الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن ابن القيم رحمه الله لم يتعرض للجواب عنهما مطلقًا. فكأنه ذهل عنهما لانشغاله بالجواب عن هذه العلة. والله أعلم" اهـ.
* ثم تبين لي أنَّ ابن القيم اتَّبع في ذلك كله الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه"(113/ 1 - 2 من المخطوطة، 189 - من المطبوعة). . التسلية / رقم
[دفاع ابن القيم عن السنة: حديث إذا وقع الذباب]
* وأمَّا المعنى الطِّبِّيُّ، فقال ابنُ القَيِّم -في شأن الطِّبِّ القديم- في "زاد المَعاد" (3/ 210 - 211):
* "واعلَم! أنَّ في الذُّباب قوَّةً سُمّيَّةً، يدُلُّ عليها الوَرَمُ والحَكَّةُ العارِضةُ مِن لَسعِه. وهي بمنزِلَةِ السِّلاح، فإذا سَقَط فيما يُؤذِيهِ اتَّقاهُ بسِلاحِهِ. فأمَرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُقابِل تلك السُّمِّيَّةَ بما أَودَعَهُ الله في جَناحِه الآخر من الشِّفاء، فيُغمَس كلُّه في الماء والطَّعام، فيُقابِل المادَّةَ السُّمِّيَّةَ بالمادَّة النَّافِعة، فيزُولُ ضَرَرُها.
* وهذا طِبٌّ لا يَهتَدِي إليه كِبارُ الأطبَّاء وأئمَّتُهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُّبوَّة.
* ومع هذا، فالطَّبيبُ العالِمُ العارِفُ الموفَّقُ، يخضَع لهذا العِلاج، ويُقِرُّ لمن جاء به بأنَّهُ أَكمَلُ الخَلق على الإطلاق، وأنَّهُ مؤَّيدٌ بوحيٍ إلهيٌ خارجٍ عن القُوَى البشرِيَّةِ".
* [وانظر بقية الدفاع عن هذا الحديث في ترجمة أحمد شاكر والخطابي والألباني]
* الفتاوى الحديثية / ج 2/ رقم 168/ جماد أول / 1419
4552 - ابن كثير:
الإِمام الحافظ الحجة، المحدّث المؤرخ الثقة، ذو
الفضائل عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن عُمر بن كثير بن ضوء بن كثير، القرشي، الدمشقي، الشافعي.
* ولد رحمه الله بقرية "مِجْدَل" من أعمال "بُصْرى".
* وكان أبوه من أهل "بصري"، وأمه من قرية "مِجْدَل".
* وقومه كانوا "ينتسبون إلى الشرف، وبأيديهم نِسَب، وقف على بعضها شيخنا المِزّي فأعجبه ذلك وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك القرشي"- كما قال هو في ترجمة أبيه، في تاريخه "البداية والنهاية".
* وتاريخ مولده سنة 700، كما ذكر أكثر من ترجم له، "أو بعدها بقليل" كما قال الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة". وهو تاريخ تقريبي. أرجح أنه مستنبط من كلامه في ترجمة أبيه، حيث ذكر أن أباه "توفي سنة. . 703 وكنت إذ ذاك صغيرًا ابن ثلاث سنين أو نحوها، لا أدركه إلا كالحلم".
* و"ابن ثلاث سنين" لا يعرف تواريخ السنين -على اليقين- في تلك السنّ. فقد سمع إذنْ تحديدَ السنةِ التي مات فيها أبوه ممن حوله من إخوةٍ، أو أهلٍ أو جيرانٍ. ولكنه يدرك أباه "كالحلم". فالذي هو في سنّ أقل من الثلاث ما أظنه يذكر شيئًا "كالحلم" ولا أبعدَ من الحلم ولا أقرب. فهو حين موت أبيه قد جاوز الثالثة -في أكبر ظني- ولذلك أرجِّح أن مولده كان في سنة 700، أو قبلها بقليل. وهو أقرب إلى الصحة من قول الحافظ ابن حجر:"أو بعدها بقليل". لأن الذي "بعدها" لا يكاد يبلغ الثالثة عند موت أبيه.
