الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا ضرورة لها إلَّا الاستجابة لعواطف بعض الأَصحاب التي عند جيشانها قصرت مداركهم عن فهم وإدراك ما فهمه وأدركه القائد الفذ المحنّك المسؤول، والرسول الموحى إليه من عند الله والذي لا يصدر إلا عن أمره تعالى.
شرط سطحي:
لقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الشرط الذي اشترطته قريش في المعاهدة والذي بموجبه قبل النبي صلى الله عليه وسلم الامتناع عن دخول مكة ذلك العام على أَن يدخلها وأَصحابه في العام القادم.
لقد تظاهرت قريش أنها بإملاء هذا الشرط قد انتصرت على المسلمين. بينما ذلك الشرط (في حقيقته) ليس أَكثر من غطاءٍ رقيق شفّاف، حاولت قريش - أمام السطحيين العاطفيين - أَن تغطي به هزيمتها الكبيرة في هذا النزاع الخطير الذي أثاره تصلُّفها وكبرياؤها الجاهلي. . هذه - الهزيمة المتمثلة في انحنائها للعاصفة بقبولها مبدأَ دخول المسلمين مكة واعترافها بحقهم في الطواف بالبيت، الأمر الذي كانت ترفضه وتمانع في الاعتراف به حتى توقيع مندوبها على معاهدة الصلح التي اعترفت فيها بهذا الحق.
إن كل ما كسبته قريش من هذا الشرط - الذي استعظم عامة الأَصحاب الموافقة عليه - هو أَن النبي قبل أن يؤجِّل دخول مكة للعمرة عامًا واحدًا.
وهذا أَبرز ما ظن قادة قريش، أو أوهموا السطحيين من مشركي العرب أن فيه نصرًا عظيمًا لقريش على المسلمين.
بينما هو في الحقيقة لا يعدو أكثر من موافقة الرسول القائد على تأْجيل مباشرة حق سنة واحدة. . حق كانت قريش - إلى ما قبل إبرام هذا الصلح - ترفض الاعتراف به.
فكأَنَّ قريشًا بإبرامها هذا الصلح قد وقعت على الاعتراف بحق للمسلمين كانت ترفض الاعتراف به وتقسم الأَيمان الغليظة بأَنها لن تمكِّنهم من مباشرته أَبد الآبدين.
ولهذا خرجت من مكة إلى منطقة الحديبية بكل ما لديها من قوة لتبرَّ بهذا القسم الآثم وتجبر المسلمين على العودة من حيث أتوا دونما أيّ قيد أَو شرط أَو دخول في أَية مفاوضة.
ولكنها عندما رأت تصميم المسلمين على البقاء في الحديبية وأَن ذلك قد يؤدِّي إلى صدام مسلح قد يكون فيه تحطيم كيانها إلى الأَبد، وخاصة بعد المبايعة تجت الشجرة والتي لا تعنى سوى الاستنفار العام واستعداد المسلمين لخوض المعركة إذا لم يكن منها بدّ. ورأَت قريش -كما هو قرارة نفسها- أن لا طاقة لها بمقاومة المسلمين إذا ما اضطروا للهجوم، لذلك انحنت للعاصفة، فرجعت عن يمينها، فوافقت على أن يدخل المسلمون مكة للعمرة، ولكنها - كستار لتراجعها الذي هو عين الاندحار طلبت أن يكون ذلك في العام القادم.
فصح بهذا يقينًا أن الذي حصل على الكسب الحقيقي والنصر المؤزّر في هذه القضية الخطيرة التاريخية المعقدة إنما هم المسلمون- لا المشركين.
ولقد اعتبر الخبراء العسكريون والسياسيون القدامى والمعاصرون. اعتبروا رجوع النبي صلى الله عليه وسلم بأَصحابه على تلك الصورة وبعد الظفر بتلك
المعاهدة هو من أحكم وأَقوم ما يمكن أن يُقدم عليه قائد مسؤول عن الأُمَّة، يقدِّر النتائج ويحسب حسابها قبل الإقدام على العمل.
كما أن الباحثين وفلاسفة التاريخ اعتبروا صلح الحديبية نصرًا عظيمًا أَحرزه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام والمسلمين.
