الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
798 - " بَابُ قَوْلِ اللهِ تعَالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)
"
919 -
عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أكْرَمُ النَّاس؟ قَالَ: " أتْقَاهُمْ "، فَقَالُوا: لَيْسَ عن هذَا نَسْألكَ؟ قَال: "فَيوسفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ
ــ
ومأجوج العالم الألماني " سيلد بليجر " في القرن الخامس (1) عشر الميلادي وسجله في كتابه، كما ذكره المؤرخ الإِسباني " كلافيجو " في رحلته التي قام بها عام 1403 م وذكر أنه بين سمرقند والهند. ثانياًً: أن الأمة إذا نشأ فيها الفساد هلكت ولو كان فيها الصالحون، وكذلك إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أو جهروا بالمنكرات، فقد روى مالك في " الموطأ " عن إسماعيل ابن أبي حكيم أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: كان يقال إن الله تبارك وتعالى لا يعذّب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلُّهم. الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في قوله: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ".
798 -
" باب قول الله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) "
919 -
معنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل " من أكرم الناس " أي من أفضل الناس وأعلاهم منزلةً عند الله تعالى " قال: أتقاهم " أي أكثرهم طاعة لله، وامتثالاً لأمره، وعملاً بشريعته " فقالوا: ليس عن هذا نسألك " أي لسنا نسألك عن أفضل الناس من جهة الأعمال الصالحة " قال: فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " أي إن كنتم تريدون أن تتعرفوا على أفضل الناس عامة من جهة النسب الصالح فهو يوسف عليه السلام
(1)" في ظلال القرآن " المجلد الرابع.
اللهِ بْنِ خَلِيل اللهِ" قَالُوا: لَيْس عَن هَذَا نَسْألكَ، قَال: " فعن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسألونَ؟ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإِسْلامِ إذَا فَقُهُوا ".
ْ920 - عن أبي هُرَيَرةَ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَّا ثَلاثَ
ــ
لأنه جمع بين نبوة نفسه ونبوة أبيه يعقوب عليه السلام ونبوة جده الأول إسحاق عليه السلام، وخلة جده الثاني إبراهيم عليه السلام، فهو نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله إبراهيم عليه السلام. الذي وصفه الله تعالى بقوله:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) لشدة محبته لله تعالى، وإفراده بها دون سواه " قالوا: ليس عن هذا شألك " أي لا نسألك عن أشرف الناس نسباً " قال: فعن معادن العرب تسألون " أي فهل تسألون عن أشرف العرب نسباً وأفضلهم حسباً إن كنتم تريدون ذلك فالعرب " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " أي أشرفهم قبل الإِسلام نسباً وحسباً هو أشرفهم بعد الإِسلام إذا جمع إلى شرف النسب شرف الإِسلام والتفقه في الدين.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على وصف إبراهيم عليه السلام بالخلة، وهي إفراد الله تعالى دون غيره بالمحبة الخالصة، كما قال عز وجل:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). والمطابقة: في قوله صلى الله عليه وسلم: " ابن خليل الله ". الحديث: أخرجه الشيخان.
