الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
في أن ما يجوز تركه لا يكون فعله واجبا
قال الرازي: والدليل عليه: أن الواجب ما لا يجوز تركه، والجمع بينه وبين جواز الترك متناقض.
واعلم أن الخلاف في هذا الفصل مع طائفتين:
إحداهما: الكعبي وأتباعه؛ فإنه روي في كتب اصحابنا عنهم؛ أنهم قالوا:
المباح واجب؛ واحتجوا عليه بأن المباح ترك به الحرام، وترك الحرام واجب؛ فيلزم أن يكون المباح واجباً.
وجوابه: أن المباح ليس نفس ترك الحرام، بل هو شيء به يترك الحرام، ولا يلزم من كون الترك واجباً أن يكون الشيء المعين الذي يحصل به الترك واجباً، إذا كان ذلك الترك ممكن التحقيق بشيء آخر غير ذلك الأول.
وثانيتهما: ما ذكره كثير من الفقهاء من أن الصوم واجب على المريض، والمسافر، والحائض، وما يأتون به عند زوال العذر يكون قضاء لما وجب.
وقال آخرون: إنه لا يجب على المريض، والحائض، ويجب على المسافر وعندنا أنه لا يجب على الحائض، والمريض البتة.
وأما المسافر: فيجب عليه صوم أحد الشهرين: إما الشهر الحاضر، أو شهر آخر، وأيهما أتى به، كان هو الواجب؛ كما قلنا في الكفارات الثلاث.
ودليلنا ما تقدم: من أن الواجب هو الذي منع من تركه، وهؤلاء ما منعوا من
ترك الصوم؛ فلا يكون واجبا عليهم، بل الحائض ممنوعة من الفعل، والممنوع من الفعل كيف يمكن أن يكون ممنوعا من الترك؟
واحتج المخالف بأشياء:
أحدهما: قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185]
أوجب الصوم على كل من شهد الشهر، وهؤلاء قد شهدوا الشهر؛ فيجب عليهم الصوم.
وثانيها: أنه ينوي قضاء رمضان، ويسمى قضاء، وذلك يدل على أنه يحكي وجوبا سابقا.
وثالثها: أنه لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه؛ فوجب أن يكون بدلا عنه؛ كغرامات المتلفات.
والجواب عن الكل: أن ما ذكرتموه استدلال بالظواهر والأقيسة على مخالفة ضرورة العقل؛ وذلك لأن المتصور في الوجوب المنع من الترك؛ فعند عدم المنع من الترك، لو حاولنا إثبات المنع من الترك، لكنا قد تمسكنا بالظواهر والأقيسة؛ في إثبات الجمع بين النقيضين، وذلك لا يقوله عاقل.
بلى، إن فسرتم الوجوب بشيء آخر، فذلك كلام آخر.
فروع
الفرع الأول: اختلفوا في أن المندوب، هل هو مأمور به أم لا؟
والحق أن المراد من الأمر، إن كان هو الترجيح المطلق من غير إشعار بجواز الترك، ولا بالمنع من الترك، فنعم.
وإن كان هو الترجيح المانع من النقيض، فلا؛ لكنا لما بينا أن الأمر للوجوب كان الحق هو التفسير الثاني.
الفرع الثاني: اختلفوا في أن المندوب، هل يصير واجبا بعد الشروع فيه؟
فعند أبي حنيفة رحمة الله عليه: أن التطوع يلزم بالشروع.
وعند الشافعي رضي الله عنه: لا يجب.
لنا: قوله عليه الصلاة والسلام: (الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر)
ولأنا نفرض الكلام فيما إذا نوى صوما، يجوز له تركه بعد الشروع.
فنقول: يجب أن يقع الصوم على هذه الصفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولكل امرئ ما نوى).
وتمام الكلام في هذه المسألة مذكور في الخلافيات.
الفرع الثالث: المباح، هل هو من التكليف أم لا؟
والحق أنه: إن كان المراد بأنه من التكليف هو أنه ورد التكليف بفعله، فمعلوم أنه ليس كذلك وإن كان المراد منه أنه ورد التكليف باعتقاد إباحته، فاعتقاد كون ذلك الفعل مباحاً - مغاير لذلك الفعل في نفسه، فالتكليف بذلك الاعتقاد لا يكون تكليفاً بذلك المباح.
والأستاذ أبو إسحاق سماه تكليفاً بهذا التأويل؛ وهو بعيد مع أنه نزاع في محض اللفظ.
الفرع الرابع: المباح، هل هو حسن؟
والحق: أنه: إن كان المراد من الحسن كل ما رفع الحرج عن فعله، سواء كان عن فعله ثواب، او لم يكن، فالمباح حسن.
وإن أريد به ما يستحق فاعله بفعله التعظيم والمدح والثواب - فالمباح ليس بحسن.
الفرع الخامس: المباح، هل هو من الشرع؟!
قال بعضهم: ليس من الشرع؛ لأن معنى المباح: أنه لا حرج في فعله، وفي تركه، وذلك معلوم قبل الشرع؛ فتكون الإباحة تقريرا للنفي الأصلي، لا تغييراً؛ فلا يكون من الشرع.
والحق أن الخلاف لفظي؛ وذلك لأن الإباحة تثبت بطرق ثلاثة:
أحدها: أن يقول الشرع: إن شئتم فافعلوا، وإن شئتم فاتركوا.
والثاني: أن تدل أخبار الشرع على أنه لا حرج في الفعل والترك.
والثالث: ألا يتكلم الشرع فيه البتة، ولكن انعقد الإجماع مع ذلك على أن ما لم يرد فيه طلب فعل، ولا طلب ترك، فالمكلف فيه مخير، وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها.
إذا عرفت هذا، فنقول: إن عنى بكون الإباحة حكما شرعيا: أنه حصل حكم غير الذي كان مستمرا قبل الشرع - فليس كذلك بل الإباحة تقرير لا تغيير.
وإن عنى بكونه حكما شرعيا: أن كلام الشرع دل على تحققه، فظاهر أنه كذلك؛ لأن الإباحة لا تتحقق إلا على أحد الوجوه الثلاثة المذكورة.
وفي جميعها خطاب الشرع دل عليها؛ فكانت الإباحة من الشرع بهذا التأويل، والله أعلم.
المسألة الخامسة
ما يجوز تركه لا يكون واجبا
قال القرافي: قوله: " لا يلزم أن يكون الذي يترك به الحرام واجبا إذا كان ذلك الترك يحصل بآخر ".
تقريره: أن عدم الحرام يصدق مع الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح، وما لا حكم فيه البتة كفعل الساهي، والبهيمة وغيرهما، والأعم لا يستلزم الأخص، ووجوب الأعم لا يوجب الأخص، كما أن إيجاب رقبة لا يوجب عتق الرقبة البيضاء والطويلة.
وفائدة أخرى: أن الشيء إذا كان واجباً، وله وسائل متعددة لا يجب أحدها عينا، كما إذا كان للجامع يوم الجمعة طريقان مستويان لا يجب سلوك أحدهما عينا، فكذلك هذه الأمور كلها طرق لترك الحرام ووسائل إليه، فلا يجب أحدها عينا وهو المباح، ولو صح ما قالوه لكان المندوب حراما؛ لأنه ترك الواجب، والمكروه أيضاً كذلك، بل الواجب حرام؛ لأنه يستلزم ترك واجب آخر، وعلى هذا السؤال تحفظ الحقائق.