الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الثالث من القسم الثاني من كتاب
الأوامر والنواهي في المأمور به
، وفيه مسائل:
قال الرازي: المسألة الأولى: يجوز ورود الأمر بما لا يقدر عليه المكلف عندنا؛ خلافا للمعتزلة، والغزالي منا.
لنا وجوه:
الأول: أن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان، والإيمان منه محال؛ لانه يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا، والجهل محال؛ والمفضي إلى المحال محال.
فإن قيل: لا نسلم أن الإيمان من الكافر محال، ولا نسلم أن حصوله يفضي إلى انقلاب العلم جهلا.
بيانه: أن العلم يتعلق بالشيء المعلوم على ما هو به، فإن كان الشيء واقعا، تعلق العلم بوقوعه، وإن كان غير واقع، تعلق العلم بلا وقوعه.
فإذا فرضت الإيمان واقعا، لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بوقوعه.
وإن فرضته غير واقع، لزم القطع بأن الله تعالى كان في الأزل عالما بلا وقوعه، ففرض الإيمان بدلا من الكفر لا يقتضي تغير العلم، بل يقتضي أن يكون الحاصل في الازل هو العلم بالإيمان، بدلا عن العلم بالكفر؛ فلم قلت: إن ذلك محال؟
سلمنا أن ما ذكرته يقتضي امتناع صدور الإيمان من الكافر؛ لكنه معارض بوجوه دالة على أن الإيمان في نفسه ممكن الوجود:
الأول: ان الإيمان كان في نفسه ممكن الوجود، فلو انقلب واجبا؛ بسبب العلم، لكان العلم مؤثرا في المعلوم، وهو محال؛ لان العلم يتبع المعلوم، ولا يؤثر فيه.
الثاني: لو كان ما علم الله تعالى وجوده، واجب الوجود، وكل ما علم الله تعالى عدمه، يكون واجب العدم - لزم ألا يكون الله تعالى قادرا على إيجاد شيء؛ لأن الشيء لا ينفك من أن يقال: إن الله تعالى علم وجوده، أو علم عدمه.
وعلى التقديرين: يكون واجبا، والواجب لا قدرة عليه البتة؛ فلزم ألا يقدر الله تعالى على شيء؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الثالث: لو كان ما علم الله وجوده، واجب الوجود، وما علم عدمه، يكون واجب العدم - لزم ألا يكون لنا اختيار في فعل شيء اصلا، وان تكون حركاتنا بمنزلة تحريك الرياح للأشجار؛ من حيث إنه لا يكون باختيارنا، لكنا نعلم بالضرورة أن ذلك باطل؛ لانا ندرك تفرقة ضرورية بين الحركات الحيوانية الاختيارية، والجمادية الإضطرارية.
الرابع: أنه لو كان كذلك، لكان العالم واجب الوجود في الوقت الذي علم الله تعالى وقوعه فيه، والواجب يستغني عن المؤثر؛ فيلزم استغناء حدوثه عن المؤثر، فيلزم ألا يفتقر حدوث العالم، ولا شيء من الأشياء إلى القادر المختار؛ وذلك كفر.
الخامس: أن تعلق العلم به إما أن يكون سببا لوجوبه، أو لا يكون.
فإن كان سببا لوجوبه، لزم أن يكون العلم قدرة وإرادة؛ لأنه لا معنى للقدرة والإرادة إلا الأمر الذي باعتباره يترجح الوجود على العدم، فإذا كان العلم كذلك، صار العلم عين القدرة والإرادة، وذلك محال؛ لأنه يقتضي قلب الحقائق؛ وهو غير معقول.
وإن لم يكن العلم سببا لوجوب المعلوم، فقد سقط ما ذكرتموه من الدلالة؛ لانه مبني على أن المعلوم صار واجب الوقوع عند تعلق العلم به، فإذا بطل ذلك بطل دليلكم.