920 -
معنى الحديث: أن خليل الله إبراهيم عليه السلام كان المثل الأعلى في الصدق، لم يكذب طول حياته سوى ثلاث كذبات كلها جائزة مشروعة، لأنها ليست كذباً في الحقيقة، وإنما سماها بذلك لمخالفتها الواقع في الظاهر، فهي ثلاثة أقوال صحيحة تخالف الواقع ظاهراً، وتوافقه حقيقة وهو
كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْون مِنْهُنَّ في ذَاتِ اللهِ عز وجل، قَوْلُهُ:(إِنِّي سَقِيمٌ) وقَوْلُهُ: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْم وَسَارَةُ،
ــ
معنى قوله: " لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلاّ ثلاث كذبات " قال أبو البقاء: الجيد أن يقال بفتح الذال في الجمع لأنه جمع كذبة بسكون الذال تقول كذب كذبة، كما تقول ركع ركعة، قال: وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولاً يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حقق لم يكن كذباً لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين. اهـ: ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ثنتان منهن في ذات الله عز وجل " أي ثنتان من الثلاث كانتا لأجل الله تعالى وحده دون أن يكون فيهما أي حظ لنفسه وهما قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) لأنه قال ذلك ليتخلص من الخروج معهم إلى معبدهم، ومشاركتهم في عبادتهم الباطلة، وقوله:(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) لأنه قاله ليستدل به على ضعف آلهتهم، فهاتان الكذبتان في ذات الله تعالى، بخلاف الثالثة، فإنها كانت للتخلص من ذلك الجبار، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكذبات الثلاث: الأولى: " قوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) " وسماها " كذبة " لأنّه قول يخالف الواقع في ظاهره، حيث إنه لم يكن مريض الجسم، ولكنه أراد أنه سقيم القلب، فهو باعتبار هذا المعنى الذي قصده إبراهيم ليس كذباً، وإنما هو عين الصدق. والثانية:" قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) " وقد سماه " كذبة " باعتبار الظاهر الذي فهموه من أن الصنم الأكبر غضب من عبادتهم للأصنام الأخرى فكسرها في حين أنه أراد - كما قال بعضهم: إن هذا الصنم الكبير هو السبب الذي دفعني إلى تحطيم الأصنام الأخرى لأني لما رأيتها مصطفة حوله تعظيماً وتقديساً له حطمتها كلها إمعاناً في إذلاله، واستدلالاً على ضعفه ومهانته، وعجزه عن الدفاع عنها، ولو كان رباً قادراً عزيزاً لدافع عنها وحماها، "وقال بينا
إِذْ أتَى على جَبَّار مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلاً معهُ امْرَأةٌ من أحْسَنِ النَّاسِ، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَسَألهُ عَنْهَا، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أخْتِي، فَأتَى سَارَةَ، فَقَالَ: يا سَارَةُ لَيْسَ على وجْهِ الأرْضِ مُؤمِن غَيْرِي وَغيْرُكِ، وِإن هَذا سَألنِي فأخْبَرْته أنَّكِ أُخْتِي فلا تُكَذبِيني، فأرْسَل إليهَا، فلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ لي ولَا أضرٌّكِ، فَدَعَتِ اللهَ فأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأخِذَ مِثْلَهَا، أو أشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِى اللهَ لي ولا أضُرُّكِ، فدَعَتِ اللهَ فأطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إنَّكُمْ لَمْ تَأتُونِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أرتيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ، فَأخْدَمَهَا هَاجَرَ،
ــ
هو ذات يوم وسارة إذا أتي على جبار " أي قال صلى الله عليه وسلم في بيان الكذبة الثالثة لما قدم إبراهيم أرض مصر التي كان يحكمها جبار من الجبابرة، وبصحبته زوجته سارة " فقيل له " أي للجبار " إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس " صورة " فأرسل إليه، فسأله عنها قال: من هذه قال: أختي " وسماه كذبةً باعتبار الظاهر حيث فهم منه الجبار أنّها أخته نسباً في حين أنه أراد أنها أخته في الدين، فجوابه صدق مطابق للواقع بهذا المعنى، " فلما دخلت عليه " أي على جبار مصر " ذهب يتناولها بيده فأخذ " وفي رواية مسلم: " فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة " وفي رواية: " فقامت تتوضأ وتصلى فَغُطَّ (بضم الغين) حتى ركض برجله، أي اختنق، حتى صار كأنه مصروع " فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق " وزالت عنه الحالة التي كان عليها، ولكنه لم يعتبر بما حدث له، بل طمع فيها مرة أخرى كما قال: " ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها " أي فأصيب بمثل ما أصيب في المرة الأولى " فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق " ورجع إلى حالته العادية، فكف نفسه عنها،
فَأتَتْهُ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، فَأوْمَأ بِيَد مَهْيَمُ، قَالَتْ: رَدَّ اللهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أو الفَاجِرِ في نَحْرِهِ، وأخْدَمَ هَاجَرَ، قَالَ أبو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أمُّكُم يا بني مَاءِ السَّمَاءِ".
