الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقرع عمه بقائم السيف:
وكان من عادة العرب في الجاهلية أَن يمسك الزي بلحية الذي يراه نِدًّا له أَثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة، كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم أَثناءَ المناقشة .. الأمر الذي استهجنه المغيرة بن شعبة، فانتهر عمه وزجره وقرع يده بقائم السيف قائلا:
اكفف يدك عن مسِّ لحية رسول الله قبل أَن لا تصل إليك فاستعظم عروة (الزعيم) هذا التهديد من الحارس المغيرة قائلا:
ويحك ما أَفظَّك وأَغلظك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين بن أَخيه المسلم.
ولما كان المغيرة لابسًا عُدةً الحرب ومكفَّرًا بالدرع لم يعرفه عمَّه عروة، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكاد يتميَّز من الغيظ -: (يا محمد ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أَصحابك، والله إِني لا أَحسب فيكم أَلأَم منه ولا شرّ منزلة.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المفارقة العجيبة وقال: هذا ابن أَخيك المغيرة بن شعبة.
فازداد غيظ عروة وكاد أَن يجن من الغضب، وقال: أَي غُدْرُ (أَي يا غادر): والله ما غسلت غدرتك بعكاظ إِلا بالأَمس وقد أَورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر (1)؟ .
(1) يشير عرْوة بن مسعود إلى ما ارتكبه ابن أخيه المغيرة في الجاهلية من قتل ثلاثة عشر رجلا من قومه بني مالك، فقد روى الواقدي (وهو يتحدث عن محادثات عروة في الحديبية): أن المغيرة بن شعبة (وكان شجاعًا، فاتكًا) خرج من نفر من بني مالك =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن حطيط بن جشم بن قسي - والمغيرة أحد ذوي الألباب - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما: دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده، فسمى الشريد .. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بنو مالك وآثرهم على المغيرة، فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا بيسان شربوا خمرًا، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلا: فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى
…
فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه (أي مال المقتولين)، هذا غدرًا. وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم وأسلم المغيرة.
وأقبل الشريد (دمون الكندي). فقدم مكة فأخبر أبا سفيان بن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان (نعمان وادي لهذيل علي ليلتين من عرفات يقع بين مكة والطائف تقطعه اليوم السيارات وهي في طريقها من مكة إلى الطائف). قلت في نفسي: أين؟ - إن سلكت - ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب، فسلكت ذا غفار، فطرقت عروة بن مسعود، قال معاوية: فخرجنا إلى مسعود بن عمر والمالكي فناداه عروة ولم يكن قد كلمه من عشر سنين، فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعود إلينا يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟
…
بل طرقت بداهية!
…
أقتل ركبهم أم قتل ركبنا ركبهم؟
…
لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبني ركبك يا مسعود انظر ما أنت فاعل، فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب، فهبني صمتًا، قال: فانصرفنا عنه فلما أصبح غدا مسعود فقال: يا بني مالك، إنه قد كان على أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبدًا، والله لا تقرك الأحلاف أبدًا حين تقبلها. قال: أطيعوني وأقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلا إلا صرعه، والله لكأني بجندب =
حاول عروة بن مسعود تخويف النبي صلى الله عليه وسلم ليعود من حيث أَتى، وحاول التأْثير (عن طريق التلويح بعظمة قوة قريش) بأَن من مصلحته ومصلحة أَصحابه أَن يزيلوا من أَذهانهم فكرة الأَمل في الطواف بالبيت ما دام القريش سلطان في مكة.
ولكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وأَصرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أَن من حقه ومن حق أَصحابه أَن يدخلوا مكة ويطوفوا متى شاءوا، إلا أَنهم لن يتعجلوا الأَمور لنيل هذا الحق عن طريق اقتحام مكة بحدِّ السلاح .. وذلك رغبة منهم في حقن الدماء وأَملًا منهم في يصحو عقلاءُ قريش من سكرة طغيانهم فينتهجوا أَي نهج به يحولون دون سفك الدماءِ، ويفسحون الطريق للمسلمين ليباشروا حقهم الطبيعي في زيارة بھيت الله الحرام شأْنهم في ذلك شأْن كل العرب.
وهكذا انتهت المفاوضة بين النبي صلى الله عليه وسلم وعروة بن مسعود، دون أَن يتم التوصل إلى أَي اتفاق ينهى الأَزمة .. إِلا أَنه من خلال هذه المحادثات أَكدت لعروة بن مسعود صدق نوايا المسلمين السلمية وأَنهم (فعلًا) إنما جاؤوا في رحلة روحية خالصة (معتمرين لا محاربين) وأَن
= من ابن عمرو وقد أقبل كالسيد (السيد بكسر السين مع التشديد: الذئب) عاضًا على سهم مفوق بآخر، لا يسير إلى أحد بسهمه إلا وضعه حيث يريد، فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عمله ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل أطيعوني! قالوا: الأمر إليك قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود أخرج إلي! فخرج إليه، فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشر دية فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلا فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي. قال: فاصطلح الناس، فذلك الذي عناه عروة بن مسعود حينما قال للمغيرة:(والله ما غسلت غدرتك بعكاظ بالأمس).