[والد ابن كثير]
* وكان أبوه "الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير" من العلماء الفقهاء الخطباء. ولد -كما قال ابنه- في حدود سنة 640.
* وترجم له ابنه الحافظ في تاريخه الكبير "البداية والنهاية"، ج 14 ص 31 - 33.
* ومما قال في ترجمته: "اشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى. فقرأ "البداية" في مذهب أبي حنيفة وحفظ "جُمَل الزَّجَّاجِي"، وعُني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب، حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء.
* وقرر بمدارس بُصرى بمَبْرَك الناقة شماليّ البلدة، حيث يُزار، وهو المَبْرَك المشهور عند الناس! والله أعلم بصحة ذلك.
* ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقيّ بصري وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النواوي والشيخ تقي الدين الفزاري- وكان يكرمه ويحترمه، فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني. فأقام بها نحو من 12 سنة.
* ثم تحول إلى خطابة "مجدل": القرية التي منها الوالدة. فأقام بها مدة طويلة، في خير وكفاية وتلاوة كثيرة. وكان يخطب جيدًا، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع؛ لديانته وفصاحته وحلاوته.
* وكان يؤثر الإقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله.
* وقد ولد له عدة أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها. أكبرهم: إسماعيل ثم يونس، وإدريس. ثم من الوالدة: عبد الوهاب، وعبد العزيز، وأخوات عدة.
* ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الأخ "إسماعيل" - لأنه كان قد قدم دمشق، فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده، وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ "التنبيه"، وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري، وحصل المنتخب في أصول الفقه. قاله لي شيخنا ابن الزملكاني. ثم أنه سقط من سطح الشامية
البرانية، فمكث أيامًا ومات. فوجد الوالد عليه وجدًا كثيرًا، ورثاه بأبيات كثيرة. فلما ولدت أنا له بعد ذلك سماني باسمه.
* فأكبر أولاده: إسماعيل، وأصغرهم وآخرهم: إسماعيل. فرحم الله من سلف، وختم بخير لمن بقي.
* توفي والدي في شهر جمادى الأول سنة 703 في مجدل ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذْ ذاك صغيرًا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا كالحلم.
[بقية ترجمة ابن كثير]
* ثم تحولنا من بعده في سنة 707 إلى دمشق صحبة "كمال الدين عبد الوهاب" وقد كان لنا شقيقًا، وبنا رفيقًا شفوقًا، وقد تأخرتْ وفاته إلى سنة خمسين [يعني سنة 750]، فاشتغلت على يديه في العلم، فيسر الله تعالى منه ما يسَّر وسَهَّلَ منه ما تعسَّر".
* وقد بدأ الاشتغال بالعلم على يدي أخيه عبد الوهاب -كما قال آنفًا- ثم اجتهد في تحصيل العلوم على العلماء الكبار في عصره.
* وحفظ القرآن الكريم، وختم حفظه سنة 711 كما صرح بذلك في تاريخه (14: 312).
* وقرأ بالقراءات، حتى عده الداودي من القراء (1)، وترجم له في طبقاتها التي ألفها (2).
(1) ولكن ابن الجوزي لم يذكر ابن كثير في طبقات القراء.
(2)
ومما ينبغي التنبيه إليه: أنَّ "ابن كثير" هذا الحافظ المفسر، غير "ابن كثير" أحد القراء السبعة. فذاك اسمه "عبد الله بن كثير المكي"، إمام أهل مكة في القراءة، وهو قديم من التابعين، روى عن ابن الزبير وأنس بن مالك. ولد سنة 45، مات سنة 120.
