الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توضيح:
حج المنصور فى سنة 144 هـ فى مكة المكرمة وبعد عرفة مر بالمدينة المنورة فاستقبله أشراف وسادات المدينة الميمونة حتى كان فى ضمن مستقبليه من أعاظم العلويين عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب، وسر المنصور من تنازل عبد الله باستقباله ودعاه أن يحضر طعام المساء، وأثناء تناول الطعام سأل المنصور عبد الله قائلا: ما سبب عدم تنازل ولديك إبراهيم ومحمد لاستقبالى فرد عبد الله على هذا السؤال غير اللائق: إننى لا أعرف مكانهما حتى أعرف سبب عدم حضورهما لاستقبالك وأقسم على ذلك، ولكن المنصور لم يهتم بجوابه ولا قسمه وكرر السؤال فغضب عبد الله من هذا الإصرار وقال: يا منصور قلت لك إننى لا أعرف مكانهما وأقسمت على ذلك فلم تقتنع، وبعد الآن إن أقف على مكان وجودهما فلن أخبرك به فاغتصب ذلك الغدار جميع أموال عبد الله وصادر جملة أملاكه وألقاه فى السجن مع أحد عشر ولدا من أولاده، وأمر ألا يخرجوا من الحبس إلى الأبد، ويرد بعض المؤرخين هذه الرواية قائلين إن والى المدينة المنورة رباح بن عثمان هو الذى حبسهم بناء على الرسالة التى وردت له من المنصور. وسبب حبس المنصور عبد الله والسؤال عن ابنيه إبراهيم ومحمد بيعة بعض الناس فى أواخر الدولة الأموية من أهالى الحجاز النفس الزكية محمد بن عبد الله بالخلافة، مع أن المنصور كان أحد المبايعين له ولكن بعدما أخذت شمس الخلافة تنتشر أشعتها على مفرقة آل عباس وانتقل زمام الحكم بعد فترة إلى يد المنصور قال فى نفسه إننى كنت قد بايعت قديما محمد بن عبد الله بالخلافة، وإننى إذا لم أقتل محمدا وأخاه إبراهيم لن أستطيع أن أقوم بمهام الخلافة، وبهذا الوهم أخذ يبحث عن سبب لقتلهما. واطّلع هذان على أوهام المنصور المضرة فسافرا إلى اليمن أولا ثم إلى الهند حيث تنزها قليلا ثم عادا إلى المدينة المنورة بعد فترة واختارا الانزواء فى ركن منها، ولكن ذوى المصالح كتبوا رسالة وأرسلوها إلى جعفر المنصور قائلين عاد محمد بن عبد الله وأخوه إبراهيم الى المدينة المنورة واختفيا فى مكان ما فيها وأخذا يثابران لتكليف أهل المدينة بالبيعة
لهما فانزعج المنصور من هذا الخبر أشد الانزعاج وأخذ يفكر فى التخلص منهما بالقضاء عليهما، وقرر أن ينفق فى هذا السبيل ما لا يحصى من الأموال ولأجل ذلك كان يغير ولاة المدينة من حين لآخر بالعزل والتبديل ويخشى ما فى ضميره لكل واحد منهم، ولما كان المشار إليهما مطلعين على سوء نية أبى جعفر فإنهما كانا يسافران فى موسم الحج إلى مكة المكرمة ويعودان بعد عرفة إلى المدينة المنورة حيث يختفيان فى مكان ما.
