الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلاتم وقالا: «إننا من مشركى أرض المغرب، ولسنا مسلمين إلى الآن، وقد جئنا إلى المدينة بحيلة أداء فريضة الحج وزيارة مرقد صاحب المعراج وأقمنا فى هذه الحجرة وغايتنا أن نسرق نعش النبى محمد ونحمله إلى أرض المغرب!!،وقد بعث لنا المغاربة نقودا طائلة أكثر أنفقناها واستهلكناها ولمّا رأينا أننا لن نستغفل أهل المدينة بصرف النقود وإنفاقها لبسنا رداء الزهادة والتففنا بستار العفة حتى نظهر فى هيئة الصدق والوفاء وبهذه الصورة وفقنا فى استغفال الأهالى.
وأخذنا فى مزاولة عملنا، كنا نقضى الليالى بحفر النفق، وفى النهار كنا نملأ الأكياس بتراب ما حفرناه ونذهب إلى مقبرة بقيع الغرقد بقصد زيارتها حيث نفرغ الأكياس من التواب، وعندما اقتربنا بقبر السعادة ظهرت فى السماء أصوات الرعود والصواعق، الأمر الذى أقلقنا بل أخافنا خوفا شديدا، وفى الصباح انتشر خبر تشريف سلطنتكم، هذه هى الحقيقة.
واستمع نور الدين إلى هذه الأقوال بآذان ملؤها الحيرة والاضطراب وأسال دموع الرقة فى نهايتها، وأمر بقتل وإعدام المغربيين فأعدما بدون توقف تحت الشباك الشريف، وبهذا بين أن الذين يقصدون حجرة السعادة بسوء يستحقون جزاء الإعدام.
علاوة وإضافة
سمعت أنا محرر هذه الحروف من بعض الأشخاص أن الشهيد نور الدين أوقد فانوسا ونزل فى النفق المحفور وذهب حتى نهاية الحفرة وهنا سقط بعض التراب وامتدت يد جسمان النبى الطاهر فقبلها وعادت، فما أحسن ما ناله من سعادة أبدية، ونعم ما حصل عليه من عناية سرمدية.
بعد أن أعدم حضرة نور الدين هذين السافلين حفر حول الحجرة الشريفة التى طاف حولها بخشوع وأزال التراب قرب سطح الماء ولما صار المكان الذى أخرج منه التراب خندقا عميقا فأسال فى هذا الخندق العميق رصاصا مذابا أى حفر خندقا حول مرقد السعادة حتى مكان ظهور الماء دائرا ما دار وملأ داخل هذا
الخندق برصاص مذاب فأحاط حجرة السعادة بسور من الرصاص، وذلك فى سنة (557 هـ).
ونقل المؤرخ جمال الدين المطرى هذه القصة بصورة أخرى ولم يذكر الجدار الرصاصى الذى مد حول مرقد السعادة، وبناء على نقل جمال الدين المطرى أنه فى سنة خمسمائة وسبع وخمسين دخل السلطان نور الدين محمود بن زنكى بن أقسنقر إلى المدينة الطاهرة بغتة بألف من الفرسان، وأخذ يوزع العطايا-كما ذكر آنفا، ولكنه لم ير أحدا ممّن يشبه الغيلان مثل اللذين رآهما فى رؤياه فسأل:
هل هناك من لم يأخذ الصدقة؟ فأجيب من قبل سادات المدينة المنورة أن هناك فى داخل الديار العشر أى فى دار آل عمر التى تقع فى الجهة القبلية للحجرة الشريفة يسكن مجاوران إلا أنهما معروفان بأنهما لا يأخذان الصدقة وموصوفان بالزهد والصلاح فإنهما لن يأتيا هنا فأحضرهما بالقوة وابتدر فى إجراء التعذيب وفهم منهما أنهما قد أرسلا من متعصبى مشركى المغاربة بغرض نقل نعش الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلادهما فقطع عنقيهما أمام الجدار الشرقى للمسجد الشريف وبين أن هذين الشخصين قاما بحفر بئر فى دار آل عمر فى داخل الديار العشرة وملئوا هذه البئر بتراب النفق الذى حفراه.
رواية المطرى هذه تشعر بوصول الشهيد نور الدين إلى المدينة المنورة، وإذا ما نظر إلى أن الرباط
(1)
الذى سكن فيه المغربيان يعرف اليوم برباط العجم فالرواية الأولى أقرب إلى الصحة.
قال بعض أصحاب الوقوف من أهالى المدينة: «لما استدعى الشهيد نور الدين أهل المدينة لتوزيع العطايا أو لم وليمة بعد أن نصب خيمة أمام باب الحصن الذى يطلق عليه الآن اسم باب الضيافة، وأطلق فيما بعد على هذا المكان اسم دار الضيافة وبهذا التعريف يقصون مجئ المشار إليه إلى المدينة المنورة حسبما فصل أعلاه، إلا أنه ليس بصحيح أن الشهيد نور الدين أقام ضيافة وإطلاق دار الضيافة لذلك المكان.