* وسمع الحديث من كثير من أئمة الحفاظ في عصره، وعُني بالسماع والإكثار منه. فمما ذكر في تاريخه (14: 149) أنه سمع صحيح مسلم في تسعة مجالس على الشيخ نجم الدين ابن العسقلاني، بقراءة الوزير العالم أبي القاسم محمَّد بن محمَّد بن سهل الأزدي الغرناطي الأندلسي، المتوفي بالقاهرة في 22 محرم سنة 730 - حين قدم دمشق في جمادى الأولى سنة 724 عازمًا على الحج.
* وذكر في ترجمة شيخه الكبير المعِّمر الرحلة شهاب الدين الحجار المعروف بابن الشحنة: أنه سمع عليه "بدار الحديث الأشرفية في أيام الشتويَّات نحوًا من خمسمائة جزء بالإجازات والسماع". وهذا الشيخ "عاش مائة سنة محقَّقًا، وزاد عليها". وتوفي سنة 730. "التاريخ" (14/ 150).
* وتفقه على الشيخين برهان الدين الفزاري وكمال الدين ابن قاضي شهبة.
* وحفظ التنبيه للشيرازي في فروع الشافعية ومختصر ابن الحاجب في الأصول.
* ولزم الحافظ الكبير أبا الحجاج المزِّي، وقرأ عليه مؤلفه العظيم في الرجال "تهذيب الكمال"، وصاهره على ابنته زينب.
* وكان من أعظم تلاميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية، ولازمه وتخرج على يديه، وكانت له به خصوصية ومناضلة عنه واتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتي برأيه في مسألة الطلاق، وامتحن بسبب ذلك وأُوذي.
* وكان من أفذاذ العلماء في عصره. أثنى عليه معاصروه وتلاميذه ومن بعدهم- الثناء الجمَّ: فذكره الحافظ الذهبي "طبقات الحفاظ"(4/ 29)، مع أن الذهبي يكاد يكون من طبقة شيوخه؛ لأنه مات سنة 748 قبل ابن كثير بـ26 سنة. فقال في "طبقات الحفاظ":
* "وسمعتُ مع الفقيه المفتي المحدِّث، ذي الفضائل، عماد الدين إسماعيل بن عُمر بن كثير البُصْرَوي الشافعي. . . سمع من ابن الشّحنة وابن الرداد وطائفة. له عناية بالرجال والمتون والفقه. خرَّج وناظر وصنَّف وفسَّر وتقدَّم".
* وقال الذهبي في "المعجم المختص"- فيما نقل ابن حجر وغيره: "الإِمام المفتي المحدّث البارع فقيه متفنّن، محدَّث متقن، مفسِّر نقَّال).
* وقال تلميذه شهاب الدين بن حجي: "كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث، وأعرفهم بتخريجها، ورجالها، وصحيحها، وسقيمها. وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك. وكان يستحضر كثيرًا من التفسير والتاريخ، قليل النسيان. وكان فقيهًا جيد الفهم صحيح الذهن، ويحفظ "التنبيه" إلى آخر وقت. ويشارك في العربية مشاركة جيدة، وينظم الشعر. وما أعرف أني اجتمعت به -على كثرة تردُّدي عليه- إلا واستفدت منه". (عن النعيمي في كتاب "الدارس").
* وقال تلميذه الحافظ أبو المحاسن الحسيني في "ذيل تذكرة الحفاظ"(ص 58): "وصاهر شيخنا أبا الحجاج المزّي فأكثر عنه. وأفتى ودرّس وناظر، وبرع في الفقه والتفسير والنحو. وأمعن النظر في الرجال والعلل".
* وقال الحافظ ابنُ حجر في "الدرر الكامنة": "ولازم المزّي، وقرأ عليه "تهذيب الكمال" وصاهره على ابنته. وأخذ عن ابن تيمية ففُتن بحبه، وامتُحن بسببه. وكان كثير الاستحضار حسن المفاكهة. سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته. ولم يكن على طريقة المحدّثين في تحصيل العوالي وتمييز العالي من النازل ونحو ذلك من فنونهم. وإنما هو من محدثي الفقهاء. وقد اختصر مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فوائد".
