الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
في الفرق بين التخصيص والنسخ
قال الرازي: النسخ: لا معنى له إلا تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص؛ فيكون الفرق بين التخصيص والنسخ فرق ما بين العام والخاص، لكن الناس اعتبروا في التخصيص أمورا لفظينة أخرجوه لأجلها عن جنس النسخ، وتلك الأمور خمسة:
أحدها: أن التخصيص: لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ، والنسخ: قد يصح فيما علم بالدليل؛ أنه مراد، وإن لم يتناوله اللفظ.
وثانيها: أن نسخ شريعة بشريعة أخرى يصح، وتخصيص شريعة بشريعة أخرى لا يصح.
وثالثها: أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص ليس كذلك.
ورابعها: أن الناسخ يجب أن يكون متراخيا، والمخصص لا يجب أن يكون متراخيا، سواء وجبت المقارنة أو لم تجب؛ على اختلاف القولين.
وخامسها: أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد والقياس، والنسخ لا يقع بهما.
وأما الفرق بين التخصيص والاستثناء، فهو فرق ما بين العام والخاص عندي، ومنهم من تكلف بينهما فروقا.
أحدها: أن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على شيء واحد؛ فالسبعة مثلا لها اسمان: سبعة، وعشرة إلا ثلاثة، والتخصيص ليس كذلك.
وثانيها: أن التخصيص يثبت بقرائن الأحوال؛ فإنه إذا قال: " رايت الناس " دلت القرينة على أنه ما رأى كلهم، والاستثناء لا يحصل بالقرينة.
وثالثها: أن التخصيص يجوز تأخيره لفظا، والاستثناء لا يجوز فيه ذلك، وهذه الوجوه متكلفة، والحق أن التخصيص جنس تحته أنواع؛ كالنسخ، والاستثناء، وغيرهما.
المسألة الثانية
الفرق بين التخصيص والنسخ
قال القرافي: قوله: " النسخ لا معنى له، إلا تخصيص الحكم بزمان معين ".
قلنا: هذا يتجه فيما فعل، لو مرة واحدة، لكن من صور النسخ عندنا: النسخ قبل التمكن، وقبل إتيان زمان الفعل؛ وحينئذ يكون النسخ إبطالا للحكم بالكلية، فلا يقال: إن ذبح غسحاق عليه السلام تخصيص ببعض الأزمنة، بل ما وقع ولا يقع، وهذا التفسير يتجه على طريق المعتزلة، أما عندنا فلا.
قوله: " فيكون الفرق بين النسخ والتخصيص فرق ما بين العام والخاص ".
قلنا: هذا غير متجه؛ لأن التخصيص قد يكون في الأشخاص؛ كإخراج بعض الأشياء عن قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] وقد يكون بإخراج بعض الأزمنة؛ كقولك: والله، لا كلمته في جميع الأيام، وتريد بعضها، والنسخ لا يكون في بعض الأزمنة، كما تقولون، لكن ذلك الحكم المنسوخ قد لا يكون ثابتا بالنصوص، بل بالفعل، أو
بالقرائن الحالية، او المقالية، أو بعلم ضروري يخلقه الله تعالى في الصدور؛ وحينئذ يكون النسخ قد وجد بدون تناول الخطاب؛ فيكون النسخ أعم من هذا الوجه، ويكون التخصيص أعم من جهة تناول الأشخاص في بعض صوره دون الأزمنة، ويجتمعان في إخراج بعض الأزمنة؛ فيكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه؛ كالحيوان والابيض، كل واحد منهما يوجد مع الآخر، وهذا هو حقيقة الأعم من وجه، والأخص من وجه، وظاهر كلامكم يقتضي أن التخصيص أعم مطلقا.
قوله: " يصح نسخ شريعة بشريعة ".