وقد فهم المنصور أن الأمر الذى يريد أن ينفذه لن يتم بواسطة الولاة الذين يبعثهم إلى المدينة أى فهم أن من لديه أقل ذرة من الإيمان لن يقوم بهذا العمل، فأخذ يتحرى عن شخص غدار سفاك ليثق فيه وأخيرا وجد رجله فى رباح بن عثمان الموصوف بالقسوة عديم الرحمة محتاج لفلس أحمر وفهم من عينيه أنه كلب بن كلب، فاستدعاه فجاءه ليلة من الليالى وعهد إليه بولاية المدينة المنورة قائلا: يا عثمان! يجب أن تذهب سريعا إلى المدينة المنورة وأن تبحث عن حل سريع لقتل محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، وهكذا نبهه وأمره بقتل المشار إليهما وجهز له كل ما يلزم من عظمة ودبدبة ووجه ذلك الدنئ الذى يخرب البيوت بعد أن رقاه إلى والى المدينة، وكان رباح بن عثمان دنيئا لا يتحرج حتى عن قتل الأنبياء وهدم البيت العالى ولا يتورع عن ارتكاب أى جرم، وعند ما وصل إلى المدينة أراد أن يتظاهر أمام الأهالى بأنه من أنصار الحق فذهب تلك السنة إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وبعد العودة أخرج السادة والعظام الذين كان قد حبسهم المنصور بنفسه من آل حسن بن على من السجن فكبل أرجلهم وأيديهم بأكبال حديدية وربط كل واحد منهم بالآخر بالسلاسل الحديدية وارتكب دناءة وجرم سوقهم بهذا الشكل إلى بغداد دار الخلافة.
وكان مع المسجونين المشار إليهم من يلقب ب «الديباج» لكمال حسنه وملاحته: أبو عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن عفان.
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الديباج كان أخا عبد الله ابن حسن لأم وقطعة كبد فاطمة بنت حسين بن على بن أبى طالب، وكانت بنتة رقية متزوجة بابن
أخيه إبراهيم بن عبد الله، وكان الشاميون يحبونه ويرعونه. قال رباح بن عثمان فى الرسالة التى كتبها إلى أبى جعفر: إن الشاميين يرعون أبا عبد الله بدرجة لا يمكن تعريفها ويسمعون كلامه ويطيعونه؛ لذا يخاف أن يرعى هذا الخلافة أيضا على هذه الفقرة المضرة المفجعة لقلبه أمره المنصور بأن يؤخذ مع آل حسن بن على رضى الله عنهم ويشاركهم مصيرهم.
ولما وصل المسجونون الذين أرسلهم رباح بن عثمان مقيدين فى السلاسل إلى بغداد أحضرهم أبو جعفر كلهم مرة واحدة وعرى أبا عبد الله من ملابسه تماما وتجرأ على أن يأمر بضرب أبى عبد الله مائة وخمسين على جسمه الذى يشبه الفضة المحلاة على جسمه الرقيق اللطيف. وأصابت إحدى ضربات السوط عينه ففقئت وانطفأ نورها ثم ضرب مائه سوط على رأسه فاسود جسده المنير وكأنه جسم زنجى وترك فى هذه الحالة إلى جانب أخيه عبد الله فى السجن.
ولما رأى عبد الله هذه الحالة المستهجنة صرخ قائلا: «أبا جعفر
…
أعاملنا الأسرى الذين أخذناهم منكم فى غزوة بدر مشركين بهذه الحقارة!!؟؟» وتهور المنصور الغدار وخجل من هذا الكلام وهذه التورية فأمر بإلقائهم كلهم فى السجن الذى هيئ لهم والذى يعرف بالهاشمية.
وكان سجن الهاشمية سجنا فظيعا، ولا يسمع فى داخله لا صوت الأذان ولا يعرف وقت حلول الصلاة.
ولما كان محمد بن إبراهيم ابن الحسن المسمى بالديباج الأصفر ذا ملاحة وحسن وجمال مسجونا مع الأشخاص المكبلين المسجونين كان أهل العراق يذهبون لزيارته ورؤيته جماعات جماعات وخاف المنصور من ازدحام الزائرين والمشاهدين حتى لا تظهر وعوته بين هؤلاء المسجونين فأحضر الديباج الأصفر، وهدده قائلا: سأقضى عليك بموت لم ير مثيله، ثم حصره بين عمودين وعذبه عذابا شديدا حتى مات أو على قوله قتله بإلصاقه على جدار وقتل جميع المسجونين الهاشميين بطريقة غير لائقة.
كان أهل خراسان يرجون أن يعفى عن محمد الأموى ويطلق سراحه فما كان من أبى جعفر الذى لا يستحى إلا أن قطع رأس المشار إليه وهو غاضب وأرسله إلى الخزان وبهذا ملأ قلوب الخراسانيين ومحبى أهل البيت بالحزن والألم.