* ونقل السيوطي في "ذيل طبقات الحفاظ" كلام الحافظ ابن حجر في أنه "لم
يكن على طريقة المحدثين. . ." ثم تعقبه بقوله "العمدة في علم الحديث معرفةُ صحيح الحديث وسقيمه، وعلله واختلاف طرقه، ورجاله جرحًا وتعديلًا. أما العالي والنازل ونحو ذلك- فهو من الفضلات، لا من الأصول المهمة". وهذا حق. وقال السيوطي أيضًا: له التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله.
* وقال العلامة العيني -فيما نقل عنه ابن تغريّ بردي في "النجوم الزاهرة"-: "كان قدوة العلماء والحفّظ، وعُمدةَ أهل المعاني والألفاظ. وسمع وجمع، وصنَّف ودرّس، وحدَّث وألَّف. وكان له اطَّلاع عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهى إليه علم التاريخ والحديث والتفسير. وله مصنفات عديدة مفيدة".
* ووصفه الحافظ العلامة شمس الدين بن ناصر، في كتاب "الرد الوافر"- بأنه "الشيخ الإِمام العلامة الحافظ، عماد الدين، ثقة المحدثين، عمدة المؤرخين، عَلَمُ المفسّرين".
* وقال فيه ابن حبيب- فيما نقل الداودي في "طبقات القُرّاء"، وابن العماد في "الشذرات":"إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل. سمع وجمع وصنَّف، وأطرب الأسماع بأقواله وشَنَّفَ، وحدث وأفاد، وطارت فتاويه إلى البلاد، فاشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير".
* وروى له الحافظ ابن حجر في "إنباء الغمر"، وابن العماد في "الشذرات" البيتين المشهورين، الذائعين على الألسنة:
تَمُرُّ بِنَا الأيامُ تَترى وإنما
…
نُسَاقُ إلى الآجالِ والعينُ تَنْطرُ
فلا عَائِدٌ ذاك الشبابُ الذي مَضَي
…
ولا زَائلٌ هذا المَشِيبُ المُكَدِّرُ
* وصُحبتُه وملازمته لشيخ الإِسلام ابن تيمية أفادته أعظم الفوائد في علمه،
ودينه، وتقوية خلقه، وتربية شخصيته المستقلة الممتازة.
* فهو مستقل الرأي، يدور مع الدليل حيث دار، لا يتعصب لمذهبه ولا لغيره. وكتبه العظيمة -وخاصةً هذا التفسير الجليل- فيها الدلائل الوافرة. ونجده -مع أنه شافعي المذهب- يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد. ثم يُمتَحن ويلقى الأذى، فيثبت على قوله، ويصبر على ما يلقى في سبيل الله.
* وهو -تلميذ شيخ الإِسلام ومن خاصَّة أنصاره- يعرف ما كان بين شيخه شيخ الإِسلام، وبين قاضي القضاة تقي الدين السبكي- ومع ذلك فإنه لا يُعين عليه في محنةٍ لحقته، بل يعلن عن غبطته بأن تزول عنه المحنة.
* فيذكر في "التاريخ"- في حوادث سنة 743 (14/ 204) أنه أرجف الناس كثيرًا بقاضي القضاة -في دمشق- "واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى الطنبغا وإلى الفخري. وكُتبت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتين، فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضيِ جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، ورأيت خطَّه عليها وحده بعد الصلاة. وسُئلتُ في الإفتاء عليها فامتنعتُ؛ لما فيها من التشويش على الحكام" ثم يقول: "وكانوا له في نيَّةِ عجيبة، ففرَّج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية".
* فهذا خُلُق أهل العلم النبلاء الأتقياء.
