العامة واستنفروا كل ما لديهم من قوات عسكرية ثم خرجوا بها إلى ما وراء حدود مكة استعدادًا لمحاربة المسلمين ومنعهم (بحدّ السيف) من زيارة البيت.
فعلوا ذلك بالرغم من أَن المعلومات التي حصلت عليها استخباراتهم، أَكدت لهم أَن النبي صلى الله عليه وسلم وأَصحابه لم يجيئوا لحربهم وإنما جاؤوا زائرين ومعظمين للبيت العتيق يسوقون الهَدْي بين أيديهم قد ارتدوا ملابس الإحرام
…
ولكنها الجاهلية العمياء حادت بالمشركين عن جادة الصواب.
لقد كان خروج قريش بجيوشها ومرابطة خالد بن الوليد بفرسانها على الطريق الرئيسي في كراع الغميم تحديًا مثيرًا واستفزازًا خطيرًا في الإمكان أن يتسبب بسهولة في إشعال نار حرب ضروس بين المسلمين والمشركين على حدود أَو داخل الحرم، تسفك فيها دماءُ غزيرة لا يرغب النبي صلى الله عليه وسلم في سفكها وتزهق فيها أرواح كثيرة كان صلى الله عليه وسلم حريصًا كل الحرص على أَن لا يزهق شيء منها.
لقد كان باستطاعة النبي القائد صلى الله عليه وسلم أَن يتخذ من طغيان قريش وتحدِّيها واستفزازها مبرِّر للدخول معها في صدام مسلح فيمر حيث
يعسكر فرسان خالد بن الوليد ويقتحم عليه حدود الحرم بحدّ السيف لا سيما وأنَّ قريشًا تعرف (سلفًا) أن قواتها ستكون هي الخاسرة إذا ما هاجمها النبي صلى الله عليه وسلم ليشق طريقه نحو مكة بالقوة.
لأَن وراءه ألفًا وأربعمائة من نوع أولئك المغاوير الأشاوس الذين عرفهم مشركو مكة في ساحات الوغى حق المعرفة، حيث حطم ثلاثمائة منهم يوم بدر جيش مكة الضخم المؤلف من ألف مقاتل يمثلون صفوة فرسان وصناديد قريش ومحاربيها
…
كما أنزل سبعمائة منهم (يوم أُحُد) تلك الهزيمة المخجلة بثلاثة آلاف مقاتل أَعدَّتهم قريش لاجتثاث الإسلام ومحو كيانه من الوجود.
غير أن النبي صلى الله عليه وسلم مع قدرته على كل ذلك - قابل استفزاز قريش وتحدِّيها بالحلم والصبر، ورد على سفهها وشططها بالرزانة والتعقل حتى إنه عندما بلغه أن قريشًا قد ركبت رأْسها وأَبت إلا محاربته قال في أَسف بالغ كلمته التاريخية الخالدة تلك:"يا ويح قريش لقد أَكلتهم الحرب. ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أَصابوني كان الذي أرادوا، وإن أَظهرني الله عليهم دخلوا في الإِسلام وافرين، وإن يفعلوا قاتلوا وبهم قوة".
ثم أَمر أَصحابه بأَن يسلكوا طريقًا لا يمر على عسكر قريش المرابطين في كراع الغميم، لا جبنًا ولا خوفًا من الحرب، ولكن ضنًّا بالأَرواح من أَنْ تزهق وحرصًا على الدماء من أن تراق في غير ما ضرورة موجبة.
وفعلًا، كم - بهذا التصرف النبوي الحكيم - أرواح حفظت كان يمكن أن تزهق المئات منها، لو لم يتصرَّف النبي القائد هذا التصرف
الذي به تحاشى الاصطدام مع عسكر قريش
…
أَرواح كان الكثير من أَصحابها على رأْس جيش المشركين، ثم صاروا فيما بعد قادة لجيوش الإِسلام دكُّوا عروش كسرى وعصفوا بكراسي قيصر مثل: خالد بن الوليد وعكرمة بن أَبي جهل وصفوان بن أُمية وعمرو بن العاص وسهيل بن عمرو، الذين - وأَمثالهم من صناديد قريش - كان يمكن أن يخرّوا صرعى في المعركة لو لم يغيَّر النبي صلى الله عليه وسلم اتجاهه بأَصحابه وينزل بهم على الحديبية.
وهكذا فإن كل قائد مسؤول يجب عليه أن يقف عند هذا التصرف النبوي ليستخلص منه الدروس في ضبط النفس وعدم التسرع في مثل هذه المواقف ووزن الأُمور بموازين مصلحة الأمة والدين لا بموازين - العاطفة والعنجهية والهوى والعنتريات الفارغة.