ــ
ويئس منها " فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان، وإنما أتيتموني بشيطان " وفي رواية ما أرسلتم إلي إلاّ شيطاناً، ارجعوها إلى إبراهيم، قال الحافظ: وهذا يناسب ما وقع له من الصرع، " فأخدمها هاجر " أي فوهب لها هاجر - بفتح الجيم لتخدمها، وهو اسم سرياني " فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده " مهيم " بفتح الميم وسكون الهاء أي ما حالك وما شأنك " قالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره " وهو مَثَل تقوله العرب لمن أراد أمراً باطلاً فلم يصل إليه: أي خيَّب أمله وحال بينه وبين مقصوده " وأخدم هاجر " قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء " أي فتلك المرأة التي هي هاجر هي أمكم أيها العرب، لأنها أم إسماعيل، وهو جد العدنانيين من العرب ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وإنما نسب العرب إلى ماء السماء نسبة إلى الفلوات التي بها مواقع القطر، وقيل أراد بماء السماء زمزم قال ابن حبان في صحيحه: " كل من كان من ولد إسماعيل يقال له: ماء السماء، لأن إسماعيل ولد هاجر وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: فضل إبراهيم عليه السلام، وذكر بعض أخباره، وأن تصرفاته وأعماله وأقواله كانت لله وفي الله كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:" ثنتان منهن في ذات الله عز وجل " ثانياًً: أن إبراهيم لم يكذب في حياته سوى هذه الثلاث، وهي ليست كذباً في الحقيقة، وإنما هي " تورية "، ومعناها أن يأتي المتكلم بكلمة لها معنى قريب يتبادر إلى ذهن
921 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"أوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطق مِنْ قِبَلِ أمِّ إسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقاً لِتُعْفِّيَ أثرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وبابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وهيَ ترضِعُهُ حَتَّى وَضَعْهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ في أعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاء، فوضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَاباً فِيهِ تَمْرٌ، وسِقَاءٌ فِيهِ مَاء، ثُمَّ قَفَّى (1) إبْراهِيمُ مُنْطَلِقَاً، فَتَبِعَتْهُ أمُّ
ــ
السامع، ومعنى بعيد لا يخطر بباله، فيقصد المعنى البعيد ليخفي عن المخاطب أمراً تقضي الحاجة أو الضرورة إلى إخفائه، وهو ما أراده إبراهيم عليه السلام، كما وضحناه أثناء شرحنا للحديث. وليس هناك كذاب حقيقي، فالأنبياء لا يكذبون، لأنهم معصومون، وأطلق عليه الكذب تجوزاً لكونه على صورته، وإلّا فهو من باب المعاريض وهي فسحة ووقاية من الكذب كما في الخبر " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ". الحديث: أخرجه الشيخان. والمطابقة: في كون هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث تدل على خُلَّة إبراهيم وكمال محبته.
921 -
معنى الحديث: يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " أوّل ما اتخذ النساء المنطق " بكسر الميم وفتح الطاء، وهو قطعة من قماش تشد بها المرأة وسطها، وتجر أسفله على الأرض " من قبل أم إسماعيل " أي من جهة هاجر أم إسماعيل، وبسببها، فهي أوّل امرأة فعلت ذلك، وسببه أن سارة كانت قد وهبت هاجر لإبراهيم عليه السلام، فلما ولدت إسماعيل غارت منها، فشدت المنطق، وصارت تجر أسفله على الأرض، لتخفي آثار أقدامها، ثم أمره الله تعالى أن يذهب بها إلى مكة ففعل، ولم يكن هناك بيت ولا بناء ولا زرع ولا ماء، فوضعها تحت شجرة هناك فوق مكان زمزم، وكان إسماعيل رضيعاً، ومكة
(1) قفى بتشديد الفاء يعني ولى راجعاً إِلى الشام كما أفاده العيني.
إسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يا إِبْرَاهِيمُ أينَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الذي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ ولا شَيْءٌ، فَقَالَتْ لَهُ: ذَلِكَ مِرَاراً، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ آللهُ الَّذِي أمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إبْراهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الْثَّنِيَّةِ حَيْث لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دعَا بَهُؤلاءِ الكَلَمَاتِ، ورَفَعَ يَدَيه فَقَالَ (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ -حَتَّى بَلَغَ- يَشْكُرُونَ) وجَعَلَتْ أمُّ إسْمَاعِيلَ ترضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءَ، حَتَّى إذَا نَفِذَ ما في السِّقَاءِ عَطِشَتْ، وَعَطِشَ ابْنُهَا، وجَعَلَتْ تَنْظر إليْهِ يَتَلَوَّى، أوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ،
ــ
صحراء قاحلة، وترك لها جراب تمر وسقاء ماء، وعاد راجعاً إلى الشام فقالت له: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي المقفر؟ وأعادت السؤال مراراً، ثم قالت: هل أمرك الله بذلك؟ قال: نعم، قالت: ما دام قد أمرك بذلك، فلن يضيّعنا، وحسبي الله حافظاً ورازقاً، ثم عادت، وسار إبراهيم متضرعاً إلى الله تعالى أن يحفظ ولده، وأن يرزقه وذريته وأن يحوّل هذه الصحراء إلى مدينة عامرة، يأتيها الناس من كل فج عميق " فقال:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ " أي لا نبات فيه " عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي إنما فعلت ذلك ليصبح هذا البيت قبلة للناس في صلاتهم " (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)" أي فاجعل جماعات من الناس تأتيهم "(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) " قال في التفسير المنير: إنما طلب تيسير المنافع لأولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة، وأداء الواجبات. اهـ. وقال الزمخشري: فأجاب الله دعوة خليله، فجعله حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل
فَوَجَدَتِ الصَّفَا أقْرَبَ جَبَل في الأرْضِ يلِيهَا، فَقَامت عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِي تَنْظرُ هَلْ تَرَى أحداً، فَلَمْ تَرَ أحداً، فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثمَّ سَعَتْ سَعْي الإنْسَان الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أتت المَرْوَةَ، فَقَامت عَلَيْهَا وَنَظرَتْ هلْ تَرَى أحَداً، فَلَمْ تَرَ أحَداً، ففعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: " فلذَلِك سَعْيُ النَّاس بَيْنَهُمَا (1)، فلمَّا أشْرَفَتْ على الْمَرْوَةِ سَمِعتْ صَوْتاً، فَقَالَتْ: صَهٍ (2) تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثم تَسَمَّعَت (3) فَسَمِعَتْ أيضاً، فَقَالَتْ: قدْ أسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِى بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعِقْبِهِ -أو قَالَ بِجَنَاحِهِ- حتى ظَهَرَ
ــ
شيء رزقاً من لدنه، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل قرية وعلى أخصب البلاد وأكثرها نماءً، قال ابن عباس:" وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال: يتلبط " أي يحرك لسانه، ويكاد يموت من شدة العطش، فلم تطاوعها نفسها أن تراه على تلك الحالة، وذهبت تبحث عن الماء " فأنطلقت كراهية أن تنظر إليه " وهو على وشك أن يموت من العطش " ثم سعت سعي الإِنسان المجهود " تبحث عن الماء بين الصفا والمروة سبع مرات، فشرع الله للناس السعي في الحج من أجل ذلك، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، " فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه " بالبناء على الكسر اسم فعل أمر بمعنى اسكتي " تريد نفسها " أي طلبت من نفسها السكوت لكي تتعرف عن مصدر
(1) أي وكان ذلك سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة.
(2)
بفتح الصاد وسكون الهاء أو بكسرها منونةً أي اسكتي كما أفاده العيني.
(3)
أي اجتهدت في الاستماع.
الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيدِهَا هَكَذَا، وجَعَلَتْ تَغْرِفُ من الْمَاءِ في سِقَائِهَا، وهو يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: " يَرْحَمُ اللهُ أمَّ إِسْمَاعِيلَ لوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أو قَالَ: لَوْ لَمْ تَغرِفْ مِنَ الْمَاءِ- لَكَانَت زَمْزُمُ عَيْنَاً مَعِيناً، قَالَ: فَشَرِبَتْ وأرضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَال لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتُ اللهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ وأبوهُ، وِإنَّ الله لا يُضِيعُ أهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعَاً مِنَ الأرْضِ كالرَّابِيَةِ تَأتِيهِ السُّيولُ، فَتَأخُذُ عن يَمِينهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حتى مَرَّتْ بِهِمْ
ــ
الصوت، ومن أين أَتى " ثم تسمّعت فسمعت أيضاً " الصوت مرة أخرى " فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث " يعني قد سمعت صوتك، فإن كان عندك ما يغيثني فأغثني، " فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا " أي فصارت تحيطه بالتراب وتجعله حوضاً " لو تركت زمزم " ولم تحِّوضها " لصارت عيناً معيناً " أي عيناً جاريةً على وجه الأرض " فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة " أي لا تخافوا الضياع والهلاك لأنكم تحت رعاية الله تعالى " وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية " أي مرتفعاً قليلاً، ثم ذكر بقية الحديث أنه مرَّ بذلك المكان أو بالقرب منه جماعة مسافرون من جرهم مروا بأعلى مكة، فرأوا طيراً حائماً على الماء، فعرفوا أن بهذا الوادي ماء، وكان عهدهم به أنّه واد مقفر، فأرسلوا رسولاً من قبلهم، أو رسولين ليكشف لهم عن الحقيقة، فرجع إليهم رسلهم يخبرونهم عن وجود ماء في تلك البقعة، فأقبلوا على أم إسماعيل، واستأذنوا منها بالنزول في جوارها، فأذنت لهم بذلك، على أن لا يكون لهم حق التملك في ذلك الماء، وإنما لهم أن يشربوا منه فقط، وسكنت جرهم مكة منذ ذلك العهد، واستأنست بسكناهم معها، وشب الغلام في هذه
رُفْقَة مَنْ جُرْهُمَ، أوْ أهل بَيْتٍ مِنْ جُرْهُم مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيق كَدَاءَ، فَنَزَلُوا في أسْفَلِ مكةَ، فرأوْا طَائِرَاً عَائِفاً (1)، فَقالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ على مَاءٍ، لعَهَدُنَا بهَذَا الْوَادِي ومَا فِيهِ مَاءٌ، فأرْسَلُوا جَرِيَّاً (2) أوْجَرِيينِ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فأخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فأقْبَلُوا وأمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ المَاءِ، فَقَالُوا: أتُأذَنِينَ لَنَا أنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ في الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاس: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: فألْفَى ذَلِكَ أمَّ إسْمَاعِيلَ وهيَ تُحِبُّ الأنْسَ، فَنَزِلُوا وأرْسَلُوا إلى أهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حتى إِذَا كَانَ بِهَا أهْلُ أبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وشَبَّ الْغُلامُ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وأنفَسَهُمْ وأعجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أمُّ إِسْمَاعِيلَ، فجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ، يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فلم يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأل امْرَأتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، ثُمَّ سَألهَا عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نحنُ بِشَر، نَحْنُ في ضِيق وشِدَّةٍ، فشكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فإذَا جَاءَ زَوْجُكِ فاقْرَئِي عليه السلام، وقولي لَهُ يُغَير عَتَبَةَ بَابِهِ، فلما جاءَ اسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنسَ شَيْئاً، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أحَدٍ؟
ــ
القبيلة، وتعلم منهم اللغة العربية، ثم لما بلغ الرشد زوجوه امرأة منهم اسمها عمارة بنت سعد، قال الراوي:" وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته " أي يتفقد حال أهله وولده " فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا " أي يطلب لنا الرزق " ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم " أي حالتهم "فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة،
(1) وهو الذي يحوم حول الماء.
