الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: بلى.
فقال: أَلسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ .
قال: بلى.
قال: فلم نعْط الدنيّة في ديننا؟ .
وهنا قال الصدِّيق الفاروق (ملفتًا نظره إلى وجوب التسليم بكل ما يقوله أَو يفعله النبي صلى الله عليه وسلم): أَيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي الله ربه، وهو ناصره، فقال عمر: وأَنا أَعلم أَنه رسول الله.
فقال أَبو بكر: فاستمسكْ بغرزه فوالله إنه على الحق.
ندم الفاروق على المعارضة:
وقد أَعلن الفاروق - وبالصراحة المعروفة عنه - ندمه على تلك المعارضة التي أَبداها. وحدّث عمر عن نفسه .. أَنه كان يصوم ويتصدّق ويعتق، تكفيرًا عما صدر منه من تلك المعارضة التي صارح بها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.
4 -
إيضاح أهم نقطة إشكال:
لقد كان البند الذي يتضمن تعهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد إلى المشركين من جاءَه من آبنائهم حتى ولو كان مسلمًا، ولا تتعهد قريش بردّ من جاءَها من المسلمين إليهم.
كان هذا البند - على وجه الخصوص ہے- مصدر تضايق للمسلمين لأنهم لم يهضموه ولم يستسيغوه كبشر، حتى قال قائلهم - عندما سمعوا
موافقة النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ ؟ .
وقد أَصاب المسلمون (لقبول هذا الشرط) همٌّ عظيم.
غير أن النبي صلى الله عليه وسلم بأُسلوبه الحكيم وبمنطق واقعي سليم بدَّد كل غيوم الهمَّ تلك التي خيَّمت على نفوس المسلمين فأَجابهم بصدد هذا الشرط الذي استنكروا قبوله بقوله صلى الله عليه وسلم:
"أَما من أَراد أَن يلحق بنا منهم (أَي مسلمًا وتعهدنا بعدم السماح له بالإِقامة بيننا) فسيجعل الله تعالى له مخرجًا ولنا .. ومن أتاهم منا فأَبعده الله (أي مرتدًا) وهم أَولى بمن كفر".
وكان التفسير النبوي تفسيرًا واقعيًا ومعقولًا أَعاد للنفوس القلقة طمأْنينتها .. حتى أن عمر بن الخطاب - وهو أَشدّ الصحابه معارضة لقبول هذا الشرط - اقتنع بهذا القول النبوي وأَدرك أَن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب.
وهذا درس مهمّ أَلقاه النبي صلى الله عليه وسلم على أَصحابه يجب الاستضاءَة بنوره في التأَني وعدم التسرّع في تفسير الأُمور واستخراج النتائج أَثناء الانفعال وفورة العاطفة، لأَن استخلاص النتائج (حينئذ) يكون مغلوطًا كما حدث حينما تسرّع بعض المسلمين في تفسير قبول النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا الشرط، بأَنه يحمل المساس بكرامة المسلمين ودينهم .. ثم بان لهم خطأُ هذا التفسير عندما أكد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلغة العقل لا (العاطفة) عدم وجود أَية دنيّة عليهم في قبول هذا الشرط الذي كادوا يهلكون غمًّا لدى سماعهم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم على قبوله.
5 -
الوفاء بالعهد:
ولعل من أَبلغ الدروس في صلح الحديبية درس أَلقاه النبي القائد والحاكم في الوفاء بالعهد والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يعطيها المسؤول الشريف في كلمته مهما ترتب على هذا الوفاء من خسائر وآلام تصيب الموفي بالعهد.
هذا الدرس الرائع نستخرجه من حادثة أبي جندل التاريخية المؤثرة.
لقد كان لرئيس وفد الشرك في مفاوضة الحديبية (سهيل بن عمرو) ابن شاب كان قد هداه الله للإسلام في مكة فاعتقله أبوه وأودعه السجن وقام بتعذيبه لحمله على العودة إلى دين الوثنية، ولكنه صبر وتحمل وظل على دينه الصحيح مسلمًا.
وصادف أَن أَبا جندل هذا (كما تقدم) تمكن من الفرار من سجن أَبيه ووصل إلى معسكر المسلمين وهو يرسف وقيوده فرمى بنفسه فارًّا بدينه بين أَظهرهم طالبًا حمايتهم لأَنه أَصبح مسلمًا منهم وإليهم.
فرحّب به المسلمون وهنأُوه. غير أَن أَباه سهيل بن عمرو لم يكد يراه بين المسلمين حتى صرخ في وجهه وانهال ضربًا على وجهه ثم أَخذ يجره بتلابيبه ويدفع به أَمامه ليعود به إلى معسكر الشرك، حتى صاح أبو جندل (مستغيثًا بالمسلمين): يا معشر المسلمين أَأَرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني أَلا ترون ما لقيت.
ويظهر أَن المسلمين سارعوا بالتدخل لحماية أَبي جندل وانتزعوه من يد أبيه المشرك ليبقى معهم لأَن تلك هي رغبته، ولأَنه أصبح منهم عضوًا في أُسرة الإسلام.
لم يلجأْ سهيل بن عمرو إلى القوة لإلقاء القبض على ابنه المسلم بل لجأ إلى الاحتجاج لدى النبي القائد صلى الله عليه وسلم وطالبه بأَن يسلم إليه ابنه أبا جندل وفقًا لاتفاقية الصلح التي ينص البند الثامن منها على التزام النبي صلى الله عليه وسلم بأَن يرد من جاءَ إليه من قريش بغير إذن أهله.
فقد قال سهيل في احتجاجه هذا -أي موضوع ابنه - أَول ما أُقاضيك عليه، لقد لجت القضية بيني وبينك قبل أَن يأْتي هذا - يعني ابنه.
ولم يسع النبي القائد - وهو أَبرّ من أوفى بالعهد - إلا أن يقف عند كلمته ويطبق الاتفاقية نصًّا وروحًا، فقال لسهيل بن عمرو: صدقت، وسمح لسهيل بن عمرو، المشرك باعتقال ابنه المسلم وإعادته إلى مكة، رغم علمه بما في هذا التصرف من إيذاءٍ شديد لعواطف المسلمين إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك طلب من سهيل بن عمرو أن يسمح لابنه بالبقاء مع المسلمين قائلًا: فأجره لي، أَي أُتركهـ في جواري وأَماني وهي عادة متبعة عند العرب.
فقال سهيل: ما أَنا مجير لك ذلك.
فكرر النبي الطلب قائلا: بلى، فافعل.
فكرر سهيل الرفض قائلا: ما أنا بفاعل.
وهنا تدخل عضوا الوفد القرشي (حويطب بن عبد العزّى ومكرز بن عمرو) فأجارا أَبا جندل، وتعهدا بأَن لا يمسه العذاب في مكة، حيث قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أَجرناه لك (يا محمد) لا نعذِّبه.