* وقد طار ذكره في الأقطار الإِسلامية، حتى إنه ليذكر في حوادث سنة 763 (14/ 294 - 295) أن شابًّا عجميًا حضر من بلاد تبريز وخراسان، "يزعم أن يحفظ البخاريّ ومسلمًا وجامع المسانيد والكشاف للزمخشري وغير ذلك"، وأنه امتحنه بقراءة مجالس من البخاري وغيره بحضرة قاضي القضاة الشافعي وجماعة من الفضلاء ثم قال: وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة. وقال: أنا ما خرجت من بلادي إلا إلى القصد إليك وأن تجيزني وذِكْرُك في بلادنا مشهور.
* وهذا الخبر يدل على أن كتابه "جامع المسانيد" وصل إلى أقصى الشرق في بلاد تبريز وخراسان، حتى يحفظه هذا الشاب الأعجمي أو يحفظ شيئًا منه. في حين أن الحافظ ابن كثير لم يتم تأليف:"جامع المسانيد" كما هو معروف. فكأن العلماء وطلاب العلم كانوا ينسخون ما يخرج منه، ويتداولونه بينهم، حتى يصل من دمشق إلى تلك النواحي النائية.
* ولم يكن ممن يُخدع في الفتاوي التي ظاهرها قَصْد الاستفتاء، ووراءها ألاعيب سياسية، أو أغراض شخصية غير سليمة، وإن كان المستفتي من الأمراء أو ممن يخشي بأسه. فهو يقول في حوادث سنة 762:"وجاءتني فتيًا صورتها: ما تقول السادة العلماء في ملك اشترى غلامًا فأحسن إليه وأعطاه وقدّمه. ثم إنه وثب على سيده فقتله وأخذ ماله ومنع ورثته منه؟ وتصرّف في المملكة، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله: فهل له الامتناع منه، وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيدًا؟ وهل يثاب الساعي في خلاص حقِّ ورثة الملك المقتول من القصاص والمال؟ أفتونا مأجورين"
* فهذا استفتاء صِيغَ في صورة تُوحِي بالجواب. وباطنه أن ذاك الأمير السائل يريد أن يمتنع على الملك الذي دعاه للحضور عنده، ويريد أن يثير فتنةً وقتالًا على صاحب الأمر، لعله يصل إلى ما وصل إليه ذاك من الملك، كعادة الأمراء من المماليك في ذلك العهد. ولكن ابن كثير يجيبه جوابًا حكيمًا يَكشف عن بعض مقصده، ويُضمِّن جوابَه النصيحةَ الواجبةَ في مثل هذه الحال، فيقول: "فقلت للذي جاءني بها من جهة الأمير: إن كان مراده خلاصَ ذمته فيما بينه وبين حقٍّ معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة في ذلك، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقه! وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة، والأمراء عليه- فلابدّ أن يكتب عليها كبارُ القضاة والمشايخ أولًا، ثم
بعد ذلك بقية المفتين بطريقه". "التاريخ" (14/ 281 - 282).
* وكان الإفرنج قد غدروا بمدينة الإسكندرية، وأشاعوا فيها الرعب، وارتكبوا الفظائع غدرًا. وذلك: أنهم وصلوا إليها من البحر يوم الأربعاء 22 محرم سنة 767 فلم يجدوا بها نائبًا ولا جيشًا، ولا حافظًا للبحر ولا ناصرًا. فدخلوها يوم الجمعة بكرة النهار، بعد ما حرقوا أبوابًا كثيرة منها. وعاثوا في أهلها فسادًا؛ يقتلون الرجال، ويأخذون الأموال، ويأسرون النساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير المتعال. وأقاموا يوم الجمعة والسبت والأحد والاثنين والثلاثاء. فلما كان صبيحة الأربعاء قدم الشاليش المصري، فأقلعت الفرنج -لعنهم الله- عنها، وقد أسروا خلقًا كثيرًا يقاربون الأربعة آلاف، وأخذوا من الأموال ذهبًا وحريرًا وبُهارًا وغير ذلك، مما لا يُحدّ ولا يُوصف. وقدم السلطان والأمير الكبير يلبغا ظُهر يومئذٍ وقد تفرط الحال وتحولت الغنائم كلها إلى الشوائن بالبحر فسُمع للأساري من العويل والبكاء والشكوى والجأر إلى الله، والاستغاثة به وبالمسلمين- ما قطعَّ الأكباد، وذرفت له العيون وأصمّ الأسماع. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما بلغت الأخبار إلى أهل دمشق شقَّ عليهم ذلك جدًا وذكر ذلك الخطيبُ يوم الجمعة على المنبر فتباكى الناس كثيرًا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* فهذه وقعة شنيعة غادرة من الإفرنج -كعادتهم- والنفوس تتقزز من مثلها، وتثور من أجلها. والملوك والأمراء الظالمون ينتهزون فرصة تعبئة الرأي العام للإسلام -وتورثه من أجل هذا الغدر، وغضبًا لهذه الفظائع- ليأكلوا أموال الناس بالباطل وظاهر أمرهم الانتقام وباطنه السلب والنهب.