(1)
دائرة المشيخة يعنى دار شيخ الحرم فوق ساحة هذا الرباط.
وإن كان فى الجهة الشامية من مئذنة العزيزية دكانا يطلق عليه دار الضيافة إلا أنّ هذا المكان ليس الموقع الذى استضاف فيه الشهيد نور الدين أهل المدينة بل ساحة البيت الذى كان يملكه حضرة عبد الرحمن بن عوف، وبما أن النبى صلى الله عليه وسلم الكريم المحب للضيافة يطعم الضيوف الواردين فى هذه الدار أطلق عليها دار الضيافة وظل اسمها كذلك، وبما أن شارع حصن المدينة الميمونة يمر من هنا وينتهى إلى الباب الذى فى تلك الجهات فأطلق على هذا الباب باب الضيافة.
ينقل ابن النجار فى تاريخه الذى سطره عن بغداد-شبيهة الجنة-حكاية تشبه واقعة الشهيد نور الدين ويقول: «إن زنادقة العبيديين ذوو أفكار مشينة ابتدروا فى دس الدسائس واحتالوا على إضلال ملك مصر وقالوا: «إذا وجدنا يا ملكنا طريقة لإحضار أجساد النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق وعمر إلى مصر ذات الأهرامات، كان كبراء الممالك التى حولنا وأشراف بلاد الأكناف، يأتون إلى هذه الجهة رغبة فى الزيارة وبهذا تصبح القاهرة تكية الأنام ومستند الإسلام» .
استحسن ملك البلاهة ما عرضه الزنادقة وتلقاه قبولا حسنا ورأى أن يبنى فى مصر ضريحا مزينا فخما وينقل جسد النبى الشريف فى هذا الضريح، وأمر أبا الفتوح من أقرب عبيده لنفسه وأخلص أتباعه بعد أن أرسله إلى المدينة واستعجله بأن يرسل الأجساد الثلاثة إلى مصر بأية طريقة كانت، ولما وصل أبو الفتوح إلى المدينة أخذ يلمح إلى سادات الأهالى عمّا فى ضميره وأنه سيعمل على إيفاء مأموريته وبين لهم سبب وروده إلى المدينة. وأراد السادات الذين أصابهم الهم والغم من هذا الموضوع أن لا يكشفوا عن الموضوع إلى أهل المدينة علنا بل أن يفهموهم ضمنا.
ومن هنا أحضروا المرحوم الزلبانى من مشاهير قراء المدينة وطلبوا منه أن يقرأ
عشرا من القرآن الكريم، وتلاه المرحوم الزلبانى {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التوبة:13).
وقد فهم الحاضرون مما تفيده الآيات الكريمة من المعانى سبب مجئ أبى الفتوح وأخذوا فى القيل والقال وبعد منازعات طويلة ومناقشات مديدة قرروا أن يقتلوا الخوف والهم إلا أنهم قالوا: «إن البلاد الحجازية تحت الإدارة المصرية الآن، فإذا ما قتلنا أبا الفتوح فكأننا نثير غضب ملك مصر ونستدعيه ليبعث جنودا كثيرة إلى المدينة ليؤدب سكان دار السكينة، ومن رأينا أن نعيد أبا الفتوح إلى مصر صفر اليدين من هنا تفرق القوم وقد صرفوا النظر عن قتل أبى الفتوح، وانسحب كل واحد منهم إلى جهة ما وكونوا جماعات صغيرة وبادروا فى التشاور فيما يجب عمله بهذا الخصوص.
عندما رأى أبو الفتوح هذه الحالة فاق لنفسه واستجمع عقله وقال: «إن الخوف من الله خير من الاحتراز عن عباده، وإننى لن أتجرأ بعد ذلك على إجراء مهمتى وإن تأكدت أن ملك مصر سيهلكنى لعدم تنفيذ هذا العمل الشنيع» .
وقد بلغ قلقه واضطرابه حدا لم يعرف منهما كيف انصرف من المجلس، ومع ذلك كان يرجو أن يظهر فى الميدان حكمة ما تسكن من غيظ وحدة ملك مصر، وبعد انتهاء الاجتماع ظهرت عاصفة شديدة وترك أهالى المدينة دون عقل وشعور وكأن الكرة الأرضية قد تحركت وأخذت تضرب الحيوانات بعضها ببعض الحيوانات التى تسير فى الصحارى والحقول والجبال فأتلفتها جميعا، وهذه الحالة كانت باعثا للفرح والسرور لأبى الفتوح، إذ عاد إلى مصر دون تأخير قائلا:
«أعرض على ملك مصر هذه الحالة المفزعة وأعتذر له عن عدم تنفيذ أمره» .