2 -
احترام المعارضة النزيهة:
والدرس الثالث المستخلص من قضية الحديبية هو أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قواعد احترام المعارضة، وعدم التعرض للمعارض بأَي أَذى مهما كانت منزلة هذا المعارض .. شريطة أَن تتوفر سلامة النية لدى هذا المعارض، وأَن يكون باعث معارضته الحرص على مصلحة الإسلام والمسلمين.
أَما إِذا كانت المعارضة باعثها الهوى أَو المصلحة الشخصية أَو العمل على ترسيخ قواعد مبدإ يخالف الإسلام ومصلحة الأُمة فإنها معارضة يجب قمعها فليست جديرة بأَيِّ احترام.
والدرس المستفاد هنا بصفة رئيسية هو في قصة معارضة الفاروق عمر الصريحة بل القوية لبعض بنود معاهدة الصلح التي أَبرمها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بينه وبين المشركين.
لقد كان ابن الخطاب يرى - في قرارة نفسه ساعة عقد الصلح - أَن بعض الشروط التي اشترطها المندوب القرشي سهيل بن عمرو في المعاهدة، وقبل بها النبي صلى الله عليه وسلم فيها مساس بكرامة الأُمة الإِسلامية تسجِّل عليها شيئًا من الدنيّة .. كان ذلك مبلغ فهمه وإحساسه وشعوره كإنسان عادي - بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن (بالتأكيد) على مستواه في إِصابة الرأْي وبعد النظر والإحاطة بغوامض الأُمور .. وبالتالي، تلقِّيه الوحي من السماء وعدم صدوره إلا عن أمر الله تعالى.
لذلك فإن ابن الخطاب لم يكد يطَّلع على بنود وشروط المعاهدة - التي اتفق عليها ولم يبق غير التوقيع والإشهاد عليها - حتى نهض معلنًا عن معارضته الشديدة وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبصراحته المعھهودة أفصح لسيِّد الحكماء وإمام الحلماء صلى الله عليه وسلم عن هذه المعارضة، مستنكرًا بعض الشروط التي تضمنتها هذه المعاهدة، وخاصة المتعلقة باشتراط قريش رجوع المسلمين عن مكة ذلك العام دون أَداء مناسك العمرة .. وتعهد النبي صلى الله عليه وسلم بردّ كل من جاءَه من أبناء قريش إليهم حتى ولو كان مسلمًا .. وعدم تعهد قريش (مقابل ذلك) بأن يردوا من جاءَ إليهم مفارقًا جماعة المسلمين مرتدًا عن الإسلام.
فرأينا كيف أَن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلنًا معارضته لهذه الشروط قائلًا: ألست رسول الله حقًّا؟ قال: بلى، فقال ابن الخطاب: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ . قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى.
فقال عمر: فلمَ نعطِ الدنيّة في ديننا إذن؟ .
فلم ينكر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على ابن الخطاب معارضته القوية الصريحة ولم يعنّفه على هذه المعارضة بل حاول إقناعه بسلامة تصرفه صلى الله عليه وسلم حينما وافق على هذه الشروط التي تراءَى للفاروق أنها مجحفة بالمسلمين، فقد أَبلغ النبي صلى الله عليه وسلم عمر بأَنه لا يفعل إلا ما فيه مصلحة الإِسلام والمسلمين وبالتالي لا يتصرف إلا بأمر من الله حيث قال صلى الله عليه وسلم جوابًا على معارضة الفاروق:"إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري".
وحتى بعد ذلك الجواب النبوي الرفيع المقتضب، على تلك المعارضة الفاروفية العنيفة، لم يضق صدر سيِّد البشر لاستمرار ابن الخطاب في المعارضة ومناقشة الرسول واستجوابه، حيث واصل المناقشة حول الموضوع نفسه قائلًا؛ وبتلك الصراحة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها في عمر لنزاهة الدافع لها في كل مناسبة:"أَوَ ليس يا رسول الله كنت تحدثنا أَنَّا سنأْتي البيت ونطوّف به"؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم في هدوئه المعروف -: بلى. أَفأَخبرتك أنّا نأْتيه هذا العام؟ .
فقال عمر: لا.
فقال صلى الله عليه وسلم: فإنك آتيه ومطوّف به.
وكان الفاروق قد اتصل بوزير النبي الأول أَبي بكر الصديق وأَعرب له عن معارضته لتلك الشروط وعدم استساغته لها حيث قال لأَبي بكر كما تقدم:
أَليس هذا نبي الله حقًّا؟ .