* ولكن الحافظ ابن كثير يلزم جانب الحق والعدل، ولا يرضى بالظلم، ولو كان ظاهره الانتقام والثأر للمسلمين، فيقول:
"وجاء المرسوم الشريف من الديار المصرية، إلى نائب السلطنة، يَمْسك النصارى من الشام جملة واحدة، وأن يأخذ منهم ربع أموالهم، لعمارة ما خُرِّب من الإسكندرية ولعمارة مراكب تغزو الإفرنج. فأهانوا النصارى، وطُلبوا من بيوتهم بعُنْف. وخافوا أن يُقتلوا، ولم يفهموا ما يُراد بهم، فهربوا كل مهرب. "ولم تكن هذه الحركة شرعيةً ولا يجوز اعتمادها شرعًا".
وقد طُلبت يومَ السبت السادس عشر من صفر [أي سنة 767] إلى الميدان الأخضر، للاجتماع بنائب السلطنة، وكان اجتماعنا بعد العصر يومئذ، بعد الفراغ من لعب الكرة. فرأيت منه أُنسًا كبيرًا، ورأيته كامل الفهم، حسن العبارة كريم المجالسة."فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى"[يعني المرسوم بالمصادرة]
فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك!
فقلت: له "هذا مما لا يسوغ شرعًا، ولا يجوز لأحد أن يفتي بهذا. ومتي كانوا باقين على الذمة، يؤدُّون إلينا الجزيةَ، ملتزمين بالذِّلَّة والصَّغَار، وأحكامُ الملة قائمة- لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهمُ الواحدُ الفردُ فوق ما يبذلونه من الجزية. ومثل هذا لا يخفى على الأمير"! فقال: كيف أصنعُ وقد ورد المرسوم بذلك؟ ولا يمكنني أن أخالفه؟! ".
ثم ذكر أن نائب السلطنة كتب بذلك إلى الديار المصرية. ولكن هذا النائب لم يكن عند قوله، فنفذ المرسوم، و"طلب النصارى الذين اجتمعوا في كنيستهم إلى بين يديه، وهم قريب من أربعمائة، فحلّفهم: كم أموالكم؟ وألزمهم بأداء الربع من أموالهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون". وكانت هذه المصادر الظالمة في شهر ربيع الأول سنة. 767
ثم قال الحافظ- في حوادث شهر ربيع الآخر: "وفي أوائل هذا الشهر ورد
المرسوم الشريف السلطاني، بالرّدّ على نساء النصارى ما كان أُخذ منهنّ مع الجباية التي كان تقدّم أخْذها منهم" وإن كان الجمع ظُلما، ولكن الأخذُ من النساء أفحَشُ وأبلغ في الظلم،". "التاريخ"(14/ 314 - 315، 318).
* فانظر إلى هذا الإِمام العظيم، الذي يقف عند حدود الشريعة المطهرة، يقيم ميزان العدل الصحيح كما عرفه من دينه الحنيف، ويألم ويسترجع لما ناب النصارى من مصادرة ظالمة من أمراء طغاة جائرين، كما ألم واسترجع من قبل لما أصاب المسلمين من غدر النصارى وبغيهم، وشتان هذا وذاك. ولكنه لا يرضى إلا أن يقيم ميزان العدل.
