الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتجويع ووحشية التعذيب في سجون المشركين بمكة إلا أوسمة - إن صح هذا التعبير - جعلتهم حديث الدنيا وملءَ سمعها وبصرها، يلهج التاريخ بذكراهم العطرة في التضحية والفداء في سبيل العقيدة أَبد - الآبدين.
فكأَنّ لسان حال النبي الأعظم - وهو يعيد أَبا جندل إلى أبيه المشرك وفاءً بالعهد - يقول: فليثبت إذن أَبو جندل وإخوة أَبي جندل وليحتسبوا ما ينالهم في سجون مكة من بلاء وتنكيل في سبيل الاحتفاظ بعقيدهم، فالله منجّيهم وجاعل لهم من محنتهم مخرجًا.
أَليس الله سبحانه هو القائل في حق المؤمنين الصادقين المتقين: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيثُ لَا يَحْتَسِبُ} (1)؟ .
ولقد صدق الله وعده فقد جعل لأَبي جندل وإخوته من المسلمين المستضعفين في سجون أهاليهم بمكة مخرجًا، فلم تمرّ أقلّ من سنة حتى تمكنوا من الإفلات من سجون مكة وأَصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها بعد أن سيطرت على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام، كما سيأْتي تفصيله فيما يلي من هذا الفصل إن شاء الله.
مكاسب الصلح العظيمة:
بالرغم من تضايق عامة المسلمين لما تحمله (في الظاهر) شروط صالح الحديبية التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم واغتمّ لها عامة المسلمين، فإن هذا الصلح نتج عنه مكاسب عظيمة للمسلمين بل نصر كبير لدعوة الإسلام ظهرت جلية واضحة فيما بعد للذين تضايقوا من شروط هذا الصلح.
(1) سورة الطلاق الآية 2 - 3.
وقد تساءَل البعض في حينه - عن حسن نية - أين هي المكاسب الملموسة التي حققها صلح الحديبية بشروطه القاسية على المسلمين وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم صد المسلمين عن الحرم فحلّوا إحرامهم خارجه، وعادوا من حيث أَتوا دون أن يطوفوا بالبيت، وهو الهدن الرئيسي الذي لم - يخرجوا من المدينة بقضهم وقضيضهم إلا من أَجل تحقيقه؟ ؟ .
والجواب على هذا التساؤل، هو أن النبي الأَعظم صلى الله عليه وسلم لم يقرّ في هذا الصلح ويوافق سهيل بن عمرو على صد المسلمين عن الحرم ومنعهم من الطواف أَبد الآبدين.
وإنما وافق فقط، على أن يؤجل المسلمون دخولهم الحرم معتمرين من عامهم ذاك إلى العام الذي يليه مباشرة. وهو ما أَشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحاول إقناع المعارضين للصلح من أصحابه.
وهذا يدلّ على (دبلوماسية) رفيعة وسياسة عسكرية غاية في الحصافة إن صح هذا التعبير - (دبلوماسية) حقق باتباعها النبي صلى الله عليه وسلم حقن دماء كثيرة لم تكن له أَية رغبة في إراقتها بل يكره كل الكره أن تراق داخل الحرم. . وكان يمكن أَن تراق بسهولة وبغزارة، أولًا أَن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما القادة المتجبِّرون القادرون على تحقيق أهدافهم بحدّ السيف .. وقد كان قادرًا على اقتحام مكة بحد السيف.
ولكنه - وهو الذي أَرسله الله رحمة للعالمين - فضَّل أَن يحلّ محل هذا الاقتحام الدامي، عودة سليمة للمسلمين لزيارة البيت بعد عام واحد فقط. . فقبل (لذلك) الشرط الذي أملاه المندوب القرشي والذي يقضي بأَن يرجع المسلمون هذا العام دون أن يدخلوا مكة، على أن يكون من حقهم دخولها في العام القادم.
وأَيُّ إجحاف بحق المسلمين في الموافقة على هذا التأْجيل، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أَن هذا التأْجيل البسيط كان سببًا رئيسيًا في حفظ مئات -بل آلاف الأَرواح- يمكن أَن تُزهق من الفريقين لو لم يوافق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التأْجيل وأَصرّ على اقتحام مكة بالقوة.
ثم ما هو الفرق بين أن يحصل الإنسان على حقه اليوم أو غدًا، ما دام أَنه قد ضمنَ الحصول على هذا الحق؟ .
وقد تضمنت معاهدة صلح الحديبية وجوب حصول المسلمين على حقهم وهو الطواف بالبيت في العام القادم.
فهل من الحكمة أو هل من مصلحة الإسلام والمسلمين أن يخاطر النبي صلى الله عليه وسلم بأرواح المئات من أصحابه الذين هو في أمسِّ الحاجة إليهم وخاصة في تلك المرحلة المصيرية من بناء الدولة الإسلامية الوليدة التي هي أحوج ما تكون إلى الرجال لحماية الدعوة التي أَخذت جذورها في الرسوخ والانسياب في الأَعماق هل من الحكمة أو من المصلحة أن يقدم على مخاطرة قد لا تكون مأْمونة الجانب فيعرّض أصحابه للموت في حرب ستكون لا شك ضروسًا طاحنة، من أَجل التعجيل بمطلب هو قادر على تحقيقه بعد عام واحد، دون أن يضطر إلى إراقة قطرة دم واحدة من دم أَصحابه؟ ؟ .
إنه كنبيّ أَرسله الله رحمة للعالمين، وكرسول جاء يحمل شعار الحب والتسامح، وكرائد ومصلح جاءَ لحقن الدماء وصيانتها، لا لسفكها وإضاعتها ما وجد إلى ذلك سبيلًا، حتى ولو كانت هذه الدماء غير دماء المسلمين. لهذا كله ولأَنه -كقائد مسؤول عن سلامة أَرواح أَصحابه، لا يمكن أن يقدم على تلك المخاطرة فيخوض حربًا مدمِّرة ضروسًا