بل إن الناظر بتفهّم وإمعان في قضية الحديبية والصلح التاريخي الذي كان خاتمة المطاف فيها، يجد أَنه قد نتج عن هذه القضية مكاسب عقائدية وسياسية وأدبية وإعلامية عادت بالنفع العظيم على الإسلام ودعوة الإسلام. . ويمكننا الإشارة إلى بعض هذه المكاسب:
1 -
اعتراف قريش بكيان المسلمين:
لقد كانت قريش - منذ ظهور دعوة الإسلام في مكة ومنذ خمس عشرة سنة وحتى يوم صلح الحديبية - تعتبر النبي وأصحابه المسلمين شرذمة لا كيان لها. . لا تنظر إليهم إلا كما تنظر إلى الصعاليك من قطَّاع الطرق والخارجين على القانون الذين يجب إخضاعهم لسلطانها وإعادتهم إلى حظيرة طاعة كهنوتها الوثني أو التخلُّص منهم بأَية وسيلة الوسائل. . وما كانت قريش تفكّر أَنها في يوم من الأيام ستقعد معهم على مائدة واحدة لتفاوضهم الند للندّ وتعترف بهم في معاهدة مسجلة كأُمّة لها كيانها بل كدولة لها هيبتها ونفوذها، الأَمر الذي ترفض قريش الاعتراف (رسميًّا) بشيء منه كل الرفض حتى جاء يوم الحديبية فاعترفت فيه للمسلمين بكل ذلك ووقَّع مندوبهہاعلى وثيقة تاريخية دولية؛ تتضمن هذا الاعتراف.
وهكذا تكون أُولى مكاسب صلح الحديبية السياسية - بل أهمُّها - اعتراف قريش رسميًّا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصبحوا أُمّة لها كيانها بل دولة لها خطرها.
وقد جاء هذا الاعتراف مجسَّدًا في وثيقة معاهدة هذا الصلح التي تضمنت اثنى عشر بندًا من بينها البند الذي ينص على عقد هدنة بين المسلمين وقريش بلدة عشر سنوات.
والهدنة لا تعقد إلا بين فئتين متكافئتين- عسكريًا وسياسيًا على الأَقل.
والتكافؤ عسكريًا ودوليًا بين المسلمين وقريش، ظلَّت قريش ترفض الاعتراف به طيلة خمس عشرة سنة حتى وقَّعت على الاعتراف به رسميًّا (مرغمة) في معاهدة الحديبية.
فكأَنَّ النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بنجاحه في عقد هذا الصلح التاريخي مع قريش قد انتزع منها هذا الاعتراف انتزاعًا، الأمر الذي ما كانت قريش لترغب فيه أو تتوقع حدوثه لولا صَبر النبي صلى الله عليه وسلم وجَلَده - وتحلِّيه بضبط النفس وقدرته الفذة على المناورة باتباعه إزاءَ قريش في قضية الحديبية سياسة اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف .. بينما ركب سادات قريش رؤوسهم في هذه القضية، فاتبعوا إزاءَ المسلمين - سياسة العناد والمكابرة والشدة والعنف والتهديد والوعيد وأعلنوا أَنهم سيشنون حربًا كاملة على المسلمين في الحديبية وأَن يرجعوا من حيث أَتوا دونما قيد أَو شرط، وأن قريشًا لن تسمح لهم بدخول مكة في أي وقت وتحت أيِّ ظرف. . ثم تراجعت بل وتخاذلت وأَرسلت بوفدها إلى الحديبية ليوقِّع وثيقة هذا الصلح الذي ظنت قريش أَنه
نصر لها، بينما هو في الواقع قد تجسدت فيه هزيمة سياسية كبرى نزلت بقريش التي قبلت صاغرة مبدأ دخول المسلمين مكة وقيامهم بأداءِ العمرة التي حلفت قريش أنهم لن يؤدّوها مهما كانت النتائج المترتبة على منعهم من أدائها.
2 -
تفهم المشركين لحقيقة الإسلام:
ومن المكاسب الكبرى التي جنته الدعوة الإِسلامية أَثناءَ المفاوضة في الحديبية هو أن تصرف المسلمين - وخاصة نبيّهم العظيم - طيلة الأَيام التي قضوها في الحديبية قد جعلتهم محل احترام وإِكبار كل الزعماء. والسادة الذين بعثت بهم قريش كوسطاءَ لحل المشكلة القائمة بينها وبين المسلمين.
فقد كانت وسائل قريش الإِعلامية تصوّر المسلمين بين العرب على أنهم دُعاة حرب ومصَّاصي دماءٍ معتدون. وأَنهم لم يأْتوا هذه المرة بهذا العدد الضخم إِلا للعدوان وسفك الدم الحرام داخل البلد الحرام.
غير أنه سرعان ما ينكشف زيف هذه الدعاية القرشية الكاذبة وتأْتي لقريش بعكس النتائج التي كانت قريش تسعى - من وراءِ هذه الدعاية الكاذبة - لتحقيقها.