* فكان هذا العقل المستقل العظيم الثابت على الحق، والذي لا تغلبه العواطف والأهواء، مما يجعل للرجل منزلة عند الناس كبيرة. يثق به أنصاره وغير أنصاره، وموافقوه ومخالفوه. بل جعله موضع الثقة والاستشارة عند الذِّميِّين، حتى ليستشيره بعض رؤسائهم في أخصِّ شئونهم الكنيسية، فإنه يذكر قصة طريفة في استشارة أحد البتاركة إياه في ذلك يحسن أن نذكرها بعبارته بحروفها.
* فقال (في حوادث سنة 767):
* وحضر عندي يوم الثلاثاء تاسع شوال، البَتْرَكُ بشارة، الملقَّب بميخائيل وأخبرني أن المطارنة بالشام بايعوه على أن جعلوه بَتْرَكًا بدمشق، عوضًا عن البترك بأنطاكية. فذكرتُ لها أن هذا أمر مبتدع في دينهم، فإنه لا تكون البتاركة إلا أربعة: بالإسكندرية، وبالقدس، وبأنطاكية، وبرومية. فنُقل رومية إلى إسطنبول، وهي القسطنطينية، وقد أنكر عليهم كثير منهم إذْ ذاك، فهذا الذي ابتدعوه في هذا الوقت أعظم من ذلك لكن اعتذر بأنه في الحقيقة هو عن أنطاكية وإنما أُذِن له في المُقام بالشام الشريف، لأجل أنه أمره نائب السلطنة أن يكتب
عنه وعن أهل ملتهم إلى صاحب قبرص، يذكر له ما حلَّ بهم من الخزي والنكال والجناية؛ بسبب عدوان صاحب قبرص على مدينة الإسكندرية. وأحضر لي الكتب إليه وإلى ملك اسطنبول، قرأها عليّ من لفظه. لعنه الله ولعن المكتوبَ إليهم أيضًا!!
وقد تكلمت معه في دينهم، ونصوص ما يعتقده كلٌّ من الطوائف الثلاثة، وهم: الملكية، واليعقوبية -ومنهم الإفرنج والقبط- والنسطورية، فإذا هو يفهم بعضَ الشيء. ولكن حاصله أنه حمار من أكفر الكفار! لعنه الله". "التاريخ" (14/ 319 - 320).
* ولا يعجبنّ القاريء من أن يكون ابن كثير أعلم بعقائد النصارى من أحد بتاركتهم. أستغفر الله، بل إنه يذكر عن ذاك البترك ميخائيل الذي تكلّم معه "أنه يفهم بعض الشيء"- لأن ابن كثير رحمه الله من أوسع العلماء اطلاعًا على أقوال أهل الملل والنحل، وخاصة مذاهب المسيحيين، كما يدل عليه كلامه في مواضع كثيرة في التفسير والتاريخ.
* بل يكفي في الدلالة على سعة اطلاعه في ذلك أن يكون تلميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية، الذي ألف موسوعته النفسية في ذلك:"كتاب الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح". وهو مطبوع معروف.
* وكان رحمه الله قد أضر في آخر عمره. ثم مات يوم الخميس 26 شعبان سنة. 774 وقال ابن ناصر: وكانت له جنازة حافلة مشهورة ودفن بوصيةٍ منه في تربة شيخ الإِسلام ابن تيمية بمقبرة الصوفية خارج باب النصر من دمشق. اهـ.
* [مأخوذة من "عمدة التفسير" (ص 20 - 32) للشيخ العلام المحدّث أبي الأشبال أحمد بن محمَّد شاكر رحمه الله ورضي عنه]
* قلتُ: وأما مصنفاته فكثيرة، وقد ذكرتها في دراستي المفردة وسوف