(2)
جرياً أي رسولاً.
قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فسألَنَا عَنْكَ فأخْبَرْتُهُ، وسألَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا في جَهْدٍ وشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أوْصَاكِ بِشَيءٍ، قَالَتْ: نَعَمْ، أمَرَنِي أن أقْرأ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّر عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي، وقد أمَرَنِي أنْ أفَارِقَكِ، الْحَقِي بأهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا، وتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فلَبِثَ عَنْهُمْ إبراهِيمُ ما شَاءَ الله، ثم أَتَاهُمْ بعدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَل على امْرأتهِ فسألَهَا عَنْهُ قَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أنتُمْ؟ وسألها عن عَيْشِهِمْ وهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسِعَةٍ، وَأثْنَتْ عَلى اللهِ، فَقَالَ: ما طَعَامُكُمْ؟ قَالَتْ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَما شَرَابُكُمْ، قَالَتْ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في اللَّحْمِ والْماءِ، قَال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم
ــ
فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال: هل جاءكم من أحد؟ " أي فلما جاء إسماعيل وكان قد أحس في نفسه أنه جاءها أحدٌ، فسألها قائلاً: هل جاءكم من أحدٍ؟ " قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا " أي صفته كذا، وأخبرته بكل ما دار بين أبيه وبينها، وبقوله غيّر عتبة بابك، " قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك " أي أن أطلقك " الحقي بأهلك " أي أنت طالق فاذهبي إلى أهلك، وهو من كنايات الطلاق " وتزوج منهم امرأة أخرى " وهي رعلة بنت مضامن بن عمرو الجرهمية " فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله " يعني مدة من الزمن " ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، قالت: خرج يبتغي لنا " أي يسعى في طلب الرزق " قال: كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم " أي سألها عن معيشتهم وأحوالهم " فقالت: نحن بخير وسعة " أي نحن في نعمة من الله وسعة في الرزق " وأثنت على الله " أي حمدت ربها
يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، ولو كان لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فهما لا يَخْلُو عَلَيْهِما أحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ، فاقْرَئي عليه السلام، ومُرِيه يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فلما جَاءَ إسْمَاعِيلُ قال: هَلْ أتَاكُمْ مِنْ أحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أتانا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وأثْنَتْ عَلَيْهِ، فسألَنِي عَنْكَ، فأخْبَرْتُهُ، فسَألنِي كَيْفَ عَيشُنَا فأخْبَرْتُهُ أنَّا بِخَيْرٍ، قال: فأوصَاكِ بِشَيءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هو يَقْرأ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَأمُرُكَ أن تُثْبِتَ عتبةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكَ أبِي وأنتِ العَتَبَةُ، أمَرَنِي أنْ أمْسِكَكِ، ثم لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللهُ، ثم جاء بَعْد ذَلِكَ، وإسْماعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً له تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيباً من زَمْزَمَ، فلمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كما يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إنَّ اللهَ أمَرَنِي بأمْرٍ، قَالَ: فاصْنَعْ مَا أمَرَ رَبُّكَ، قَالَ: وتُعِينُنِي عَلَيْهِ، قَالَ: وَأعِينُكَ قَال: فَإنَّ الله أمَرَنِي أن أبْنِي
ــ
وشكرته، لأنها كانت راضية بما قسم لها شأن المرأة الصالحة " فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء " أي فسألها عن طعامهم وشرابهم الذي يعيشون عليه، فذكرت أنّ طعامهم اللحم، وشرابهم الماء. " قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء " فدعا لهم بالبركة في اللحم والماء، فكانوا يقتصرون عليهما دون أن يتضرروا منهما، وأصبح ذلك خاصاً بمكة دون غيرها من البلاد، فإنه لا يقتصر أهل بلد عليهما إلاّ تضرر منهما كما قال: " فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلاّ لم يوافقاه " ومعناه كما في حديث أبي جهم " ليس أحد يخلو (1) على اللحم والماء بغير مكة إلاّ اشتكى بطنه،
(1) أي يعتمد ويداوم.