فلا يأْتي زعيم من حلفاءِ أَو أَصدقاءِ قريش - وسيطًا إِلى الحديبية - إِلا وهو يحمل في ذهنه عن المسلمين تلك الصورة المشوّهة التي رسمتها الدعاية القرشية الكاذبة المغرضة.
ولكن سرعان ما تنكشف له الحقيقة بمجرّد أَن يتصل بهؤلاءِ المسلمين فيعود إلى قريش وقد زالت من ذهنه عن المسلمين تلك الصورة
الخاطئة المعتمة وتحل محلها صورة مشرقة مضيئة لهؤلاء المسلمين، ترتسم في ذهنه من واقعهم المشرِّف الذي منه يتبين له أَنهم ليسوا -كما تصوَّرهم قريش - طلَّاب شر وإِنما هم دُعاة خير ليس من باعث لمجيئهم سوى تعظيم حرمات الله وزيارة بيته الحرام.
فيعود هؤلاء الوسطاءُ وهم يلقون بكل اللوّم على قريش ويحمِّلونها وحدها مسؤولية تعقيد الموقف وما قد ينتج عنه من صدام دام، وذلك بعد أَن يلمس هؤلاء الوسطاءِ بأَنفسهم شرف المقصد وحُسن النية الصادقة بين المسلمين؛ كما حدث من الوسيط الثاني عروة بن مسعود الثقفي والوسيط الثالث الحُليس بن زبّان.
وهذه كلها مكاسب أَدبية وسياسية حصل عليها المسلمون نتيجة تصرّفات نبيّهم الحكيمة إِزاءَ استفزازات قريش وتحدياتها الجاهلية. وهي مكاسب إعلامية عظيمة، ما كان المسلمون يحصلون عليها لولا التزام نبيّهم العظيم سياسة الحلم وضبط النفس في هذه القضية المعقدة.
3 -
انشقاق معسكر الشرك:
ومن المكاسب التي صاحبت صلح الحديبية الانشقاق الخطير الذي حدث داخل معسكر الشرك بين قريش وحلفائها الذين لامها قادتهم من الوسطاءِ على عنادها ومكابرتها عندما وجهوا إِليها اللوم وأَسدوا إِليها النصح بأَن لا تحول بين المسلمين وبين مباشرة حقهم الطبيعي في الطواف بالبيت بعد أَن نقلوا إِلى مسامع زعمائها أَن المسلمين ليسوا مخطئين في إِصرارهم على دخول مكة لأَداءِ مناسك العمرة كغيرهم من فئات العرب الأُخرى.
فقد رأَينا فيما مضى كيف غضبت قريش على سيّد الأَحابيش (الحليس بن زبّان) وهو أَقوى حاليف لها عندما صارحها بالحقيقة وأَنها تتصرف تصرّفًا سيئًا عندما تحول بين المسلمين وبين الطواف بالبيت، الأَمر الذي -كما أَشار الحليس- لا يمكن لأَيِّ عربي استساغته أَو إِقراره لأَنه بغي وظلم، ما سبق وإن أَقدم على مثله أَحد ممن سادوا أَرض الحرم عبر العصور.
ورأَينا كيف أَن زعيم الأَحابيش عندما جبهته قريش وسفَّهت رأْيه، عندما أَسمعها كلمة الحق بشأْن المسلمين - بعد أَن لمس بنفسه نزاهة مقصدهم وسلامة موقفهم - هدد قريشًا بأَنه سيلغي الحلف الذي بينه وبينها، وينسحب برجاله من تجمُّعها إِذا لم تصغ لصوت الحق فتخلِّي بين المسلمين وبين البيت ليطوفوا به.
الأَمر الذي أَزعج قريشًا وجعلها تتوسل إِلى حليفها القوي بأَن - لا ينفِّذ تهديده حتى تجد لها مخرجًا من ورطتها، بعد أَن وعدته بأَنها ستسعى لإِيجاد مخرج يكون فيه رضاه ويحفظ لها شيئًا من ماءِ وجهها ويضمن السماح للمسلمين بزيارة البيت الذي كان صدُّ قريش المسلمين عنه أَساس المشكلة ومصدر غضب سيد الأَحابيش.
وتهديد الحليس بن زبّان كان ثاني انشقاق خطير يواجهه التجمع الوثني في الحرم، مما حمل سادات قريش على التفكير جديًّا في الرجوع إِلى طريق الاعتدال والتخلي عن سياسة العنجهية والحماقة والسفه .. الأمر الذي وصل في النهاية بقريش (مكرهة) إِلى التوقيع على معاهدة هذا الصلح التاريخي.