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الإيمان محال من الكافر، لكن امتناعه ليس لذاته، بل بالنظر الى علم الله تعالى؛ فلم قلتم: إن ما لا يكون محالا لذاته فإنه لا يجوز ورود الأمر به؟
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الامر بالمحال واقع، لكنه يدل على انه لا تكليف الا وهو تكليف بما لا يطاق؛ وذلك لأن الشيء:
ان كان معلوم العدم، كان الأمر بالإتيان به أمرا بإيقاع الممتنع.
وان كان معلوم الوجود، كان واجب الوجود، وما كان واجب الوجود لا يكون لقدرة القادر الأجنبي واختياره فيه أثر؛ فيكون التكليف به أيضا تكليفا بما لا يطاق.
فثبت أن ما ذكرتموه يدل على أن التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق، وان أحدا من العقلاء لم يقل بذلك؛ فإن بعض الناس أحاله عقلا، وبعضهم جوزه، ولم يقل أحد بانه يمتنع ورود التكليف الا بما لا يطاق؛ فما هو نتيجة هذا الدليل - لا تقولون به، وما تقولون به - لا ينتجه هذا الدليل؛ فيكون ساقطاً.
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على قولكم؛ ولكنه معارض بالنص والمعقول:
أما النص: فقوله تعالى: {لايكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]
{وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وأي حرج فوق التكليف بما لا يطاق؟
واما المعقول: فمن ثلاثة أوجه:
الأول: أن في المشاهد أن من كلف الأعمى نقط المصاحف، والزمن الطيران في الهواء - عد سفيها - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الثاني: المحال غير متصور، وكل ما لا يكون متصورا لا يكون مأمورا به.
إنما قلنا: إنه غير متصور؛ لأن كل متصور متميز، وكل متميز ثابت؛ فما لا يكون ثابتا لا يكون متصورا.
بيان الثاني: أن الذي لا يكون متصورا لا يكون في العقل إليه إشارة، والمأمور به يكون في العقل إليه إشارة؛ والجمع بينهما متناقض.
الثالث: إذا جوزتم الأمر بالمحال، فلم لا تجوزون أمر الجمادات، وبعثة الرسل إليها، وإنزال الكتب عليها؟
والجواب: قوله: " إذا فرضنا الإيمان بدلا عن الكفر، كان الموجود في الأزل هو العلم بالإيمان بدلا عن العلم بالكفر ":
قلنا: نحن، وان لم نعلم ان علم الله تعالى في الأزل تعلق بإيمان زيد، او بكفره، لكنا نعلم أن علمه تعلق بأحدهما على التعيين، وذلك العلم كان حاصلا في الأزل، فنقول: لو لم يحصل متعلق ذلك العلم، لزم انقلاب ذلك
العلم جهلاً في الماضي؛ وهو محال من وجهين:
أحدهما: امتناع الجهل على الله تعالى، والثاني: أن تغيير الشيء في الماضي محال.
قوله: " العلم غير مؤثر ":
قلنا: اللازم من دليلنا حصول الوجوب عند تعلق العلم، فأما أن ذلك الوجوب به أو بغيره، فذلك غير لازم.
قوله: " لزم ألا يقدر الله تعالى على شيء ":
قلنا: قد بينا أن العلم بالوقوع يتبع الوقوع الذي هو تبع الإيقاع بالإرادة والقدرة؛ فامتنع أن يكون الفرع مانعا من الأصل، بل تعلق علمه به على الوجه المخصوص - يكشف عن أن قدرته وإرادته تعلقتا به على ذلك الوجه.
قوله: " يلزم الجبر ".
قلنا: إن عنيت بالجبر: أن العبد لا يتمكن من شيء على خلاف علم الله تعالى؛ فلم قلت: إنه محال؟
قوله: " يلزم أن يكون العالم واجب الحدوث، حين حدوثه؛ فيستغنى عن القدرة، والإرادة ".