ولما رأى عبد الله بن حسن استشهاد محمد بن عبد الله الأموى بعد أن طلب الخراسانيون إطلاق سراحه بعد عفو: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا كنا آمنين من كل شئ فى عهد الأمويين بفضل قرابتنا لمحمد بن عبد الله، ولما تحولت السلطة إلى ناحيتنا قتل محمد بن عبد الله معذورا بالسيف، هل يمكن ألا يتعجب الإنسان من هذا» .
ولما وصل ظلم المنصور وإهانته لهذه الدرجة حكم أنس بن مالك صاحب أحسن المسالك بأن أبا جعفر من الطغاة والبغاة وحتى أعلن فى داخل المدينة قائلا: «يا سكنة دار السكينة! ليس طبيعيا أن تعرضوا بيعتكم لأبى جعفر المنصور! وقد تحقق أن المنصور من الطغاة. والآن يجوز خلعه من الخلافة ومبايعة محمد بن عبد الله! وانسحب إلى داره» .
وخرج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب المعروف بلقب النفس الزكية بناء على إفادة الإمام مالك وبتحريض ومعاونة خمسين شخصا من أهل المدينة وفى خلال سنة 145 هـ ضد الدولة العباسية وهجم على الدائرة الحكومية وقبض على رباح بن عثمان وألقاه فى السجن. ثم صعد على منبر السعادة، وأعلن أن الخلافة حقه الصريح وأن غرضه من الخروج وتوليه الخلافة هو أمن البلاد وراحة القلوب وبهذا استطاع أن يدخل أغلب أهالى المدينة تحت انقياده وطاعته.
وضرب عيسى بن موسى عم المنصور الإمام مالك بسبب إثارة الناس وتحريضهم على مبايعة محمد بن عبد الله وترغيبهم فيها وبين لهم أن الشرع يسيغ هذا العمل، وإلا فالإمام مالك لم يطلق لسانه فى أبى جعفر كما أنه لم يقاتل عيسى بن موسى.
وكان محمد بن عبد الله بعد ما أدخل أهالى المدينة فى دائرة بيعته ساق مقدارا كافيا من الجنود للاستيلاء على مكة المعظمة وبلاد اليمن وسواد الشام ولم يلق سمعا لما بعثه أبو جعفر من رسائل مهددة، وإن كان محمد بن عبد الله لم يستطع أن يستولى على بلاد الشام إلا أنه أقلق بخروجه أبا جعفر المنصور وبحث عن حل سريع لحل هذه المشكلة فأمد والى الكوفة عيسى
(1)
بن موسى المعروف بقسوة القلب بأربعة آلاف من الجنود إلى المدينة المنورة وأمره بأن يقتل محمدا بن عبد الله وكل من تبعه واحدا تلو آخر.
وكان من الممكن أن يقاوم محمد بن عبد الله مع أهالى دار العزة المدينة المنورة عيسى بن موسى. ولكن كان عيسى بن موسى قد هدد أهالى المدينة بإرسال رسائل مزورة لهم، وبما أن وقعة حرة واقم لم تزل فى ذاكرتهم أخذوا ينسحبون من جانب محمد بن عبد الله واحدا إثر الآخر. ودفعوا ذلك الشخص العالى القدر بثلاثمائة من المغاوير الأبطال أمام أربعة آلاف من سفاحى بغداد.
ولما رأى محمد بن عبد الله أن الذين تحت تبعيته أخذوا يهربون إلى جهة ما وأخذت قوته تنقص شيئا أخذ يحفر فى أطراف المدينة خنادق عميقة من شدة ولهه وحيرته ويقول من شدة يأسه «كل من لا يرد أن يحارب المنصور فليغادرنى» ومع مرور الزمن من تناقض عدد جنوده حتى لم يبق بجانبه إلا ثلاثمائة من الفدائيين، وكان والى الكوفة ظالما غشوما ومشهورا بعداوته لآل النبى صلى الله عليه وسلم فأقام معسكره خارج المدينة المنورة وبعث يقول: يجب أن يتخلى محمد بن عبد الله عن فكرة الخلافة وأن يطيع وينقاد لأبى جعفر المنصور وأن ينسحب من حوله تاركين محمدا بمفرده وأن الذين لا ينسحبون من حوله سيندمون فى نهاية الأمر. ولما رأى أن محمد بن عبد الله مازال متمسكا بفكرته كما أن الفدائيين الذين حوله ما زالوا ثابتين بجانبه اغتاظ غيظا شديدا وتجرأ على أن يسوق من تحت إمرته من السفاحين إلى داخل المدينة المنورة وأخذ يحارب وهو يسب محمدا بن عبد الله بن حسن بن حسين بن على بن أبى طالب علنا بصوت عال.