قلنا: هذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيرا، فالمراد: ان الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة، أما كلها فلا؛ لأن الله تعالى أجرى عادة في الشرائع؛ أنه لا ينسخ منها قواعد العقائد بأصول الدين، ولا ينسخ الكليات الخمسة، وهي حفظ [الدين] والدماء، والعقول، والأنساب، والأموال، فحرم القتل، والسكر، والزنا، والسرقة، في جميع الشرائع، وإنما نسخ في بعضها القدر الذي لا يسكر.
أما القدر الذي يسكر، فقد حكى الغزالي إجماع الشرائع على تحريمه، وقد لا ينسخ منها شيء، فقد بعث الله أنبياء كثيرين بتأكيد التوراة، والعمل بجميع ما أنزل فيها من غير نسخ؛ فحينئذ النسخ إنما يقع في بعض الأحكام الفروعية، وإطلاق قولنا:" الشريعة تنسخ الشريعة " يقتضي نسخ الجميع، وليس كذلك، وهو جائز عقلا، غير ان البحث في هذا المقام، إنما هو في الواقع في عادة الله تعالى لا في الجائز عقلا؛ وإلا فيجز التخصيص بين الشرائع؛ لأنه جائز عقلا.
قوله: " لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة ".
تقريره: أن عادة الله تعالى جارية بألا يتأخر البيان عن وقت الحاجة،
وأهل الشريعة السابقة محتاجون للعمل بمقتضيات نصوصهم في زمانهم، فلو كانت الشريعة المتأخرة مخصصة للمتقدمة، لتأخر البيان عن وقت الحاجة، ولا تخصص المتقدمة المتأخرة؛ لأن الله تعالى أجرى عادته؛ ألا يترك في شريعته غلا ما يختص بتلك الأمة، وذلك القرن؛ فلا يحصل منه بيان الشريعة الآتية، وهذه عادة أجرها الله تعالى لذلك، ومن الممكن خلافها عقلا، وهو ممنوع عادة ربانية، لا عقلا.
قوله: " النسخ: رفع للحكم بعد ثبوته دون التخصيص ".
قلنا: هذه العبارة غير متجهة؛ فإن الله ذا أوجب صوم يوم عاشرواء غلى زمان معين؛ فنسخ وجوبه، فالحكم تعالى إذا أوجب صوم يوم عاشوراء إلى زمان معين؛ فنسخ وجوبه، فالحكم كان ثابتا قبل النسخ، وكان الله تعالى يعلم أنه ثابت إلى زمان ورود الناسخ، وأنه غير ثابت بعده؛ فالناسخ حينئذ؛ لما ورد، لم يرفع الثبوت الكائن قبل حد النسخ؛ لأنه مستمر إليه إجماعا، ولم يرفع الحكم بعد ورود النسخ؛ لأنه لم يثبت إجماعا، فما رفع حكما بعد ثبوته، بل بين أن هذا هو حد الثبوت الكائن في نفس الامر ومنتهاه، فبعد النسخ لم يكن الحكم ثابتا في نفس الأمر، وكذلك بقى بعد النسخ، وقبل النسخ كان الحكم ثابتا، وكذلك بقى، فإن رفع الماضي الواقع محال، والقسمان في النسخ الثابت، وغير الثابت باعتبار ما بين القسمين في التخصيص المراد، وغير المراد باعتبار المخرج، والنفي في التخصيص، والنسخ فكان الاعتقاد حاصلا بأن المخصوص والمنسوخ على خلاف ما ثبت بعد النسخ والتخصيص؛ فاستوى البابان باعتبار الاعتقاد، وباعتبار الواقع في نفس الأمر، وباعتبار التبين، ولم يبق سوى فرق واحد، وهو أن الذي كان موصوفا ثابتا مرادا بالحكم في الزمن الأول في النسخ، حكم عليه بعينه بأنه غير مراد بالحكم بعد ورود الناسخ، وفي التخصيص الذي قيل فيه:" إنه غير مراد " لم يكن مرادا قط، فتوارد الإرادة وعدمها في
النسخ على شيء واحد باعتبار زمانين، وفي التخصيص مورد الإرادة غير مورد عدمها، فهذا فرق محقق؛ لكنه لا يلزم منه رفع الحكم بعد ثبوته؛ لأنه لم يرتفع شيء إلا باعتبار الاعتقاد، وهو مشترك في التخصيص.
قوله: " النسخ يجب أن يكون متراخيا، والتخصيص لا يجب أن يكون متراخيا "
تقريره: أن الناسخ لو تعجل للإعلام به، فقال: يجب عليكم صوم عاشرواء إلى سنة كذا، ثم أنسخه عنكم، صار الوجوب معينا ينتهي بذاته، والمنتهي بذاته لا يصدق عليه النسخ؛ لقوله تعالى:{ثم أتموا لصيام إلى الليل} [البقرة: 187] فإنه لا يصدق عليه بعد غروب الشمس أنه نسخ، ولا يقبل النسخ، فهذا هو موجب التراخي في النسخ؛ لئلا تبطل حقيقته؛ ولذلك قالت المعتزلة: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب، إلا في النسخ.
قالوا: يجوز لذلك، وأما التخصيص، فقد يكون مقارنا، لاسيما بالغاية، والصفة، والشرط؛ نحو:" اقتلوا المشركين؛ حتى يعطوا الجزية، أو اقتلوا المشركين المحاربين " فهذه تخصيصات يجب اتصالها بالعمومات؛ لأنها لا تستقل بأنفسها.
قوله: " على اختلاف القولين " يشير إلى ما سيأتي من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب عندنا؛ خلافا للمعتزلة، فإنا، وإن قلنا: بجواز التأخير لا نقول به في المخصصات المتصلة التي هي الغاية، والصفة، والشرط؛ لأنها ألفاظ لا يجوز النطق بها مفردة لغة؛ لعدم إفادتها، بل لا ينطق بها إلا مع العمومات.
قوله: " التخصيص [قد] يقع بخبر الواحد، والقياس، والنسخ لا يقع بهما ".
قلنا: بلى، يصح بهما، إذا كان المنسوخ أخبار آحاد، وإنما يصح ما
ذكرتموه في المتواتر؛ لأنا نشترط في الناسخ أن يكون متساويا، أو أقوى؛ فينسخ الآحاد بالآحاد؛ لأنها متساوية، ولا ينسخ بها المتواتر؛ لعدم المساواة.
قوله: " والفرق بين التخصيص والاستثناء فرق ما بين العام والخاص ".
يريد: أن التخصيص هو الإخراج، فهو أعم من الاستثناء؛ لأن الاستثناء إخراج خاص بصيغ خاصة، فهو نوع من أنواع الإخراج.
قوله: " الاستثناء مع المستثنى منه، كاللفظ الواحد؛ بخلاف التخصيص ".
قلنا: أما التخصيص المنفصل الذي يقع بالأدلة المستقلة، فمسلم، وأما التخصيص المتصل، وهو الغاية، والشرط، والصفة، فهو مساو للاستثناء في أنه كلام لا يصلح النطق به وحده، بل يفتقر إلى ما يصلح ضمه إليه، والموجب لكون الاستثناء صار مع المستثنى منه كالكلمة الواحدة هو عدم استقلاله بنفسه، فهذه أيضا كذلك، فيكون مع المخصص كالكلمة الواحدة الدالة على ما بقى بعد التخصيص، كما قال الحنفية في الاستثناء:" هو تكلم بالباقي بعد الثنيا " يريدون: هو كلام وضع للباقي بعد الذي أخرج.
قوله: " والحق: أن التخصيص جنس تحته أنواع النسخ والاستثناء وغيرهما ".
قلنا: أما النسخ: فلأنه إخراج بعض الأزمنة عن الإرادة، كما تقدم، والاستثناء إخراج أيضا (وغيرهما) يريد تخصيص العمومات؛ فإنه ليس نسخا، ولا استثناء، فإذا كان هذا هو النوع الثالث، لزم أن يكون القسم قسما؛ لأن شأن الأقسام أن يكون كل واحد منهما قسيما للآخر منافيا له بالتضاد، وإذا جعل القسيم أحدهما، لزم أن يكون منافيا لأقسامه، والشيء