قلنا: قد بينا: أن العلم بالوقوع تبع الوقوع، الذي هو تبع القدرة والإرادة، والفرع لا يغني عن الأصل.
قوله: " إن العلم: إما ان يكون سببا للوجوب، او لا يكون ":
قلنا: نختار أنه ليس سببا للوجوب، ولكن نقول: إنه يكشف عن الوجوب، وإذا كان كاشفا عن الوجوب، ظهر الفرق.
قوله: (هذا لا يدل على جواز الامر بالجمع بين الضدين):
قلنا: بل يدل؛ لأن علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ينافي وجود إيمان زيد، فاذا أمره بإدخال الإيمان في الوجود حال حصول العلم بعدم الإيمان، فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين.
قوله: " هذا الدليل يقتضي أن تكون التكاليف كلها تكليف ما لا يطاق، وذلك لم يقل به أحد ":
قلنا: الدلائل القطعية العقلية، لا تدفع بأمثال هذه الدوافع:
أما الآية: فهي معارضة بقوله تعالى: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} [البقرة: 286] ولأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها الظواهر النقلية، بل تعلم أن تلك الظواهر مؤولة، ولا حاجة إلى تعيين تأويلها.
قوله: " أنه عبث ".
قلنا: إن عنيت بكونه عبثا خلوه عن مصلحة العبد؛ فلم قلت: إن هذا محال.
قوله: " المحال غير متصور ".
قلنا: لو لم يكون متصورا، لامتنع الحكم عليه بالإمتناع؛ لما أن التصديق موقوف على التصور، ولانا نميز بين المفهوم من قولنا:" الواحد نصف الإثنين " والمفهوم من قولنا: " الوجود والعدم لا يجتمعان " ولوا تصور هذين المفهومين، لامتنع التمييز.
قوله: " لم لا يجوز أمر الجماد؟ ".
قلنا: حاصل الأمر بالمحال عندنا هو: الإعلام بنزول العقاب؛ وذلك لا يتصور إلا في حق الفاهم.
الدليل الثاني: أن الله تعالى اخبر عن اقوام معينين: أنهم لا يؤمنون،
وذلك في قوله تعالى: {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [البقرة: 6]
وقال تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} [يس: 7].
اذا ثبت هذا، فنقول: أولئك الأشخاص، لو آمنوا، لانقلب خبر الله تعالى الصدق، كذبا، والكذب على الله محال: إما لأدائه الى الجهل، أو إلى الحاجة؛ على قول المعتزلة، او لنفسه؛ كما هو مذهبنا، والمؤدي إلى المحال محال؛ فصدور الإيمان عن أولئك الأشخاص محال، وتمام هذا التقرير ما تقدم.
الدليل الثالث: أن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما اخبر عنه، ومما أخبر عنه: أنه لا يؤمن، فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا، وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين.
الدليل الرابع: أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى، ومتى وجدت تلك الداعية، كان الفعل واجب الوقوع، واذا كان كذلك، كان الجبر لازما، ومتى كان الجبر لازما، كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق.
وإنما قلنا: إن صدور الفعل من العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى؛ لأن العبد لا يخلو: إما أن يكون متمكنا من الفعل والترك، أو لا يكون كذلك: فإن كان الأول: فإما أن يكون ترجح الفاعلية على التاركية موقوفا على مرجح، أو لا يكون:
فإن توقف، فذلك المرجح، إن كان من فعل العبد، عاد التقسيم فيه، ولا يتسلسل، بل لا بد وأن ينتهي إلى داعية، ليست من العبد؛ من الله تعالى، وهو المقصود.