(1)
وكان عيسى بن موسى ولى عهد المنصور وعمه كذلك.
وإن كان محمد بن عبد الله حمل على العدو مع من استعدوا لفدائه بأرواحهم وكانوا ثلاثمائة من الأبطال الشجعان وأشعلوا نار الحرب وأقدموا على أعداء آل نبى الله وقتلوا كثيرين منهم، إلا أنه فى عاقبة الأمر استشهد فى مكان يطلق عليه أحجار الزيت بعد أن طعن، وقد حدث هذا الحادث المؤسف المؤلم بعد العصر من شهر رمضان فى الرابع عشر منه، وقد أهلك محمد بن عبد الله وهو متقلد ذا الفقار الحيدرى سبعين نفرا من سفاحى بغداد وحاز بهذا إعجاب أصدقائه وأعدائه كذلك؛ رضى الله عنه.
وأخذ ذا الفقار الذى كان فى يد محمد عبد الله عيسى بن موسى وأرسله إلى المنصور فتوارث هذا السيف الخلفاء العباسيون مدة طويلة، وضرب أحد بنى عباس كلبا على سبيل التجربة بهذا السيف، وبما أن ضرب الكلب بهذا السيف كانت من الحركات المستهجنة فانكسر ذلك السيف ولم يستعمل بعد.
وأرسل عيسى بن موسى سفاك الدماء رأس محمد بن عبد الله إلى بغداد كما أرسل جسمه إلى مشهده الذى دفن فيه، وبعد أن أرسل السادات والأشراف الذين بايعوا محمدا بن عبد الله إلى مكان ما فى خارج المدينة وصلبهم فى صفين، وبعد ثلاثة أيام ألقاه فى الخندق الذى حفره فى مقبرة اليهود وغطاهم بالحجارة والتراب وأسند ولاية دار العز إلى كثير بن حصين لأن رباح بن عثمان كان قد قتل فى أثناء استشهاد محمد بن عبد الله فى سجنه-وعاد إلى دار الخلافة بغداد فى التاسع عشر من شهر رمضان.
ولما وصل رأس محمد بن عبد الله إلى بغداد سر المنصور سرورا لا مزيد عليه وأمر أن يشهر به بالطواف فى جميع مراكز القضاء وعين عبد الله بن الربيع واليا على المدينة بعد أن عزل كثير بن حصين حتى يقبض على أشراف المدينة وساداتها واحدا تلو الآخر ويرسلهم إلى بغداد. ولم تكن بين العلويين الكرام والعباسيين إلى السنة المذكورة أى نوع من العداوة ولم تكن هناك أية مشكلة تبعثه على نفرة
بعضهم من البعض. وقد ألقى سلوك المنصور بين أولاد الأخوين عداوة حتى إن الأحداث الأليمة أحدثت فى الأكباد الإسلامية جرحا لن يلتئم حتى صباح الحشر. لأن المنصور السفاح قتل غدرا فى تلك السنة محمد بن عبد الله وأخاه إبراهيم ووالدهما البالغ من العمر سبعين عاما عبد الله بن حسن المثنى بن حسن بن على بن أبى طالب وأخا عبد الله حسن بن الحسين وأخاه لأم محمد بن عمر بن عثمان بن عفان فى سنة 145.
وبما أن عبد الله بن حسن بن على كان من أعاظم علماء المدينة موصوفا بالزهد والصلاح وفقيها معروفا فكان ملوك الأمويين يحترمونه ويرعون جانبه ويجلونه كل الإجلال كما أن السفاح أبا العباس أظهر تبجيله له بإرسال مليون درهم من العطية، ولكن لشدة الأسف أن خلفه المنصور المغرور أضاع قدر المشار إليه الجليل وأظهر دناءئه.
وصلى على عبد الله بن حسن أخوه حسن بن حسن كما صلى عليه أخوه لأمه محمد بن عمر بن عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنهم أجمعين.