هَا هُنَا بَيْتاً وأشَارَ إلى أكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ على مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِد مِنَ البَيْتِ، فَجَعَلَ إسْمَاعِيلُ يَأتِي بِالْحِجَارِةِ وإبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتى إِذَا ارْتَفعَ الْبِنَاءُ، جَاءَ بِهَذا الْحَجَرِ، فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيهِ وَهُوَ يَبْنِي وإسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وهُمَا يَقُولانِ (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ".
ــ
" قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم أحد " فأخبرته عن الشيخ الذي جاءها في غيابه، وبأوصافه وما دار بينه وبينها " قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك " أي أن أبقيك في عصمتي " ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلاً " أي ينحت سهماً ويصلحه " فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد " أي فعانقه معانقة الوالد لولده. " ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر " أي أمرني أن أقوم بعمل في هذا المكان، ثم طلب من ولده إسماعيل أن يعينه، عليه ثم " قال: إن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتاً وأشار إلى أكمة مرتفعة " أي إلى ربوة مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض ليبين له المكان الذي أمر ببناء الكعبة فيه، وهو فوق تلك الأكمة " قال: فعند ذلك رفعا القواعد " أي شرعا في البناء حتى رفعا الأسس التي يقوم عليها البيت " فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء " أي علا وأصبح لا تطوله يده " جاء بهذا الحجر " الموجود حالياً في المقام " فقام عليه، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " فيدعوان الله بقبول في بنائهما هذا، والرضا عنهما فيه، لأنه السميع لدعائهما، العليم ببنائهما.
فقه الحديث: دل هذا الحديث على ما يأتي: أولاً: أن في هذه القصة
922 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ:
كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: "إِنَّ أباكُمَا كَانَ
ــ
العجيبة ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام خليل الله حقاً، وأن محبته لله قد تغلبت على كل مشاعره فأطاعه في كل شيء حتى في مفارقة ولده الوحيد لأنه يحبه فوق كل شيء، ويؤثره على كل موجود، فأي مقام في الخلة أعظم من هذا المقام الذي جعله يفادي بولده في سبيل مرضاة ربه، وهو ما عناه الله تعالى بقوله:(وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا). ثانياًً: أن إبراهيم دعا لمكة أن يسوق الله تعالى إليها وفود الحجاج والمعتمرين وأن تأتيها الأرزاق من كل حدب وصوب، حيث قال:(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) فاستجاب الله دعوته، وشرع للناس حج بيته في الأديان الحنيفية كلها. ثالثاً: أصل مشروعية السعى بين الصفا والمروة وأن هاجر كانت أوّل من سعى بينهما. رابعاً: ظهور بئر زمزم وسبب ظهورها حيث أظهرها الله تعالى رحمة بهاجر وولدها إسماعيل حيث حفر جبريل الأرض بمؤخر قدميه فظهر الماء. خامساً: بداية عمران مكة، ومتى سكنتها جرهم، ونشأة إسماعيل في هذه القبيلة وتعلمه العربية منهم. سادساً: أن العرب ليسوا جميعاً من نسل إسماعيل لأن قبيلة جرهم العربية كانت قبل إسماعيل كما يدل عليه حديث الباب، ولهذا قال الحافظ: وهذا لا يوافق من قال: إن العرب كلها من ولد إسماعيل. سابعاً: أن المرأة الكثيرة الشكوى والتبرم من عيشها، والجاحدة لنعمة الله عليها، هي في الحقيقة امرأة سوء، ولذلك أمر إبراهيم إسماعيل بطلاق زوجته الأولى. ثامناً: خصوصية مكة المكرمة في الجمع بين اللحم والماء وحدهما. الحديث: أخرجه البخاري. والمطابقة: في كون ما فعله إبراهيم أعلى مقامات الخلة.
922 -
معنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يعوذ الحسن