وإن لم يتوقف على مرجح، فقد ترجحت الفاعلية على التاركية، لا لمرجح، وهو محال؛ لأن ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر، لو جاز أن يكون، لا لمرجح، لجاز في كل العالم أن يكون كذلك؛ وحينئذ لا يمكن الاستدلال بجواز العالم على وجود الصانع؛ وهو محال.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: القادر وحده يكفي في ترجيح أحد الطرفين على الآخر؟
قلت: قول القائل: "إنما ترجح أحد الطرفين على الآخر؛ لأن القادر رجحه" مغالطة؛ لأنّا نقول: هل لقولك: "القادر رجحه" مفهوم زائد على كونه قادرًا، وعلى وجود الأثر، أو ليس له مفهوم زائد؟!
فإن كان له مفهوم زائد؛ فحينئذ يكون صدور أحد مقدوري القادر عنه دون الآخر موقوفًا على أمر زائد، وذلك هو القسم الأول الذي بينّا أنه يفضي: إما إلى التسلسل، أو إلى مرجح يصدر من الله تعالى.
وإن لم يكن له مفهوم زائد، صار معنى قولنا:"القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح" إلى أن القادر يستمر كونه قادرًا مدة من غير هذا الاثر، ثم إنه وجد هذا الأثر بعد مدة من غير أن يحصل لذلك القادر قصد إليه، وميل إلى تكوينه، وذلك معلوم الفساد بالضرورة.
ومنشا المغالطة في تلك اللفظة: هو أن قول القائل: " القادر يرجح لكونه
قادرًا" يوهم ان هذا المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر؛ لأن القادر خصه بالترجيح.
وقولنا: "خصه بالترجيح" لا يوهم أمرًا زائدًا على محض القادرية؛ لأنا إذا أثبتنا أمرًا زائدًا، فقد أوقفنا ترجحه على انضمام أمر آخر إلى مجرد القادرية؛ وحينئذ يرجع إلى القسم الأول؛ فثبت أن هذا الكلام مغالطة محضة.
وإنما قلنا: إن حصول تلك الداعية التي يخلقها الله تعالى يجب صدور الفعل؛ فلأنه لو لم يجب، لكان: إما أن يمتنع أو يجوز:
فإن امتنع، كانت الداعية مانعة، لا مرجحة.
وإن جاز، فمع تلك الداعية يجوز عدم الأثر تارة، ووجوده أخرى؛ فترجح الوجود على العدم: إما أن يتوقف على أمر زائد، أو لا يتوقف:
فإن توقف، لم تكن الداعية الأولى تمام المرجح، وكنا قد فرضناها كذلك، هذا خلف.
وأيضًا؛ فلأن الكلام في هذه الضميمة، كما فيما قبلها، ويلزم: إما التسلسل، أو الانتهاء إلى ترجح الممكن من غير مرجح، وهما محالان، أو الوجوب؛ وهو المطلوب.
وإنما قلنا: إنه، لما توقف فعل العبد على داعية يخلقها الله تعالى، وكان ذلك الفعل واجب الوقوع عند تلك الداعية لزم الجبر؛ لأن قبل خلقها كان الفعل ممتنعًا من العبد، وبعد خلقها يكون واجبًا، وعلى كلا التقديرين؛ لا تثبت المكنة من الفعل والترك.
وإنما قلنا: إنه لما كان كذلك، كانت التكاليف بأسرها تكليف ما لا يطاق؛ لأنه لما لم يكن العبد متمكنًا من الفعل والترك البتة، كان تكليفه تكليفًا لمن لم يكن متمكنًا من الفعل والترك؛ وذلك هو المقصود.
الدليل الخامس: التكليف: إما أن يتوجه على المكلف حال استواء الداعي إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر:
فإن توجه عليه حال الاستواء، كان ذلك تكليفًا بما لا يطاق؛ لأن حال حصول الاستواء يمتنع حصول الرجحان؛ لأن الاستواء ينافي الرجحان؛ فالجمع بينهما جمع بين المتنافيين.
وإذا امتنع الرجحان، كان التكليف بالرجحان تكليفًا بما لا يطاق، وإن توجه عليه حال عدم الاستواء، فنقول: الراجح يصير واجبًا، والمرجوح ممتنعًا؛ على ما تقدم تقريره في الدليل الرابع.
والتكليف بالواجب محال؛ لأن ما يجب وقوعه استحال أن يسند وقوعه إلى شيء آخر، وإذا استحال ان يسند وقوعه إلى غيره، استحال أن يفعله فاعل، فإذا أمر بفعله، فقد أمر بما لا قدرة له عليه.
وأما التكليف بالممتنع، فلا شبهة في أنه تكليف بما لا يطاق.
الدليل السادس: أفعال العبد مخلوقة لله تعالى، وإذا كان كذلك، كان التكليف تكليف ما لا يطاق.
أما أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ فلأنه لو كان مخلوقًا للعبد، لكان معلومًا للعبد، وليس معلومًا للعبد، فهو غير مخلوق له، وتقريره في كتبنا الكلامية.
وأما أنه إذا كان فعل العبد مخلوقًا لله تعالى، كان التكليف تكليفًا بما لا يطاق؛ فلأن العبد قبل أن خلق الله تعالى فيه الفعل، استحال منه تحصيل الفعل، وإذا خلق الله تعالى فيه الفعل، استحال منه الامتناع والدفع؛ ففي كلتا الحالتين لا قدرة له على الفعل، ولا على الترك.
فإن قلت: هب أنه لا قدرة له على الإيجاد، ولكن الله تعالى أجرى عادته بأنه إذا اختار العبد وجود الفعل، فالله تعالى يخلقه، وإن اختار عدم الفعل، فالله تعالى لا يخلقه، وعلى هذا الوجه يكون العبد مختارًا.
قلت: ذلك الاختيار: إن كان منه لا من الله تعالى، فالعبد موجد لذلك الاختيار، وإن لم يكن منه، بل من الله تعالى، كان مضطرًا إلى ذلك الاختيار؛ فيعود الكلام.
الدليل السابع: الأمر قد وجد قبل الفعل، والقدرة غير موجودة قبل الفعل، فالأمر قد وجد لا عند القدرة، وذلك تكليف ما لا يطاق.
أما أن الأمر قد وجد قبل الفعل؛ فلأن الكافر مكلف بالإيمان.
وأما أن القدرة غير موجودة قبل الفعل؛ فلأن القدرة صفة متعلقة، فلا بد لها من متعلق، والمتعلق: إما الموجود، وإما المعدوم، ومحال أن يكون المعدوم متعلق القدرة؛ لأن العدم نفي محض مستمر، والنفي المحض يستحيل أن يكون مقدورًا، والمستمر يمتنع أيضًا أن يكون مقدورًا؛ فالنفي المستمر أولى ألا يكون مقدورًا.
وإذا ثبت أن متعلق القدرة لا يمكن أن يكون عدمًا محضًا، ثبت أنه لا بد أن يكون موجودًا.
فلما ثبت أن القدرة لا بد لها من متعلق، وثبت أن المتعلق لا بد وأن يكون موجودًا، ثبت أن القدرة لا توجد إلا عند وجود الفعل.
الدليل الثامن: العبد لو قدر على الفعل لقدر عليه: إما حال وجوده، أو قبل وجوده:
والأول محال؛ وإلا لزم إيجاد الموجود؛ وهو محال.
والثاني محال؛ لأن القدرة في الزمان المتقدم: إما أن يكون لها أثر في الفعل، أو لا يكون:
فإن كان لها أثر في الفعل، فنقول:
تأثير القدرة في المقدور حاصل في الزمان الأول، ووجود المقدور غير حاصل في الزمان الأول؛ فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور.
والمؤثر: إما أن يؤثر في ذلك المغاير حال وجوده، أو قبله:
فإن كان الأول: لزم أن يكون موجدًا للموجود؛ وهو محال.
وإن كان الثاني: كان الكلام في كما تقدم؛ ولزم التسلسل.
وإن لم يكن لها أثر في الزمان المتقدم، وثبت أيضًا أنه ليس لها في الزمان المقارن لوجود الفعل أثر؛ استحال ان يكون لها أثر في الفعل البتة، وإذا لم يكن لها أثر البتة، استحال ان تكون للعبد قدرة على الفعل البتة.
واعلم ان هذين الوجهين لا نرتضيهما؛ لأنهما يشكلان بقدرة الباري جل جلاله على الفعل.
الدليل التاسع: أن الله تعالى امر بمعرفته في قوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله}
] محمد: 19 [فنقول: إما أن يتوجه الأمر على العارف بالله تعالى، أو على غير العارف به:
والأول محال؛ لأنه يقتضي تحصيل الحاصل، والجمع بين المثلين؛ وهما محالان.
والثاني محال؛ لأن غير العارف بالله تعالى، ما دام يكون غير عارف بالله تعالى، استحال ان يكون عارفًا بأن الله تعالى أمره بشيء؛ لأن العلم بأن الله تعالى أمره بشيء مشروط بالعلم بالله تعالى.
ومتى استحال أن يعرف أن الله تعالى أمره بشيء، كان توجيه الأمر عليه في هذه الحالة توجيهًا للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر، وذلك عين تكليف ما لا يطاق.
الدليل العاشر: أن الأمر بالنظر والفكر واقع في قوله تعالى: {قل انظروا} ] يونس: 101 [وفي قوله تعالى: {أولم يتفكروا}] الأعراف: 184 [وذلك أمر بما لا يطاق.
بيانه: أن تحصيل التصورات غير مقدور؛ وإذا لم تكن التصورات مقدورة، لم تكن القضايا الضرورية مقدورة، وإذا لم تكن القضايا الضرورية مقدورة، لم تكن القضايا النظرية مقدورة؛ وإذا لم تكن هذه الأشياء مقدورة، لم يكن الفكر والنظر مقدورًا.
وإنما قلنا: إن التصورات غير مقدورة؛ لأن القادر، إذا أراد تحصيلها: فإما أن يحصلها حال ما تكون التصورات خاطرة بباله، أو حال ما لا تكون تلك التصورات خاطرة بباله:
فإن كانت خاطرة بباله، فتلك التصورات حاصلة، فتحصيلها يكون تحصيلًا للحاصل؛ وهو محال، وإن كانت غير خاطرة بباله، كان الذهن غافلًا عنه، ومتى كان الذهن غافلًا عنه، استحال من القادر أن يحاول تحصيله، والعلم بذلك ضروري.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: إنها متصورة من وجه دون وجه آخر؛ فلا جرم يمكنه أن يحصّل كمالها؟
قلت: لما كانت متصورة من وجه دون وجه، فالوجه المتصور مغاير لما ليس بمتصور؛ فهما أمران: أحدهما: متصور بتمامه، والآخر: غير متصور بتمامه؛ وحينئذ يعود الكلام المقدم.
وإنما قلنا: إن التصورات، إذا لم تكن مقدورة، كانت القضايا البديهية غير مقدورة؛ لأن تلك التصورات: إما أن تكون بحيث يلزم من مجرد حضورها في الذهن حكم الذهن بنسبة بعضها إلى بعض بالنفي، أو بالإثبات، أو لا يلزم: فإن لم يلزم، لم تكن تلك القضايا علومًا يقينية، بل تكون اعتقادات تقليدية.
وإن لزم، فنقول: حصول تلك التصورات ليس باختياره؛ وعند حصولها، فترتب تلك التصديقات عليها ليس باختياره؛ فإذن حصول تلك القضايا البديهية ليس باختياره؛ وذلك هو المطلوب.
وإنما قلنا: إن القضايا البديهية، إذا لم تكن باختياره، لم تكن القضايا النظرية باختياره؛ وذلك لأن لزوم هذه النظريات عن تلك الضروريات: إما أن يكون واجبًا، أو لا يكون: